موافقات القاضي أبي يعلى ابن الفراء الحنبلي وتراجعاته
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
يُعتبر القاضي أبو يعلى -محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد البغدادي الحنبلي ابن الفراء- من الشخصيات التي سببت جدلًا واسعًا في الأروقة العلمية القديمة، وهذه مسألة قد نفهمها بسبب الخلاف بين الأشاعرة والحنابلة، إلا أن الأمر الآخر الذي يحيطه تعقيدًا هو تضارب آرائه في الباب الواحد، ورجوعه في كثيرٍ من المسائل الأصول. وهذا قد يُرى من جانب إيجابي، وهو أن القاضي رحمه الله يدور مع الحقيقة حيث درات، ويُرى أيضًا من جانبه السلبي حيث افتتح بابًا كلاميًّا مُخلخلًا وغير محرر.
ونحن في هذه الورقة سنبين طرفًا من تقريراته واضطرابه، وكذا رجوعه عن مسائل بما يوافق مذهب أهل السنة، وبيان مخالفته لمذهب المتحنبلة المعاصرين.
وبدايةً: لا يستطيع الباحث إلا أن يقف على أعتاب تلك الشخصية الجدلية في تاريخ الأمة بحذر وتأمل شديدين، فالأشاعرة يذمّونه ويجعلونه رأس المجسّمة، بل يكاد يتّفق على تجسيمه جمهور المذاهب عدا الحنبلية الذين اعتبروه ركنَ المذهب وأحد الروافد الأساسية في الفقه الحنبلي.
والسبب يعود إلى أن الأشاعرة اتهموا القاضي أبا يعلى ابن الفراء بالتشبيه والتجسيم -وهو بريء من ذلك- عندما صنف كتابه «إبطال التأويلات»؛ لما ذكر فيه من أحاديث موهمة للتشبيه، قال عنه المؤرخ ابن الأثير: «إنه أتى فيه -أي: الكتاب- بكلّ عجيبة، وترتيب أبوابه يدلّ على التجسيم المحض»([1]).
وذكر القاضي ابن العربي أنه لما كان ببغداد سنة (490هـ) أخبره من يثق فيه من مشيخته أن القاضي أبا يعلى الفراء رئيس الحنابلة كان يقول في مسألة الصفات: إذا ذُكر الله تعالى وما ورد من هذه الظواهر في صفاته ألزموني ما شئتم فإني ألتزمه إلا اللحية والعورة([2]).
ولما شاع خبر القاضي أبي يعلى بما اتُّهم به من التشبيه والتجسيم في الصفات قال أبو محمد التميمي الحنبلي: «لا رحمه الله، فقد خرى على الحنابلة خرية لا تنغسل إلى يوم القيامة»، وفي رواية: «فقد بال في الحنابلة البولة الكبيرة التي لا تُغسل إلى يوم القيامة»([3]).
ويؤكّد ذلك ابن تَيميَّة: «ولهذا وغيره تكلّم رزق الله التميمي وغيره من أصحاب أحمد في تصنيف القاضي أبي يعلى لهذا الكتاب بكلام غليظ، وشنع عليه أعداؤه بأشياء هو منها بريء، كما ذكر هو ذلك في آخر الكتاب»([4]).
ويرى شيخ الإسلام ابن تَيميَّة أن المسائل التي أُخذت عليه في التشبيه كانت من قِبل عدم تمييزه لصحيح الآثار وسقيمها.
وكذا يقرر بأن الذين تكلموا في القاضي أبي يعلى الفراء شنَّعوا عليه بأشياء هو منها بريء، وما ذكره أبو بكر ابن العربي عنه -يعني قوله: ألزموني ما شئتم إلا اللحية والعورة- هو كذب عليه، رواه عن مجهول لم يُسمه، لكن مع ذلك فإن في كلام القاضي أبي يعلى ما هو مردود نقلًا وعقلًا.
طريقة القاضي أبي يعلى:
وقبل الولوج في بيان تقريرات القاضي وتراجعاته يحسن أولًا أن نُبيِّن طرفًا من طريقة القاضي:
ففي باب الصفات كتُب القاضي تنضح بالإثبات الشديد، ويصل الأمر إلى شرح صريح لمعاني الصفات ودفع قول المعارض باللغة والقياس العربي، ثم سرعان ما تنطفئ فورة هذا الإثبات لتجد التفويض في مواضع شتى، بل والتأويل أحيانًا.
أدلة تفويض القاضي أبي يعلى:
من دلائل ذلك ما ذكره في كتابه، ونصه: «فصلٌ في الدلالة على أنه لا يجوز الاشتغال بتأويلها وتفسيرها من وجوه:
أحدها: أنَّ آي الكتاب قسمان:
أحدهما: محكمٌ تأويلُه تنزيلُه يُفهم المراد منه بظاهره.
وقسمٌ: هو متشابه لا يعلم تأويله إلَّا الله، ولا يُوقف على معناه بلغة العرب، بدليل قوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ﴾ [آل عمران: 7]، وقوله: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ﴾ [آل عمران: 7]، فالواو ها ههنا للاستئناف وليست عاطفة، كذلك أخبار الرَّسول صلى الله عليه وسلم جاريةٌ هذا المجرى، ومُنزَّلة على هذا التَّنْزيل»([5]).
فصرح القاضي أن المتشابه متشابه لا يعلم تأويله إلَّا الله، ولا يُوقف على معناه بلغة العرب، والكلام هنا عن الصفات وهو ما اعتبره ابن تَيميَّة تناقضًا؛ وذلك أن القاضي تكلم في معاني الصفات كما سيأتي.
ومن دلائل تفويضه أيضًا أنه توقَّف في آية الاستواء ومنع من تفسير السلف لها بالعلو على العرش؛ مُخالفًا بذلك قول جماهير السلف، قال القاضي: «روى أَبُو بكر الخلال بإسناده عن أم سلمة أنها قالت فِي قوله: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5] قالت: كيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر، فقد صرحت بالقول بالاستواء غير معقول، وهذا يمنع تأويله عَلَى العلو وعلى الاستيلاء»([6]).
فمنع القاضي من التفسيرين: تفسير الجهمية بالاستيلاء، وتفسير السلف بالعلو، وهو أحد الأسباب التي جعلت ابن تَيميَّة يجعله متناقضًا في الباب.
ومن دلائل تأثره بعلم الكلام: نفيه أن الله يُحِبّ ويُحَبّ لذاته، حيث قال: «والمحبة لله تعالى هي الإرادة لما يفعل بنا من المنافع والنعم؛ لأن ذاته تعالى ووجوده لا تميل إليه النفوس، ولا تنفر عنها، بل النفوس المحدثة لا تميل إلا إلى المنافع، ولا تنفر إلا عن المضار… -إلى أن قال:- يُبين صحة هذا أن الجمادات لما لم يوجد منها المنافع لم توصف بالمحبة»([7]).
وانتقل هذا القول إلى بعض متأخري الحنابلة، فيقول ابن حمدان: «ولا نحبُّ ذاته»([8]).
وهذا القول مع مخالفته للفطر المستقيمة -إذ العامة تصرح بحب الله ورسوله-، ومع ما فيه من مخالفة قول الله B: ﴿فَسَوفَ يَأتِي ٱللَّهُ بِقَومٍ يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة: 54] فضلًا عن الحجج التي ساقها القاضي رحمه الله، فإنه استغراقٌ في علم الكلام والفلسفة، وتشبيهُ القاضي حُبَّ الله بحبِّ الجمادات مجازفة غير مقبولة.
وقد حكى شيخ الإسلام ابن تَيميَّة عن ابن عقيل أنه سمع رجلًا يقول: أسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، فقال له: «هب أن له وجهًا، ألهُ وجهٌ يُلتذُّ بالنظر إليه؟!». ثم يُتابع ابن تَيميَّة بقوله: «وهذا بناء على هذا الأصل؛ فإنه وشيخه أبا يعلى ونحوهما وافقوا الجهمية في إنكار أن يكون الله محبوبًا، واتبعوا في ذلك قول أبي بكر بن الباقلاني ونحوه ممن ينكر محبة الله، وجعل القول بإثباتها قولَ الحلولية»([9]).
إذن، فوجود مادة كلامية مُستغرقة ونوع تضارب في إثبات بعض الصفات عند القاضي هو أمرٌ ظاهر جدًّا، ولا ينبغي لباحثٍ منصف أن يدفع ذلك، وهذا من جُملة الأسباب الرئيسة التي حملت ابن تَيميَّة على نقده بشدة.
يقول شيخ الإسلام ابن تَيميَّة: «ونوع ثالث سمعوا الأحاديث والآثار، وعظَّموا مذهب السلف، وشاركوا المتكلمين الجهمية في بعض أصولهم الباقية، ولم يكن لهم من الخبرة بالقرآن والحديث والآثار ما لأئمة السنة والحديث؛ لا من جهة المعرفة والتمييز بين صحيحها وضعيفها، ولا من جهة الفهم لمعانيها، وقد ظنّوا صحة بعض الأصول العقلية للنفاة الجهمية، ورأوا ما بينهما من التعارض، وهذا حال أبي بكر ابن فورك والقاضي أبي يعلى وابن عقيل وأمثالهم، لهذا كان هؤلاء تارة يختارون طريقة أهل التأويل كما فعله ابن فورك وأمثاله في الكلام على مشكل الآثار، وتارة يفوضون معانيها ويقولون: تجري على ظواهرها، كما فعله القاضي أبو يعلى وأمثاله في ذلك»([10]).
وقال أيضًا: «ومنهم من يقول: بل تجري على ظاهرها، وتحمل على ظاهرها، ومع هذا فلا يعلم تأويلها إلا الله، فيتناقضون حيث أثبتوا لها تأويلًا يخالف ظاهرها، وقالوا مع هذا: إنها تحمل على ظاهرها، وهذا ما أنكره ابن عقيل على شيخه القاضي أبي يعلى في كتاب ذم التأويل»([11]).
ورغم هذا -وللمفارقة- نجد شيخ الإسلام ابن تيميَّة في مواضع قد جعل القاضي أبا يعلى من جملة أهل الإثبات المحض؛ حيث نسبه إلى طريقة شيخه ابن حامد، فيقول: «وأما الحنبلية فأبو عبد الله ابن حامد قوي في الإثبات جاد فيه، ينزع لمسائل الصفات الخبرية، وسلك طريقَه صاحبُه القاضي أبو يعلى، لكنه ألين منه وأبعد عن الزيادة في الإثبات»([12]).
ونسبه إلى جُملة المثبتين لمعاني الصِّفات تارة أخرى، فقال ما نصه: «جَمَعَ العلماء من أهل الحديث والفقه والكلام والتَّصوف هذه الآيات والأحاديث، وتكلَّموا في إثبات معانيها، وتقرير صفات الله دلَّت عليها هذه النُّصوص لـمَّا ابتدعت الجهميَّة جَحْدَ ذلك والتَّكْذيبَ له، كما فعل عبد العزيز الكِناني وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وكما فعل عثمان بن سعيد الدَّارمي ومحمد بن إسحاق بن خزيمة وأبو عبد الله ابن حامد والقاضي أبو يعلى»([13]).
فجعل ابنُ تَيميَّة القاضي أبا يعلى في زمرة مثبتة المعاني كابن خزيمة وابن حامد ونحوهم ممن يثبتون معاني النصوص وما دلت عليه في مواجهة المعطلة بشتى تجلياتهم.
وللجمع بين كلام ابن تَيميَّة المتعارض ظاهريًّا نقول: إن القاضي عند ابن تَيميَّة من أهل الإثبات في الجُملة، ولكن وضعه ابن تَيميَّة في مرتبة المتناقضين في الباب وحكى قوله مع المفوضة؛ لوقوع مادة تفويضية في كلامه، بالإضافة إلى موافقة الجهمية في بعض أصولهم الباقية -لاسيما في نفي الأفعال الاختيارية-، فجمع بين نقيضين.
وابن تَيميَّة نفسه قد جمع بين شتات كلامه بكلامٍ جامع -في أحد المواضع- حيث نسبه إلى معرفة المعاني وإلى التفويض معًا، فيقول: «فجاء بعدهم قوم انتسبوا إلى السنة بغير خبرة تامة بها.. يقولون: النصوص تجري على ظواهرها، ولا يزيدون على المعنى الظاهر منها، ولهذا يبطلون كل تأويل يخالف الظاهر، ويقرون المعنى الظاهر، ويقولون مع هذا: إن له تأويلًا لا يعلمه إلا الله، والتأويل عندهم ما يناقض الظاهر، فكيف يكون له تأويل يخالف الظاهر وقد قرر معناه الظاهر؟! وهذا مما أنكره عليهم مناظروهم حتى أنكر ذلك ابن عقيل على شيخه القاضي أبي يعلى» اهـ([14]). فنسبه ابن تَيميَّة إلى إثبات المعاني، ثم عتب عليه تناقضه في الباب.
وابن تَيميَّة يُلخّص حاله في الأفعال فيقول: «وإن كان في كلام القاضي ما يوافق هذا تارة، وهذا تارة»([15]). والمعنى أن في كلام القاضي ما يوافق أصحابَ الإثبات المحض كابن بطة والخلال وابن منده والهروي، وما يوافق أصول النفاة تارةً أخرى، فجمع بين النقيضين.
ولعله من الجدير أن نذكر بأنه ليس ابن تَيميَّة وحده من نسب إليه التناقض في الباب، بل انتقده أيضًا ابن عقيل وابن الجوزي، فقد أخذوا عليه القول بالظاهر مع القول بأن للنص معنى لا يعلمه إلا الله، وأنه من المتشابه([16]).
من مظاهر جرأة القاضي وتحقيقه في الإثبات:
أولًا: تجويزه الإشارة الحسية لتحقيق صفة الأصابع:
قال رحمه الله: «اعلم أنه غير ممتنع حمل الخبر على ظاهره، وأن الإصبع صفةٌ ترجع إلى الذات وأنه تجوز الإشارة فيها بيده. نص عليه أحمد في رواية أبي طالب: سُئل أبو عبد الله عن حديث الحبر: «يضع السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع» يقول إلا شار بيده هكذا، أي: يشير، فقال أبو عبد الله: رأيت يحيى يحدث بهذا الحديث ويضع إصبعًا إصبعًا، ووضع أبو عبد الله الإبهامَ على إصبعه الرابعة من أسفل إلى فوق على رأس كل إصبع. فقد نص على ذلك. وذكر هبة الله بن منصور الطبري في كتاب السنة فقال: سمعت أبا محمد الحسن بن عثمان بن جابر قال: سمعت أبا نصر أحمد بن يعقوب بن زاذان قال: بلغني أن أحمد بن حنبل قرأ عليه رجل: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ [الزُّمَر: 67] ثم أومأ بيده، فقال له أحمد: قطعها الله، وحَرد وقام»([17]).
قال القاضي معلقًا: «وهذا محمول على أنه قصد التشبيه، والموضع الذي أجازه: إذا لم يقصد ذلك، والوجه فيه: أنه ليس في حمله على ذلك ما يُغيِّر صفاته ولا يُخرجها عما تستحقه، لما بينَّا في الحديث الذي قبله، وهو أن إثبات الأصابع كإثبات اليدين والوجه»([18]).
وهذا فيه تجويز القاضي الإشارة إلى الأصابع لتحقيق صفة الأصابع.
ثانيًا: تفسيره لكثيرٍ من الصفات:
ومنها تفسيره لصفة الغَيرة قال: «أما الغَيرة فغير ممتنع إطلاقها عليه سبحانه؛ لأنه ليس في ذلك ما يحيل صفاته ولا يخرجها عما تستحقه؛ لأن الغيرة هي الكراهية للشيء، وذلك جائز في صفاته، قال تعالى: ﴿وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ﴾ [التوبة: 46]»([19]).
ورد على الذين يصرفون الحديثَ إلى أن المراد منه هو الزجر فقال: «قيل: هذا يؤكد ما ذهبنا إليه؛ لأنه إذا كان معناها الزجر، وذلك مما يجوز على الله سبحانه لم يمتنع من إطلاق لفظ يتضمن ذلك، وعلى أن الخبر يقتضي أن تكون الغَيرة علة في الزجر بقوله: «ولهذا حرم» يعني لأجل هذه الغيرة حرَّم، وعلى ما قالوه لا يقتضي أن تكون الغيرة علة في الزجر، بل يكون الزجر نفسه علة لنفسه، وهذا لا يصح»([20]).
وقال: «فقد صرَّح أحمد بالقول: إنَّ العرش لا يخلو منه، وهكذا القول عندنا في قوله: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ﴾ [الفجر: 22] والمراد به: مجيء ذاته لا على وجه الانتقال، وكذلك قوله: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ﴾ [البقرة: 210] المراد به: مجيء ذاته لا على وجه الانتقال»([21]).
فجمْعُ القاضي أبي يعلى بين صفتي المجيء والإتيان لله تعالى في سياق واحد -وعبَّر عن المجيء بالإتيان رغم عدم ورود لفظ المجيء في الآية- دليلٌ ظاهر على إثباته لمعنى صفتي المجيء والإتيان.
ثالثًا: الاستدلال بإحدى الصفتين على الأخرى:
قال القاضي أبو يعلى في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ﴾ [النجم: 8]: «هل الكناية في التَّدلي عن الله سبحانه أم عن جبريل؟ فذكر أبو بكر في كتاب التَّفسير في هذه الآية قولين:
أحدهما: أنه جبريل، عن مجاهد والحسن في رواية.
والثَّاني: أنه الله سبحانه، حكاه عن ابن عباس وعطاء وعكرمة والحسن، واختار هذا القول.
والوجه فيه: أنَّ رؤيته لجبريل قد سبقت مرارًا لا تحصى، فلا فائدة في إثباتها في تلك الليلة، إذ كان المقصود بذلك حصول الفضيلة له وعلو المنزلة، ولأنه قال تعالى: ﴿فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ﴾ [النجم: 10]، والوحي إنما يكون من الله تعالى، فقوله: ﴿فَأَوْحَى﴾ كناية عمَّن تقدَّم ذكره وهو المتدلِّي، فعُلم أنَّ المتدلِّي هو الذي يوحِي وهو الله تعالى، وقد شهد الكتاب والسنة لما قاله أبو بكر، قال تعالى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ [الفجر: 22]، وقوله تعالى: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ﴾ [البقرة: 210]، وبقول النبي: «ينزل الله تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا»»([22]).
فاستدلال القاضي لصفة التدلي بصفة المجيء والإتيان والنزول ظاهرٌ في إثباته لمعاني هذه الصفات، إذ كيف يستدل لصفةٍ بصفةٍ أخرى مغايرة لها باللفظ وهو لا يثبت جنس اشتراك في المعنى؟!
رابعًا: إثبات الصفات عن طريق اللزوم:
يقول القاضي: «اعلم أنه غير ممتنعٍ حَمْل الخبر على ظاهره في إثبات عينين هما صفتان زائدتان على البصر والرُّؤية، ليستا بجارحتين، والوجه في ذلك أنَّ الله تعالى وَصَفَ نفسه بذلك بقوله تعالى: ﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا﴾ [القمر: 14]، وقال تعالى: ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ [هود: 37]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدجال أعور، وإن ربكم ليس بأعور»»([23]).
فاستدلَّ القاضي في إثباته عينين اثنتين -لا عينًا واحدةً على طريقة المفوضة- بحديث: «إن ربكم ليس بأعور» رغم أن الحديث لم يُصرح بإثبات العينين، لكن أثبت العينين بطريق اللازم، لأن عدم العور يلزم منه كمال العينين، وهو دليلٌ ظاهرٌ على إثبات القاضي لمعنى صفة العينين لله، لتضمُّن النَّفي إثبات كمال الضدّ.
ثم تزيد فورة الإثبات بطريق اللازم فيستدل بالأصابع على اليدين، فيقول: «غيرُ ممتنعٍ حمل اليد هاهنا على أنها يد صفةٍ للذَّات كقوله تعالى: ﴿خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص: 75]، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «قلب العبدِ بين أصبعين من أصابع الرَّحمن» على أنها صفةٌ للذَّات كذلك هاهنا»([24]).
فاستدلال القاضي أبي يعلى على إثبات صفة اليد لله تعالى بحديثٍ فيه ذكر الأصابع فقط دليلٌ ظاهرٌ على إثباته لمعنى صفة اليد بدلالة التضمن للأصابع.
وهو من باب الاستدلال بإحدى الصفتين على الأخرى، وهي من طرق السلف في إثبات المعاني كما ذكر شيخ الإسلام ابن تَيميَّة.
ويُفرق بين إرادة الانتقام والغضب باللغة العربية، فيقول: «الذي يدلُّ على أنَّ الغضبَ والرِّضا غيرُ الإرادةِ أنَّ الغضب معنًى يتعلَّق بالموجود، وكذلك الرِّضا، فأمَّا الإرادة فإنها تتعلَّق بما لم يكن ليكون. ولأنه لو كان الغضب بمعنى الإرادة لكان الله يُبْغض أفعاله؛ لأنَّ المعاصي خَلْقُهُ من صفات الفعل؛ ولأننا نفرِّق بين كوننا مُبغِضين الشَّيء وبين كوننا مريدين»([25]).
وفي النص السابق فرَّق بين الغضب وإرادة الانتقام، واستدل على أننا نُفرِّق بين كوننا مُبغضين الشيء وكوننا مريدين. وهذا نص ظاهر في إثباته المعاني؛ إذ هو استدل بالحِس وبالتعاطي اللغوي بين الغضب والإرادة.
ولم يُثْبت القاضي أبو يعلى ظاهر اللفظ فقط، بل أثبت معه الحقيقة حيث قال: «مَن حمل اللَّفظ على ظاهره حمله على حقيقته، ومَن تأوَّله عدل به عن الحقيقة إلى المجاز، ولا يجوز إضافة المجاز إلى صفاته»([26]).
إذن، فالصواب -كما ذكرنا- أن القاضي لديه نوع إثبات للمعاني، ولكن مع نوع اضطراب، ولو قلنا: إنه يفوض المعنى بإطلاق للزمنا أن نقول بأنه يفوض السمع والبصر، حيث قال: «بل نثبت ذلك صفةً كما أثبتنا الوجه واليدين والسمع والبصر وإن لم نعقل معناه»([27]).
خامسًا: يجعل الاستواء من جنس الجلوس:
قال: «وهذا غير ممتنع كما لم يمتنع وصفه بالجلوس على العرش، وكما روي في تفسير قوله: ﴿عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا﴾ [الإسراء: 79] قال: يُقعِده على العرش»([28]).
وقال: «ولا يمتنع أيضًا أن يحصل للكرسي أطيط بجلوس ذاته عليه، لا على وجه الاعتماد والمماسة وثقل الجثة»([29]).
وذكر أن الأطيط يحصل بالجلوس؛ لأنه أضافه إليه تعظيمًا لشأن الجلسة، وغلَّط من قال: إن الله يخلق أطيطًا في الكرسي([30]).
ونقل عن يزيد بن هارون قال: «من زعم أن ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5] على خلاف ما يقر في قلوب العامة فهو جهمي». ثم نقل عن ابن قتيبة تفسيره للاستواء بأنه الاستقرار، كما قال: ﴿فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ﴾ [المؤمنون: 28]، أي: استقررت([31]).
سادسًا: حديث الشاب الأمرد يجعله رؤيا حقيقية:
حديث: «رأيت ربي في صورة شابّ جعد قطط» -على نكارة كثير من طرقه- فقد دافع عنه القاضي أبو يعلى بصورةٍ مُلفتة للنظر، وأسهب في إثباته، ولا مانع في أن يصحَّح الحديث، فقد يتحسّن بمجموع طرقه، لكن محلّ الإشكال أنه يجعلها رؤيا على الحقيقة، وجعل صفات هذا الشاب الجعد القطط هي من جنس الصفات التي تُثبت لله بلا كيف، وهذه جرأة منه في الإثبات -غفر الله له-.
ويخالفه شيخ الإسلام ابن تَيميَّة رحمه الله ويجعلها رؤيا منام رمزية على خلاف الحقيقة على فرض صحة الحديث، فيقول: «فإذا كان كذلك فالإنسان قد يرى ربه في المنام ويخاطبه، فهذا حق في الرؤيا، ولا يجوز أن يعتقد أن الله في نفسه مثل ما رأى في المنام»([32]).
بينما القاضي يرى ذلك قولًا باطلًا فيقول: «فإن قيل: فهذه الأخبار منام، والشيء قد يُرى في المنام على خلاف ما هو به، قيل: هذا غلط لوجوه، أحدها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قصد بذلك بيان كرامته من ربه وقرب منزلته منه، فإذا حمل على خلاف ما أخبر زال المقصود، ولأن ما يخبر به شرعٌ فهو معصوم فيه، وصفات الله D شُرع اعتقادها، وإذا كان معصومًا استوى فيه المنام واليقظة؛ لأن رؤية الأنبياء تجري مجرى الوحي… -إلى أن قال:- فإذا قيل: هذه الصفات -أي: الجعد والقطط- لا تليق بصفات الله؛ لأنها من صفات المخلوقين المحدثين، قيل: غلط؛ لأن هذا موجود في صفات الوجه واليدين والعين»([33]).
سابعًا: يرى قعود النبي بجوار ربه:
يرى القاضي أن قعود النبي بجوار ربه على العرش مما يميز أهل السنة، ومَن رد ذلك فهو من الفِرق الهالكة، فيقول بعدما روى الآثار في ذلك: «فلزِمنا الإنكار على من رد هذه الفضيلة التي قالها العلماء وتلقوها بالقبول، فمن ردها فهو من الفرق الهالكة»([34]).
ثامنًا: بيَّن معنى «خلق الله آدم على صورته»:
أورد القاضي حديث «خلق الله آدم على صورته» وأبطل قول القائل: إن الصورة راجعة إلى آدم، ثم قال: «وإنما أطلقنا حمل الصورتين على الأخرى تسميةً لورود الشرع بذلك على طريق التعظيم لآدم، كما قال تعالى في أزواج النبي: ﴿وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ [الأحزاب: 6] ولسن بأمهات في الحقيقة، لكن على وجه التعظيم، ولأن فيه معنى ينفرد به -أي: آدم- من بين سائر ذريته، وهو أنه لما وُجد حيًّا كان كاملًا لم ينتقل من حال صغرٍ إلى كِبر، ومن حال ضعفٍ إلى قوة، ومن حال جهلٍ إلى علم، كذلك الله تعالى في حال وجوده كاملًا»([35]).
ثم أسهب القاضي في ذكر بعض وجوه المعنى، والمقصد أنه لم يفوّض الحديث بحيث يجعله مجرد ألفاظ، بل اجتهد في استنباط المعنى، ووجه الحديث إلى معنًى مقبول، وهذا يتضمن معرفة المعنى قطعًا، وليس يُثبت ألفاظًا لا معنى لها ولا دلالة.
تاسعًا: اعتداد أبي يعلى بمقاتل بن سليمان على طريقة أهل الحديث:
قد احتج القاضي بمقاتل كثيرًا في كتابه «إبطال التأويلات»([36])، وقد نتفق أو نختلف معه، لكن المقصود أن طريقته هذه تختلف كليًّا مع الحنابلة المعاصرين والأشاعرة ممن يتخذون موقفًا معاديًا لمقاتل رحمه الله.
اضطراب القاضي ورجوعه عن مسائل:
– الخلق هو المخلوق:
وافق القاضي أبو يعلى الجهميةَ والأشعرية في أن الخلق هو المخلوق، فقال: «فصل: والمخلوق مخلوق لا بخلق، والخلق هو المخلوق، خلافًا لأبي الهُذيل والكرَّامية في قولهم: المخلوق مخلوق بخلق»([37]).
قال ذلك ظنًّا منه أن صفة الخلق تستلزم الحوادث المخلوقة بذات الله، مع أن إثبات صفة الخلق لله هو إجماع الأثرية، ونص عليه البخاري فقال: «وقالت الجهمية: الخلق هو المخلوق، وقال أهل العلم: التخليق فعل الله»([38]).
ثم إن القاضي رجع عن قوله في كتابه «عيون المسائل»، ونقله عنه شيخ الإسلام ابن تَيميَّة، يقول القاضي: «مسألة: والخلق غير المخلوق، فالخلق صفة قائمة بذاته، والمخلوق هو الموجود المخترع لا يقوم بذاته»([39]).
– تردده في الفعل الاختياري:
قد ذكرنا أن نفي الأفعال الاختيارية لشبهة حلول الحوادث هو أحد قولي القاضي أبي يعلى رحمه الله، لكنه في قوله الثاني لا يرى مانعًا من تجددها، ففي إثبات الأفعال الاختيارية يقول القاضي أبو يعلى: «والصفات المتعلقة بالفعل نحو الاستواء على العرش والنزول إلى السماء والمجيء في ظُلل من الغمام ووضع القَدم في النار ووضع السماوات على أصبع والغضب والرضا والضحك والخلق والرزق إلى أمثال ذلك لا يمتنع أن نقول: إنها صفات ذات تتجدد له بتجدد أسبابها… -ثم قال:- هو موصوف بالإدراك فيما لم يزل، ولا نقول: هو مدرك فيما لم يزل مدركًا؛ لأنه لو كان مدركًا فيما لم يزل اقتضى وجود مُدرَك فيما لم يزل، ولا يجوز؛ لأنه يفضي إلى القول بقدم الأشياء… -إلى أن قال:- ولا نقول: هو مستوٍ وهو نازل وهو جَاءٍ فيما لم يزل؛ لأنه يفضي إلى قِدم العرش وقدم السماء»([40]).
أما قوله الأول في نفي الفعل الاختياري: «واعلم أنا وإن أثبتنا الحروف والأصوات فلا نقول: إن الله يتكلم كلامًا بعد كلام؛ لأن ذلك يوجب حدث الكلام الثاني»([41]).
ومن هنا لا غرابة أن نجد القاضي يُفسر قول أحمد: «لم يزل متكلمًا إذا شاء»، فيقول: «إذا شاء أن يُسمعنا ويُفهمنا».
قال في قدم الأفعال: «والاستواء من صفات الذات موصوف بها فيما لم يزل، وهذا قياس قول أصحابنا؛ لأنهم قالوا: خالق ورازق ومحيي ومميت موصوف بها فيما لم يزل»([42]).
وقال: «إن الرحمة والغضب من صفات ذاته… فعلى هذا لم يزل غضبانَ مريدًا تعذيبَ مَن عَلم أنه يعذبه بعقوبته في النار من الكافرين، ولم يزل راحمًا مريدًا تنعيمَ مَن علم أنه يُنعمه بكرامته في الجنة من المؤمنين»([43]).
وفي النقول السابقة يتبين نفي الفعل الاختياري، فلم يزل الله مستويًا في الأزل! ولم يزل غضبانَ في الأزل.. ولم يزل راضيًا.. ولم يزل نازلًا في الأزل.. ولم يزل جائيًا… إلخ.
– إثبات الحد ونفيه:
أما في إثبات الحد ونفيه فقال: «ولا يجوز عليه الحد، ولا نهاية، ولا القَبل ولا البَعد، ولا تحت ولا قدام، ولا خلف؛ لأنها صفات توجب المكان»([44]).
وقال: «فإن قيل: هو محدود وله نهاية، قيل: هو خالق المحدودات، وجاعل ذي النهايات، ليس بمحدود ولا متناهٍ»([45]).
وذكر القاضي مسألة الاستواء هل يكون بحدٍّ أم لا؟ ونقل عن أحمد روايات الإثبات والنفي، ثم ذكر أنه ذاكر بعض أصحابه في ذلك، فنفي الحد يُخرَّج على قول التميمي، وروايات الإثبات تُخرَّج على قول ابن حامد، وأن الاستواء بمعنى المماسة، فيكون الاختلاف في الحد راجعًا إلى هذا.
ثم نقل عن أبي الحسن الجزري أنه كان يقول: «هو على العرش بحد يعلمه هو، ولا نعلمه نحن، فيجعل راجعًا إلى ذاته لا إلى الاستواء، وكان يحتج في ذلك بقوله تعالى: ﴿وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ﴾ [الزُّمَر: 75]، فاقتضى أن العرش محدود، وهو على العرش، وهذا قول بعيد»([46]).
بينما تجد القاضي له آراء أخرى متأخرة في هذه المسائل، فتجده يقول عن إثبات الحد لله: «قد أطلق أحمد القول بذلك في رواية المروذي، وقد ذكر له قول ابن المبارك: نَعرف الله على العرش بحدٍّ، فقال أحمد: بلغني ذلك. وأعجبه. وقال الأثرم: قلت لأحمد: يُحكى عن ابن المبارك: نعرف ربنا في السماء السابعة على عرشه بحدٍّ، فقال أحمد: هكذا هو عندنا»([47]).
ثم ذكر القاضي أنه رأى بخط أبي إسحاق بإسناده إلى أبي داود أنه قال: «جاء رجل إلى أحمد بن حنبل، فقال له: لله تبارك وتعالى حدٌّ؟ قال: نعم لا يعلمه إلا هو، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ﴾ [الزُّمَر: 75]، يقول: مُحدقين». ثم قال القاضي: «فقد أطلق القول بإثبات الحد لله تعالى»([48]).
– الجلوس ونفيه:
قال القاضي: «اعلم أن القرآن والأخبار قد جاءا بالاستواء على العرش لا على وجه الاتصال والمماسة، وقد أثبت الاستواء السلفُ، فروى أبو بكر الخلال عن عبد الوهاب الوراق أنه قال: استوى: قعد.. وذكر ابن قتيبة في «مختلف الحديث»: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5]: استقر»([49]).
ذكرنا في أدلة إثباته المعاني قوله بالجلوس، ومنه قوله: «وهذا غير ممتنع كما لم يمتنع وصفه بالجلوس على العرش، وكما روي في تفسير قوله: ﴿عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا﴾ [الإسراء: 79] قال: يقعده على العرش»([50]).
وقال: «ولا يمتنع أيضًا أن يحصل للكرسي أطيط بجلوس ذاته عليه، لا على وجه الاعتماد والمماسة وثقل الجثة». وذكر أن الأطيط يحصل بالجلوس؛ لأنه أضافه إليه تعظيمًا لشأن الجلسة، وغلَّط من قال: إن الله يخلق أطيطًا في الكرسي([51]).
ثم ينفي الجلوس والمماسة في «مختصر المعتمد»: «والواجب إطلاق هذه الصفة -أي: الاستواء- لا على معنى القعود والمماسة.. وخلافًا للكرامية والمجسمة أن معناه المماسة للعرش بالجلوس عليه»([52]).
وقال في ترجيحه لقول التميمي على قول ابن حامد في «المسائل العقدية من الروايتين والوجهين»: «لأن كل من نقل عن أحمد نقل الاستواء مطلقًا من غير ذكر مماسة، ولأن هذا مذهبه في الصفات، وأنها تُمَرُّ كما جاءت، ولأن المماسة والمباينة تستحيل عليه؛ لأنها من صفات الحدث فلم يجز إثباتها عليه»([53]).
الجهة ونفيها:
وفي إثبات الجهة بعد أن نفاها في مواضع، يقول القاضي: «فإذا ثبت أنه على العرش، والعرش في جهة، وهو على عرشه، وقد منعنا في كتابنا هذا في غير موضع إطلاق الجهة عليه، والصواب جواز القول بذلك؛ لأن أحمد قد أثبت هذه الصفة، التي هي الاستواء على العرش، وأثبت أنه في السماء، وكل من أثبت هذا أثبت الجهة، وهم أصحاب ابن كرَّام وابن منده الأصبهاني المحدِّث، والدليل عليه أن العرش في جهة بلا خلاف، وقد ثبت بنص القرآن أنه مستوٍ عليه، فاقتضى أنه في جهة؛ لأن كل عاقل من مسلم أو كافر إذا دعا فإنما يرفع يديه ووجهه إلى نحو السماء، وفي هذا كفاية، ولأن من نفى الجهة من المعتزلة والأشعرية، يقول: ليس هو في جهة ولا خارجًا منها، وقائل هذا بمثابة من قال بإثبات موجود مع وجود غيره، ولا يكون وجود أحدهما قبل وجود الآخر ولا بعده، ولأن العوام لا يفرقون بين قول القائل: طَلبتُه فلم أجده في موضع ما، وبين قوله: طلبته فإذا هو معدوم. وقد احتجَّ ابن منده على إثبات الجهة بأنه لمَّا نطق القرآن بأن الله على العرش وأنه في السماء، وجاءت السنة بمثل ذلك، وبأن الجنة مسكنه، وأنه في ذلك، وهذه الأشياء أمكنة في نفسها فدل على أنه في مكان»([54]).
– رجوعه عن أول واجب على المُكلف:
من الجدير بالذِّكر أن القاضي رجع أيضًا عن قوله الذي قلَّد فيه الباقلاني أن أول واجب على المُكلف النظر، وذلك في كتابه «عيون المسائل» وهو في عداد المفقود، ونقله عنه شيخ الإسلام ابن تَيميَّة.
قال ابن تَيميَّة: «قال القاضي أبو يعلى في «عيون المسائل»: مسألة: ومثبتو النبوات حصل لهم المعرفة بالله تعالى بثبوت النبوة من غير نظر واستدلال في دلائل العقول، خلافًا للأشعرية في قولهم: لا تحصل حتى تنظر وتستدل بدلائل العقول، وقال: نحن لا نمنع صحة النظر، ولا نمنع حصول المعرفة به، وإنما خلافنا هل تحصل بغيره؟ واستدل بأن النبوة إذا ثبتت بقيام المعجزة علمنا أن هناك مرسِلًا أرسله، إذ لا يكون هناك نبي إلا وهناك مرسِل، وإذا ثبت أن هناك مرسِلًا أغنى ذلك عن النظر والاستدلال في دلائل العقول على إثباته»([55]).
سبب تناقض القاضي رحمه الله في هذه الأبواب:
قد تأثَّر القاضي بالباقلاني الأشعري آخذًا آراءه من أبي محمد الأصبهاني المعروف بابن اللبان، وهو تلميذ أبي بكر الباقلاني، فحاول التوفيق بين مذهب الأثرية وبين ما ذكره الباقلاني من العقليات، بعد أن ظنها قواطع عقلية صحيحة، فوقع في اضطراب رحمه الله.
قال ابن عساكر: «سمعت ببغداد من يحكي أن أبا يعلى بن الفراء وأبا محمد التميمي شيخي الحنابلة كانا يقرآن على أبي محمد بن اللبان الأصول في داره»([56]).
قال الذهبي: «لم يكن للقاضي أبي يعلى خبرة بعلل الحديث ولا برجاله؛ فاحتجّ بأحاديث كثيرة واهية في الأصول والفروع؛ لعدم بصره بالأسانيد والرجال»([57]).
وقال: «جمع كتاب (إبطال التأويلات)، فقاموا عليه لما فيه من الواهي والموضوع»([58]).
وحينما تأول أبو يعلى كلمة الإمام أحمد: «لم يزل الله متكلمًا إذا شاء» على مشيئة الإسماع، رد عليه ابن قاضي الجبل بثلاثة أوجه: أحدها: أنه يلزم منه قِدم السامع؛ لأن قوله: «لم يزل» عبارة مستغرقة.
فوجود التضارب أو نوع اضطراب في مادة كلام القاضي أمر لا ينكره باحث منصف سواء كان الباحث موافقًا أو مخالفًا.
لكن هذا التضارب لا يقلِّل من قيمة القاضي أبي يعلى العلمية، فهو يظل ركنَ المذهب رحمه الله، وقيمة العالِم لا تُقاس ببعض الأخطاء -وهي وإن كانت مسائل جليلة إلا أنها مشتبهة في تلك الأزمنة- وإنما يُنظر للعالِم ككل من حيث تصنيفه في الفروع الفقهية وأصول الفقه وغيرها من التصانيف التي ساعدت على بقاء مذهب أحمد، ويكفي أن القاضي كان في وقتٍ من الأوقات علامة فارقة على أهل الإثبات والأثرية في مواجهة أهل التأويل والتعطيل للصفات. والأخطاء التي وقع فيها هي من جنس الأخطاء التي وقع فيها علماء زمانه من سائر المذاهب المختلفة.
مقارنة بين القاضي أبي يعلى وابن تَيميَّة:
وصلِّ اللهم على نبينا محمد، وعلى وآله وصحبه وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) «الكامل في التاريخ» (8/ 378).
([2]) «العواصم من القواصم» (2/ 283).
([3]) انظر: «تاريخ دمشق» لابن عساكر (52/ 356)، «الكامل» لابن الأثير (8/ 378)، «الوافي» للصفدي (3/ 864).
([4]) «درء تعارض العقل والنقل» (3/ 22).
([5]) «إبطال التأويلات» (ص: 66).
([6]) «إبطال التأويلات» (ص: 80-81).
([7]) «مختصر المعتمد» (ص: 218).
([8]) «نهاية المبتدئين» (ص: 34).
([9]) «كتاب النبوات» (1/ 334).
([11]) «درء تعارض العقل والنقل» (1/ 15-16).
([12]) «مجموع الفتاوى» (٦/ ٥٢).
([13]) «الفتاوى الكبرى» (6/ 337).
([14]) «مجموع الفتاوى» (17/ 412-413).
([15]) «درء التعارض» (1/ 249).
([16]) انظر: «دفع شبه التشبيه» لابن الجوزي (ص: 9-10)، و«تفسير سورة الإخلاص» ضمن «مجموع الفتاوى» (17/ 413).
([17]) «إبطال التأويلات» (ص: 369). وهذا الأثر عن الإمام أحمد ضعيف، فقد رواه هبة الله اللالكائي بسندٍ منقطع.
([18]) «إبطال التأويلات» (ص: 369-370).
([19]) «إبطال التأويلات» (ص: 198).
([20]) «إبطال التأويلات» (ص: 199).
([21]) «إبطال التَّأويلات» (ص: 310).
([22]) «إبطال التأويلات» (ص: 149-150).
([23]) «إبطال التأويلات» (ص: 392).
([24]) «إبطال التأويلات» (ص: 493).
([25]) «إبطال التأويلات» (ص: 611).
([26]) «إبطال التأويلات» (ص: 84).
([27]) «إبطال التأويلات» (ص: 287).
([28]) «إبطال التأويلات» (ص: 174).
([29]) «إبطال التأويلات» (ص: 585).
([30]) «إبطال التأويلات» (ص: 537-538).
([31]) «إبطال التأويلات» (ص: 591-592).
([32]) «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 328).
([33]) «إبطال التأويلات» (ص: 175-176).
([34]) «إبطال التأويلات» (ص: 524).
([35]) «إبطال التأويلات» (ص: 94).
([36]) انظر: (ص: 150، 261، 330) وغيرها.
([37]) «المعتمد في أصول الدين» (ص: 132).
([38]) «خلق أفعال العباد» (ص: 112).
([39]) «مجموع الفتاوى» (3/ 505).
([40]) «إبطال التأويلات» (ص: 696-698)، ونقله عنه أيضًا شيخ الإسلام في «مجموع الفتاوى» (3/ 196).
([41]) «إبطال التأويلات» (ص: 135).
([42]) «المعتمد في أصول الدين» (ص: 54-55).
([43]) «إبطال التأويلات» (ص: 139).
([44]) «مختصر المعتمد» (ص: 57).
([45]) «مختصر المعتمد» (ص: 58).
([46]) «المسائل العقدية من الروايتين والوجهين» (ص: 54-56).
([47]) «إبطال التأويلات» (ص: 598).
([48]) «إبطال التأويلات» (ص: 598).
([49]) «إبطال التأويلات» (ص: 591-592).
([50]) «إبطال التأويلات» (ص: 146).
([51]) «إبطال التأويلات» (ص: 537، 538).
([52]) «مختصر المعتمد» (ص: 54).
([53]) «المسائل العقدية من كتاب الروايتين والوجهين» (ص: 53-54).
([54]) «إبطال التأويلات» (ص: 595-596).
([55]) «مجموع الفتاوى» (7/ 177).
([56]) «تبيين كذب المفتري» (ص: 262).
([57]) «تاريخ الإسلام» (10/ 101).
([59]) أما ما ذُكر من انتقاد الذهبي وابن رجب لابن تيمية بسبب ردوده على أهل الكلام بنفس طريقتهم فهذا نقد يتوجه إلى الطريقة المُستخدمة في الحِجاج، لا إلى المذهب ذاته، وهو نقد يتوجه إلى المدرستين سواء ابن تيمية والقاضي معًا، فلا خصوصية لابن تيمية فيه، فهي مسألة خارج محل النزاع هاهنا.