الأربعاء - 27 ذو الحجة 1445 هـ - 03 يوليو 2024 م

تصدير سِجلّ مؤتمر جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريِّين للشيخ محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله (2)  

A A

 للتحميل كملف pdf  اضغط هنا

تَلتقِي الأديانُ السَّماوية في كَلِمة سواءٍ ومَقصد أعلَى، وهو جمعُ أهلِها على الهدَى والحقِّ؛ ليسعَدوا في الدنيا، ويَستعدُّوا لسعادةِ الأخرى. بهذا جاءَت الأديان المعروفةُ، وبهذا نزلَت كتُبها.

والقرآنُ الذي هو المهَيمِنُ عَليها يُخبرنا بأنَّ كتابَ موسى إمامٌ ورحمة، وأنَّ الله تعالى أنزل التوراةَ والإنجيلَ هدًى للناس، وأنهما جاءَا بما جاء به القرآنُ منَ الدعوة إلى عبادة إلهٍ واحدٍ والرجوع إليه وحدَه فيما يعلو كَسبَ البَشر، ومِن بثِّ التآخِي بين الناسِ وعدمِ استعباد بعضِهم للبعضِ، ومِنَ الأمرِ بالخير والنَّهي عن الشَّرِّ، ويُخبِرنا أنَّ مِن وصايا الله الجامعةِ لتِلك الأممِ على ألسنة رسلِها هي أن يقيمُوا الدينَ ولا يتفرَّقوا فيه، وأنَّ تلك الأممَ لم تحفَظ وصية الله فتفرَّقت في الدِّين شِيَعًا، وجعَلتِ السبيلَ الواحد سُبلًا، واختلفت في الحقِّ مِن بعد ما جاءهَا من العلم والبينات، فقامت عليها الحجَّةُ، وحقَّت عليها كلمةُ الله، وكان عاقبةُ أمرها خُسرًا.

والقرآنُ يُبدئ ويعيد في هذا البابِ، ويقصُّ علينا من مبادئ بني إسرائيل ومصائرهم ومواردهم ومصادِرهم ما فيه مزدَجر، كلُّ ذلك لنعتبرَ بأحوالهم، ولا نسلُكَ الطريق الذي سلكوا، فنهلِك كما هلَكوا.

ولم يأل نبيُّنا صلى الله عليه وسلم أمَّتَه نُصحًا وإبلاغًا في هذا الباب، وكيف لا وقد أنزل عليه ربه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159]؟! فكان أخشَى ما يخشاه على أمَّته أن يدبَّ فيها داء الأمَم قبلَها، فتختَلِف كما اختَلَفَت، وتتفرَّق في الدين كما تفرَّقت.

وقد وقع ما كان يخشاه صلى الله عليه وسلم، فتفرَّقت أمَّتُه في الدِّين، ولعن بعضُها بعضًا باسم الدِّين، وأكَل بعضُها مالَ بعض باسم الدِّين، وانتهكَتِ الأعراض والحرمات باسم الدين، واتَّبعت سَنَنَ من قبلها شبرًا بشبر وذراعًا بذراع. ولم تنتفِع بتلك العظاتِ البالغةِ والنُّذُر الصادِعَة من كلام الله وكلام رسوله، حتى حقَّت عليها الكلِمة، وصارت إلى أَسْوَأ حال من الخزيِ والنَّكال.

ولعلَّ لتِلك الأمم ِالكتابيَّة ما يُشبه العذرَ في المصير الذي صارت إليه؛ لضَياع كُتُبها التي هي منبَع الهداية بين التحريف والتبديل والنسيان والتأويل، أمَّا هذه الأمَّةُ فإنَّ حبل الله المتين فيها ممدودٌ، وباب الفقهِ فيه مفتوحٌ غير مَسدود، ووارد مَنهلِه العذبِ غير مُحَلَّأٍ([1]) ولا مَطرود، ولكن تناولَه أوَّلُهم بالتأويل، وآخرهم بالتَّعطيل؛ حتى اتَّخذوه مهجورًا، وجعلوا تفسيره وفهمَه أمرًا محظورًا، فحُرِموا ما فيه مِن شفاء ورحمةٍ، وعلم وحكمة، وبلاغ وبيان، وهدى وفرقان، ونور وحياة، وعِصمة ونجاة، وباقيات صالحات، فلم يزالوا لاهِين بالانتِساب الصُّوريِ إليه، حتى دلَّتهم حوادثُ الدهر عليه، فاستشعروا -وهم بين براثنَ من السِّباع البشريَّة تتخطَّف، وصوالجة([2]) من الأمم الغالبة تتلقَّف- غَيبَة هادِيهِ الذي كان يهيبُ بالأرواح إلى العِزِّ، وفَقدَ حادِيهِ الذي كان يَسوق النفوسَ إلى الكرامة، واختفاءَ نوره الذي كان يجلُو البصائر ويُزيل الغمَم، فأقبَلوا يتلمَّسونه، وانثالوا([3]) عليه يتحسَّسونه، يَرجون منه ما يَرجو المدلج الحيرانُ مِنِ انبلاج الفَجر، وراعِي السِّنين الغُبر([4]) منِ انْهلال القَطْر، وقد قوَّى أملَنا في رجوعهم إليه وإقبالَهم عليه ما نراه منِ اصطباغ الحركة الإصلاحيَّة الحديثة بالصِّبغة القرآنيَّة، فهي سائرةٌ إلى غايته، داعيةٌ إليه، مرشِدة به، مستدلَّة بآياته، به تصولُ وبه تحارِب، وعليه تحامي ودونه تنافِح، وما الحركةُ الإصلاحيَّة في يومِنا هذا بضئيلةِ الأثر، ولا هي بقليلَة الأتباع، وإنَّ هذا لموضعُ الرجاء في رجوعِ المسلمين إلى القرآن.

* * *

أي شبابَ الإسلام، حملةَ الأمانة ومستودَع الآمال وبُناة المستقبل وطلائعَ العهد الجديد، خذوها فصيحةً صريحةً، لا تتستِر بجِلباب، ولا تتوارى بحجابٍ: إنَّ علَّتكم التي أعيَت الأطباءَ واستعصَت على حِكمة الحكماء هي مِن ضعفِ أخلاقِكم ووَهن عزائمكم. فداوُوا الأخلاقَ بالقرآن تَصلحْ وتَستقِم، وأسُوا العزائمَ بالقرآنِ تَقوَ وتشتَدّ.

وإنَّ الذي قعَد بأمَّتكم عن الصالحاتِ وأعدها لها في أُخرَيات القافلةِ هو اختلافُ قلوبها وتَشتُّت أهوائِها، فاجمَعوا على القرآن آخِرها كما جمع محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم أوَّلها، يُنتِج لكم هذا الآخِر ما أنتجَه ذلك الأوَّل من عزائمَ شِداد وأَلسِنة حِداد وهِمم كبيرة وعُقول نَيِّرة.

وإنَّ أوَّل أمَّتِكم شبيهٌ بآخِرها عُزوفًا عن الفضائل، وانغماسًا في الرَّذائل، فلم يزل بها هذا القرآنُ حتى أخرَج مِن رعاة النَّعَم رُعاةَ الأُمم، وأخرج من خمول الأُمِّيَّة أعلامَ العلم والحِكمة. فإن زعَم زاعمٌ أنَّ الزمان غيرُ الزمان، فقولوا: ولكنَّ الإنسانَ هو الإنسانُ.

وإنَّ هذا القرآنَ وسِع الحياةَ الأبديَّة فبيَّنها حتى فهِمَها الناس واعتَقَدوها، وسَعَوا لها سعيَها، فكيف لا يسَعَ حياتكم هذِه؟!

أي شبابَ الإسلام، إنَّ الأوطانَ تجمع الأبدان، وإنَّ اللُّغات تجمع الألسِنَة، وإنما الذي يجمع الأرواح ويؤلِّفها ويصِل بين نكرات القلوب فيعرِّفها هو الدِّين، فلا تلتمسوا الوحدَة في الآفاقِ الضَّيِّقة، ولكن التمِسوها في الدين، والتمِسوها من القرآن، تجِدوا الأفقَ أوسَعَ، والدارَ أجمَع، والعديدَ أَكثَر، والقِوَى أَوفَر.

* * *

ــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) غير مُحلَّأ أي: غير ممنوع.

([2]) الصَّوالجة جمع: صَولج وصولجان، وهي: عصا الملك، ترمز لسلطانه.

([3]) أي: انصبُّوا وتتابعُوا.

([4]) أي: السنين الشديدة المجدبة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

جديد سلف

هل يُمكِن الاستغناءُ عن النُّبوات ببدائلَ أُخرى كالعقل والضمير؟

هذه شبهة من الشبهات المثارة على النبوّات، وهي مَبنيَّة على سوء فَهمٍ لطبيعة النُّبوة، ولوظيفتها الأساسية، وكشف هذه الشُّبهة يحتاج إلى تَجْلية أوجه الاحتياج إلى النُّبوة والوحي. وحاصل هذه الشبهة: أنَّ البَشَر ليسوا في حاجة إلى النُّبوة في إصلاح حالهم وعَلاقتهم مع الله، ويُمكِن تحقيقُ أعلى مراتب الصلاح والاستقامة من غير أنْ يَنزِل إليهم وحيٌ […]

هل يرى ابن تيمية أن مصر وموطن بني إسرائيل جنوب غرب الجزيرة العربية؟!

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة (تَنتقِل مصر من أفريقيا إلى غرب جزيرة العرب وسط أوديتها وجبالها، فهي إما قرية “المصرمة” في مرتفعات عسير بين أبها وخميس مشيط، أو قرية “مصر” في وادي بيشة في عسير، أو “آل مصري” في منطقة الطائف). هذا ما تقوله كثيرٌ من الكتابات المعاصرة التي ترى أنها تسلُك منهجًا حديثًا […]

هل يُمكن أن يغفرَ الله تعالى لأبي لهب؟

من المعلوم أن أهل السنة لا يشهَدون لمعيَّن بجنة ولا نار إلا مَن شهد له الوحي بذلك؛ لأن هذا من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، ولكننا نقطع بأن من مات على التوحيد والإيمان فهو من أهل الجنة، ومن مات على الكفر والشرك فهو مخلَّد في النار لا يخرج منها أبدًا، وأدلة ذلك مشهورة […]

مآخذ الفقهاء في استحباب صيام يوم عرفة إذا وافق يوم السبت

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. فقد ثبت فضل صيام يوم عرفة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (‌صِيَامُ ‌يَوْمِ ‌عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ)([1]). وهذا لغير الحاج. أما إذا وافق يومُ عرفة يومَ السبت: فاستحبابُ صيامه ثابتٌ أيضًا، وتقرير […]

لماذا يُمنَع من دُعاء الأولياء في قُبورهم ولو بغير اعتقاد الربوبية فيهم؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة هناك شبهة مشهورة تثار في الدفاع عن اعتقاد القبورية المستغيثين بغير الله تعالى وتبرير ما هم عليه، مضمونها: أنه ليس ثمة مانعٌ من دعاء الأولياء في قبورهم بغير قصد العبادة، وحقيقة ما يريدونه هو: أن الممنوع في مسألة الاستغاثة بالأنبياء والأولياء في قبورهم إنما يكون محصورًا بالإتيان بأقصى غاية […]

الحج بدون تصريح ..رؤية شرعية

لا يشكّ مسلم في مكانة الحج في نفوس المسلمين، وفي قداسة الأرض التي اختارها الله مكانا لمهبط الوحي، وأداء هذا الركن، وإعلان هذه الشعيرة، وما من قوم بقيت عندهم بقية من شريعة إلا وكان فيها تعظيم هذه الشعيرة، وتقديس ذياك المكان، فلم تزل دعوة أبينا إبراهيم تلحق بكل مولود، وتفتح كل باب: {رَّبَّنَآ إِنِّيٓ أَسۡكَنتُ […]

المعاهدة بين المسلمين وخصومهم وبعض آثارها

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة باب السياسة الشرعية باب واسع، كثير المغاليق، قليل المفاتيح، لا يدخل منه إلا من فقُهت نفسه وشرفت وتسامت عن الانفعال وضيق الأفق، قوامه لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف، والإنسان قد لا يخير فيه بين الخير والشر المحض، بل بين خير فيه دخن وشر فيه خير، والخير […]

إمعانُ النظر في مَزاعم مَن أنكَر انشقاقَ القَمر

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الحمد لله رب العالمين، وأصلى وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فإن آية انشقاق القمر من الآيات التي أيد الله بها نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم، فكانت من أعلام نبوّته، ودلائل صدقه، وقد دلّ عليها القرآن الكريم، والسنة النبوية دلالة قاطعة، وأجمعت عليها […]

هل يَعبُد المسلمون الكعبةَ والحجَرَ الأسودَ؟

الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وهدنا صراطه المستقيم. وبعد، تثار شبهة في المدارس التنصيريّة المعادية للإسلام، ويحاول المعلِّمون فيها إقناعَ أبناء المسلمين من طلابهم بها، وقد تلتبس بسبب إثارتها حقيقةُ الإسلام لدى من دخل فيه حديثًا([1]). يقول أصحاب هذه الشبهة: إن المسلمين باتجاههم للكعبة في الصلاة وطوافهم بها يعبُدُون الحجارة، وكذلك فإنهم يقبِّلون الحجرَ […]

التحقيق في نسبةِ ورقةٍ ملحقةٍ بمسألة الكنائس لابن تيمية متضمِّنة للتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وبآله

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ تحقيقَ المخطوطات من أهمّ مقاصد البحث العلميّ في العصر الحاضر، كما أنه من أدقِّ أبوابه وأخطرها؛ لما فيه من مسؤولية تجاه الحقيقة العلمية التي تحملها المخطوطة ذاتها، ومن حيث صحّة نسبتها إلى العالم الذي عُزيت إليه من جهة أخرى، ولذلك كانت مَهمة المحقّق متجهةً في الأساس إلى […]

دعوى مخالفة علم الأركيولوجيا للدين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: عِلم الأركيولوجيا أو علم الآثار هو: العلم الذي يبحث عن بقايا النشاط الإنساني القديم، ويُعنى بدراستها، أو هو: دراسة تاريخ البشرية من خلال دراسة البقايا المادية والثقافية والفنية للإنسان القديم، والتي تكوِّن بمجموعها صورةً كاملةً من الحياة اليومية التي عاشها ذلك الإنسان في زمانٍ ومكانٍ معيَّنين([1]). ولقد أمرنا […]

جوابٌ على سؤال تَحَدٍّ في إثبات معاني الصفات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة أثار المشرف العام على المدرسة الحنبلية العراقية -كما وصف بذلك نفسه- بعضَ التساؤلات في بيانٍ له تضمَّن مطالبته لشيوخ العلم وطلبته السلفيين ببيان معنى صفات الله تبارك وتعالى وفقَ شروطٍ معيَّنة قد وضعها، وهي كما يلي: 1- أن يكون معنى الصفة في اللغة العربية وفقَ اعتقاد السلفيين. 2- أن […]

معنى الاشتقاق في أسماء الله تعالى وصفاته

مما يشتبِه على بعض المشتغلين بالعلم الخلطُ بين قول بعض العلماء: إن أسماء الله تعالى مشتقّة، وقولهم: إن الأسماء لا تشتقّ من الصفات والأفعال. وهذا من باب الخلط بين الاشتقاق اللغوي الذي بحثه بتوسُّع علماء اللغة، وأفردوه في مصنفات كثيرة قديمًا وحديثًا([1]) والاشتقاق العقدي في باب الأسماء والصفات الذي تناوله العلماء ضمن مباحث الاعتقاد. ومن […]

محنة الإمام شهاب الدين ابن مري البعلبكي في مسألة الاستغاثة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فإن فصول نزاع شيخ الإسلام ابن تيمية مع خصومه طويلة، امتدت إلى سنوات كثيرة، وتنوَّعَت مجالاتها ما بين مسائل اعتقادية وفقهية وسلوكية، وتعددت أساليب خصومه في مواجهته، وسعى خصومه في حياته – سيما في آخرها […]

العناية ودلالتها على وحدانيّة الخالق

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ وجودَ الله تبارك وتعالى أعظمُ وجود، وربوبيّته أظهر مدلول، ودلائل ربوبيته متنوِّعة كثيرة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن دلائل الربوبية وآياتها أعظم وأكثر من كلّ دليل على كل مدلول) ([1]). فلقد دلَّت الآيات على تفرد الله تعالى بالربوبية على خلقه أجمعين، وقد جعل الله لخلقه أمورًا […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017