تفويض الإمام ابن قدامة .. بين المؤيدين والمعارضين
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
كثُر الكلام حول الإمام ابن قدامة، واختلف الناس حول اعتباره مفوِّضًا أو مثبتًا، واحتلّت هذه المسألة مساحة كبيرة من السجال في الأروقة العلمية، وسبب العناية بهذا الأمر أن متن (لمعة الاعتقاد) لابن قدامة اشتهر في زماننا تدريسه للمبتدئين، فيفتح الطلاب أعينهم على هذا النزاع العالي في تحرير ابن قدامة مبكّرًا، لتصبح من جملة القضايا التي تلوكها الألسنة وتخوض فيها الأقلام.
فأصبح الشابّ الذي لم تنبت له لحية ولا يعرف مبطلات الوضوء يتكلَّم في أئمة المسلمين وأولياء هذه الأمة، ويبدأ في تقييمهم وهو مُتكئ على أريكته ليقول: هذا مفوّض، وهذا اعتقاده صحيح، وهذا اعتقاده كذا، وذاك اعتقاده كذا.
وتدريس هذا الخلاف العالي للمبتدئين ليس من الفِقه في شيء؛ وذلك لأن طالبَ العلم في هذه المراحل له مقاصِد أخرى غير هذه، وهو تعليمه مبادئ الإسلام والعقيدة الصحيحة، وغرس آداب طالب العلم ونحو ذلك؛ ولذا تجد الشيخ العلامة ابن عثيمين رحمه الله لم يتعرض لمسألة تفويض ابن قدامة في شرحه على (اللمعة)، بل وافق على كلامه، وتأولّه بما يتوافق مع الاعتقاد الصحيح، وهذا من فقهه رحمه الله.
وبسبب كثرة الكلام حول ابن قدامة في الأروقة العلمية سوف نطيل الحديث عنه ونُناقش ما ورد عنه من إشكالاتٍ بالتفصيل، ونبدأ بأدلّة من قالوا بتفويضه، ثم نتبعه بأدلة من قالوا بإثباته للصفات إن شاء الله.
أدلة القائلين بتفويض ابن قدامة:
أولًا: تفويضه الصفات المُشكِلة:
استدلّوا بالنص الشهير في (لمعة الاعتقاد): “وما أشكل من ذلك وجب إثباته لفظا وترك التعرّض لمعناه”([1]).
ويُفهم من النص السابق أنه يفرّق بين الصفات التي توهم التشبيه كاليد والعين والوجه، والتي لا توهم التشبيه مثل القدرة والسمع والبصر، وهو ما يؤكِّد تفويضه.
ثانيًا: جعله آيات الصفات من المتشابه:
قال رحمه الله: “والصحيح أن المتشابه: ما ورد في صفات الله سبحانه مما يجب الإيمان به، ويحرم التعرض لتأويله، كقوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى}، {بل يداه مبسوطتان}، {لما خلقت بيدي}، {ويبقى وجه ربك}، {تجري بأعيننا}، ونحوه”([2]).
وقال في موضع آخر: “فثبت بما ذكرناه من الوجوه أن تأويل المتشابه لا يعلمه إلا الله تعالى، وأن متّبعه من أهل الزيغ، وأنه محرم على كل أحد، ويلزم من هذا أن يكون المتشابه هو ما يتعلّق بصفات الله تعالى وما أشبهه”([3]).
ومن النقلين السابقين يتبيّن أن ابن قدامة يعتبر آيات الصفات من المتشابه، الأمر الذي يعني أنه من المفوضة.
ثالثًا: تصريحه بتفويض معاني الصفات:
قال رحمه الله: “فإنه لا حاجة لنا إلى علم معنى ما أراد الله تعالى من صفاته جل وعز، فإنه لا يراد منها عمل، ولا يتعلّق بها تكليف سوى الإيمان بها. ويمكن الإيمان بها من غير علم معناها، فإن الإيمان بالجهل صحيح”([4]).
ففي النقل السابق صرح بعدم علم المعنى.
رابعًا: تصريحه بلفظة التفويض:
يقول رحمه الله: “الخامس: أن قولهم: {آمنا به كل من عند ربنا} كلام يشعر بالتفويض والتسليم لما لم يعلموه؛ لعلمهم بأنه من عند ربهم كما أن المحكم المعلوم معناه من عنده”([5]).
في النقل السابق صرح بلفظة “التفويض”، وهو ما يدل على أنه مفوّض.
خامسًا: إثبات الألفاظ والأسماء فقط:
يقول رحمه الله: “وأما إيماننا بالآيات وأخبار الصفات فإنما هو إيمان بمجرد الألفاظ التي لا شكّ في صحتها ولا ريب في صدقها، وقائلها أعلم بمعناها، فآمنا بها على المعنى الذي أراد ربنا تبارك وتعالى”([6]).
ويقول أيضًا: “لا تعلم صفاته وأسماؤه إلا بالتوقيف، والتوقيف إنما ورد بأسماء الصفات دون كيفيتها وتفسيرها”([7]).
وفي النقلين السابقين صرَّح بإثبات الألفاظ والأسماء فقط.
سادسًا: تشبيهه آيات الصفات بأنها مثل الحروف المقطعة:
قال رحمه الله: “فإن قيل: فكيف يخاطب الله الخلق بما لا يعقلونه؟ أم كيف ينزل على رسوله ما لا يطلع على تأويله؟ قلنا: يجوز أن يكلفهم الإيمان بما لا يطلعون على تأويله؛ ليختبر طاعتهم، كما قال تعالى: {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين}، {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم} الآية، {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس}، وكما اختبرهم بالإيمان بالحروف المقطعة مع أنه لا يعلم معناها”([8]).
هذه جُملة حجج القائلين بتفويض ابن قدامة، وأيّ نص له لن يخرج بِحال عن جملة هذه الأوجه، وفيما يلي مناقشة لهذه الأوجه.
مناقشة أوجه تفويض ابن قدامة:
أولًا: الإجابة عن تفويضه الصفات المُشكلة:
استدلوا بقوله: “وما أشكل من ذلك وجب إثباته لفظا وترك التعرض لمعناه”([9]).
من خلال النص السابق ظنّ من نسبوه إلى التفويض أنه يُفرق -في النص السابق- بين الصفات التي توهم التشبيه كاليد والعين والوجه وبين ما لا توهم التشبيه كالحياة والقدرة والإرادة، وفي حقيقة الأمر أن هذا الظن غير صحيح، وقد غفلوا أن ابن قدامة بنفسه قد بيّن مقصده في كتابه (ذم التأويل)، ووضّح أنه يريد بالصفات المُشكلة: الصفات التي لم تثبت بأسانيد صحيحة، ويدخل في هذا أيضًا الأحاديث التي اختلف أهل الحديث في مفهومها؛ يقول ابن قدامة: “ينبغي أن يعلم أن الأخبار الصحيحة التي ثبتت بها صفات الله تعالى هي الأخبار الصحيحة الثابتة بنقل العدول الثقات التي قبلها السلف ونقلوها ولم ينكروها ولا تكلموا فيها، وأما الأحاديث الموضوعة التي وضعتها الزنادقة ليلبسوا بها على أهل الإسلام أو الأحاديث الضعيفة إما لضعف رواتها أو جهالتهم أو لعلة فيها لا يجوز أن يقال بها ولا اعتقاد ما فيها، بل وجودها كعدمها، وما وضعته الزنادقة فهو كقولهم الذي أضافوه إلى أنفسهم. فمن كان من أهل المعرفة بذلك وجب عليه اتباع الصحيح واطّراح ما سواه، ومن كان عاميّا ففرضه تقليد العلماء وسؤالهم لقول الله تعالى: {فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}، وإن أشكل عليه علم ذلك ولم يجد من يسأله فليقف وليقل: آمنت بما قاله رسول الله، ولا يثبت به شيئا، فإن كان هذا مما قاله رسول الله فقد آمن به، وإن لم يكن منه فما آمن به، ونظير هذا قول النبي: «ما حدثكم به أهل الكتاب فلا تصدّقوهم ولا تكذّبوهم، وقولوا: آمنا بما أنزل إلينا وأنزل إليكم»([10]). وليعلم أن من أثبت لله تعالى صفة بشيء من هذه الأحاديث الموضوعة فهو أشد حالا ممن تأوّل الأخبار الصحيحة، ودين الله تعالى هو بين الغالي فيه والمقصّر عنه”([11]).
وواضح من كلام ابن قدامة عن الصفات المُشكلة أنها هي التي لم تثبت أو فيها تردّد بشأن صحتها، ففي هذا الكتاب أبان اعتقاده وفصَّل فيه، وفي (اللمعة) أوجز بعبارات رشيقة مختصرة، ومعلوم أن صاحب الكلام هو أولى الناس بشرح قصده ومراده، وقد أبان ابن قدامة عن مراده بما لا مزيد عليه.
ولتوضيح ذلك نقول: إن بعض الصفات قد اختُلف في ثبوتها مثل أثر “الصدر” و”الذراعين” و”الأضراس” ونحو ذلك، كما أنه يُشكل على الإنسان بعض الصفات التي اختلف فيها أهل العلم، أو الصفات التي تحتمل من جهة اللغة، مثل “الجنب” و”الهرولة”.
كما قد أشكل على بعض العلماء حديث «الحجر الأسود يمين الله في أرضه»([12]) وحمله بعضهم على ظاهره، وأشكل على بعضهم «خلق الله آدم على صورته»([13])، وأمثال هذا كثير.
ولسنا هنا في مقام بيان الصواب في تلك المسائل، إنما بيان أن بعض الصفات قد أشكلت فعلًا على بعض أهل الحديث. وهذا ما يقصده ابن قدامة: أن من أشكل عليه صفة من الصفات وجب -في تلك الحالة- أن يفوّضها إلى الله، فهذا أسلم من القول على الله بغير علم.
لكن ينبغي التنبيه إلى أن ما قد يُشكل على بعض العلماء قد لا يكون مشكلًا على غيره. فهذا ما قصده ابن قدامة في قضية الصفات المشكلة، وهي التي وردت في آثار ضعيفة ومختلف فيها، أو مُختلف في مفهومها، أما من حيث القاعدة العامة، فالإمام الموفق رحمه الله جارٍ على منوال السلف، يثبت أصل الحقيقة من الصفة ذاتها، ويفوّض كُنه هذه الحقيقة وتفاصيلها ويسمّيه بالمتشابه.
وبمعيارية علمية مجردة وبمفهوم المخالفة يتّضح من قوله: “وما أشكل من الصفات وجب إثباته لفظًا” أن ما لا يُشكِل من الصفات لا يثبت لفظًا فقط، بل يُثبت لفظًا ومعنى.
فاتضح من ذلك جليًّا أن ما اعتبروه دليلًا على تفويضه هو في حدّ ذاته دليل على إثباته وعدم تفويضه.
نعود ونقول: إن ابن قدامة قد بيّن مقصده من عبارته بصريح كلامه، فلا حاجة للتكلّف تخميناتٍ، وقد ذكر ابن تيمية قريبًا منها في التدمرية حيث قال: “القاعدة الثانية: أن ما أخبر به الرسول عن ربه عز وجل فإنه يجب الإيمان به، سواء عرفنا معناه أو لم نعرف؛ لأنه الصادق المصدوق، فما جاء في الكتاب والسنة وجب على كل مؤمن الإيمان به وإن لم يفهم معناه”([14]). فما الفرق بين عبارة ابن تيمية وعبارة ابن قدامة؟!
ثانيًا: الإجابة عن جعله آيات الصفات من المُتشابه:
من المغالطات الدقيقة والخفيّة جدًّا في هذا الباب والتي تحتاج إلى نوع تأنٍّ في التناول: اعتبار كل من جعل آيات الصفات من المتشابه مفوّضًا، أو اعتباره في مصافّ النفاة، وهذا الخطأ هو خطأ مزدوج يقع فيه كثير من السلفيّين وخصومهم أيضًا.
والمسألة تحتاج إلى تفصيل، فقد يصف بعض الأئمة آيات الصفات أنها من المتشابه من باب أنه لا يَعرف كُنهَها إلا الله تبارك وتعالى.
يقول الإمام ابن سُريج -المُلقب بالشافعي الثاني- بعدما نقل جُملةً من الصفات: “وغير هذا مما صح عنه صلى الله عليه وسلم من الأخبار المتشابهة الواردة في صفات اللّه سبحانه ما بلغنا وما لم يبلغنا مما صح عنه اعتقادنا فيه، وفي الآي المتشابهة في القرآن أن نقبلها ولا نردّها، ولا نتأولها بتأويل المخالفين، ولا نحملها على تشبيه المشبّهين، ولا نزيد عليها ولا ننقص منها، ولا نفسّرها ولا نكيّفها… ونسلم الخبر الظاهر والآية الظاهرة تنزيلها، لا نقول بتأويل المعتزلة والأشعرية والجهمية والملحدة والمجسمة والمشبهة والكرامية”([15]).
ويستفاد من النقل السابق أن ابن سريج جعل آيات الصفات وأخبارها من المُتشابه.
ويقول قوام السُنة الأصبهاني: “قال أهل السنة: الإيمان بقوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} واجب، والخوض فيه بالتأويل بدعة، قالوا: وهو من الآيات المتشابهات التي ذكرها الله تعالى في كتابه وردّ علم تأويلها إلى نفسه، وقال: {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا}، فأوجب الإيمان بقوله: {الرحمن على العرش استوى} وبالآيات التي تضارع هذه الآية، ومدح الراسخين في العلم بأنهم يؤمنون بمثل هذه الآيات، ولا يخوضون في علم كيفيتها، ولهذا قال مالك بن أنس -رحمة الله عليه- حين سئل عن قوله: {الرحمن على العرش استوى}، قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة… -إلى أن قال:- فمن خالف موضوع اللغة فقد خالف طريقة العرب، والقرآن عربيّ، ولو كان الاستواء على العرش بمعنى الاستواء إلى العرش لقال تعالى: (إلى العرش استوى). قال أهل السنة: الاستواء هو العلو، قال الله تعالى: {فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك}، وليس للاستواء في كلام العرب معنى إلا ما ذكرنا، وإذا لم يجز الأوجه الثلاثة لم يبق إلا الاستواء الذي هو معلومٌ كونه مجهولٌ كيفيته، واستواء نوح على السفينة معلوم كونه معلوم كيفيته لأنه صفة له، وصفات المخلوقين معلومة كيفيتها. واستواء الله على العرش غير معلوم كيفيته؛ لأن المخلوق لا يعلم كيفية صفات الخالق؛ لأنه غيب ولا يعلم الغيب إلا الله، ولأن الخالق إذا لم يُشبه ذاتُه ذاتَ المخلوق لم يشبه صفاته صفات المخلوق، فثبت أن الاستواء معلوم، والعلم بكيفيته معدوم، فعلمه موكول إلى الله تعالى، كما قال: {وما يعلم تأويله إلا الله}”([16]).
ويُستفاد من النقل السابق أن الأصبهاني جعل آيات الصفات من المُتشابه، ونسبه إلى أهل السنة، وبعدها بأسطر قليلة صرح أن الصفات معلومة بلغة العرب.
ولبيان هذا الأمر بشكلٍ أوضح نقول: إن كثيرًا من أهل العلم الذين أطلقوا لفظ “المتشابه” على آيات الصفات إنما أطلقوا ذلك بحكم ما غلب على الصفة من متشابه، فإنّ كنه الصفات أمرٌ إلهيّ لا ندركه على الحقيقة؛ فلذلك صار متشابهًا، وهو مراد الأثرية والحنابلة في جعل الصفات من المتشابه، وهو مراد ابن تيمية أيضًا في النقل السابق، وأما المواضع التي فصّل فيها ابن تيمية بين القدر المُحكم والقدر المتشابه فهي مواضع قد احتيج فيها إلى تفصيل زائد لفكّ الاشتباه عن اللفظ الذي قد أُسيء استخدامه من قِبل النفاة.
والقصد مما سبق أن اعتبار ابن قدامة مفوّضا لأجل أنه جعل آيات الصفات من المتشابه غير مُسلَّم، ويلزم القائلَ بذلك نسبةُ أكثر الأئمة إلى التفويض، والمُستدلّ بهذا إنما التبس عليه كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وقلّد كلامه دون أن يفهم مراميه.
ثالثًا ورابعًا: الإجابة عن تصريحه بعدم العلم بالمعنى، وتصريحه بلفظة التفويض:
لفهم تلك المسألة عند ابن قدامة ينبغي أولًا تقرير أمر هام وهو: أن مصطلح “المعنى” عند ابن قدامة أوسع كثيرًا من المصطلح المشهور عند المعاصرين، ومما يدل على ذلك أنه وصف بعض الأمور المعلوم معناها بالإجماع بأنها مما لا يُعلم معناها مثل الإسراء والمعراج والجنة والنار وأشراط الساعة.
قال ابن قدامة: “ويجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وصحَّ به النقل عنه فيما شاهدناه أو غاب عنا، نعلم أنه حقّ وصِدْق، وسواء في ذلك ما عقلناه وجهلناه، ولم نطلع على حقيقة معناه، مثل حديث الإسراء والمعراج، ومن ذلك أشراط الساعة، مثل خروج الدجال ونزول عيسى ابن مريم عليه السلام فيقتله، يقتل عيسى ابن مريم عليه السلام الدجال كما في صحيح مسلم([17])، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج الدابة، وطلوع الشمس من مغربها، وأشباه ذلك مما صح به النقل، وعذاب القبر ونعيمه”([18]).
ومعلوم أن الإسراء والمعراج وأشراط الساعة والملائكة وغير ذلك مما ذكره لا يُفوّض باتفاق الأمة، فلا المعتزلة تفوّض ذلك ولا غيرهم، وهذا إنما يدلّ على أن مصطلح “المعنى” المنفيّ عند ابن قدامة ليس هو نفس المصطلح المثبت عند من أثبته، ووجه خطأ بعض السلفيين في نسبة ابن قدامة وغيره إلى التفويض هو أنهم يحاكمون العلماء بمصطلحات شيخ الإسلام ابن تيمية.
خامسًا: الإجابة عن إيمانه بمجرد الألفاظ والأسماء فقط:
وهو ما استدلوا به من قوله: “وأما إيماننا بالآيات وأخبار الصفات فإنما هو إيمان بمجرد الألفاظ التي لا شك في صحتها ولا ريب في صدقها، وقائلها أعلم بمعناها، فآمنا بها على المعنى الذي أراد ربنا تبارك وتعالى”([19]).
والإجابة على هذا من وجهين:
الوجه الأول: أن الكلام مبتور من سياقه، فقد قال قبل ذلك بصفحة: “كذلك طائفة المتكلمين والمبتدعة تمسكوا بنفي التشبيه توسلًا إلى عيب أهل الآثار وإبطال الأخبار، وإلا فمن أيّ وجه حصل التشبيه؟ إن كان التشبيه حاصلًا بالمشاركة في (الأسماء) و(الألفاظ) فقد شبهوا الله تعالى حيث أثبتوا له صفات من السمع والبصر والعلم والقدرة والإرادة والحياة مع المشاركة في (ألفاظها)، ولله تسعة وتسعون اسمًا ليس فيها ما لا يُسمّى به غيره إلا اسم الله تعالى والرحمن، وسائرها يُسمى بها غيره سبحانه وتعالى، ولم يكن ذلك تشبيهًا ولا تجسيمًا… -إلى أن قال:- وإنما يحصل التشبيه والتجسيم ممن حمل صفات الله تعالى على صفات المخلوقين في المعنى، ونحن لا نعتقد ذلك ولا نَدين به، بل نعلم أن الله تبارك وتعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير”([20]).
يُستفاد من سياق كلام ابن قدامة أنه جعله إيمانه بمجرد “الألفاظ” و”الأسماء” يشمل أيضًا العلم والإرادة والقدرة والحياة، وهذه الصفات لا يُفوّضها أحد، وكذلك شمل الأسماء الحسنى وهذه محلّ اتفاق، ولا أحد يفوّضها أصلًا حتى المعتزلة.
ثم أبان بوضوح عن قصده بالمعنى غير المعلوم أنه المعنى الذي يوافق صفات المخلوقين.
الوجه الثاني: من لم يقنع بالوجه الأول، واطرد مع القاعدة وزعم أن ابن قدامة يفوّض حتى الأسماء الحسنى، وأن مذهبه شرّ من المعتزلة، نقول له: ماذا تصنع بقول ابن عباس: “ليسَ في الجنَّةِ شيءٌ مِمَّا في الدُّنيا إلَّا الأسماءُ”([21])، فإن هذا يلزمه أن ابن عباس لا يعلم معنى فاكهة الجنة، ولا يُمكن أن يُظن بابن عباس ذلك، وحل الإشكال سهل وميسور إن شاء الله.
نقول: إن الألفاظ والأسماء هي في نفسها تحتمل معنى لا تفارقه أبدًا، وهو القدر المشترك، فإنه حتى وإن لم يحصل اشتراك إلا في الاسم، فالاسم يحتمل معنًى مجردًا في الذهن، ويحتمل أيضًا كيفيات وماهيات، وهو ما قصده ابن قدامة بالاسم المجرد.
ومما يدل على ذلك قول ابن قدامة: “ﻓﺈﻥ اﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﺃﻣﺮ ﺑﺎﻹﻳﻤﺎﻥ ﺑﻤﻼﺋﻜﺘﻪ ﻭﻛﺘﺒﻪ ﻭﺭﺳﻠﻪ ﻭﻣﺎ ﺃﻧﺰﻝ ﺇﻟﻴﻬﻢ ﻭﺇﻥ ﻛﻨﺎ ﻻ ﻧﻌﺮﻑ ﻣﻦ ﺫﻟﻚ ﺇﻻ اﻟﺘﺴﻤﻴﺔ“([22]).
ولقد صرح كثير من أئمة السُّنة كالسجزي والكرخي والطلمنكي أن الاشتراك في الأسماء لا يلزم منه الاشتراك في الحقائق، وابن تيمية ينقل عنهم تلك التقريرات بغير نكير.
سادسًا: الإجابة عن جعله آيات الصفات من جنس الأحرف المقطعة:
المُلاحظ أن كلامه بشأن الأحرف المقطعة جاء على سبيل المُحاججة لا التقرير، ونص عبارته: “فإن قيل: فكيف يخاطب الله الخلق بما لا يعقلونه؟ أم كيف ينزل على رسوله ما لا يطلع على تأويله؟ قلنا: يجوز أن يكلّفهم الإيمان بما لا يطّلعون على تأويله كما اختبرهم بالإيمان الحروف المقطعة مع أنه لا يعلم معناها”([23]).
والذي يتّضح من كلام ابن قدامة أنه جاء على سبيل الإلزام لا التقرير، وهو من جنس قول الطبري محتجًّا على الجهمي: “فإن زعم أن ذلك ليس بإقبال فعل ولكنه إقبال تدبير، قيل له: فكذلك فقل: علا عليها علوّ ملك وسلطان لا علوّ انتقال وزوال، ثم لن يقول في شيء من ذلك قولًا إلا ألزم في الآخر مثله”([24]). ومعلوم أن باب المناظرة والمحاججة أوسع من باب التقرير.
والدليل على كلامنا أن ابن قدامة في (ذم التأويل) يرى أن الأحرف المقطّعة ليست من المتشابه مُخالفًا كلامَه الذي في (الروضة)، فقال: “فثبت بما ذكرناه من الوجوه أن تأويل المتشابه لا يعلمه إلا الله تعالى، وأن متّبعه من أهل الزيغ، وأنه محرّم على كل أحد، ويلزم من هذا أن يكون المتشابه هو ما يتعلق بصفات الله تعالى وما أشبهه دون ما قيل فيه: إنه المجمل أو الذي يغمُض علمه على غير العلماء المحققين أو الحروف المقطعة؛ لأن بعض ذلك معلوم لبعض العلماء، وبعضه قد تكلّم ابن العباس وغيره في تأويله، فلم يجز أن يحمل عليه، والله أعلم”([25]).
فرجع في (ذمّ التأويل) عن اعتبار الأحرف المقطعة من المتشابه. فإن قيل: ولكنه اعتبر آيات الصفات من المتشابه! رجعنا إلى الوجه الثاني من ردنا ومضمونه: أن كثيرًا من المثبتة المحضة اعتبروا آيات الصفات من المتشابه، ولم يدل هذا على تفويضهم، فهذا ليس دليلًا كافيًا لاعتباره مفوضًا تفويضًا مذمومًا.
أدلة إثبات ابن قدامة للصفات وعدم تفويضه:
بمقتضى القرائن الكثيرة وبجمع كلامه في الباب الواحد نستطيع بكل يُسر أن نعرف أن ابن قدامة يميل إلى أهل الإثبات المحض، وأن ثمة قدرا معينا مفهوما من الصفات كان يثبته، وبيان ذلك فيما يلي
1- إثباته أصل الحقيقة “القدر المشترك”:
قال رحمه الله: “الاتفاق في أصل الحقيقة ليس بتشبيه، كما أن اتفاق البصر في أنه إدراك المبصرات، والسمع في أنه إدراك المسموعات، والعلم في أنه إدراك المعلومات ليس بتشبيه”([26]).
وهو وإن قال كلامه السابق في صفة الكلام، إلا أنه نظمه على نظامٍ عام، وخرَّجه مخرج القاعدة العامة في الصفات جميعها.
2- إثباته الظاهر المتبادر إلى الأفهام:
قال رحمه الله: “نحن لم نتأوّل شيئًا، وحَمْل هذه اللّفظات على هذه المعاني ليس بتأويل؛ لأنّ التّأويل صرف اللّفظ عن ظاهره، وهذه المعاني هي الظّاهر من هذه الألفاظ؛ بدليل أنها المتبادِر إلى الأفهام منها، وظاهر اللّفظ هو: ما يسبق إلى الفهم منه حقيقةً كان أو مجازًا”([27]).
وهو وإن قال هذا الكلام في سياق الكلام عن المعية، إلا أنه خرَّجها مخرج القاعدة العامة، وقرر أن إثباته للظّاهر إنما هو إثباتٌ لما حمله من معنى لا إثباتٌ للّفظ فقط مجرّدًا عن معنى، إذ اللَّفظ ثابتٌ، فلا معنى لإثبات ظاهر اللّفظ دون ما تضمَّنه من معنى، وقد بين ذلك في النّص.
3- الصفات كلها على نسقٍ واحد عنده:
قال رحمه الله: “والأصل في هذا أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات ويُحتذَى في ذلك حذوَه ومثالَه، فإذا كان معلوما أن إثبات رب العالمين عز وجل إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف، فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف، فإذا قلنا: لله تعالى يد وسمع وبصر، فإنما هو إثبات صفات أثبتها الله تعالى لنفسه، ولا نقول: إن معنى اليدِ القدرةُ، ولا إنّ معنى السمعِ والبصرِ العلمُ، ولا نقول: إنها الجوارح، ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح وأدوات الفعل، ونقول: إنما ورد إثباتها لأن التوقيف ورد بها، ووجب نفي التشبيه عنها؛ لقوله تبارك وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}”([28]).
4- اتدلاله بصفة النزول على الفوقية بطريق المقابل:
استدل ابن قدامة بكلام ابن عبد البر في حديث النزول حينما جعله دليلًا على الفوقية؛ وذلك لأن النزول يكون من أعلى، قال ابن عبد البر: “وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي السَّمَاءِ عَلَى الْعَرْشِ، مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، كَمَا قَالَتِ الْجَمَاعَةُ”([29]).
وليس مرادنا أن إثبات ابن قدامة لصفة العلو تدل على عدم تفويضه، كلا، فنحن نعلم أن هذا ليس بلازم؛ وذلك لأن جميع الحنابلة يثبتون تلك الصفة. إنما المقصد هو استدلاله بالنزول على العلو باعتبار أن كل نازل يكون من أعلى إلى أسفل، وهذا بدلالة اللزوم والاستدلال بإحدى الصفتين على الأخرى، وهو ما يدل على إثباته للمعنى.
وقد استدل ابن قدامة بابن عبد البر في موضع آخر وهو إثبات الحقيقة الدالة على الصفة، فنجده يستدل بكلام ابن عبد البر: “أهل السنة مجمعون على الإقرار بصفات الله الواردة في الكتاب والسنة، وحملها على الحقيقة لا على المجاز”([30]).
فإثبات الحقيقة لجميع الصفات، ثم فهم صفة النزول أنها تكون من أعلى إلى أسفل فيه دلالة واضحة أن ابن قدامة يخالف طريقة أهل التفويض المذموم.
5- وقوفه في محنة الحافظ عبد الغني المقدسي:
معلوم أن الشيخ عبد الغني جريء في الإثبات -مقارنةً بالمتأخّرين- حتى إنه أثبت الفعل الاختياري، قال ابن رجب في ترجمته: “أخذوا عليه مواضع، منها قوله: ولا أنزهه تنزيهًا ينفي حقيقة النزول، ومنها قوله: كان ولا مكان، وليس هو اليوم على ما كان، فقالوا له: إذا لم يكن على ما قد كان، فقد أثبتّ له المكان، وإذا لم تنزهه تنزيهًا تنفي حقيقة النزول فقد أجزت عليه الانتقال”([31]).
يقول ابن رجب في معرض كلامه عن محنة عبد الغني: “فأما قولهم: أجمع الفقهاء على الفتوى بكفره وأنه مبتدع، فيا لله العجب! كيف يقع الإجماع وأحفظ أهل وقته للسُّنة وأعلمهم بها هو المخالِف؟! -يعني الشيخ عبد الغني-. هذا مع مخالفة فقيه الإسلام في وقته -يعني ابن قدامة- الذي يُقال: إنه لم يدخل الشام بعد الأوزاعي أفقه منه، ومعه خلق أئمة وفقهاء”([32]).
فوقوف ابن قدامة بجانب عبد الغني المقدسي القائل بالأفعال الاختيارية، وهو الرافض للتنزيه الذي ينفي الحقيقة “التفويض” فيه قرينة تؤيد أن ابن قدامة من جملة أهل الإثبات المحض.
فهذا الموقف مع الشيخ عبد الغني الجريء في الإثبات، وتلقيه كلام ابن عبد البر بالقبول واستحسانه له، ودفاعه عن عقيدة الهروي -كما سيأتي-، كل هذا يؤكّد انتماءه السلفي من حيث الولاء والمؤازرة حتى ولو خانه التعبير في بعض المواضع، وعلى فرض خطئه فإنه لم يتعمد مخالفتهم يقينًا، بل هو في صفّهم يؤازرهم ويستحسن أقوالهم.
6- دفاعه عن أبي إسماعيل الهروي الأنصاري:
قال الحافظ ابن رجب: “قال السيف: وكتب ابن الجوزي عن كلام شيخ الإسلام الأنصاري: كان عبد الله الأنصاري يميل إلى التشبيه، فلا يقبل قوله، فألحق جدي -يعني ابن قدامة-: حاشاه من التشبيه، ولا يقبل قول ابن الجوزي فيه”([33]).
وتبرئةُ ابن قدامة لأبي إسماعيل الهروي الجريء في الإثبات دليل على رضاه بطريقة أهل الإثبات المحض، وهي من جُملة الأدلة الكثيرة على أن ابن قدامة في صفوف أهل الإثبات ومُنتمٍ إليهم.
7- عدم قبوله للمُسَلَّمة الكلامية: القديم لا يتجزأ:
وهو ملحظ لطيف حينما نجده لا يقبل المُسلَّمة الكلامية أن الله لا يتجزأ؛ متأثرًا بالحافظ السّجزي، بما يجعله يُفارق مدرسة القاضي مفارقةً جازمة.
يقول ابن قدامة رحمه الله: “وقولهم: إن القديم لا يتجزأ ولا يتعدّد غير صحيح؛ فإن أسماء الله معدودة، قال الله تعالى: {وَللهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن لله تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة»([34]) وهي قديمة، وقد نص الشافعي رحمه الله على أن أسماء الله غير مخلوقة، وقال الإمام أحمد: من قال: إن أسماء الله مخلوقة فقد كفر. وكذلك كتب الله تعالى، فإن التوراة والإنجيل والزبور والقرآن متعدّدة، وهي كلام الله غير مخلوقة، وإنما هذا شيء أخذوه من علم الكلام، وهو مُطَّرَح عند جميع الأئمة الأعلام. قال أبو يوسف: من طلب العلم بالكلام تزندق”([35]).
فهذه قوَّةٌ من ابن قدامة في الإثبات، معلوم أن الأشاعرة ومتكلّمة الحنابلة كالقاضي ومن تبعه كابن حمدان يقولون: إن القديم لا يتجزأ.
8- دلالة موقف ابن تيمية منه يؤيّد أنه من جملة المثبتة:
فابن تيمية نسب ابن قدامة إلى الميل لطريقة ابن بطة والآجري والخلال، فقال: “وأما أبو عبد الله بن بطة فطريقته طريقة المحدّثين المحضة كأبي بكر الآجري في (الشريعة) واللالكائي في (السنن) والخلال مثله قريب منه، وإلى طريقته يميل الشيخ أبو محمد ومتأخرو المحدّثين”([36]).
فجعل ابن تيمية طريقة ابن قدامة هي طريقة المحدثين المحضة، ولفظة “المحضة” عند ابن تيمية لها مدلولها عند من يطالع تراث ابن تيمية، فهي تعني غير المتأثرين بالبدع في هذه الأبواب سواء كانت بدعًا قريبة كالكلابية، أو بدعًا أبعد من ذلك كالجهمية ومتأخري الأشعرية.
ولا شك أن هذا نص قوي يؤيد أن ابن قدامة من جُملة أهل الإثبات.
ويضاف إليه أمر آخر، وهو أن ابن تيمية في رسالة (مُفصَّل الاعتقاد) -وهي عبارة عن جواب عن سؤال في الأسماء والصفات- قد أجاب بجوابٍ طويل نقله بتمامه عن ابن قدامة بنصّه دون أن يعزو إليه([37])؛ مما يدلّ على أنه يرتضي سلوكه في هذه الأبواب في الجملة.
ولا يصحّ أن يقال: إن ابن تيمية اختار كلاما منضبطًا من كلام ابن قدامة؛ وذلك لأن الجواب فيه ألفاظ توهم التفويض مثل قوله: “ردّوا علمها إلى قائلها ومعناها إلى المتكلم بها”؛ مما يدلّ على أن ابن تيمية يرتضي طريقته في باب الصفات، ولا يرى أن تلك الألفاظ تفويض مذموم، بل يحملها على محمل حسن.
أما ما تناقله بعض المفوِّضة في زماننا من كلام ابن تيمية أنه نسب ابن قدامة للتفويض، حيث قال: “ومن أثبت العلو بالعقل وجعله من الصفات العقلية؛ كأبي محمد ابن كلاب وأبي الحسن ابن الزاغوني ومن وافقه، وكالقاضي أبي يعلى في آخر قوليه وأبي محمد، أثبتوا العلو وجعلوا الاستواء من الصفات الخبرية التي يقولون: لا يعلم معناها إلا الله”([38]).
فالجواب عن ذلك من وجوه:
– الوجه الأول: لقب ابن قدامة كان (الشيخ أبو محمد) وليس (أبا محمد) لأن لقب الشيخ -في تلك الأزمنة- كان مصروفا لابن قدامة لمكانته في المذهب، ومن عادة ابن تيمية حينما يذكره أن يقول: “الشيخ أبو محمد” أو “الشيخ الموفق”. وعليه فلا يصح الجزم بأن أبا محمد المذكور في الفقرة السابقة من كلام ابن تيمية هو ابن قدامة.
– الوجه الثاني: سياق كلام ابن تيمية كان على الكلاميّين ممن أثبتوا الاستواء بالعقليات، ومعلوم أن ابن قدامة كان على طريقة الأثرية مجانبًا لطريقة المتكلمين ومُعرضًا عنها. فالأليق أنه يقصد أبا محمد رزق الله التميمي، وذلك لأنه وضعه ضمن هذه الطبقة الكلامية.
قال ابن عساكر: “سمعت ببغداد من يحكي أن أبا يعلى ابن الفراء وأبا محمد التميمي شيخَيِ الحنابلة كانا يقرآن على أبي محمد ابن اللبان في داره”([39]).
ودليل ذلك قول ابن تيمية: “وأبي الوفاء ابن عقيل ورزق الله كان يميل إلى طريقة سلفه، كجده أبي الحسن التميمي، وعمه أبي الفضل التميمي، والشريف أبي علي بن أبي موسى هو صاحب أبي الحسن التميمي، وقد ذكر عنه أنه قال: لقد خرِئ القاضي أبو يعلى على الحنابلة خَريَةً لا يغسلها الماء”([40]).
وقوله: “وكان من أعظم المائلين إليهم التميميون أبو الحسن التميمي وابنه وابن ابنه ونحوهم، وكان بين أبي الحسن التميمي وبين القاضي أبي بكر بن الباقلاني من المودّة والصحبة ما هو معروف مشهور”([41]).
– الوجه الثالث: لو فرضنا أنه يقصد ابن قدامة -وهو احتمال بعيد- فليس في كلامه أنه مفوض، وإنما يحكي محض عبارته أنه ممن يقول: “لا يعلم معناها إلا الله”، وهي من باب حكاية القول لا تحقيق مقصده. وسبق أن بيّنا أنه نسَبه إلى طريقة أهل الحديث المحضة كابن بطة والآجري واللالكائي، ونقَل جوابه كاملا مقرًّا له على عقيدته.
الخلاصة:
يُمكن إيجاز ما سبق وتلخيص النتائج فيما يلي:
١- ينبغي مراعاة أن قرائن الإثبات عند ابن قدامة هي أصرح من قرائن التفويض.
2- المتشابه عند ابن قدامة هو تحقُّق تمام المعنى في الخارج، ويتبيّن ذلك من تفويضه الإسراء والمعراج والجنة والنار والكتب والرسل والملائكة، وهي مسألة مهمة جدًّا يغفل عنها الباحثون بشأن ابن قدامة.
3- تصريحه بأن هناك اشتراكًا بين الخالق والمخلوق في أصل الحقيقة بقوله: “الاشتراك في أصل الحقيقة ليس بتشبيه”.
4- تصريحه أن الظاهر هو المتبادر إلى الأفهام.
5- جعله السمع والبصر من جنس بقية الصفات الخبرية دون تفريق، وأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات سواءً بسواءً.
6- دفاعه عن أهل الإثبات المحض كالهروي وعبد الغني المقدسي وابن عبد البر، واستحسانه لكلامهم.
7- تركُه النقل عن كتب القاضي أبي يعلى وابن الزاغوني ومدرستهما، مع وفرتها وشهرتها في زمانه، وآثر الاعتزاء إلى السجزي واللالكائي وابن بطة وابن عبد البر وغيرهم من أهل الإثبات المحض.
وبناء على ما سبق يتبين لنا بَعد السبر والاستقراء الكامل -إن شاء الله- أن الإمام ابن قدامة رضي الله عنه من جُملة أهل الإثبات وعلى طريقة ابن بطة والسجزي واللالكائي من المعتدلين في الإثبات كما نسبه ابن تيمية، لكن الذي ينبغي أن يُقال في هذا المقام: أن أهل الإثبات يتفاضلون في التقرير، ومن حيث جودة العبارات وحُسن بنائها ودلالاتها، وقد يقع من الفاضل بعض العبارات الموهمة أو بعض التناقض في مسائل دقيقة مُشتبهة، فتتشابه عباراته في مواضع بعبارات أهل البدع، لأجل تشابك المصطلحات وعدم جلائها في زمانه.
أعود وأقول: إن السبب الرئيس في هذا اللبس في قضية ابن قدامة عند بعض المعاصرين هو الوقوع تحت طائلة “محاكمة العلماء بمصطلحات ابن تيمية”، وهو خطأ منتشر في الأوساط العلمية المعاصرة، ووجه الخطأ عند هؤلاء باختصار هو عدم إدراكهم أن مصطلحات ابن تيمية جاءت تحقيقية بهدف تجلية الاشتباه الحاصل عند المتكلمين، لكن ليس بالضرورة أن يلتزم بها سابقوه، إنما يُعرف مذهبهم بمجمل كلامهم وتصرفاتهم.
وهذه قضية مهمّة في البحث العقدي -أعني قضية المصطلحات- فهي تحتاج إلى بحثٍ واستيعابٍ أوسع من هذا؛ لذا ينبغي أن نضيف أن هذه الأبواب تحتاج إلى أن يكون طالب العلم فاهمًا لعلم العقيدة وجذورها المعرفية، وليس كافيًا أن يكون الطالب حافظًا لمسائلها، مقلدًا فيها.
والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد (ص: 5).
([2]) روضة الناظر وجنة المناظر (ص: 125).
([4]) تحريم النظر في كتب الكلام (ص: 36).
([8]) روضة الناظر وجنة المناظر (ص:40).
([9]) لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد (ص: 5).
([10]) أخرجه الطبراني في الكبير (22/ رقم 875)، وهو بنحوه عند أبي داود (3644) بلفظ: «إذا حدثكم أهل الكتاب»، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (6 / 712).
([12]) أخرجه عبد الرازق موقوفًا على ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق عن جابر. قال ابن الجوزي: حديث لا يصح. وقال ابن العربي: حديث باطل. وذكره الألباني في الضعيفة (223).
([15]) ينظر: اجتماع الجيوش الإسلامية (ص: 86-88).
([16]) الحجة في بيان المحجة (ص: 257-259).
([17]) صحيح مسلم (2897)، وهو حديث: «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى يَنْزِلَ الرُّومُ بالأعْماقِ…» وفيه: «فَيَنْزِلُ عِيسَى ابنُ مَرْيَمَ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فأمَّهُمْ، فإذا رَآهُ عَدُوُّ اللهِ، ذابَ كما يَذُوبُ المِلْحُ في الماءِ، فلوْ تَرَكَهُ لانْذابَ حتَّى يَهْلِكَ، ولَكِنْ يَقْتُلُهُ اللَّهُ بيَدِهِ، فيُرِيهِمْ دَمَهُ في حَرْبَتِهِ».
([19]) تحريم النظر (ص: 59-60).
([20]) تحريم النظر في كتب الكلام (ص: 57).
([21]) ينظر: صحيح الترغيب والترهيب (3769).
([22]) الرد على ابن عقيل (ص: 36).
([26]) الصراط المستقيم في إثبات الحرف القديم (ص: 44).
([28]) ذم التأويل (ص: 17-18) نقلًا عن الخطيب مقرًّا له.
([29]) إثبات صفة العلو لابن قدامة (ص: 86).
([30]) إثبات صفة العلو لابن قدامة (ص: 22).
([31]) ذيل طبقات الحنابلة (4/ 16) وفيات المائة السابعة.
([32]) ذيل طبقات الحنابلة (4/ 16) وفيات المائة السابعة.
([33]) ذيل طبقات الحنابلة (2/ 115).
([35]) الصراط المستقيم (ص: 45).
([38]) مجموع الفتاوى (10/ 166).