وقفاتٌ مع تجهُّم الأشاعرة.. ودعوى تكفيرهم لذلك
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
تمهيد:
مسألة التَّكفير واحدةٌ من المسائل الكبرى التي اعتنى بها علماء الإسلام قديمًا وحديثًا، ولا شكَّ أنَّ لها مآلات كبيرة وخطيرة، سواء كانت عمليَّة أو علميَّة، وممن نبه على خطورة المسألة وعظّمها ابن أبي العز إذ قال: “واعلم -رحمك الله وإيانا- أنَّ باب التَّكفير وعدم التكفير بابٌ عظمت الفتنة والمحنة فيه، وكثر فيه الافتراق، وتشتَّتت فيه الأهواء والآراء، وتعارضت فيه دلائلهم”([1])، ويقول ابن تيمية رحمه الله مبينًا الاضطراب الكبير الواقع في هذا الباب: “اضطربت الأمة اضطرابًا كثيرًا في تكفير أهل البدع والأهواء، كما اضطربوا قديمًا وحديثًا في سلب الإيمان عن أهل الفجور والكبائر”([2]). وينبغي لطالب العلم أن يضبط هذا الباب حتى لا يبغي به على الآخرين من الموافقين أو المخالفين، فممَّا لا شك فيه أنه لا يجوز الجور على أحد بوصفه بالفسق أو الكفر إذا لم يستحقه، ولذا يردد علماء أهل السنة والجماعة بأنهم لا يكفرون بمجرد المقابلة، أي: أنهم لا يكفرون لمجرد أن غيرهم يكفرونهم، وفي هذا يقول ابن تيمية رحمه الله: “فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفّرون من خالفهم وإن كان ذلك المخالف يكفرهم؛ لأن الكفر حكمٌ شرعيٌّ فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن كذب عليك وزنى بأهلك ليس لك أن تكذب عليه وتزني بأهله؛ لأن الكذب والزنا حرام لحق الله”([3]).
ومنهج أهل السنة والجماعة في التكفير منهج واضح، فقد ضبطوا هذا الباب وبينوا ما فيه، فلم يكونوا فيه من الخوارج والوعيدية، ولم يحصروا التكفير بالجحود، بل بينوا الكفر العام والكفر العيني، وشروط التكفير وموانعه.
ومِن ضبط أهل السنة لهذا الباب أنهم ينزلون أحكامه على المعين بعلم وعدل، ويُجنِّبون منهج أهل السنة والجماعة كل ما فيه جورٌ أو ظلمٌ أو حكمٌ بما لم يحكم به الله ورسوله، وبما لم يأت مثله عن السلف رضوان الله عليهم، وذلك مثل تكفير طائفة كبيرة من الناس بأعيانهم دون مستند شرعي، ومن جملة ذلك: تكفير يعض المعاصرين للأشاعرة كلهم بأعيانهم، ونسبة ذلك إلى السلف، أو أن هذا التكفير يجري على أصول السلف وإن لم يحكموا به، وقد أجروا حكمهم هذا على الأشاعرة المعاصرين والسابقين، فكفروهم بأعيانهم.
وتكفير أعيان المذهب الأشعري يعنينا ويهمنا لأن المراد هو اتباع الحق والعدل مع الناس وإنصافهم، وإنزال الناس منازلهم التي أنزلهم الله، فالمسلم لا يجور ولا يظلم ولا يتعدى في الحكم، كما أن تحرير القول في تكفير أعيان الأشاعرة فيه دفاع عن منهج السلف رضوان الله عليهم بأن ننفي عنهم ما نُسب إليهم خطأ، كما أن في ذلك نفي التكفير عن جماعة كبيرة من فضلاء الأمة وعلمائها وصالحيها ممن هو على المذهب الأشعري، فالخلاف العقدي مهما كبر وعظم فإنه لا يجوز لنا أن نخرج عن الإسلام من لم يحكم الله عليه بذلك، بل في ذلك جور عليهم وظلم لهم مما لا يرضاه أهل السنة والجماعة.
تكفير السلف للجهمية:
استند هؤلاء المعاصرون في تكفيرهم للأشاعرة إلى عدد من الأمور من تأمل فيها يجد أنها ترجع إلى نسبة الأشاعرة إلى الجهمية، فالأشاعرة -بزعمهم- جهمية أو أشد منهم، والسلف قد كفروا الجهمية، فالأشاعرة كفار، فتكفيرهم إذن قائمٌ على هاتين المقدمتين، وهو المستند الأكبر لهم في تكفير أعيان الأشاعرة، بل حتى حين يتكلمون عن إنكار العلو وكلام الأشاعرة في القرآن يربطونه بالتجهم، فكل مستند لهم في التكفير راجعٌ إلى هذا، وكل كلامهم يدور حول هذا، ويمكن أن نجمل الكلام في هذه القضية في النقاط الآتية:
أولًا: تكفير السلف للجهمية:
ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ السَّلف قد أغلظوا القول في عموم الجهمية، وأطلقوا عليهم ألفاظ التكفير، وهذا مما لا تخالف فيه السلفية غيرهم، وقد ورد هذا عن عدد من العلماء، يقول ابن تيمية رحمه الله: “والجهمية عند كثير من السلف -مثل عبد الله بن المبارك ويوسف بن أسباط وطائفة من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم- ليسوا من الثنتين والسبعين فرقة التي افترقت عليها هذه الأمة؛ بل أصول هذه عند هؤلاء هم الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية”([4])، ويقول رحمه الله: “وكان عبد الله بن المبارك يقول: إنَّا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية”([5]).
فهذا القدر من كلام المعاصرين لا خلاف فيه، وإنما الخلاف كله في أنهم يأخذون هذا الحكم وينزلونه على الأشاعرة بحجة أنهم أيضًا جهمية، أو أنهم أخذوا ببعض أقوال الجهمية فصاروا مثلهم، وهذا غير صحيح كما سيأتي بيانه.
ثانيًا: الجهمية شُعب:
الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله الذي نقلت نصه السابق توفي في القرن الثاني، فكلامه عن الجهمية المحضة الذين أنكروا كل الصفات، ولا بد من معرفة هذا الأمر المهم جدا حتى لا يأتي من يتمسك بمثل هذه النصوص وينزلها على غير أهلها، وابن تيمية رحمه الله حين يذكر تكفير الجهمية يربطه في مواطن بـ”الجهمية المحضة” وسيأتي كلامه في ذلك، وقد دخل في الجهمية بعدُ: المعتزلة، وبعض كلام الإمام أحمد ومن في طبقته متوجه إلى المعتزلة، فقد كانت محنته مع أساطين المعتزلة كأحمد بن أبي دؤاد وغيره، ثم أدخل العلماء الأشاعرة في عموم الجهمية.
فالسلف حين يطلقون الجهمية فإنهم يريدون بهم تارة الجهمية المحضة، وتارة كل من قصر في الصفات أو شابه قوله قول الجهمية في هذا الباب بالخصوص، وهذا التجهم العام يدخل فيه المعتزلة والأشاعرة والكلابية كما بينت، والتجهم شعب عند ابن تيمية رحمه الله كما يقول: “ودخل في هذا القول [أي: تأويل المحبة] من انتسب إلى نصر السنة من أهل الكلام حتى وقع فيه طوائف من أصحاب مالك والشافعي وأحمد كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وأبي المعالي الجويني وأمثال هؤلاء. وهذا في الحقيقة شعبة من التجهم والاعتزال”([6])، ويقول: “ليس الناس في التجهم على مرتبة واحدة، بل انقسامهم في التجهم يشبه انقسامهم في التشيع”([7]).
فالكلام عن الجهميَّة وتكفيرهم يختلف من زمانٍ لآخر، ولا بد من مراعاة الزمن الذي وقع فيه التكفير على الجهمية، وهذه نقطة مهمٌّ التنبيه عليها، فإن عددًا من المعاصرين يريدون حمل كلام ابن المبارك وغيره على الأشاعرة المعاصرين وإن كان الأشاعرة يخالفون أولئك الجهمية في قضايا كثيرة، وهذا حمل خاطئ كما ينبه عليه ابن تيمية رحمه الله وغيره من العلماء، بل ينصُّ ابن تيمية على أنَّ الأشاعرة أقرب إلى السنة من الجهمية فيقول: “الجهمية على ثلاث درجات؛ فشرُّها: الغالية الذين ينفون أسماء الله وصفاته، وإن سموه بشيءٍ من أسمائه الحسنى قالوا: هو مجاز، فهو في الحقيقة عندهم ليس بحيٍّ ولا عالمٍ ولا قادرٍ ولا سميعٍ ولا بصيرٍ ولا متكلمٍ ولا يتكلم… وأمَّا الدرجة الثالثة: فهم الصفاتية المثبتون المخالفون للجهمية لكن فيهم نوع من التجهم، كالذين يقرون بأسماء الله وصفاته في الجملة، لكن يردون طائفة من أسمائه وصفاته الخبرية أو غير الخبرية، ويتأولونها كما تأول الأولون صفاته كلها، ومن هؤلاء من يقر بصفاته الخبرية الواردة في القرآن دون الحديث كما عليه كثير من أهل الكلام والفقه وطائفة من أهل الحديث، ومنهم من يقر بالصفات الواردة في الأخبار أيضًا في الجملة لكن مع نفي وتعطيل لبعض ما ثبت بالنصوص وبالمعقول، وذلك كأبي محمد بن كلاب ومن اتبعه. وفي هذا القسم يدخل أبو الحسن الأشعري وطوائف من أهل الفقه والكلام والحديث والتصوف، وهؤلاء إلى أهل السنة المحضة أقرب منهم إلى الجهمية والرافضة والخوارج والقدرية، لكن انتسب إليهم طائفة هم إلى الجهمية أقرب منهم إلى أهل السنة المحضة، فإن هؤلاء ينازعون المعتزلة نزاعًا عظيمًا فيما يثبتونه من الصفات أعظم من منازعتهم لسائر أهل الإثبات فيما ينفونه”([8]).
فمجرد مشابهة الجهمية في بعض المسائل لا يعني انطباق الحكم الذي كان على الجهمية المحضة على الأشاعرة والكلابية وغيرهم، وفي هذا يقول ابن تيمية: “وأما ابن كلاب والقلانسي والأشعري فليسوا من هذا الباب، بل هؤلاء معروفون بالصفاتية مشهورون بمذهب الإثبات؛ لكن في أقوالهم شيء من أصول الجهمية… فكثير من هؤلاء يثبت الصفات والرؤية والاستواء على العرش، وجعلوه من الجهمية في بعض المسائل أي: أنه وافق الجهمية فيها؛ ليتبين ضعف قوله لا أنه مثل الجهمية ولا أن حكمه حكمهم؛ فإن هذا لا يقوله من يعرف ما يقول”([9]).
فلا يصح إذن أن نأخذ حكمًا على جهمية القرن الثاني فننزله على من نُسب إلى الجهمية بعموم في القرن الرابع وما بعد، كما لا يصح أن نأخذ حكمًا على الجهمية المتأخرين من الأشاعرة فننزله على الجهمية الأوائل، وهذا مثل الحكم على القدرية فإن ما قيل في غلاتهم لا يمكن أن ننزله على القدرية المتأخرة وإن اشتركوا في الاسم.
ثالثًا: تفريق السلف بين الجهمية في الحكم:
ذكرت في النُّقطة السابقة أنَّ السلف قد كفروا الجهمية، وقد كتب ابن تيمية رحمه الله عن تكفير الجهمية كلامًا محرَّرًا سأنقله مع التعليق عليه ليتبين كيف كفَّر السلف الجهمية، ولنعرف من الجهمية الذين كفرهم السلف، وهو نصٌّ في غاية الأهمية يقول فيه: “وأما تعيين الفرق الهالكة فأقدم من بلغنا أنَّه تكلم في تضليلهم يوسف بن أسباط ثم عبد الله بن المبارك، وهما إمامان جليلان من أجلَّاء أئمَّة المسلمين، قالا: أصول البدع أربعة: الروافض والخوارج والقدرية والمرجئة. فقيل لابن المبارك: والجهمية؟ فأجاب بأنَّ أولئك ليسوا من أمة محمد. وكان يقول: إنَّا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية. وهذا الذي قاله اتبعه عليه طائفة من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم، قالوا: إنَّ الجهمية كفار فلا يدخلون في الاثنتين والسبعين فرقة، كما لا يدخل فيهم المنافقون الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام وهم الزنادقة. وقال آخرون من أصحاب أحمد وغيرهم: بل الجهمية داخلون في الاثنتين والسبعين فرقة، وجعلوا أصول البدع خمسة”([10]).
فذكر ابن تيمية رحمه الله في هذا النص كلام الأئمة في تكفير الجهمية ومن وافق ابن المبارك على ذلك، ثم ذكر أصل المسألة وهي: تكفير أهل البدع، وذكر اختلاف العلماء في المسألة ثم قال: “والمأثور عن السلف والأئمة إطلاق أقوال بتكفير الجهمية المحضة الذين ينكرون الصفات، وحقيقة قولهم أنَّ الله لا يتكلم، ولا يرى، ولا يباين الخلق، ولا له علم ولا قدرة ولا سمع ولا بصر ولا حياة؛ بل القرآن مخلوق، وأهل الجنة لا يرونه كما لا يراه أهل النار وأمثال هذه المقالات”([11]). فيؤكد ابن تيمية رحمه الله أن من وقع عليهم التكفير هم الجهمية المحضة، وقد عدّد معتقداتهم ومنها ما يخالفهم فيها الأشاعرة قطعًا، ثم يقول رحمه الله مبينًا كلام الجهمية وحكمه عليهم وعلى من قلدهم وتبعهم، وهذا يصدق على الأشاعرة وإن كانوا لم يأخذوا بكل أقوال الجهمية، فيبين ابن تيمية حكم هؤلاء فيقول: “وإذا كان كذلك فأهل البدع فيهم المنافق الزنديق، فهذا كافر، ويكثر مثل هذا في الرافضة والجهمية، فإن رؤساءهم كانوا منافقين زنادقة. وأول من ابتدع الرفض كان منافقًا. وكذلك التجهم فإن أصله زندقة ونفاق… ومن أهل البدع [ويدخل فيهم الجهمية بالمفهوم العام لأنه ذكرهم من أهل البدع قبل قليل] من يكون فيه إيمانٌ باطنًا وظاهرًا، لكن فيه جهل وظلم حتى أخطأ ما أخطأ من السنة؛ فهذا ليس بكافر ولا منافق، ثم قد يكون منه عدوان وظلم يكون به فاسقًا أو عاصيًا؛ وقد يكون مخطئا متأولا مغفورًا له خطؤه”([12]).
أما ما يتعلق بخطأ بعض الجهمية بالمفهوم العام ممن جاء بعد عصر ابن المبارك أو من تبعهم فسيأتي كلام ابن تيمية فيهم في النقطة الخامسة.
رابعًا: الإطلاق والتعميم غير التقييد والتعيين:
هذه القضية من أكبر القضايا التي يقع فيها الخطأ عند الحكم على الآخرين، وقد فصل أئمة السنة الكلام فيها، وبينوا أنَّ أهل السنة والجماعة يطلقون عبارات في الكفر والتكفير، ويكون هذا حكمًا عامًّا لا ينطبق على كل فردٍ من الأفراد، أو يكون حكمًا على القول أو الفعل، فحكم الفعل لا ينطبق مباشرة على فاعله إلا بوجود الشُّروط وانتفاء الموانع، وهذا أمر معلومٌ مستفيضٌ عند علماء أهل السنة والجماعة، ومن أجلِّ من بيَّن هذا ابن تيمية رحمه الله، فقد قال: “وأصل ذلك أنَّ المقالة التي هي كفرٌ بالكتاب والسنة والإجماع يقال: هي كفر قولًا يطلق كما دل على ذلك الدلائل الشرعية؛ فإنَّ الإيمان من الأحكام المتلقاة عن الله ورسوله، ليس ذلك ممَّا يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم، ولا يجب أن يحكم في كل شخص قال ذلك بأنَّه كافر حتى يثبت في حقه شروط التكفير وتنتفي موانعه، مثل من قال: إنَّ الخمر أو الربا حلال؛ لقرب عهده بالإسلام، أو لنشوئه في بادية بعيدة، أو سمع كلامًا أنكره ولم يعتقد أنَّه من القرآن، ولا أنه من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كان بعض السلف ينكر أشياء حتى يثبت عنده أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قالها، وكما كان الصحابة يشكّون في أشياء مثل رؤية الله وغير ذلك؛ حتى يسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثل الذي قال: إذا أنا مت فاسحقوني وذروني في اليمّ لعلي أضلّ عن الله ونحو ذلك؛ فإن هؤلاء لا يكفرون حتى تقوم عليهم الحجة بالرسالة كما قال الله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وقد عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، وقد أشبعنا الكلام في القواعد التي في هذا الجواب في أماكنها، والفتوى لا تحتمل البسط أكثر من هذا، والله أعلم”([13]).
أمَّا ما يتعلق بالجهميَّة بالخصوص، فإنَّنا نجد تكفير ابن المبارك للطائفة عامة، ونجد لابن تيمية رحمه الله ونصوصًا أخرى ينسب فيها القول إلى الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ونجد أنها تدلُّ دلالةً واضحة وصريحة على أن تكفير الجهمية لا يعني تكفير كل فردٍ بعينه، مع التنبيه على أن الجهمية في بعض نصوص الإمام أحمد هم المعتزلة، وقد يُورد البعض هذه النصوص في بيان عدم تكفير كل الجهمية، وهذا ليس بلازم، فإن النص يجب أن يقرأ مقرونًا بزمانه ومعرفة من عناهم صاحب النص بنصِّه، فحتى إن قلنا: كفر السلف الجهمية المحضة فإننا نجد أن من ألحق بهم لاحقًا من المعتزلة والأشاعرة لم يأخذوا حكمهم عند أئمة السلف، يقول ابن تيمية رحمه الله حاكيًا صنيع الإمام أحمد وموقفه: “فهذه المقالات هي كفرٌ، لكن ثبوت التَّكفير في حق الشخص المعين موقوفٌ على قيام الحجة التي يكفر تاركها، وإن أطلق القول بتكفير من يقول ذلك فهو مثل إطلاق القول بنصوص الوعيد مع أنَّ ثبوت حكم الوعيد في حق الشخص المعين موقوف على ثبوت شروطه وانتفاء موانعه؛ ولهذا أطلق الأئمة القول بالتَّكفير مع أنهم لم يحكموا في عين كل قائل بحكم الكفار، بل الذين استَمحَنُوهم وأمروهم بالقول بخلق القرآن وعاقبوا من لم يقل بذلك إما بالحبس والضرب والإخافة وقطع الرزق بل بالتكفير أيضًا لم يكفِّروا كلَّ واحد منهم، وأشهر الأئمة بذلك الإمام أحمد، وكلامه في تكفير الجهمية مع معامَلته مع الذين امتحنوه وحبسوه وضربوه مشهور معروف”([14]).
ويقول رحمه الله: “وأكثر الطَّالبين للعلم والدين ليس لهم قصدٌ من غير الحق المبين، لكن كثرتْ في هذا الباب الشبه والمقالات، واستولت على القلوب أنواع الضَّلالات، حتى صار القول الذي لا يشك من أوتي العلم والإيمان أنَّه مخالف للقرآن والبرهان، بل لا يشك في أنَّه كفر بما جاء به الرسول من رب العالمين قد جهله كثير من أعيان الفضلاء، فظنوا أنه من محض العلم والإيمان، بل لا يشكـون في أنَّه مقتضى صريح العقل والعيان، ولا يظنون أنه مخالف لقواطع البرهان، ولهذا كنت أقول لأكابرهم: لو وافقتكم على ما تقولونه لكنت كافرًا مَريدًا؛ لعلمي بأن هذا كفر مبين، وأنتم لا تكفرون لأنكم من أهل الجهل بحقائق الدين، ولهذا كان السلف والأئمة يكفرون الجهمية في الإطلاق والتعميم، وأما المعين منهم فقد يدعون له ويستغفرون له لكونه غير عالم بالصراط المستقيم، وقد يكون العلم والإيمان ظاهرًا لقوم دون آخرين، وفي بعض الأمكنة والأزمنة دون بعض بحسب ظهور دين المرسلين”([15]).
فهنا ينسب إلى السلف أنهم يكفرون الجهمية لكنهم يتوقفون في الأعيان، فلا يحكمون على الأعيان بالكفر، ويذكر هذا عن الإمام أحمد في نص ظاهر وبيِّن أنقله مع بعض طولٍ فيه لأهميته، يقول ابن تيمية رحمه الله في بيان كلام الأئمة والإمام أحمد بالخصوص فيمن قال بخلق القرآن وتنازع الأئمة في تكفير المعين ممن قال بهذا: “وسبب هذا التنازع تعارض الأدلة، فإنهم يرون أدلة توجب إلحاق أحكام الكفر بهم، ثم إنهم يرون من الأعيان الذين قالوا تلك المقالات من قام به من الإيمان ما يمتنع أن يكون كافرًا، فيتعارض عندهم الدليلان، وحقيقة الأمر أنهم أصابهم في ألفاظ العموم في كلام الأئمة ما أصاب الأولين في ألفاظ العموم في نصوص الشارع، كلما رأوهم قالوا: من قال كذا فهو كافر، اعتقد المستمع أن هذا اللفظ شامل لكل من قاله، ولم يتدبروا أن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين، وأن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه. فإن الإمام أحمد مثلًا قد باشر الجهمية الذين دعوه إلى خلق القرآن ونفي الصفات وامتحنوه وسائر علماء وقته، وفتنوا المؤمنين والمؤمنات الذين لم يوافقوهم على التجهم بالضرب والحبس والقتل والعزل عن الولايات وقطع الأرزاق ورد الشهادة وترك تخليصهم من أيدي العدو، بحيث كان كثير من أولي الأمر إذ ذاك من الجهمية من الولاة والقضاة وغيرهم، يكفرون كل من لم يكن جهميًّا موافقًا لهم على نفي الصفات؛ مثل القول بخلق القرآن، ويحكمون فيه بحكمهم في الكافر، فلا يولونه ولاية ولا يفتكونه من عدو ولا يعطونه شيئًا من بيت المال ولا يقبلون له شهادة ولا فتيا ولا رواية، ويمتحنون الناس عند الولاية والشهادة والافتكاك من الأسر وغير ذلك، فمن أقر بخلق القرآن حكموا له بالإيمان، ومن لم يقر به لم يحكموا له بحكم أهل الإيمان، ومن كان داعيًا إلى غير التجهم قتلوه أو ضربوه وحبسوه. ومعلوم أنَّ هذا من أغلظ التجهم، فإن الدعاء إلى المقالة أعظم من قولها، وإثابة قائلها وعقوبة تاركها أعظم من مجرد الدعاء إليها، والعقوبة بالقتل لقائلها أعظم من العقوبة بالضرب، ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره ممن ضربه وحبسه واستغفر لهم وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر، ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم؛ فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع، وهذه الأقوال والأعمال منه ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية الذين كانوا يقولون: القرآن مخلوق وإن الله لا يرى في الآخرة، وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه كفر به قوما معينين، فأما أن يذكر عنه في المسألة روايتان ففيه نظر، أو يحمل الأمر على التفصيل فيقال: من كفره بعينه؛ فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير وانتفت موانعه، ومن لم يكفره بعينه؛ فلانتفاء ذلك في حقه. هذا مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم”([16]).
فهل هناك نصٌّ أوضح من هذا النص؟! مع الأخذ بعين الاعتبار بأن الجهمية هنا قد يراد بهم المعتزلة، فهم الذين كان بين الإمام أحمد وبينهم السجالات والمحن، وسواء قلنا: إن المراد هم الجهمية المحضة أو المعتزلة فما نروم إثباته ثابت، وهو أن التكفير العام للجهمية أو للقول أو الفعل لا يتناول المعين إلا بالشروط وانتفاء الموانع، وهذا هو ما ينتهجه ابن تيمية أيضًا، فقد قال للجهمية ممَّن ناظرهم وجادلهم ممَّن ليسوا من عوام الجهمية: “ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة الذين نفوا أن يكون الله تعالى فوق العرش لما وقعت محنتهم: أن لو وافقتكم كنت كافرًا؛ لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون؛ لأنكم جهال، وكان هذا خطابًا لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم”([17]). والجهمية هنا هم بعض الأشاعرة لا الجهمية المحضة، وهو يدل على مرادنا.
وخلاصة هذا الكلام: أن المراد بنصوص تكفير الجهمية هم الجهمية الأوائل، وهم الجهمية المحضة، ومع ذلك فإن النص العام المطلق لا يتناول المقيد الخاص.
خامسًا: لا حكم باللوازم حتى يلتزموا:
ما سبق ذكره من كون النصوص العامة لا تنزل على الأعيان أمرٌ معلوم من منهج السلف، ولا يخفى على هؤلاء المعاصرين، لكنهم يرون أن الأشاعرة المعاصرين قد وافقوا الجهمية الأوائل في معتقدهم فاستحقوا حكمهم، وهذا أيضًا غير صحيح، فإن المعاصرين قد جعلوا الأشاعرة هم الجهمية بالمطابقة، وهذا غير صحيح، فالاسم العام يشملهم بلا شك، فقد أطلق السلف لفظ الجهمية على الجهمية الأوائل والمعتزلة والأشاعرة، لكن هذا لا يعني أنهم في الحكم سواء، وقد بينت ضرورة معرفة تاريخ النص الذي يتكلم عن الجهمية لنعرف الجهمية المرادة، فلا يصح إنزال حكم طائفة على طائفة أخرى، وبعض المسائل التي يرى المعاصرون أن الأشاعرة طابقوا الجهمية فيها ما هي إلا إلزامات لا يلتزمها الأشاعرة، وعلى كل حال قد تكلم ابن تيمية في نصٍّ سبق ذكره عن الجهمية المحضة فقال: “والمأثور عن السلف والأئمة إطلاق أقوال بتكفير الجهمية المحضة الذين ينكرون الصفات، وحقيقة قولهم أن الله لا يتكلم ولا يرى ولا يباين الخلق، ولا له علم ولا قدرة ولا سمع ولا بصر ولا حياة؛ بل القرآن مخلوق، وأهل الجنة لا يرونه كما لا يراه أهل النار وأمثال هذه المقالات”([18]). والمشابهة في واحد من الصفات لا تعني المطابقة، وإن وجدنا أن الأشاعرة يقولون ببعض أقوال الجهمية فلا زال الحكم عليهم حكمًا عامًّا لا يكفر به الأعيان، وقد مر بنا قريبًا عن الإمام أحمد وغيره من الأئمة تنازعهم في تكفير من قال بخلق القرآن، وأن التكفير العام لا ينزل على المعين إلا بشروط وموانع.
ولهذا ذكر ابن تيمية رحمه الله الجهمية والمآخذ عليهم ثم ذكر من يتابعهم، وهذا يصدق على الأشاعرة، يقول: “وتغلط مقالاتهم [أي: الجهمية] من ثلاثة أوجه: أحدها: أن النصوص المخالفة لقولهم في الكتاب والسنة والإجماع كثيرة جدًّا مشهورة وإنما يردونها بالتحريف. الثاني: أن حقيقة قولهم تعطيل الصانع وإن كان منهم من لا يعلم أن قولهم مستلزم تعطيل الصانع، فكما أن أصل الإيمان الإقرار بالله فأصل الكفر الإنكار لله. الثالث: أنهم يخالفون ما اتفقت عليه الملل كلها وأهل الفطر السليمة كلها؛ لكن مع هذا قد يخفى كثير من مقالاتهم على كثير من أهل الإيمان حتى يظن أن الحق معهم لما يوردونه من الشبهات. ويكون أولئك المؤمنون مؤمنين بالله ورسوله باطنًا وظاهرًا؛ وإنما التبس عليهم واشتبه هذا كما التبس على غيرهم من أصناف المبتدعة، فهؤلاء ليسوا كفارًا قطعًا، بل قد يكون منهم الفاسق والعاصي، وقد يكون منهم المخطئ المغفور له، وقد يكون معه من الإيمان والتقوى ما يكون معه به من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه”([19]). فمن يقول بأقوال الجهمية يكون مثل أي شخص ارتكب أمرا بدعيا أو مكفرا، فينظر في حاله وجهله وقيام الحجة عليه وغير ذلك مما هو معلوم في ضوابط التكفير وموانعه.
سادسًا: قيام الحجة:
مع ما سبق ذكره من أن الأشاعرة المعاصرين لا يمكن حملهم على الجهمية المحضة يرى هؤلاء المعاصرون أن أقوال الأشاعرة أقوال كفرية، ولا يكفرون إلا بقيام الحجة وقد قامت عليهم لانتشار العلم في هذا الزمان، فهم يرون أن كل الأشاعرة فردًا فردًا قد قامت عليه الحجة التي يكفر بها، فنكفرهم من أجل قيام الحجة عليهم، وهذا لا يمكن الاعتماد عليه في تكفير كل أعيان الأشاعرة؛ ذلك أن قول هؤلاء المعاصرين مبني على أننا في زمن انتشار الكتب وينبني عليه قيام الحجة، وليس بالضرورة أن يكون هذا صحيحًا، فإن قيام الحجة يختلف من زمان لآخر ومن مكان لآخر، ومع ذلك فكلما ابتعدنا عن نور النبوة وزمن الوحي صارت البدع أكثر، وانتزاعها وبيان بطلانها أصعب، ولا يرجع هذا إلى مجرد وضوح الحجة الرسالية، ولكن لما يقوم بالمكلف من أمور تصرفه عن الحق من التأويل والشبهة والجهل الذي لا يكون عن إعراض، وكذا عن أحوال وطريقة طلبه للعلم تؤثر في فهمه للنص، يقول ابن تيمية رحمه الله: “المؤمن الذي لا ريب في إيمانه قد يخطئ في بعض الأمور العلمية الاعتقادية، فيغفر له كما يغفر له ما يخطئ فيه من الأمور العملية، وأن حكم الوعيد على الكفر لا يثبت في حق الشخص المعين حتى تقوم عليه حجة الله التي بعث بها رسله كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] وأن الأمكنة والأزمنة التي تفتر فيها النبوة لا يكون حكم من خفيت عليه آثار النبوة حتى أنكر ما جاءت به خطأ كما يكون حكمه في الأمكنة والأزمنة التي ظهرت فيها آثار النبوة”([20])، والكلام في قيام الحجة يطول لكن لا بد قبل التكفير من توفر أمور:
أولها: أن تكون المسألة كفرية ظاهرة في الكفر.
ثانيها: أن يعلم المكلف كفر قوله -أو حرمته عند البعض- بدليل بين واضح، ويفهمه فهمًا صحيحًا.
ثالثها: أن يخلو من موانع التكفير ومن أهمها التأويل والجهل.
ويدل على هذا قول ابن تيمية رحمه الله في تقرير مذهب الإمام أحمد لأهميته إذ يقول: “وهذه الأقوال والأعمال منه ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية الذين كانوا يقولون: القرآن مخلوق وإن الله لا يرى في الآخرة، وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه كفر به قومًا معينين، فأما أن يذكر عنه في المسألة روايتان ففيه نظر، أو يحمل الأمر على التفصيل فيقال: من كفره بعينه؛ فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير وانتفت موانعه، ومن لم يكفره بعينه؛ فلانتفاء ذلك في حقه، هذا مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم”([21])، وكذا الحال مع الجهمية، يقول ابن تيمية: “أحمد لم يكفر أعيان الجهمية، ولا كل من قال: إنه جهمي كفره، ولا كل من وافق الجهمية في بعض بدعهم؛ بل صلى خلف الجهمية الذين دعوا إلى قولهم وامتحنوا الناس وعاقبوا من لم يوافقهم بالعقوبات الغليظة، لم يكفرهم أحمد وأمثاله؛ بل كان يعتقد إيمانهم وإمامتهم، ويدعو لهم، ويرى الائتمام بهم في الصلوات خلفهم، والحج والغزو معهم، والمنع من الخروج عليهم ما يراه لأمثالهم من الأئمة. وينكر ما أحدثوا من القول الباطل الذي هو كفر عظيم وإن لم يعلموا هم أنه كفر؛ وكان ينكره ويجاهدهم على رده بحسب الإمكان، فيجمع بين طاعة الله ورسوله في إظهار السنة والدين وإنكار بدع الجهمية الملحدين، وبين رعاية حقوق المؤمنين من الأئمة والأمة وإن كانوا جهالا مبتدعين وظلمة فاسقين”([22]).
وابن تيمية رحمه الله نفسه حين تكلم عن الجهمية الأشاعرة قال: “ولهذا كنت أقول لأكابرهم: لو وافقتكم على ما تقولونه لكنت كافرًا مريدًا؛ لعلمي بأن هذا كفر مبين، وأنتم لا تكفرون لأنكم من أهل الجهل بحقائق الدين، ولهذا كان السلف والأئمة يكفرون الجهمية في الإطلاق والتعميم، وأما المعين منهم فقد يدعون له ويستغفرون له لكونه غير عالم بالصراط المستقيم، وقد يكون العلم والإيمان ظاهرًا لقوم دون آخرين، وفي بعض الأمكنة والأزمنة دون بعض بحسب ظهور دين المرسلين”([23]). فقد سمى الأشاعرة جهمية ونسبهم إلى التجهم، ومع ذلك بين أنه لا يكفرهم لجهلهم، فمجرد نسبة الأشاعرة إلى الجهمية لا يقتضي التكفير كما يذهب إليه هؤلاء المعاصرون.
سابعًا: اللوازم الباطلة:
من أخذ ببعض نصوص السلف في تكفير الجهمية بإطلاق وأراد أن يثبت حقيقة هذا القول دون النظر إلى الشروط والموانع واختلاف الأشاعرة الجهمية عن الجهمية المحضة فإن مَن هذا صنيعه يلزمه تكفيرُ عدد كبير من علماء أهل السنة والجماعة لا الأشاعرة، فإنه قد ورد عن السلف تكفير الجهمية أو من قال بخلق القرآن وتكفير من لم يكفرهم أو شك في كفرهم، ففي السنة لعبد الله بن أحمد: حدثني غياث بن جعفر، قال: سمعت سفيان بن عيينة، يقول: “القرآن كلام الله عز وجل، من قال: مخلوق، فهو كافر، ومن شك في كفره فهو كافر”([24]). وقد مر بنا أن ابن تيمية لا يكفر الأشاعرة ويذكر هذا في نصوص صريحة، بل ولا غيره من كثير من المتقدمين، فيلزم هؤلاء أن يكفروا ابن تيمية وابن القيم وغيرهم من علماء أهل السنة والجماعة، بل ويلزمهم تكفير اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية وابن باز وابن عثيمين فلهم نصوص صريحة في عدم تكفير الأشاعرة([25])؛ ذلك لأن النصوص التي اعتمدوا عليها في تكفير الجهمية هي التي فيها تكفير من لم يكفرهم، فهؤلاء المعاصرون قد أخذوا أول النص بعمومه وأنزلوه على المعنينين فقالوا: الجهمية كلهم كفار ومنهم الأشاعرة، ويلزمهم الأخذ بالشطر الثاني من النص وهو تكفير من لم يكفرهم، وقد مر بنا أن كبار الأئمة من السابقين والمعاصرين لم يكفروهم، وعدم تكفير هؤلاء مع تكفير الأشاعرة بالعموم خطأ بين في الأخذ بنصوص العلماء وفهمها.
وأخيرًا: هذه نقاطٌ سريعة مررت فيها على قضية تجهّم الأشاعرة وتكفيرهم بناء على ذلك، والتكفير وما يتعلق به يفتح باب شرٍّ عظيم إن لم يتقيَّد فيه بالشرع المحكم، وما جاء عن علمائنا من السلف الصالح، فإننا نفهمه كما فهمه علماؤنا الآخرون، فنفهم كلام ابن المبارك وغيره كما بينه ووضحه ابن تيمية وغيره من العلماء من أنهم أرادوا الجهمية المحضة، وهذا هو الواقع إذ إن كلامهم في القرن الثاني، فلا يصح إذن أن ننزل ما قيل في الجهمية المحضة على الأشاعرة لمجرد تشابههم في بعض المعتقدات، بل لكل طائفة حكمها الخاص مما حكم به علماء السلف، ومع ذلك فالأعيان لهم حكمهم الخاص ليس فقط بالنظر إلى معتقدهم بل حتى بالنظر إلى استنداهم إلى الكتاب والسنة وانتصارهم لهما، ومنهجهم في الاستدلال، وغير ذلك من المعاني المبثوثة في كتب أهل السنة والجماعة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين([26]).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([2]) مجموع الفتاوى (12/ 466).
([3]) الاستغاثة في الرد على البكري (ص: 252).
([4]) مجموع الفتاوى (12/ 486).
([6]) مجموع الفتاوى (10/ 697).
([7]) الفتاوى الكبرى (6/ 368).
([8]) الفتاوى الكبرى (6/ 370-372).
([9]) مجموع الفتاوى (12/ 206).
([10]) مجموع الفتاوى (3/ 350).
([11]) مجموع الفتاوى (3/ 352).
([12]) مجموع الفتاوى (3/ 353-354).
([13]) مجموع الفتاوى (35/ 165-166).
([14]) بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية (ص: 353-354).
([15]) بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (1/ 9-10).
([16]) مجموع الفتاوى (12/ 487-489).
([17]) الاستغاثة في الرد على البكري (ص: 253).
([18]) مجموع الفتاوى (3/ 352).
([19]) مجموع الفتاوى (3/ 354).
([20]) بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية (ص: 311).
([21]) مجموع الفتاوى (12/ 487-489).
([22]) مجموع الفتاوى (7/ 507).
([23]) بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (1/ 10).
([25]) ينظر: الموقع الرسمي لابن باز، فتوى بعنوان: بيان فرقة الأشاعرة. وفتاوى اللجنة الدائمة (3/ 220) والفتوى بعضوية كل من: عبد الله بن قعود، وعبد الله بن غديان، وعبد الرزاق عفيفي، وعبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمهم الله.
([26]) بعض أوجه النقاش في الورقة مستفادة من الدكتور سلطان العميري في منشوراته على قناته في التلجرام، وقد نشر مركز سلف ورقة علمية بعنوان: موقف السلفيين من العلماء المخالفين، للباحث: علاء حسن، وهي على الرابط التالي: https://salafcenter.org/7024/