ترجمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة على من لا نبي بعده. وبعد:
فهذه ترجمة للشيخ محمد بن عبد الوهاب أخذتها من كتاب زعماء الإصلاح للكاتب والأديب المصري الراحل أحمد أمين، وقد ضمنتها بعض التعاليق التي تبين الوجهة الصحيحة من الشيخ وما في زمانه من أحداث، وتتميز هذه الترجمة بطابع العدل والإنصاف الذي اعتاد عليه الكاتب رحمه الله.
أَحمد أَمِين
(١٢٩٥ – ١٣٧٣ هـ) (١٨٧٨ – ١٩٥٤ م)
أحمد أمين ابن الشيخ إبراهيم الطباخ: عالم بالأدب، غزير الاطلاع على التاريخ، من كبار الكتاب. اشتهر باسمه (أحمد أمين) وضاعت نسبته الى (الطباخ). مولده ووفاته بالقاهرة.
قرأ مدة قصيرة في الأزهر. وتخرج بمدرسة القضاء الشرعي، ودرّس بها إلى سنة ١٩٢١ وتولى القضاء ببعض المحاكم الشرعية. ثم عيّن مدرسا بكلية الآداب بالجامعة المصرية. وانتخب عميدا لها (سنة ٣٩) وعيُن مديرا للإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية (سنة ٤٧) واستمر إلى أن توفي. وكان من أعضاء المجمع العلمي العربيّ بدمشق ومجمع اللغة بالقاهرة والمجمع العلمي العراقي ببغداد. ومنحته جامعة القاهرة (سنة ٤٨) لقب (دكتور) فخري. وهو من أكثر كتاب مصر تصنيفا وإفاضة. ومن أعماله إشرافه على (لجنة التأليف والترجمة والنشر) مدة ثلاثين سنة.
وكان رئيسا لها. وبلغت مقالاته في المجلات والصحف، ولا سيما مجلتي (الرسالة) و (الثقافة) عشرة مجلدات، جمعها في كتابه (فيض الخاطر – ط) ستة أجزاء، ومن تآليفه المطبوعات: (فجر الإسلام) و (ضحى الإسلام) و (ظهر الإسلام) و (يوم الإسلام) و (النقد الأدبي) جزآن و (زعماء الإصلاح في العصر الحديث) و (الى ولدي) و (حياتي) و (قاموس العادات) و (الصعلكة والفتوة في الإسلام) و (مبادئ الفلسفة) مترجم.
انتهى من الأعلام ج ١ص ١٠١ قلت: وعُرف عن أحمد أمين ثناؤه على المعتزلة في عصر المأمون وما بعده، وميله إلى الفتاوى المتحررة والله يعفو ويغفر.
محمد بن عبد الوهاب
(١١١٥- ١٢٠٦هـ) (۱۷۰۳– ۱۷۹۱م)
هو زعيم الفرقة التي تسمى الوهابية، وتعتنق مذهبه الحكومة الحاضرة
في الحجاز([1]).
نشأ في بلدة تسمى «العيينة» في نجد، وتعلم دروسه الأولى بها على رجال الدين من الحنابلة([2])، وسافر إلى المدينة([3]) ليتم تعلمه؛ ثم طوف في كثير من بلاد العالم الإسلامي، فأقام نحو أربع سنين في البصرة، وخمس سنين في بغداد، وسنة في کردستان، وسنتين في همذان؛ ثم رحل إلى أصفهان ودرس هناك فلسفة الإشراق والتصوف، ثم رحل إلى «قم»، ثم عاد إلى بلده واعتكف عن الناس نحو ثمانية أشهر، ثم خرج عليهم بدعوته الجديدة([4]).
وأهم مسألة شغلت ذهنه في درسه ورحلاته مسألة التوحيد التي هي عماد الإسلام، والتي تبلورت في «لا إله إلا الله»، والتي تميز الإسلام بها عما عداه،
والتي دعا إليها «محمد» ﷺ أصدق دعوة وأحرَّها؛ فلا أصنام ولا أوثان ولا عبادة آباء وأجداد، ولا أحبار([5]) ولا نحو ذلك. ومن أجل هذا سمى هو وأتباعه أنفسهم «بالموحِّدين»؛ أما اسم الوهابية فهو اسم أطلقه عليهم خصومهم واستعمله الأوربيون، ثم جرى على الألسن([6]).
وقد رأى أثناء إقامته في الحجاز ورحلاته إلى كثير من بلاد العالم الإسلامي أن هذا التوحيد الذي هو مزية الإسلام الكبرى قد ضاع، ودخله كثير من الفساد.
فالتوحيد أساسه الاعتقاد بأن الله وحده هو خالق هذا العالم، والمسيطر عليه، وواضع قوانينه التي يسير عليها، والمشرع له، وليس في الخلق من يشاركه في خلقه ولا في حكمه، ولا من يعينه على تصريف أموره؛ لأنه تعالى ليس في حاجة إلى عون أحد مهما كان من المقربين إليه؛ هو الذي بيده الحكم وحده، وهو الذي بيده النفع والضر وحده لا شريك له؛ فمعنى لا إله إلا الله: ليس في الوجود ذو سلطة حقيقية تسيِّر العالم وفقاً لما وضع من قوانين إلا هو، وليس في الوجود من يستحق العبادة والتعظيم إلا هو، وهذا هو محور القرآن: «قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله. فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون».
إذاً فما بال العالم الإسلامي اليوم يعدل عن هذا التوحيد المطلق الخالص من كل شائبة إلى أن يشرك مع الله كثيراً من خلقه؟ فهؤلاء الأولياء يحج إليهم، وتقدم لهم النذور، ويُعتقد أنهم قادرون على النفع والضر. وهذه الأضرحة لا عِداد لها، تقام في جميع أقطاره، يشد الناس إليها رحالهم، ويتمسحون بها، ويتذللون لها، ويطلبون منها جلب الخير لهم ودفع الشر عنهم؛ ففي كل بلدة ولي أو أولياء، وفي كل بلدة ضريح أو أضرحة تُشرك مع الله تعالى في تصريف الأمور ودفع الأذى وجلب الخير كأن الله سلطان من سلاطين الدنيا الغاشمين، يُتقرب إليه بذوي الجاه عنده وأهل الزلفى([7]) لديه، ويُرجون في إفساد القوانين وإبطال العدل. أليس هذا كما كان يقول مشركو العرب: «ما نعبدهم
إلا ليقربونا إلى الله زلفى» وقولهم:«هؤلاء شفعاؤنا عند الله»؟!
بل وا أسفاه؟ لم يكتف المسلمون بذلك، بل أشركوا مع الله حتى النبات والجماد؛ فهؤلاء أهل بلدة «منفوحة» باليمامة يعتقدون في نخلة هناك أن لها قدرة
عجيبة، من قصدها من العوانس تزوجت لعامها. وهذا الغار في «الدرعية» يحج إليه الناس للتبرك. وفي كل بلدة من البلاد الإسلامية مثل هذا؛ ففي مصر شجرة الحنفى، ونعل الكلشي، وبوابة المتولي([8])؛ وفي كل قطر حجر وشجر. فكيف يخلص التوحيد مع كل هذه العقائد؟
إنها تصد الناس عن الله الواحد، وتشرك معه غيره، وتسيء إلى النفوس، وتجعلها ذليلة وضيعة مخرفة، وتجردها من فكرة التوحيد، وتفقدها التسامي.
وأساس آخر يتصل بهذا التوحيد كان يفكر فيه «محمد بن عبد الوهاب»، وهو أن الله وحده هو مشرِّع العقائد، وهو وحده الذي يحلِّل ويحرم، فليس كلام أحد حجة في الدين إلا كلام الله وسيد المرسلين، فالله يقول: «أم لهم شركاء شَرَعُوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله»؛ فكلام المتكلمين في العقائد، وكلام الفقهاء في التحليل والتحريم ليس حجة علينا؛ إنما إمامنا الكتاب والسنة، وكل مستوف أدوات الاجتهاد له الحق أن يجتهد؛ بل عليه أن يفعل ذلك ويستخرج من الأحكام-على حسب فهمه لنصوص الكتاب وما صح من السنة- ما يؤديه إليه اجتهاده. وإقفال باب الاجتهاد كان نكبة على المسلمين؛ إذ أضاع شخصيتهم وقوتهم على الفهم والحكم، وجعلهم جامدين مقلدين يبحثون وراء جملة في كتاب أو فتوى من مقلد مثلهم؛ حتى انحط شأنهم وتفرقوا أحزاباً يعلن بعضهم بعضاً؛ ولا منجاة من هذا الشر إلا بإبطال هذا كله، والرجوع إلى الدين في أصوله، والاستقاء من منبعه الأول([9]).
وهكذا شغلت ذهنه فكرة التوحيد في العقيدة مجردة من كل شريك، وفكرة التوحيد في التشريع، فلا مصدر له إلا الكتاب والسنة.
هذا هو أساس دعوة محمد بن عبد الوهاب؛ وعلى هذا الأساس بنيت الجزئيات.
اقتفى في دعوته وتعاليمه عالماً كبيراً، ظهر في القرن السابع الهجري في عهد السلطان الناصر هو «ابن تيمية»، وهو -مع أنه حنبليٌّ- كان يقول بالاجتهاد ولو خالف الحنابلة، وكان حُرَّ التفكير في حدود الكتاب وصحيح السنة، ذَلِق اللسان، قوي الحجة، شجاع القلب، لا يخشى أحداً إلا الله، ولا يعبأ بسجن
مظلم، ولا تعذيب مرهق، فهاجم الفقهاء والمتصوِّفة، ودعا إلى عدم زيارة القبور والأضرحة وهدمها، وألف في ذلك الرسائل الكثيرة، ولم يعبأ إلا بما ورد في الكتاب والسنة، وخالف إمامه أحمد بن حنبل حين أداه اجتهاده إلى ذلك([10]).
فيظهر أن «محمد بن عبد الوهاب» عرف ابن تيمية من طريق دراسته
الحنبلية، فأُعجبَ به، وعكف على كتبه ورسائله يكتبها ويدرسها([11]). وفي المُتْحَف البريطاني بعض رسائل لابن تيمية مكتوبة بخط ابن عبد الوهاب([12])، فكان ابن تيمية إمامَه ومرشده وباعث تفكيره، والموحي إليه بالاجتهاد والدعوة إلى الإصلاح.
دعا مثله إلى ردِّ البدع والتوجه بالعبادة والدعاء إلى الله وحده، لا إلى المشايخ والأولياء والأضرحة، ولا بوساطة توسُّل ولا شفاعة. وزيارة القبور إن كانت فللعظة والاعتبار، لا للتوسل والاستشفاع، فهم لا يملكون شيئاً بجانب الله وقوانينه الثابتة التي لا تتخلَّف والتي نظم الله بها كونه، فالذبح للقبور والنذور لها والاستغاثة بها والسجود عندها شِرك لا يرضاه الله، وهو هدم للتوحيد -الذي جاء به الإسلام- من أساسه، ومثل ذلك تجصيص القبور([13]) وبناية الأضرحة وتشييد الأبنية عليها، وكسوتها بالحرير المذهب وما إلى ذلك، فكل هذه لا يعرفها الإسلام([14]).
فكانت دعوة ابن عبد الوهاب حربا على كل ما ابتدع بعد الإسلام الأول من عادات وتقاليد، فلا اجتماع لقراءة مولد، ولا احتفاء بزيارة قبور، ولا خروج للنساء وراء الجنازة، ولا إقامة أذكار يغنى فيها ويُرقص ولا «محمل» يُتبرك به ويتمسح، ويحتفل به هذا الاحتفال الضخم، وهو ليس إلا أعواداً خشبية لا تضر ولا تنفع.
كل هذا مخالف للإسلام الصحيح يجب أن يزال، ويجب أن نعود إلى الإسلام في بساطته الأولى، وطهارته ونقائه، ووحدانيته واتصال العبد بربه من غير واسطة ولا شريك. فلا إله إلا الله معناها كل ذلك. والكتب المملوءة بالتوسلات كتب ضارة بالعقائد، كدلائل الخيرات؛ وما فى البردة من مثل قوله:
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به |
|
سواك عند حدوث الحادث العمم([15]) |
وقوله:
إن لم تكن في مَعادى آخذاً بيدي |
|
فضلا وإلا فقل يا زَلَّةَ القدم |
وقوله:
فإن من جودك الدنيا وضَرتها |
|
ومن علومك علم اللوح والقلم([16]) |
ونحو ذلك، أقوال فاسدة كاذبة. فلا التجاء إلا إلى الله، ولا اعتماد في الدنيا والآخرة إلا عليه.
لقد كان محمد بن عبد الوهاب ومن نحا نحوه يَرَون أن ضعف المسلمين اليوم وسقوط نفسيتهم ليس له من سبب إلا العقيدة. فقد كانت العقيدة الإسلامية في أول عهدها صافية نقية من أي شرك. وكانت لا إله إلا الله معناها السمو بالنفس عن الأحجار والأوثان وعبادة العظماء وعدم الخوف من الموت في سبيل الحق.
وعدم الخوف من استنكار المنكر والأمر بالمعروف مهما تبع ذلك من عذاب. ولا قيمة للحياة إلا إذا بذلت في رفع لواء الحق ودفع الظلم؛ وهذا هو الفرق. الوحيد بين العرب في الجاهلية والعرب في الإسلام، وبهذه العقيدة وحدها غَزَوْا وفتحوا وحكموا. ثم ماذا؟
ثم لم يتغير شيء إلا العقيدة، فتدنَّوا من سمو التوحيد إلى حضيض الشرك، فتعددت آلهتهم من حجر وشجر وأعواد خشب وقبور أولياء، وركنوا إلى ذلك في حياتهم العامة؛ فالزرع ينجح لرضا ولي ويخيب لغضبه، والبقرة تحيا إذا نُذِرت للسيد البدوي أو مثله، وتموت إذا لم تُنذَر، وهكذا في الأمراض والعلل والغنى والفقر كلها لا ترجع إلى قوانين الله الطبيعية، وإنما ترجع إلى غضب الأرواح ورضاها. ومثل هذه النفوس الضعيفة التي تَذِل للحجر والشجر والأرواح. لا تستطيع أن تقف أمام الولاة والحكام الظالمين تأمرهم بمعروف أو تنهاهم عن منكر، فذلوا للحكام والأغنياء كما ذلوا للخُشُب والأحجار وما زال كل قرن يمرُّ تزداد معه الآلهة عدداً وتزداد النفوس ذلة، حتى وصلت الحال بالأمة الإسلامية إلى فقد سيادتها، وانهيار عزتها. ولا يصلح آخر الإسلام. إلا بما صلح به أوله، فلا بد من العودة إلى الحياة الإسلامية الأولى حيث التوحيد الصحيح والعزة الحقة، ولا بد من هدم هذه البِدَع والخرافات باللين إن نجح، وبالقوة إن لم ينجح، والله المستعان.
لم ينظر محمد بن عبد الوهاب إلى المدنية الحديثة وموقف المسلمين منها، ولم يتجه في إصلاحه إلى الحياة المادية كما فعل معاصره محمد على باشا، وإنما اتجه إلى العقيدة وحدها والروح وحدها. فعنده أن العقيدة والروح هما الأساس وهما القلب إن صلحا صلح كل شيء، وإن فسدا فسد كل شيء، وطبيعي أن يكون هذا هو الفرق بين رئيس الدين في نجد ورئيس الحكم في مصر([17]).
أما بعد، فإن التوحيد الصحيح المطلق المجرد عن شائبة كل تجسيم، المنزه عن كل تشخيص، الذي يصل العبد بر به من غير وساطة ولا وسيلة، مطلب عسير لا يستطيعه إلا الخاصة أو خاصة الخاصة. أما من عداهم فيشعرون بالتوحيد لحظات ثم سرعان ما يتدهورون، ويشوب عقيدتهم نوع من التشخيص، وأسلوب من التجسيم على نحو ما، ثم يتخذون من الصالحين وسائل وزلفى كان ذلك في الجاهلية، وكان ذلك في الإسلام بُعَيْدَ البعثة إلى الآن([18]).
فالمؤرخون يروون أن أهل الطائف لما أسلموا كان لهم بَنِيّة على اللات([19])، فأمر النبي بهدمها، فطلبوا منه أن يترك هدمها شهراً لئلا يروِّعوا نساءهم وصبيانهم حتى يُدخلوهم في الدين، فأبى ذلك عليهم وأرسل معهم المغيرة بن شعبة وأبا سُفيان ابن حرب وأمرهم بهدمها([20]).
وفي الحديث أن العرب كانت لهم في الجاهلية شجرة تسمى «ذات أنواط» كانوا يعلقون بها سلاحهم ويعكفون حولها ويعظمونها، فسأل بعض المسلمين رسول الله أن يجعل لهم كذلك «ذات أنواط» فنهاهم عن ذلك([21]).
ولما جاء عمر شعر أن بعض الناس أخذ يحن إلى العادات الجاهلية القديمة، فرآهم يأتون الشجرة التي بايع رسول الله ﷺ تحتها بيعة الرضوان فيصلون عندها، فبلغ ذلك عمر فأمر بها فقطعت([22]).
ولما رأى عمر كعب الأحبار يخلع نعله ويلمس برجليه الصخرة عند فتح بيت المقدس، قال له: «ضاهيت والله اليهودية يا كعب»([23])([24]).
وهكذا ما لبث بعض الناس حتى تراجع عن التوحيد المطلق الذي جاء به الإسلام، لأن التحرر من المادة بأشكالها جميعاً، والإفلات من قيود الحس، والتسامي إلى الله فوق المادة وفوق الحس وفوق التشخيص، يتطلب منزلة رفيعة من السمو العقلي تعجز عنه الجماهير([25]).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك»([26]).
ثم سرعان ما اتخذ المسلمون قبور الصالحين وغير الصالحين مساجد، ولم يكن الصحابة الأولون يشدون الرحال إلى المشاهد، ثم كان ذلك، وهكذا كلما مضى زمن كثرت فيه أصناف التعظيم للقبور والأضرحة وكثير من الأشجار والجماد.
وظهر الدعاة والمصلحون على توالي العصور يحاولون أن يردوا الناس عن هذا ويرجعوهم إلى التوحيد وحده، وكلما دعا داع إلى ذلك عُذَّب وأهين ورُمي بالكفر والإلحاد كما فعل بابن تيمية، فقد ألف الرسائل في هذا الموضوع، وانتقد حال المسلمين في استغاثتهم بالقبور ورحيلهم إليها، وطوافهم بالصخرة في بيت المقدس، ورحيلهم إلى مشهد الخليل ومشاهد عسقلان، وتعظيمهم حتى بعض آثار النصرانية فعُذَّب وسجن؛ وأتى بعده بقرون محمد بن عبد الوهاب هذا، فدعا مثل هذه الدعوة فرمي بالكفر. وأخيراً جاء الشيخ محمد عبده فدعا إلى العدول عن التوسل والشفاعة والزيارة للقبور، وملأ دروسه في التفسير بمثل هذه الدعوة، فلقي من أهل زمنه ما لم يغب عن أذهاننا بعد.
هذا هو جوهر الدعوة التي دعا بها محمد بن عبد الوهاب، فماذا كان شأنها ومصيرها؟
-۲-
كانت جزيرة العرب عندما دعا محمد بن عبد الوهاب دعوته -التي شرحناها فيما مضى- أشبه شيء بحالتها في الجاهلية، كل قبيلة تسكن موضعاً يرأسها أمير منها. هذا أمير في الأحساء، وهذا أمير في العسير، وهؤلاء أمراء في نجد الخ، ولا علاقة بين الأمير والأمير إلا علاقة الخصومة غالباً. ثم تتوزَّعها -أيضاً- الخصومة بين البدو والحضر، فمن قدر من البدو على خطف شيء من الحَضَر فعل، ومن قدر من الحَضَر على التنكيل ببدو فعل. والطرق غير مأمونة، والسلب والنهب على أشدِّهما، وسلطة الخلافة في الآستانة تكاد تكون سلطة اسمية، ومظهرها تعيين الأشراف في مكة وإمدادهم ببعض الجنود وكفى([27]).
لقد بدأ «محمد بن عبد الوهاب» يدعو دعوته -التي ذكرناها- في لين ورفق بين قومه. ثم أخذ يرسل الدعوة لأمراء الحجاز والعلماء في الأقطار الأخرى، حاثا لهم على استنهاض الهمم في مكافحة البدَع والرجوع إلى الإسلام الصحيح.
كم من المصلحين دَعَوْا مثل هذه الدعوة، ولكنها مرَّت بسلام، وإن شابها شئ، فسجن الداعي أو التشهير به، ورميه بالكفر أو الزندقة، ثم ينتهي الأمر ويعود الناس سيرتهم الأولى؛ بل نرى من قام بمثل هذه الدعوة -فعلا- في المغرب، كالشيخ أبي العباس التيجاني، فقد أمر بترك البدع ونهى عن زيارة القبور، وكثرت أتباعه حتى بلغت مئات الألوف، ولكن لم يلفت الناس والحكام أمرُه كما لفتهم محمد بن عبد الوهاب([28])؛ وكذلك الشيخ محمد عبده دعا مثل هذه الدعوة، فأجابه بعضهم، وأنكر عليه بعضهم، ثم أسدل الستار([29]).
فما السبب في نجاح الدعوة الوهابية دون الأخرى؟
السبب في هذا ما أحاط بالدعوة الوهابية من ظروف لم تتهيأ لغيرها.
فقد اضطهد في بلده العيينة، واضطر أن يخرج منها إلى الدرعية مقر آل سعود؛ وهناك عرض دعوته على أميرها محمد بن سعود فقبلها، وتعاهدا على الدفاع عن الدين الصحيح ومحاربة البدع، ونشر الدعوة في جميع جزيرة العرب باللسان عند من يقبلها، وبالسيف عند من لم يقبلها([30])؛ وإذ ذاك دخلت الدعوة في دور خطير، وهو اجتماع السيف واللسان، وزاد الأمر خطورة نجاح الدعوة شيئاً فشيئاً، ودخول الناس أفواجاً فيها، وإخضاع بعض الأمراء بالقوة لحكمها، وكلما دخلوا بلدة أزالوا البدع وأقاموا تعاليمهم([31])، حتى هددت الحركة كل جزيرة العرب. ولما مات الأمير ومات الشيخ تعاقد أبناء الأمير وأبناء الشيخ على أن يسيروا سيرة أبويهم في نصرة الدعوة متكاتفين، وظلوا يعملون حتى غَلَبُوا على مكة والمدينة.
وشعرت الدولة العثمانية بالخطر يهددها بخروج الحجاز من يدها، وهو موطن الحرمين الشريفين اللذين يجعلان لها مركزاً إسلامياً ممتازاً، تفقد الكثير منه إذا فقدتهما.
فأرسل السلطان محمود إلى محمد علي باشا في مصر أن يسير جيوشه لمقاتلة الوهابيين؛ وكما أرسلت الجيوش لمقاتلتهم أرسلت الدعاية من جميع الأقطار الإسلامية للنَّيل من هذه الدعوة وتكفير مبتدعيها. وحَمَل علماء المسلمين عليها حملات منكرة وألفت الكتب الكثيرة في التخويف منها والتشنيع عليها. وهكذا حدثت الحرب بالسيف والحرب بالكلام، كل هذا خدم الدعوة الوهابية بلفت الأنظار إليها ودورانها على كل لسان. وزاد في شأنها أن الوهابيين انتصروا على حملة محمد علي باشا الأولى بقيادة الأمير طوسون.
ثم أعد محمد علي باشا العدة القوية الكبيرة، وسار بنفسه وحاربهم بخير سلاحه، فانتصر عليهم، وأتم النصر ابنه إبراهيم باشا، وانهزمت قوة الوهابيين. ولكن بقيت الدعوة إلى أن هُيِّئ لها في العهد الحاضر المملكة السعودية الحاضرة في تاريخ طويل لا يعنينا هنا، وإنما يهمنا الدعوة وما تم لها.
إن الدعاية التى أُحكمت ضدها، وتعلق الناس بالدولة العثمانية، وميلهم الشديد أن تظل بلادها وحدة لا ينفصل عنها جزء، جعلت عامة المسلمين في أقطار العالم الإسلامي يفرحون بهزيمة الوهابية. ولو لم يفهموا جوهر دعوتها، وشيء آخر كان كبير الأثر في تنفير عامة المسلمين من هذه الحركة، وهو أنها حيث استولت على بلد نفذت تعاليمها بالقوة ولم تنتظر حتى يؤمن الناس بدعوتها؛ فلما دخلوا مكة هدموا كثيراً من القباب الأثرية، كقبة السيدة خديجة، وقبة مولد النبي صلى الله عليه وسلم، ومولد أبي بكر وعلي؛ ولما دخلوا المدينة رفعوا بعض الحلي والزينة التي كانت على قبر الرسول ﷺ؛ فهذه كلها أثارت غضب كثير من الناس وجرحت عواطفهم، فمنهم من حزن على ضياع معالم التاريخ. ومنهم من حزن على الفن الإسلامي. ومنهم من حزن لأن مقبرة الرسول صلى الله عليه وسلم وفخامتها مظهر للعاطفة الإسلامية وقوة الدولة؛ وهكذا اختلفت الأسباب واشتركوا في الغضب. والوهابيون لم يعبئوا إلا بإزالة البدع والرجوع بالدين إلى أصله([32]).
قد اهتموا بالناحية الدينية وتقوية العقيدة وبالناحية الخلقية كما صورها الدين. ولذلك حيث سادوا قلت السرقة والفجور وشرب الخمور وأُمِّنَ الطريق وما إلى ذلك؛ ولكنهم لم يَمسُّوا الحياة العقلية ولم يعملوا على ترقيتها إلا في دائرة التعليم الديني([33]). ولم ينظروا إلى مشاكل المدينة الحاضرة ومطالبها. وكان كثير منهم يرون أن ما عدا قطرهم من الأقطار الإسلامية التي تنتشر فيها البِدَع ليست ممالك إسلامية، وأن دارهم دار جهاد([34])؛ فلما تولت حكومة ابن سعود الحاضرة كان لا بد أن تواجه هذه الظروف، وتقف أمام منطق الحوادث. ورأت نفسها أمام قوتين قويتين لا مَعْدَى([35]) لها عن مسايرتهما، قوة رجال الدين في نجد المتمسكين أشد التمسك بتعاليم ابن عبد الوهاب والمتشددين أمام كل جديد فكانوا يرون أن التلغراف السلكي واللاسلكي والسيارات والمجلات من البدع التي لا يرضى عنها الدين([36]). وقوة التيار المدنيِّ الذي يتطلب نظام الحكم فيه كثيراً من وسائل المدنية الحديثة كما يتطلب المصانعة والمداراة. فاختطت لنفسها طريقاً وسَطا شاقًّا بين القوتين. فقد عدلت نظرها إلى الأقطار الإسلامية الأخرى وعدتهم مسلمين([37]).
وبدأت تنشر التعليم المدنيِّ بجانب التعليم الديني، وتنظم الإدارة الحكومية على شيء من النَّمَط الحديث. وتسمح للسيارات والطيارات واللاسلكي بدخول البلاد واستعمالها وما إلى ذلك. وما أشقه عملا([38])، التوفيق بين علماء نجد ومقتضيات الزمن، وبين طبائع البادية ومطالب الحضارة.
لم تقتصر الدعوة الوهابية على الحجاز والجزيرة العربية؛ بل تعدتها إلى غيرها من كثير من الأقطار الإسلامية. وكان موسم الحج ميداناً صالحاً وفرصة سانحة لعرض الدعوة على أكابر الحجاج واستمالتهم إلى قبولها. فإذا عادوا إلى بلادهم دَعوا إليها. فنرى في زنجبار طائفة كبيرة من المسلمين يعتنقون هذا المذهب، ويدعون إلى ترك البدع، وعدم التقرب بالأولياء.
وقام في الهند زعيم وهابي اسمه السيد أحمد. حج سنة ۱۸۲۲م. وهناك آمن بالمذهب الوهابي، وعاد إلى بلاده، فنشر هذه الدعوة في بنجاب وأنشأ بها شبه دولة وهابية، وأخذ سلطانه يمتد حتى هدد شمال الهند، وأقام حرباً عَواناً([39]) على البدع والخرافات. وهاجم الوعاظ ورجال الدين هناك. وأعلن الجهاد ضد من لم يعتنق مذهبه ويقبل دعوته، وأن الهند دار حرب. ولقيت الحكومة الإنجليزية متاعب كثيرة شاقة من أتباعه، حتى استطاعت إخضاعهم([40]).
وكذلك حضر الإمام السنوسي مكة حاجا، وسمع الدعوة الوهابية واعتنقها، وعاد إلى الجزائر يبشر بها، ويؤسس طريقته الخاصة في بلاد المغرب كما سيأتي بيانه([41]).
وفي اليمن ظهر أعلم علمائه، وإمام أئمته وهو الإمام الشوكاني المولود سنة ۱۱۷۲هـ. فسار على هذا النهج نفسه، وإن لم يتلقَّه عن ابن عبد الوهاب، وألَّف كتابه القيَّم «نَيْل الأوطار» شارحا فيه كتاب ابن تيمية «مُنتقى الأخبار» عارضاً الأحاديث النبوية، مجتهداً في فهمها، وفي استنباط الأحكام الشرعية منها ولو خالف المذاهب الأربعة كلها؛ وحارب التقليد ودعا إلى الاجتهاد وثارت من أجل ذلك حرب كلامية شعواء([42]) بينه وبين علماء زمنه، كان أشدها في صنعاء.
وألف في ذلك رسالة سماها «القول المفيد في حكم التقليد»؛ ودعا في قوة إلى عدم زيارة القبور والتوسل بها، فقال في نيل الأوطار([43]): «وكم سرَى عن تشييد أبنية القبور وتحسينها من مفاسد يبكي لها الإسلام، (منها) اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد الكفار للأصنام، وعَظُمَ ذلك فظنوا أنها قادرة على جَلب النفع ودفع الضرر؛ فجعلوها مقصداً لطلب قضاء الحوائج وملجأ لنجح المطالب؛ وسألوا منها ما يسأل العباد من ربهم، وشدوا إليها الرحال وتمسحوا بها واستغاثوا. وبالجملة فإنهم لم يدعوا شيئاً مما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام إلا فعلوه، فإنا لله وإنا إليه راجعون».
«ومع هذا النُّكر الشنيع والكفر الفظيع، لا نجد من يغضب الله، ويعار حميَّة للدين الحنيف، لا عالماً ولا متعلماً، ولا أميراً ولا وزيراً ولا ملكا، وقد توارد إلينا من الأخبار ما لا يُشك معه أن كثيراً من هؤلاء القبوريين أو أكثرهم إذا توجهت عليه يمين من قِبل خصمه حلف بالله فاجراً، فإذا قيل له بعد ذلك: احلف بشيخك ومعتقَدك الولي الفلاني تلعثم وتلكأ، وأبى واعترف بالحق؛ وهذا من أبْيَن الأدلة الدالة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال إنه تعالى ثاني اثنين وثالث ثلاثة».
«فيا علماء الدين، ويا ملوك المسلمين؛ أي رزء للإسلام أشدُّ من الكفر، وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله، وأي مصيبة يصاب بها المسلمون تعدل هذه المصيبة، وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا الشرك المبين؟».
وقد مات الإمام الشوكاني سنة ١٢٥٠هـ بعد أن أبلي في هذا بلاء عظيما، وخلّف تلاميذ كثيرين يدينون برأيه.
وفي مصر شبَّ الشيخ محمد عبده فرأى تعاليم ابن عبد الوهاب تملأ الجو، فرجع إلى هذه التعاليم في أصولها من عهد الرسول إلى عهد ابن تيمية، إلى عهد ابن عبد الوهاب؛ وكان أكبر أمله أن يقوم في حياته للمسلمين بعمل صالح، فأداه اجتهاده وبحثه إلى هذين الأساسين اللذين بنى عليهما محمد بن عبد الوهاب تعاليمه، وهما: (1) محاربة البدع وما دخل على العقيدة الإسلامية من فساد بإشراك الأولياء والقبور والأضرحة مع الله تعالى، و (۲) فتح باب الاجتهاد الذي أغلقه ضعاف العقول من المقلدين، وجرَّد نفسه لخدمة هذين الغرضين، ولكنه امتاز بميزة كبرى عمن عداه، وهي ثقافته الواسعة الدينية والدنيوية، ومعرفته بشئون الدنيا وأسسها وتياراتها، وذلك بتربيته الدينية الأولى المستمرة، وبانغماسه في الأمور السياسية واطلاعه على الثقافة الفرنسية، ورحلاته إلى أوربة يخالط علماءها وفلاسفتها وساستها. فلما تعرَّض لمثل ما تعرض له ابن عبد الوهاب فلسف الدعوة وركزها على أسس نفسية واجتماعية، كما شارك في تركيزها على الأسس الدينية؛ ففي دروسه في التفسير التي كان يلقيها في الرواق العباسي بالأزهر، كان ينتهز كل إشارة لآية ولو من بعيد تندِّد بالشرك فيفيض في الحملة على عبادة الصالحين، وزيارة القبور والشفاعة والتوسل وما إلى ذلك. فيطيل الوقوف -مثلا- عند قوله تعالى: «وَمِنَ الناسِ مَن يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُب الله، وَالَّذِينَ آمَنوا أَشدُّ حُبًّا الله، وَلَوْ يَرَى الذين ظلموا إِذْ يَرَوْنَ العَذابَ أَنَّ القُوَّةَ لله جميعاً وأنّ الله شديدُ العذاب»، فيقسم الشيخ الأنداد إلى قسمين: هؤلاء الشفعاء الذين اتخذهم الناس وسيلة للقرب من الله يستقضونهم في الحوائج، وهؤلاء الذين يقلدون في الدين يُتخذ قولهم شرعاً من غير حجة ولا برهان. وتظهر فلسفته للمذهب في بيان الأضرار النفسية من هذه العقائد، فهي تورث الذل وتخضع الناس للحكام الظالمين، وتَحُطُّ النفوس إلى الدَّرْكِ الأسفل، ثم هي تضر اجتماعياً باعتماد الناس على هؤلاء الأولياء بتركهم القوانين الطبيعية التي جعلها الله أسباباً لا بد منها لحصول المسبَّب. فالزراعة إنما تنجح بالحرث والتسميد والبذر والسّقي، لا بالاستغاثة بولي؛ والحرب إنما تكسب باتخاذ سلاح مجهز على آخر طراز كسلاح العدو، وإعداد العدة الكاملة كما يفعل العدو، لا بالاستعانة بأهل القبور. وفضيلة المسلم أن يستعين بعد ذلك كله بالله وحده، يطلب منه أن يثبِّت قلبه، ويلهمه التوفيق. وهكذا كان يُفِيض في هذين الأساسين مفنِّداً آراء من يقول بالتوسل والشفاعة والتقليد.
وينتهز فرصة وجود جماعة من العلماء عنده في يوم مولد النبي، ودعوته للعشاء عند أحد المحتفلين، فيبين لهم أن هذه الموالد كلها منكرات، ويتمنى لو أنفق ما يُصرف في الموالد على تعليم الفقراء، ويناظرهم في ذلك مناظرة تنتهي بانصراف العلماء إلى العشاء في المولد، وامتناع الشيخ وحده.
ويضع الشيخ تفسيراً الجزء «عَمَّ» للناشئة فيلتمس كل وسيلة للحملة على كل ما يشوب التوحيد من شرك بعبادة المشايخ والقبور والأضرحة والتخريف، راجياً أن ينشأ الشباب نشأة دينية صحيحة خيراً مما عليه آباؤهم وأعانه في هذه السبيل تلميذه وصديقه السيد محمد رشيد رضا في مجلة المنار، فقد ملأها كذلك بمثل هذه الدعوة ومثل هذه الحجج، يُسمِع بها المسلمين في جميع الأقطار الإسلامية.
وفي تركيا قامت الحكومة التركية الكمالية بمحاربة هذه البدع والخرافات فأغلقت التكايا وكانت عش التدجيل، وطاردت المشايخ، واضطهدت المهرجين؛ ولكن الفرق بين هذه الحركة وما قبلها أن كل الحركات السابقة كانت مؤسسة على الدين والإصلاح الديني، والرجوع إلى الأصول الدينية، أما هذه الحركة فمؤسسة على العقل المطلق، وفكرة الإصلاح الاجتماعى من غير أن يكون الدافع إليها الرغبة في الإصلاح الديني([44]).
وأخيراً وقد مضى على هذه الدعوة الإصلاحية من عهد محمد بن عبد الوهاب إلى الآن عشرات السنين، واشترك في تنظيم الغزوة عشرات من الأبطال فماذا كانت النتيجة؟
ظلت عامة المسلمين في جميع الأقطار الإسلامية -كما هم- من حيث الالتجاء في قضاء الحوائج إلى المشايخ والقبور والأضرحة، وظلت على عادتها في الاحتفال بالموالد ونحرها وإن قل بهاؤها ورونقها، وإنما تأثر بهذه الدعوة الخاصةُ أو خاصة الخاصة. كما تأثر بها ناشئة الشباب المثقفين بحكم ثقافتهم ونموِّ عقليتهم؛ فلم يلجأوا إلى المزارات والمشايخ كما كان يلجأ آباؤهم، ولكن أخشى أن يكون كثير منهم لا يلجأ إلى الله أيضاً كما كان يلجأ آباؤهم([45]).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) لم يكن محمد بن عبد الوهاب زعيما لحركة، كما عبر المؤلف، بل كان عالما قام بحق العلم وهو تبليغه، وكان ما فعله فرض كفاية لم يقم به غيره، وبعض العلماء في وقته كان مؤمنا بما يدعو إليه الشيخ محمد من قبل أن يعلنه، ولكن يُقعِدهم
الكسل أو الخوف من الناس، لذلك أول ما قام بالدعوة أجابوه بالإيجاب، ولكن بعض من أجابه تنكر فيما بعد وأظهر العداوة، ومن العلماء من كان ضده، وأظهر له العداء وبالغ في ذلك، لكن الله تعالى نصر هذه الدعوة وأعزها، وكان من عزها أن استجاب لها الإمام محمد بن سعود في الدرعية، ومن هناك طلائع التوحيد.
أما حكومة الملك عبد العزيز والتي يعنيها أحمد أمين، فلم تكن تسير على المذهب الوهابي، كما يذكر، بل كانت وكان محمد بن عبد الوهاب حنابلة كسائر أهل نجد، وإنما تميزوا بإخلاص التوحيد لله سبحانه وتعالى، فلم يقل أحد منهم إننا وهابيون، بل يقولون إننا مسلمون، وما ذكره المؤلف شائع في عصره وفي عصرنا الحاضر أيضا، والله تعالى المبصر بالحقائق.
([2]) كلمة -رجال الدين – كلمة اشتهرت عند مؤرخي أوروبا للتفريق بين العلمانيين والتنويريين والمسؤولين الكنسيين، وانتقلت إلى الكتاب المسلمين هكذا، وأما رجال الدين في الإسلام فهم كل المسلمين، وكذلك نساء الدين، فمن جعل الدين طريقا له فهو رجل دين أو امرأة دين، والمؤلف يقصد أن الشيخ أخذ عن العلماء من الحنابلة.
والذي اطلعت عليه أنه قبل أن يرحل إلى الحجاز لم يأخذ العلم إلا عن والده، أخذ عنه الفروع، وقرأ من العلم بنفسه قبل رحلته، وكان أبوه شديد الثناء على سرعة حفظه وعلى بديهته وقال إنه تعلم منه بعض الأحكام، وقد تزوج وهو في الثانية عشرة إذ بلغ مبكراً وأذن له أبوه في الحج فحج ثم عاد إلى العيينة، فدرس على أبيه، ثم حج مرة أخرى، وهذا الحج هو بداية رحلته. عنوان المجد ص ٨٢ تحقيق ناصر الدين الأسد، الطبعة الرابعة، ١٤١٥هـ، دار الشروق، بيروت.
([3]) قبل المدينة سافر إلى مكة، وحج، عنوان المجد، 1/25، تحقيق: عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ.
([4]) هذا الكلام لا يصح، وليس له أصل سوى كتاب لمع الشهاب، 58، تحقيق عبدالله بن عثيمين، وعنه أخذ بعض المستشرقين، ويمكن معرفة مقام كتاب لمع الشهاب من خلال قراءة المقدمة الإضافية للدكتور ابن عثيمين على الكتاب، والشيخ محمد ليس له رحلة سوى إلى البصرة والزبير، وأراد الرحلة إلى الشام فانقطع به المصرف.
([5]) أحبار جمع حبر، وهو: رئيس الدين. المؤلف
([6]) هذه كلمة جميلة للكاتب، ولعل من أسباب إطلاقها عليهم الجمع بين مذهبهم وبين مذهب الوهابية الذين ينتسبون إلى ابن وهب الإباضي، والله أعلم.
([8]) شجرة الحنفى: شجرة كانت في الحنفى يتبرك بها. ونعل الكلشي: نعل قديمة في تكية الكلشي، يزعمون أن الماء إذا شرب منها ينفع للتداوي من العشق. وبوابة المتولي مملوءة بالمسامير تعلق بها الشعور والخيوط ليذكر بالخير من علقها. وهكذا. المؤلف
([9]) كان الشيخ محمد بن عبدالوهاب حنبلياً يعلن ذلك ويعمل وفق أصول الإمام أحمد، ولكنه يخالف الحنابلة حين يتضح الدليل بخلافهم، وعلى كل حال، فإن الإمام أحمد ستجد له قولاً موافقا لما ذهب إليه الشيخ، فإن للمسألة الواحدة عند أحمد قولين وثلاثة، وذلك حسب اختلاف السائلين، أو اختلاف الزمن أو تغير الاجتهاد؛ والشيخ رحمه الله يدعو إلى الاجتهاد وعدم التوقف عنه لكنه لا ينابذ المذاهب ويدعو لتركها، لكن اعتبار المذهب لا يعني التعصب له وعدم تركه ولو خالفه الدليل.
([10]) لعل صواب العبارة: «ولم يعباً إلا بما ورد في الكتاب والسنة، ولو خالف إمامه أحمد بن حنبل… ».
([11]) معرفة الشيخ محمد الأعمق بابن تيمية وتلميذه ابن القيم كانت قديمة ولعل أبرز ما يوضح ذلك حكاية زيارته للأحساء، ومكثه عند ابن عمته الشيخ عبد الله بن محمد بن فيروز، فقد اطلع عنده على العديد من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن المدني القيم.
([12]) وصلت الرسائل التي بخط محمد بن عبد الذهاب إلى المتحف البريطاني عن طريق أمين بن حسن الحلواني المتوفى سنة 1316هـ، وكان على صلة بالمستشرقين، وحضر أحد مؤتمراتهم سنة ١٣٠١هـ، وزار ليدن في هولندا وأمستردام، وباع ما يزيد عن ستمائة مخطوط لديه في رحلته تلك، ووصلت تلك المخطوطات إلى المتحف البريطاني.
([14]) قوله: «ومثل ذلك تجصيص القبور..» قد يتبادر إلى ذهن بعض القراء أن تجصيص القبور والبناء عليها، مثل الذبح لها ومثل دعائها وهذا لم يقله الشيخ محمد؛ والصحيح: أن تجصيص القبور والبناء عليها من المحرمات التي لا تجوز لكونها ذريعة للشرك، أما دعاؤها فهو كما قال المؤلف شرك أكبر، والله المستعان.
([16]) ضرتها: أي الآخرة. المؤلف
([17]) لم ينظر محمد علي باشا إلى الإصلاح المادي في مصر، فمن قرأ وقائع التاريخ كما رواها الجبرتي عرف أنه جبار من الجبابرة لم يحصل الخلق في زمانه على إصلاح مادي الاما وضعه من إصلاحات في مجرى النيل كانت لصالحه هو كي تزيد الغلال ويتمادى في استغلال الفلاحين،= بل كانت السخرة والاستغلال دون مقابل عملاً معتاداً له في أعمال الدولة، أما محمد بن عبد الوهاب فقد كان حقاً مصلحاً دينيا، وكان آل سعود حكام الدرعية ثم حكام الجزيرة مصلحين دينيين وماديين، فلم تكن المادة مجردة من الدين، بل الإصلاح الديني يتضمن الإصلاح المادي، وما جمعهم لكلمة الأمة ووحدة أراضيها إلا أحد عناصر هذا الإصلاح الذي تضمن إصلاحا لأخلاق الناس وحياتهم العامة وأموالهم، وكان منتظراً من هذه الدعوة ودولتها أن تعمل على تعليم الناس وتطوير ما هم عليه، إلا أن جنود محمد علي بادروها وحاربوها حتى انتهت أول الأمر، ولما كانت دولة تتضمن دعوة، والذى سقط هو الدولة وحسب، لم تلبث أن قامت مرة ثانية وثالثة، فكانت أول دولة تقوم ثلاث مرات مع وجود الفاصل الزمني اليسير على يد فرد من هذه الأسرة في نظر الناس لا حول له ولا قوة لكن رسالة الدعوة كانت هي الحول والقوة التي اجتمع عليه الناس من أجلها.
([18]) التجسيم بمعنى أن الله تعالى له دم ولحم وعظم فهذا ما لا يقول به الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وقبله لم يقل به ابن تيمية ولم يقل به السلف الصالح، وأما أن الله تعالى له ما وصف به نفسه من اليد والعين والسمع والبصر، وما وصفه به رسوله ﷺ من ثبوت القدم له ¸، كما ثبت له الاستواء على العرش في كتاب الله، وكل ذلك على وجه لا يكون مشابها لخلقه ولا يستقيم مع تمثيله بأحد من مخلوقاته، فهذا أمر صحيح لا ريب فيه، وهو مذهب السلف الذي دعا إليه= محمد بن عبدالوهاب ومذهب ابن تيمية كما في العقيدة الواسطية؛ وهذا لا يقتضي تشخيصاً أو شيئا من ذلك؛ كما أن هذه الشركيات نشأت أول ما نشأت في بلاد جعلت عقيدة الأشاعرة عقيدة إسلامية مع أنها لم تكن سوى نتيجة لعلم الكلام الذي نهى عنه أجلة العلماء في القرون الثلاثة المتقدمة.
([19]) بنية: كعبة. اللات: صنم. المؤلف
([20]) سيرة ابن هشام، 1043، تحقيق: مصطفى السقا وآخران، دار ابن كثير، الطبعة الرابعة، 1438هـ.
([21]) رواه الترمذي في سنن الترمذي، رقم ٢١٨٠، صفحة ٤١٢، جزء ٤، تحقيق كمال يوسف الحوت الطبعة الأولى دار الكتب العلمية، بيروت ١٤٠٨هـ.
([22]) مصنف ابن أبي شيبة، 2/269، باب: في الصلاة عند قبر النبي ﷺ وإتيانه، حديث 4؛ تحقيق سعيد محمد اللحام، دار الفكر، الطبعة الأولى، ١٤٠٩هـ.
([23]) اطَّلعت على ثلاث روايات لهذا الخبر، وليس فيها كلها أن كعبا ¬ خلع نعله ليلمس برجله الصخرة، وأمثل هذه الروايات وأكثرها جودة، هي ما رواه أحمد في مسنده، 1/88، رقم ٢٦1، قال: عن عبيد ابن آدم قال: سمعت عمر بن الخطاب ﭬ يقول لكعب: أين ترى أن أصلي؟ فقال: إن أخذت عني صليت خلف الصخرة، فكانت القدس كلها بين يديك، فقال عمر: ضاهيت اليهودية، لا، ولكن أصلي حيث صلى رسول الله ﷺ، فتقدم إلى القبلة فصلى، ثم بسط رداءه، فكنس الكناسة في ردائه، وكنس الناس. المسند، تحقیق: عبد الله بن محمد الدرويش.
([24]) أدلة الشيخ محمد بن عبدالوهاب على تحريم التبرك بغير ما أمر الله وتحريم اتخاذ الأنداد وتحريم الذبح لغير الله كثيرة في الكتاب والسنة وهي في منتهى الصحة ولله الحمد، وما ذكره الأستاذ أحمد أمين جزء يسير، وبعضه ليست صحته بذاك.
([25]) لم تعجز الجماهير عن التوحيد الذي هو إفراد الله تعالى بالعبادة، لكن العلماء انحرفوا فوافقوا أئمة علم الكلام، فعرفوا التوحيد بأنه نفي الاختراع عن غير الله، وقالوا عن معنى لا إله إلا الله، لا مخترع الله، وبذلك جردوا التوحيد من معنى العبادة، فكان صرفها لغير الله عندهم لا يعني الشرك، وبذلك تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأصلوا للباطل، فشاع بذلك، وأصبح الجماهير على الشرك لا يجدون ناهيا.
([26]) صحيح مسلم، 1/377، رقم الحديث 532، تحقيق: محمد فؤاد عبدالباقي، مكتبة فيصل البابي الحلبي.
([27]) في نجد وشمال الجزيرة وجنوبها الموالي لحضرموت، وكذلك في حضرموت وعمان وما يُعرف اليوم بدولة الإمارات وشرق الجزيرة كاملاً، لم يكن هناك أثر للدولة العثمانية، ولو معنوياً، حتى فيما يتعلق بتأمين حجاج المشرق لم يكن هناك سلطة عثمانية لا فعلية ولا معنوية؛ ولم تكن الدولة العثمانية تطمح لمثل هذه السلطة، وكانت في الحجاز ومرتفعات عسير واليمن سلطة اسمية تتنوع مظاهرها من مكان إلى آخر؛ هذا فيما يتعلق بالحاضرة سكان القرى والمدن، أما البادية وأهل الشعاب، وكانوا هم النسبة الأعظم والأكثر عدداً، فلم يكن للدولة العثمانية عليهم سلطة مطلقاً في كل تلك البلاد، وكانت في أقصى شمال الجزيرة مما يلي العراق وبلاد الشام تعطي مشايخهم مالاً كل سنة ليكفوا أبناء قبيلتهم عنهم.
([28]) فرق كبير بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب الداعي إلى الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله وفهم سلف الأمة وبين إمام الضلالة المنحرف عن الدين الساعي بالخلق إلى طريق النكوص عن الدين أبي العباس التيجاني، فالتيجاني كان من أقطاب البدع والدعوة إلى الضلال، ولا نظن بالأستاذ أحمد أمين إلا أنه كان يجهل حاله، وإلا لم يقل هذا الكلام عنه؛ فقد كان ممن لا ينكرون دعاء المقبورين والذبح لهم، وإن حصل منه شيء من ذلك فلتفضيله نفسه عليهم، وبعد موته يقوم أتباعه بجميع ما يتخيله وما لا يتخيله مسلم صحيح الإيمان من دعائه هو والتوسل به نسأل الله السلامة، ولذلك لم يُمس بسوء من قبل الاحتلال الفرنسي في الجزائر، واطلق دعوته في فاس ولم يكن يُظهر كثيراً مما فشى منها بعده، وذلك لحياة السلطان محمد بن سليمان الذي كان سلفي المعتقد حقيقة، وكان أتباعه فيما بعد أحد عوائق السلفية في بلاد المغرب؛ انظر للاستفادة: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة،1/281؛ دار الندوة العالمية، الطبعة الرابعة ١٤٢٠هـ. وكتاب الهداية الهادية إلى الطائفة التيجانية، الدكتور محمد تقي الدين الهلالي، دار الطباعة الحديثة، الدار البيضاء، الطبعة الثانية 1397هـ.
([29]) كان محمد عبده ينكر دعاء غير الله وتقديس الأضرحة والبناء عليها لكنه لم يكن سلفياً، فقد كان شديداً فيما يسمى بالعقلانية، أي ما يخالف عقله فهو ينكره، ولذلك كان يرى أن الطير الأبابيل المذكورة في سورة الفيل إنما تعني الجراثيم، وكان في الصفات أمره غاية في عدم الوضوح، ولم يكن يرى في دعاء غير الله سوى أنه محرم، ولم يكن يرى أنه شرك؛ كما أنه لم يتفرغ لذلك في دعوته، لذلك لم يلق لها الناس بالاً.
([30]) لم يحارب الإمام محمد بن سعود وابنه عبدالعزيز من لم يقبل الدعوة، ولا يوجد مثال على ذلك، وإنما حاربوا من قبل الدعوة ثم نكص أو من حارب الدعوة بسيفه، وعلى ذلك جرت الحروب في زمانه؛ وصحيح أن قولهم إن الدعوة حاربت من لم يقبلها ابتداء هو القول المشهور بين الناس، لكن حينما تتأمل في كلام علماء الدعوة وقولهم لا نحارب إلا من حاربنا، ثم تطبقه على الواقع ذلك الزمن تجده صحيحاً.
([31]) هي تعاليم الإسلام، وليست تعاليم خاصة بهم، ومن استنكر شيئاً مما فعلوه وظن أنه من تعاليم الشيخ أو تعاليم أئمة الدولة السعودية، فليأت به، وقد ناظر أهل مكة علماء الدعوة مرات عدة، فكانت المناظرة تنتهي بانكشاف الحق وانتصار علماء الدعوة، ومن هذه المناظرات ما هو مطبوع، انظر في تفصيل ذلك: اتفاق عقيدة علماء نجد وعلماء مكة، إعداد: فوزي فطاني، من بحوث مركز سلف على شبكة الإنترنت، وانظر أيضاً: رسالة في حكاية المباحثة مع علماء مكة، دراسة وتحقيق: صالح سندي، وهي للشيخ عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب.
([32]) لنا على هذا الكلام عدد من الاستدراكات، أولها عند قوله: «جَعَلَتْ عَامَّة المسلمين يفرحون بهزيمة الدعوة الوهابية ..» فالدعوة الإصلاحية لم تهزم وإن كانت الدولة السعودية قد سقطت، فقد دخلت في ذلك الوقت إلى الأزهر وتأثر بها شيوخه بشكل كبير، كما وصلت إلى المغرب و دان بهذه الدعوة سلاطينها، والملاحظ أن هؤلاء السلاطين ومن بعدهم كانوا سلفيين، إلا أن شيوع التصوف وكثرة القلاقل السياسية لم تتح لهم الطريق لنشرها، كما وصلت للجزائر، وكان عبدالقادر الجزائري سلفيا، وإن كان له كلام إيجابي عن ابن عربي، فذلك خطأ منه، كما لغيره من السلفيين أخطاء مثل خطئه، ووصلت الهند وكان الكثير من الدعاة الهنود على منهج السلف وأولهم شاه ولي الله الدهلوي، ووصلت إيران وإلى منطقة لنجة بالذات والصين وبلاد الأفغان، وبنجلادش وأندونيسيا؛ ووصلت إلى نيجيريا، وكان ملكها عثمان دن فودي عالما على مناهج السلف، وقام بحركة جهادية تشبه ما قام به أئمة آل سعود في ذلك الوقت.
قوله: «لم تنتظر حتى يومين الناس بدعوتها» فنقول: نعم، هدمت الدعوة السلفية ما دخل تحت حكم دولتها في مكة والمدينة وفي غيرها مما لا يتوافق مع أصول الإسلام، لكن قوله: إن ذلك قبل أن يؤمن الناس بدعوتها، غريب، فالدولة السعودية كان بينها وبين الشريف أحمد سعيد مراسلة، وكذلك كان بينها وبين الشريف غالب أكثر من مراسلة، وكانت تنتهي المراسلات= بمناظرة بين الطرفين، وكانت تلك المناظرات تنتهي بتوافق الطرفين، ولعل الأخيرة انتهت بتوقيع العلماء والشريف غالب معهم على صحة ما جاءت به الدعوة السلفية، ولما دخل السعوديون مكة وهدموا مواضع البدع لم يواجهوا آنذاك بأي اعتراض مما يؤكد كونهم على قناعة تامة؛ وليس المقصود بأنهم على قناعة، كون كلِّهم على قلب رجل واحد، لا، ليس كذلك، ولكن أكثر الناس كانوا على يقين بصحة تلك المبادئ.
ثم هل الشرك ومواضع البدع المغلظة لاتزال إلا بقناعة أهلها؟ الجواب: لا، فمتى كانت القدرة على إزالتها أزيلت، وقد أزال المغيرة وأبوسفيان صنم اللات والنساء يلطمن عنده، فمتى وجدت القدرة على إزالة الشرك أزيل، والحمد لله رب العالمين.
وقوله: «منهم من حزن…»، فإن الفن والعمارة الإسلامية يحافظ عليهما مالم يكن في بقائهما مساس بالدين، أما إذا كان في بقائهما مساس بالدين لاسيما الشرك بالله، فإن عقيدة الإنسان التي هي أساس وجوده أولى من هذا الفن وهذه العمارة.
([33]) وهل تركت لهم الفرصة لتكوين الدولة وبنائها حتى يقوموا بالنظر في العلوم العصرية والحياة العقلية؟! أسقطت الدولة سنة 1233هـ وكانت قبلها في كفاح من أجل الوجود، فكيف ومتى تستطيع أن تنظر في الحياة العقلية كما يقول
الكاتب؟! ثم ما هي الحياة الفصلية التي كان يريد الكاتب من الدعوة أن تلتفت إليها؟ هل يعني به علم الكلام الذي لم تفد الأمة منة شيئا البتة سوى ما قال الرازي:
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا |
|
سوى أن جمعنا فيه قبل وقالوا؟ |
أم الفلسفة التي لا تبحث إلا في الأمور التي قررها القرآن وانتهت صلاحيتها بالنسبة للمسلمين؟ أم ماذا يعني؟=
الحقيقة أن الدعوة الإصلاحية دعوة استوعبت كل ما يهم المرء المسلم وما يعمل على صلاحه في هذه الأرض، وكل ماهو عقلي فهو فعلي ولله الحمد، وسوف يأتي بيان ذلك قريباً.
([34]) وما هي مشاكل المدنية الحاضرة التي لم ينظر إليها السلفيون في الدولة السعودية الأولى؟ فأعظم المشاكل هي الأمن، وقد حل السلفيون مشكلته، وهي الفقر والجوع، وقد حل السلفيون مشكلته في المدينة وفي الريف وفي البادية؛ وقلة طاعة الله وشرب الخمور وغيرها، وقد حل السلفيون هذه المشكلة؛ وكل هذه المشكلات كانت بمصر التي انتصرت على الدولة السعودية تعاني منها، بل لم تنقطع معاناتها منها حتى في عصر الكاتب وما بعده، بل لم تنقطع من سواها من الدول الإسلامية.
أما قولهم: أن كثيراً منهم ينظرون إلى دارهم على أنها دار جهاد، فأمر صحيح، كانت دارهم دار جهاد، لدرجة أن جيش محمد علي الذي لم يكن جيشا إسلامياً غزاهم، وأسقط دولتهم، وكان هذا الجيش مشكلاً من النصارى واليهود وبادية المغرب والمصريين، ولم تكن الصلاة تقام فيه وكانوا يشربون الخمور وهم قادمون، فهل يمكن أن ننظر إلى هذا الجيش على أنه جيش إسلامي، وليس له هدف إلا حماية أموال القبة النبوية وإشاعة الإفلاس الديني؛ نعم كانت ديارهم ديار جهاد، ومن عاداهم إنما عاداهم لإشاعتهم للدين الصحيح والتجرد من البدع.
([36]) هذه بضعة أكاذيب مما كان يشيعه المغرضون، ولعل الكاتب ممن وردت إليه هذه الشائعات فصدقها، وقد قال معاصره الأمير شكيب أرسلان في كتابه لماذا يتأخر المسلمون ولماذا يتقدم غيرهم: «ولا أظن شيئا يفيد المجتمع الإسلامي يكون مخالفاً للدين المبني على إسعاد العباد؛ أفلا ترى علماء نجد وهم أبعد المسلمين عن الإفرنج والتفرنج، وأنآهم عن مراكز الاختراعات العصرية، كيف كان جوابهم عندما استفتاهم الملك عبد العزيز بن سعود -أيده الله- في قضية اللاسلكي، والتلفون والسيارة الكهربائية؟ أجابوه: إنها محدثات نافعة مفيدة، وإنه ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله لا بالمنطوق ولا بالمفهوم ما يمنعها، ص٩2 وزارة الثقافة والفنون، دولة قطر.
وكلام العلماء الذي أشار إليه الأستاذ شكيب قالوه مراراً ولعل من أقدمها قولهم ذلك في المؤتمر الذي عقده الملك عبدالعزيز مع إخوان من طاع الله وسأل فيه العلماء هذا السؤال، وأجابوه بمثل ماذكره الأمير شكيب، وكان ذلك في ٢٥ رجب ١٣٤٥هـ، وكذلك عقد مؤتمراً بين إخوان من طاع الله والعلماء وذلك في جمادى الأولى ١347هـ، وقال العلماء فيه كلامهم نفسه؛ فكيف خفي مثل هذين المؤتمرين على أحمد أمين وهو باحث كبير، انظر: شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز، 2/473 و481، دار العلم للملايين، الطبعة الثانية: 1998م.
([37]) في الدولة السعودية التي أقامها العلماء لم يختلف العلماء في ذلك، وهو أن الدول الإسلامية كلها دول إسلام، ولم يعترض عليه أحد من العلماء في إقامة العلاقات وفي زيارته لمصر، فكانت العلاقة بين عبد العزيز والعلماء علاقة قوية، وكان رحمه الله كثيراً ما يعرض الأمر عليهم إذا كان مما ينبغي أن يسمع فيه قول العلماء.
([38]) لا شك أن حكم جزيرة العرب والسيطرة على باديتها أمر صعب جداً، وقد قام الملك عبد العزيز به خير قيام، لكن نسبة هذه الصعوبة إلى جمود أهل العلم يدل جهل الكاتب بكثير من قضايا المملكة، فلم يكن هناك تعليم ديني وتعليم مدني منذ تأسيس الدولة حتى يومنا هذا، كما لم تمنع الطائرات والسيارات والتلكسات أبداً ولم يعترض عليها علماء نجد أبداً بل كانت دولة الشريف الحسين تمنع دخول السيارات في الحجاز، وهي دولة فيما يقال عنها مدنية، أما دولة الملك عبد العزيز فلم يكن فيها شيء من ذلك، وكان كل شيء تحت سمع العلماء وبصرهم.
([39]) عواناً: متكررة، مشتدة. المؤلف
([40]) لعله يعني السيد أحمد عرفان بريلوي الشهير باسم سيد أحمد الشهيد، وقد ولد سنة 1201هـ وحج سنة 1237هـ، وكان ذلك بعد أن خرج أتباع الدعوة من مكة عقب هزيمتهم من محمد علي، وكون جيشا للجهاد سنة 1240هـ واستشهد سنة 1240هـ.
وقد كتب عنه الدكتور عبدالمنعم النمر في كتابه تاريخ الإسلام في الهند، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى: 1401هـ، ص530.
([41]) محمد بن علي السنوسي ولد في مستغانم في دولة الجزائر اليوم وأسس ما عُرِف بالطريقة السنوسية في دولة ليبيا الحالية ولا شك في تأثر دعوته بدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب من حيث تحركها بالجهاد وقتال المستعمرين، لكن فيما يتعلق بالقبور والأضرحة ودعاء الأولياء، فإننا في حاجة إلى مزيد من البحث؛ وإن كانت الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة تؤكد على تأثرها بدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب في هذه الأمور أيضاً، فهذا ما نرجوه. الموسوعة الميسرة، 1/287.
([42]) شعواء: منتشرة، ممتدة. المؤلف
([43]) جزء ٣ ص ١٣٤ من الطبعة الأميرية. المؤلف
([44]) بل كانت متعمدة إفساد الدين على أهله، وقد أغلقت العديد من المساجد وترجمت الأذان إلى اللغة التركية وحاربت وجود المصلين في المساجد، إلى غير ذلك مما لو استقصيناه لتعبنا.
([45]) يتكلم الأستاذ عن واقع الدعوة في عصره كما يتصور هنا، أما الحقيقة، فإن السلفية اليوم هي المتسيدة في العالم الإسلامي، وعليها وهو ما نأسف له حرب ضروس في الإعلام وفي السياسة وفي المجتمعات، نسأل الله أن تخرج من هذه الحرب أقوى وأكثر شدة.