الاثنين - 06 ذو الحجة 1446 هـ - 02 يونيو 2025 م

مناقشة دعوَى أنّ مشركِي العرب جحدوا الربوبية

A A

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

مقدمة:

اعتَمَد بعضُ الأشاعرةِ في العصور الحديثةِ على مخالفة البدهيات الشرعية، وتوصَّلوا إلى نتائج لم يقل بها سلفُهم من علماء الأشعرية؛ وذلك لأنهم لما نظروا في أدلة ابن تيمية ومنطلقاته الفكرية وعرفوا قوتها وصلابتها، وأن طرد هذه الأصول والتزامَها تهدم ما لديهم من بدعٍ، لم يكن هناك بُدّ من جحدِ هذه الأصول الشرعية التي قرَّرها شيخ الإسلام ابن تيمية، والتي أقرَّ بها علماء المسلمين حتى من أئمتهم الأشاعرة وغيرهم، فهي من جملة المشترَكات الإسلامية التي لا خصوصية لابن تيمية بها.

فمن ذلك مثلًا أنه لم يُؤثَر عن أحدٍ من علماء المسلمين الاعتراضُ على تقسيم التوحيد إلى ربوبية وألوهية، ولا نقِم أحدٌ من معاصري ابن تيمية عليه في ذلك أو اعتبرها من زلاته، رغم أنهم أخذوا عليه مسائلَ مشهورةً مثل التوسّل والزيارة وفتوى الطلاق ونحو ذلك، إلا أنهم لم يؤثَر عنهم أيّ انتقاد له على تقسيم التوحيد؛ وذلك لأنهم يعلمون أنه تقسيم اصطلاحيّ، ومعناه صحيح لا مشاحَّة فيه. ولكن لمَّا قلَّ العلم في العصور المتأخرة وأصبح العلم لمحض المناكفات أثار بعض المعاصرين مسائل لم يثرها سلفهم.

هذا مع سوء فهمهم لكلام ابن تيمية، حيث نسبوا إليه أن المشركين قد آمنوا بالربوبية من كلّ وجه، وهذا غلَط عليه، بل ابن تيمية يقرّر أنهم قد أقرّوا بالربوبية في الجملةِ، والإقرار الجملي لا يعني السلامة من كلّ وجه. كما نسبوا لابن تيمية القول بأن المتكلِّمين ليس لديهم توحيد العبادة، وهذا أيضًا غلطٌ عليه، وسوء فهم لكلامه رحمه الله، فإنَّ ابن تيمية يُبيّن خطأ المتكلّمين في التقرير النظريّ الكلاميّ وإن لم يلتزموا لوازمه، فهم بلا شكّ يقرُّون بتوحيد العبادة وإلا كانوا كفّارًا، وينصّون عليه في كتب التفاسير وشروح الحديث ونحوها من الكتب التي يتحرَّر فيها العالم ويُعمِل نظره وفهمه لروح الشريعة، لكنَّ الإقرار الضمني لا يمنع من بيان خطأ التقرير المدرسي.

وفي هذه الورقة العلمية مناقشةٌ لما زعَمه بعض المتأخرين من نسبة مشركي العرب إلى جحود ربوبية الله عز وجل، وسوف ينتظم الحديث فيها في هذه نقطتين:

أولًا: محاولة بعض الأشاعرة المتأخرين إثبات أن مشركي العرب جحدوا الربوبية.

ثانيًا: أقوال العلماء أن مشركي العرب قد أقروا بالربوبية.

النقطة الأولى: محاولة بعض الأشاعرة المتأخرين إثبات أن مشركي العرب جحَدوا الربوبية:

من تلك المخالفات البدهية محاولةُ بعض الأشاعرة في العصور المتأخِّرة نسبةَ مشركي العرب إلى جحد ربوبية الله عز وجل، فقد زعم الشيخ يوسف الدجوي رحمه الله أنّ المشركين لم يكونوا يعرفون الله، ولا أنه ربُّهم وخالقُهم ورازقهم، مستدلًّا بقوله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد: 30]، فيقول الدّجوي: “وأما هم فلم يجعلوه ربًّا”([1]).

وغفَل الشيخ الدجوي أن المشركين إنما اعترضوا على تسمية الله بالرحمن، لا لكونهم جحَدوا وجود الله أو جحدوا كونه ربًّا -كما فهم-، وذلك في صلح الحديبية لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: «اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم»، قال سهيل بن عمرو: أمّا الرحمن فلا نعرفه، ولكن اكتب ما نعرف: (باسمك اللّهمّ)([2]).

وقد وقع مؤلِّف كتاب (البراهين الشرعية على بدعة توحيد المشركين في الربوبية) في غلطٍ فاحش في تفسير آية الزخرف: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9]، حيث قال: “وبينتُ في كتابي أن ابن تيمية أخطأ هنا، فنزَّل {وَلَئِنْ} في آيات الباب منزلة (إذ)، فثمة فرقٌ ظاهر بين الأداتين، إذ لو كانت الآية بلفظ (وإذ سألتهم) فحينها تُفيد أن المشركين قالوا فعلًا: الله خالقهم وخالق السماوات والأرض وما بينهما، وأن هذا الإقرار وقع منهم في الماض؛ لأن (إذ) تفيد أن الفعل الذي تقترن به قد حدث وانتهى، بخلاف (إن) فهو يقترن بفعلٍ ربما يحدث في المستقبل، فحدوثه محلّ شكّ”([3]).

فانظر إلى المؤلّف كيف نسب الله عز وجل -من غير أن يشعر- إلى الشكّ في قول المشركين -والعياذ بالله- لمحض المناكفات مع السلفية، وكأن جواب المشركين في الماضي أو المستقبل سوف يؤثر فيما يقرره الله عز وجل في القرآن، وقد تجاهل المؤلف بأن الله أتبع قوله: {لَيَقُولُنَّ} باللام الواقعة في جواب القسم. فلا مجال في أن يشكّ الله عز وجل في ذلك، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.

والمفسرون رحمهم الله لم يزعموا أن ثمةَ شكّا في الأمر، فانظر مثلًا ما قاله الطبري في تفسير الآية: “الله -جلّ ثناؤه- قد أخبرَ في كتابه عنها أنها كانت تُقر بوحدانيته، غير أنها كانت تُشرك في عبادته”([4]).

وقال أبو المظفر السمعاني في تفسير الآية: “أَي: وَلَئِن سَألَتْ الْمُشْركين: من خَالق السَّمَوَات وَالْأَرْض؟ {لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ}، وَهَذَا على طَرِيق التعجيب من حَالهم، أَي: كَيفَ يعْبدُونَ الْأَصْنَام ويزعمون أَن لله شَرِيكا وَقد أقرُّوا أَن الله تَعَالَى خَالق السَّمَوَات والأرض؟!”([5]).

فتأمل قول السمعاني: (وَقد أقرُّوا أَن الله تَعَالَى خَالق السَّمَوَات والأرض).

ثم لما وجد المؤلف أنّ جميع المفسرين على خلاف قوله المخترَع، ولم يجد مستندًا لقوله في نفس الآية، راح يدلل على قوله بتفسير آيةٍ أخرى، فقد نقل عن بعض المفسرين في تفسير قوله تعالى: {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [يونس: 34] أن المشركين سوف يتلكَّؤون أو يتردَّدون عن الجواب.

وقد أخطأ المؤلف في هذا؛ لأنَّ هذا التردد ليس إنكارًا منهم بأن الله هو الخالق الرازق، ولكن فرارًا منهم من إلزامهم بالألوهية، كما قال النسفي: “إنهم مقرون به بقلوبهم، إلا أنهم ربما أبوا أن يتكلموا به؛ لأنهم إن تفوهوا بأن الله رازقهم لزمهم أن يُقال لهم: فما لكم لا تعبدون من يرزقكم وتؤثرون عليه من لا يقدر على الرزق؟!”([6]) وكما قال الشوكاني في تفسيره: “فرارًا منهم عن أن تلزمهم الحجة”([7]).

ومن جملة تخليطات المؤلف أيضًا أنه حاول جاهدًا أن يُشكّك في مقصود ابن عباس في تفسير قَوْله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهثمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] قَالَ: “سلهم: من خلقهمْ؟ وَمن خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض؟ فَيَقُولُونَ: الله. فَذَلِك إِيمَانهم وهم يعْبدُونَ غَيره”([8]). فزعم المؤلف أن عبارة (فذلك إيمانهم) ليست صريحة بأنهم يؤمنون بأن الله هو الخالق وحده([9])، وتلك سفسطة من المؤلف، ومع ذلك فالأدلة لا تقتصر على أثر ابن عباس فحسب، بل آثار السلف جاءت متضافرة بنفس المعنى، وبعبارات متنوعة تؤدي إلى نفس المفهوم.

فقد قال عطاء بن أبي رباح فِي تفسير الآية: “إِيمَانهم قَوْلهم: الله خلقنَا، وَهُوَ يرزقنا ويميتنا، فَهَذَا إِيمَان، مَعَ شرك عِبَادَتهم غَيره”([10]).

 وقال عامر الشعبي: “يعلمون أنه ربُّهم، وأنه خَلَقَهم، وهم يشركون به في العبادة”([11]).

وقال مجاهد بن جبر: “كَانُوا يعلمُونَ أن الله رَبهم، وَهُوَ خالقهم، وَهُوَ رازقهم، وَكَانُوا مَعَ ذَلِك يشركُونَ”([12]). وقال أيضًا: “يقولون: الله ربنا، وهو يرزقنا، وهم يشركون به بعدُ”([13]).

وقال قتادة: “إنك لست تلقى أحدًا منهم إلا أنبأك أن الله ربه، وهو الذي خلقه ورزقه، وهو مشركٌ في عبادته”([14]).

وقال عكرمة ومجاهد وعامر: “ليس أحد إلا وهو يعلم أن الله خلقه وخلق السماوات والأرض، فهذا إيمانهم، ويكفرون بما سوى ذلك”([15]).

فقام المؤلف بإهمال تلك الروايات، وتمسَّك برواية ابن عباس التي ظنّها ليست صريحة، وهذا بلا شكّ قصور في البحث العلمي.

ويقول الإمام الطبري مبيّنا حقيقة شرك المشركين في تفسير قوله سبحانه: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22]: “اختلف أهل التأويل في الذين عُنوا بهذه الآية، فقال بعضهم: عُني بها جميع المشركين، من مشركي العرب وأهل الكتاب. وقال بعضهم: عُني بذلك أهل الكتابين: التوراة، والإنجيل”. ثم حكى القولَ الأول عن جمهور السلف، وحكى عن مجاهد أن الله عنى بها أهلَ التوراة والإنجيل، ثم رد هذا القول فقال: “وأحسَب أن الذي دَعا مجاهدًا إلى هذا التأويل وإضافة ذلك إلى أنه خطاب لأهل التوراة والإنجيل دُون غيرهم الظنُّ منه بالعرب أنها لم تكن تعلم أنّ اللهَ خالقها ورازقها؛ بجحودها وحدانيةَ ربِّها، وإشراكها معه في العبادة غيره. ولكنّ الله -جلّ ثناؤه- قد أخبرَ في كتابه عنها أنها كانت تُقرّ بوحدانيته، غير أنها كانت تُشرك في عبادته ما كانت تُشرك فيها، فقال جل ثناؤه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87]، وقال: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [يونس: 31]. فالذي هو أولى بتأويل قوله: {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} إذْ كان ما كان عند العرب من العلم بوحدانِيَّة الله وأنه مُبدعُ الخلق وخالقهم ورازقهم نظير الذي كان من ذلك عند أهل الكتابين، ولم يكن في الآية دلالة على أنّ الله -جل ثناؤه- عنى بقوله: {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} أحدَ الحزبين، بل مَخرَج الخطاب بذلك عامٌّ للناس كافةً لهم؛ لأنه تحدَّى الناس كلهم بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ} أن يكون تأويلُهُ ما قاله ابنُ عباس وقتادة من أنه يعني بذلك كلّ مكلف عالم بوحدانية الله، وأنه لا شريك له في خلقه، يُشرك معه في عبادته غيره([16]).

وللقارئ المنصف أن يتدبّر قول الطبري: “يعني بذلك كلّ مكلف عالم بوحدانية الله”، يعني أن الآية تشمل مشركي العرب وأهل الكتاب وكلّ مكلّف يؤمن بوحدانية الله أي: في الربوبية، ولكن يشرك معه في عبادته غيره!

ولو حذفنا اسم الطبري ووضعنا مكانه ابن تيمية لقال المعاصرون -ممن ابتلوا بضيق الأفق-: انظر كيف يردّ على مجاهد ويدّعي أنه على منهج السلف؟! ولأقاموا الدنيا ولم يقعدوها.

النقطة الثانية: أقوال العلماء أن مشركي العرب قد أقروا بالربوبية:

يقول الطبري في قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} [يوسف 106]: “وإيمانهم بالله هو قولهم: الله خالقنا ورازقنا ومميتنا ومحيينا، وإشراكهم هو جعلهم لله شريكا في عبادته ودعائه، فلا يخلِصون له في الطلب منه وحدَه، وبنحو هذا قال أهل التأويل”. ثم روى مثل ذلك عن ابن عباس وعكرمة ومجاهد وعامر وقتادة وعطاء وجمع. قال قتادة: “لا تسأل أحدًا من المشركين: من ربك؟ إلا ويقول: ربي الله، وهو يشرك في ذلك”، وقال: “الخلق كلهم يقرّون لله أنه ربهم، ثم يشركون بعد ذلك”، وقال ابن زيد: “ليس أحد يعبد مع الله غيره إلا وهو مؤمن بالله، ويعرف أن الله ربه وخالقه ورازقه وهو يشرك به.. ألا ترى كيف كانت العرب تلبي تقول: لبيك اللهم لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك، المشركون كانوا يقولون هذا”([17]).

ويقول الآجري: “وقد علمنا أنّ أهل الكفر قد عرفوا بعقولهم أنّ الله خلق السّموات والأرض وما بينهما، ولا ينجّيهم في ظلمات البرّ والبحر إلّا الله عزّ وجلّ، وإذا أصابتهم الشّدائد لا يدعون إلّا الله، فعلى قولهم -يعني الجهمية والمرجئة-: إنّ الإيمان المعرفة، كلّ هؤلاء مثل من قال: الإيمان: المعرفة، على قائل هذه المقالة الوحشيّة لعنةُ الله، بل نقول -والحمد للّه- قولًا يوافق الكتاب والسّنّة وعلماء المسلمين الّذين لا يستوحش من ذكرهم…: إنّ الإيمان معرفةٌ بالقلب تصديقًا يقينًا، وقولٌ باللّسان، وعملٌ بالجوارح، ولا يكون مؤمنًا إلّا بهذه الثّلاثة، لا يجزئ بعضها عن بعضٍ، والحمد لله على ذلك”([18]).

وفي النص السابق يُلزم الإمام الآجري الجهمية بأن مشركي العرب مؤمنون -على مذهب الجهمية-؛ لأنهم قد عرفوا وأقروا بربوبية الخالق، وهو من جنس إلزام ابن تيمية لمتكلمي الأشاعرة سواءً بسواء، وهو من باب الإلزام لبيان شناعة قولهم، ولا يلزم من ذلك أن الجهمية والمرجئة يلتزمون هذا اللازم في كلام الآجري، ولا أن الأشاعرة يلتزمون هذا اللازم في كلام ابن تيمية.

وقال أبو الفتح الشهرستاني الشافعي: “أمَّا تعطيلُ العالَمِ عن الصَّانِعِ العالِم القادِرِ الحَكيمِ فلستُ أراها مَقالةً لأحدٍ، ولا أعرفُ عليها صاحِبَ مقالةٍ، إلَّا ما نُقِلَ عن شِرْذِمةٍ قليلةٍ مِن الدَّهريَّةِ أنَّهم قالوا: العالَمُ كان في الأزَلِ أجزاءً مَبثوثةً تتحَرَّكُ على غيرِ استقامةٍ، واصطكَّت اتِّفاقًا؛ فحصل العالَمُ بشَكْلِه الذي تراه عليه!.. ولستُ أرى صاحِبَ هذه المقالةِ مِمَّن يُنكِرُ الصَّانِعَ، بل هو مُعترِفٌ بالصَّانِعِ أيضًا، لكِنَّه يُحيلُ سبَبَ وُجودِ العالَمِ على البَحثِ والاتِّفاقِ؛ احترازًا عن التَّعليلِ، فما عَدَدتُ هذه المسألةَ مِن النَّظَريَّاتِ التي يُقامُ عليها برهانٌ؛ فإنَّ الفِطَرَ السَّليمةَ الإنسانيَّةَ شَهِدَت بضَرورةِ فِطْرتِها وبَديهةِ فِكرتِها على صانعٍ حكيمٍ عالمٍ قَديرٍ، {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9]، وإن هم غَفَلوا عن هذه الفِطْرةِ في حالِ السَّرَّاءِ فلا شَكَّ أنَّهم يلوذون إليه في حالِ الضَّرَّاءِ، {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [يونس: 22].. ولهذا لم يَرِدِ التَّكليفُ بمَعرِفةِ وُجودِ الصَّانعِ، وإنَّما ورد بمَعرِفةِ التَّوحيدِ ونَفْيِ الشَّريكِ([19]).

فتأمل قول الشهرستاني: (أمَّا تعطيلُ العالَمِ عن الصَّانِعِ العالِم القادِرِ الحَكيمِ فلستُ أراها مَقالةً لأحدٍ.. ولهذا لم يَرِدِ التَّكليفُ بمَعرِفةِ وُجودِ الصَّانعِ، وإنَّما ورد بمَعرِفةِ التَّوحيدِ، ونَفْيِ الشَّريكِ). فهو كلام غاية في الوضوح، ولو قرأها المخالف المتعصّب دون أن يدري من القائل لجزم بأنه ابن تيمية أو محمد بن عبد الوهاب!

وقال الشهرستاني أيضًا: “نعلم قطعًا أنّ عاقلًا ما لا يَنحت جسمًا بيده ويصوّره صورة ثم يعتقد أنه إلهه وخالقه، وإله الكل وخالق الكل؛ إذ كان وجوده مسبوقا بوجود صانعه، وشكله يحدث بصنعة ناحته، لكن القوم لما عكفوا على التوجّه إليها كان عكوفهم ذلك عبادة، وطلبهم الحوائج منها إثبات إلهية لها، وعن هذا كانوا يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، فلو كانوا مقتصرين على صورها في اعتقاد الربوبية والإلهية لما تعدوا عنها إلى رب الأرباب”([20]).

وقال الفخر الرازي أثناء كلامه عن مشركي قريش: “إنهم وضعوا هذه الأصنام والأوثان على صور أنبيائهم وأكابرهم، وزعموا أنهم متى اشتغلوا بعبادة هذه التماثيل فإن أولئك الأكابر تكون شفعاء لهم عند الله تعالى. ونظيره في هذا الزمان اشتغال كثير من الخلق بتعظيم قبور الأكابر، على اعتقاد أنهم إذا عظّموا قبورهم فإنهم يكونون شفعاء لهم عند الله”([21]).

وقال الرازي أيضًا في تفسير قوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 22]: “اعلم أنه ليس في العالم أحد يثبت لله شريكا يساويه في الوجود والقدرة والعلم والحكمة، وهذا مما لم يوجد إلى الآن، لكن الثنوية يثبتون إلَهين: أحدهما حليم يفعل الخير، والثاني سفيه يفعل الشر. وأما اتخاذ معبود سوى الله تعالى ففي الذاهبين إلى ذلك كثرة”([22]).

وقال أيضًا: “ثم بيَّن تعالى أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا سألهم عن مدبر هذه الأحوال فسيقولون: إنه الله سبحانه وتعالى، وهذا يدل على أن المخاطبين بهذا الكلام كانوا يعرفون الله ويقرون به، وهم الذين قالوا في عبادتهم للأصنام: إنها تقربنا إلى الله زلفى، وأنهم شفعاؤنا عند الله، وكانوا يعلمون أن هذه الأصنام لا تنفع ولا تضر([23]).

فتأمل قول الرازي عن مشركي قريش: (كانوا يعرفون الله ويقرون به)، فما الفرق بين قول الرازي وقول ابن تيمية أن المشركين أقروا بالربوبية؟!

ولو قرأ المخالف هذا القول وأعمل فكره وتحرر من ربقة التعصّب لخطَّأ الرازي كما يخطِّئ ابن تيمية، أو على الأقل لتأوّل لابن تيمية أيضًا كما سيتأوّل للرازي، ولكنه التعصب الذي يُحيل عن قبول الحق!

ويقول الرازي أيضًا في كلامٍ جليل: “واعلم أنه من المستحيل أن يقول عاقل لموسى: اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة وخالقًا ومُدبرًا؛ لأن الذي يحصُل بجعل موسى وتقديره لا يُمكن أن يكون خالقًا ومدبرًا، ومن شكّ في ذلك لم يكن كامل العقل، والأقرب أنهم طلبوا من موسى عليه السلام أن يُعيِّن لهم أصنامًا وتماثيل يتقربون بعبادتها إلى الله تعالى، وهذا القول هو الذي حكاه الله تعالى عن عبدة الأوثان حيث قالوا : {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} ]الزمر: 3[، إذا عرفت هذا فلقائل أن يقول: لِم كان هذا القول كفرًا؟ فنقول: أجمع كل الأنبياء -عليهم السلام- على أن عبادة غير الله كفر، سواء اعتقد في ذلك الغير كونه إلهًا للعالم، أو اعتقدوا فيه أن عبادته تقربهم إلى الله تعالى؛ لأن العبادة نهاية التعظيم، ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه نهاية الإنعام والإكرام”([24]).

ومنه يتضح أن الرازي لم يجعل اعتقاد الربوبية أو الألوهية شرطًا في مفهوم العبادة، بخلاف قول القبورية المعاصرة أنها مناط العبادة! بل العبادة عند الرازي -وعند غيره- تُعرف بالأفعال والأقوال التي لا يجوز صرفها إلا لله؛ ولذلك قال: (لأن العبادة نهاية التعظيم، ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه نهاية الإنعام والإكرام).

وقال القرطبي: في قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87]: “نزلت في قوم أقروا بالله خالقهم وخالق الأشياء كلها، وهم يعبدون الأوثان، قاله الحسن ومجاهد وعامر والشعبي وأكثر المفسرين”([25]).

يقول الحافظ ابن كثير: “يقول الله تعالى مقررًا أنه لا إله إلا هو؛ لأن المشركين الذين يعبدون معه غيره معترفون بأنه المستقل بخلق السماوات والأرض والشمس والقمر وتسخير الليل والنهار، وأنه الخالق الرازق لعباده، ومقدر آجالهم واختلافها واختلاف أرزاقهم، فَفاوت بينهم، فمنهم الغني ومنهم الفقير، وهو العليم بما يصلح كلًّا منهم ومن يستحق الغنى ممن يستحق الفقر، فذكر أنه المستقل بخلق الأشياء، المتفرد بتدبيرها، فإذا كان الأمر كذلك فلِم يُعبد غيره؟! ولِمَ يُتوكَّل على غيره؟! فكما أنه الواحد في ملكه فليكن الواحد في عبادته، وكثيرًا ما يقرر تعالى مقام الإلهية بالاعتراض بتوحيد الربوبية، وقد كان المشركون يعترفون بذلك، كما كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك”([26]).

وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري عند قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ والْأَرضِ} إلى قوله: {فسَيَقُولُونَ اللَّهُ} [يونس: 31]: “إن قلتَ: هذا يدل على أنّهم معترفون بأنَّ الله هو الخالقُ الرازقُ المدبِّرُ، فكيفَ عبدوا الأصنام؟! قلت: كلُّهُم كانوا يعتقدون بعبادتهم الأصنامَ عبادةَ اللَّهِ تعالى والتقرُّبَ إليه، لكنْ بطرقٍ مختلفةٍ. ففرقةٌ قالت: ليستْ لنا أهليَّةٌ لعبادةِ اللَّهِ تعالى بلا واسطة لعظمتِهِ، فعبدْنَاها لتقرِّبنا إليه تعالى، كما قال حكايةً عنهم: {مَا نَعْبُدُهمْ إِلَاّ ليُقَرِّبونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]. وفرقةٌ قالت: الملائكة ذَوُو جاهٍ ومنزلةٍ عند الله، فاتَّخذنا أصنامًا على هيئة الملائكة ليقرِّبونا إلى اللَّهِ”([27]).

وقال علي القاري الحنفي: “وفي فطرة الخلق إثبات وجود الباري كما قال الله تعالى: {فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]. ويدل عليه قضية الميثاق أيضًا، ويشير إليه قوله تعالى {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ} [الزمر: 38]؛ ولهذا لم يبعث الأنبياء إلا للتوحيد -أي: توحيد العبادة- لا لإثبات وجود الصانع”([28]).

ويقول محيي الدين شيخ زاده: “مَن يعبد هذه الأحجار المنحوتة في هذه الساعة لا يعبدها على اعتقاد أنّ لها تأثيرًا وتدبيًرا في انتظام أحوال هذا العالم السفلي؛ فإن بطلان ذلك معلوم ببديهة العقل، وما عُلم بطلانه ببديهة العقل لا يذهب إلى صحته الجمّ الغفير والقوم الكثير، فلا بد أن يكون لهم في عبادتها منشأ غلط”([29]).

ويقول العلامة مرتضى الزّبيدي: “التّوحيد توحيدان: توحيد الرّبوبيّة، وتوحيد الإلهيّة، فصاحب توحيد الرّبانيّة يشهد قيّوميّة الرّبّ فوق عرشه، يدبّر أمر عباده وحده، فلا خالق ولا رازق ولا معطي ولا مانع ولا محيي ولا مميت ولا مدبّر لأمر المملكة ظاهرًا وباطنًا غيره، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا تتحرّك ذرّةٌ إلّا بإذنه، ولا يجوز حادثٌ إلّا بمشيئته، ولا تسقط ورقةٌ إلّا بعلمه، ولا يعزب عنه مثقال ذرّةٍ في السّموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلّا وقد أحصاها علمه، وأحاطت بها قدرته، ونفذت فيها مشيئته، واقتضتها حكمته. وأمّا توحيد الإلهيّة فهو أن يجمع همّته وقلبه وعزمه وإرادته وحركاته على أداء حقّه والقيام بعبوديّته)([30]).

فانظر إلى قول العلامة الزبيدي عن التوحيد وأنه قسمان تعرفْ من ذلك تلبيسَ بعض المعاصرين في محاولتهم إهدار هذا القسم، مع كونه حقيقة العبودية لله عز وجل.

ويقول شيخ الصوفية عبد الله بن علوي الحداد: “ولما كانت العرب قد أعطيت من التمييز، وأُيِّدت من المعقول بما لم يؤيَّد به غيرُها من الأمم؛ لم يصدر عنها الإنكار لوجود الحق سبحانه وتعالى؛ بل أقرت بوجوده، وبكون الخالق لكل شيء والرازق له، كما حكى الله ذلك عنها في غير ما آية من كتابه، مثل قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87].. إلى غير ذلك من الآيات المصرِّحات بما ذكرناه عن مشركي العرب. ويبين ذلك ما حكى الله عنهم في قوله تعالى أنهم قالوا فيما أشركوا به من دون الله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] أي: أنهم جعلوها وسائل ووسائط، يقصدون بعبادتهم التقرّب إلى الله فأخطؤوا في ذلك، ولكنهم أقرُّوا بوجود الحق، وبكونه الخالق لهم ولكل شيء، وأنهم إنما عبدوا ما عبدوه من الأصنام لتكون وسائل لهم عنده، ومقرِّبات لهم إليه؛ وكانوا -أعني مشركي العرب- يرجعون إلى الله في الشدائد وكشف المهمات والمصائب، ولا يطلبون ذلك ولا يسألونه إلا منه، كما أخبر الله بذلك في كتابه عنهم في مثل قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء: 67]، وقوله تعالى: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53] أي: تتضرعونَ وَتستغيثون”([31]).

ويقول العلامة الأزهري الشيخ محمد أبو زهرة في شرح قوله تعالى: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا } [آل عمران: 64]: “والتوحيد بشمول معناه يشمل التوحيد في العبودية والتوحيد في الربوبية، والتوحيد في العبودية ألا يعبد إلا الله سبحانه وتعالى، وهذا ما بينه سبحانه وتعالى بقوله على لسان نبيه: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا}. فلا يصح أن يشرك مع الله في الألوهية حجر ولا بشر، فلا يقال: فلان إله، ولا ابن إله، ولا عنصر ألوهية قط في حجر. أما التوحيد في الربوبية فهو ما أشار إليه سبحانه بقوله تعالى: {وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ} [آل عمران: 64] أي: لا يتخذ أحد من البشر في مقام الرب، بأن يكون له فضل في التكوين أو الإنشاء أو التأثير في الخلق بأي نوع من أنواع التأثير، فإن هذا كله من عمل الرب، والله سبحانه وتعالى هو رب العالمين وحده، ولا رب سواه، فلا مؤثر في الكون ولا في الأشخاص، ولا في الأشياء سواه، فلا أثر لحجرٍ ولا لبشرٍ كائنا من كان هذا البشر”([32]).

وقال رحمه الله في تفسير {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18]: “فيه مع المعنى الذي ذكرناه إشارة إلى مقام الربوبية، وهو أنه الخالق المسيطر المسيِّر المحكِم لهذا النظام الكوني، وإشارة إلى مقام الألوهية، وهو أنه وحده المستحق للعبادة”([33]).

ويقول الشيخ عبد الفتاح أبو غدة: “وأما تقسيم التوحيد إلى ما ذكره هؤلاء الأئمة -شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، والشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى- إلى توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية فهذا تقسيم اصطلاحيّ استقاه العلماء مما جاء في الكتاب والسنة في مواضع لا تحصى مما رد الله تعالى به على المشركين الذين كانوا يؤمنون بتوحيد الربوبية دون توحيد الألوهية؛ وفي سورة الفاتحة التي يقرؤها المسلم في صلاته مرات كل يوم دليل على ذلك؛ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 2-5]”([34]).

ويقول الشيخ حسن أيوب الأزهري في كتابه (تبسيط العقائد الإسلامية) الذي كتبه على المذهب الأشعري بعد أن قسَّم التوحيد إلى الربوبية والألوهية: “والتوحيد بالمعنى الأول -أي: الربوبية- لم يكن مثارَ جدال ونقاش بين المسلمين والمشركين، فإن المشركين كانوا يؤمنون بوجود الله تعالى، وبأنه الخالق الرازق المدبر المهيمن المالك للسموات والأرض كما أخبرنا القرآن الكريم”([35]).

وإذا تأمّلت قول الشيخ عبد الفتاح أبي غدة والشيخ حسن أيوب -رحمهما الله- يتبيَّن لك الفرقُ بين خلاف العلماء بحقّ وخلاف ذوي المناكفات من المعاصرين، وأن علماء المسلمين وإن تأوَّلوا أو أخطؤوا في البناء المذهبي نظريًّا فإن هدفهم ونيتهم بيان الدين والدفاع عنه، ولهذا تراهم أكثر اتفاقا على أصول الدين حين يبتعدون عن مواطن الحميَّة والفتن، بخلاف من جعل العلم محلًّا للخصومات، الذين لا هُم للأمّة نصروا، ولا للعدوّ كسروا.

وخلاصة البحث:

أنَّ مشركي العرب لم يجحدوا الربوبية، بل أقرُّوا بأن الله هو الخالق الرازق، وجمهور علماء المسلمين من المفسرين والفقهاء ذكروا هذه الحقيقة، بل منهم من قرر أن المشركين اعترفوا بأن آلهتهم لا تضرّ ولا تنفع، ونفوا عنها التأثير، وأن صرف العبادة لغير الله كفر حتى وإن لم يعتقد في الغير الألوهية كما في كلام الفخر الرازي الذي أوردناه، فكلام المفسرين مُتَّسق مع كلام شيخ الإسلام ابن تيمية سواءً بسواء، ولا يضرّ تناقض المتكلمين في كتب علم الكلام في أنَّ التوحيد هو إثبات الصانع، فهو تقرير كلامي نظريّ لم يلتزموا لوازمه في كتبهم الأخرى، ولم يخالفوا مضمون كلام ابن تيمية.

وبهذا يتبيَّن خطأ بعض المعاصرين ممن برّروا شرك القبور، وفرَّعوا المسائل بلوازم لم يُسبقوا إليها، وظنوا أنهم على طريقة الأشاعرة.

هذا، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) مقال للشيخ الدجوي في مجلة نور الإسلام، المجلد الرابع (ص: 256).

([2]) أخرجه مسلم (1784).

([3]) البراهين الشرعية على بدعة توحيد المشركين في الربوبية، وليد بن صلاح الدين الزبير (ص: 33).

([4]) تفسير الطبري (1/ 200).

([5]) تفسير السمعاني (5/ 92).

([6]) تفسير النسفي (2/ 492).

([7]) فتح القدير (2/ 505).

([8]) خلق أفعال العباد للبخاري (ص: 101)، وتفسير الطبري (7/ 312).

([9]) البراهين الشرعية على بدعة توحيد المشركين في الربوبية (ص: 69).

([10]) تفسير الطبري (7/313)

([11]) تفسير الطبري (16/ 286).

([12]) سنن سعيد بن منصور (8/ 412) ، تفسير الطبري (2/ 252).

([13]) تفسير الطبري (1/ 199)

([14]) المصدر السابق.

([15]) المصدر السابق.

([16]) تفسير الطبري (1/ 200).

([17]) تفسير الطبري (13/ 50-51).

([18]) الشريعة (2/ 684).

([19]) نهاية الإقدام في علم الكلام (ص: 74).

([20]) الملل والنحل (3/ 104-105).

([21]) مفاتح الغيب (17/ 227).

([22]) مفاتيح الغيب (1/ 112).

([23]) مفاتيح الغيب (17/ 70).

([24]) مفاتح الغيب (14/ 310).

([25]) تفسير القرطبي (9/ 272).

([26]) تفسير ابن كثير (5/ 210).

([27]) فتح الرحمن بشرح ما يلتبس من القرآن (ص: 28).

([28]) ضوء المعالي على بدء الأمالي (ص: 74).

([29]) حاشية الشيخ محيي الدين شيخ زاده على تفسير البيضاوي (٤/ ٧٨).

([30]) تاج العروس (9/ 276).

([31]) الدَّعوة التَّامَّة والتَّذكِرَة العامَّة -ضمن سلسلة كتب الإمام الحداد- (ص: 199-202).

([32]) زهرة التفاسير -تفسير سورة آل عمران- (ص: 1258).

([33]) زهرة التفاسير، تفسير سورة آل عمران (ص: 1146).

([34]) كلمات من كشف الأباطيل (ص: 37).

([35]) تبسيط العقائد الإسلامية (ص: 239).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جديد سلف

ذلك ومن يعظم شعائر الله .. إطلالة على تعظيم السلف لشعائر الحج

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: لا جرم أن الحج مدرسة من أعظم المدارس أثرا على المرء المسلم وعلى حياته كلها، سواء في الفكر أو السلوك أو العبادات، وسواء في أعمال القلوب أو أعمال الجوارح؛ فإن الحاج في هذه الأيام المعدودات لو حجَّ كما أراد الله وعرف مقاصد الحج من تعظيم الله وتعظيم شعائره […]

‏‏ترجمة الشيخ الداعية سعد بن عبد الله بن ناصر البريك رحمه الله

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة اسمه ونسبه: هو الشيخ سعد بن عبد الله بن ناصر البريك. مولده: ولد الشيخ رحمه الله في مدينة الرياض يوم الاثنين الرابع عشر من شهر رمضان عام واحد وثمانين وثلاثمائة وألف للهجرة النبوية 14/ 9/ 1381هـ الموافق 19 فبراير 1962م. نشأته العلمية: نشأ رحمه الله نشأته الأولى في مدينة […]

تسييس الحج

  منذ أن رفعَ إبراهيمُ عليه السلام القواعدَ من البيت وإسماعيلُ وأفئدة الناس تهوي إليه، وقد جعله الله مثابةً للناس وأمنا، أي: مصيرًا يرجعون إليه، ويأمنون فيه، فعظَّمه الناسُ، وعظَّموا من عظَّمه وأقام بجواره، وظل المشركون يعتبرون القائمين على الحرم من خيارهم، فيضعون عندهم سيوفهم، ولا يطلب أحد منهم ثأره فيهم ولا عندهم ولو كان […]

البدع العقدية والعملية حول الكعبة المشرفة ..تحليل عقائدي وتاريخي

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة تُعدُّ الكعبةُ المشرّفة أقدسَ بقاع الأرض، ومهوى أفئدة المسلمين، حيث ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بعقيدة التوحيد منذ أن رفع قواعدها نبي الله إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، تحقيقًا لأمر الله، وإقامةً للعبادة الخالصة. وقد حظيت بمكانةٍ عظيمة في الإسلام، حيث جعلها الله قبلةً للمسلمين، فتتوجه إليها وجوههم في الصلاة، […]

الصد عن أبواب الرؤوف الرحيم

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: من أهمّ خصائص الدين الإسلامي أنه يؤسّس أقوم علاقة بين الإنسان وبين إلهه وخالقه سبحانه وتعالى، وإبعاد كلّ ما يشوب هذه العلاقة من المنغّصات والمكدرات والخوادش؛ حيث تقوم هذه العلاقة على التوحيد والإيمان والتكامل بين المحبة والخوف والرجاء؛ ولا علاقة أرقى ولا أشرف ولا أسعد للإنسان منها ولا […]

إطلاقات أئمة الدعوة.. قراءة تأصيلية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: يقتضي البحث العلمي الرصين -لا سيما في مسائل الدين والعقيدة- إعمالَ أدوات منهجية دقيقة، تمنع التسرع في إطلاق الأحكام، وتُجنّب الباحثَ الوقوعَ في الخلط بين المواقف والعبارات، خاصة حين تكون صادرة عن أئمة مجدِّدين لهم أثر في الواقع العلمي والدعوي. ومن أبرز تلك الأدوات المنهجية: فهم الإطلاق […]

التوحيد في موطأ الإمام مالك

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يختزن موطأ الإمام مالك رضي الله عنه كنوزًا من المعارف والحكمة في العلم والعمل، ففيه تفسيرٌ لآيات من كتاب الله تعالى، وسرد للحديث وتأويله، وجمع بين مختلفه وظاهر متعارضه، وعرض لأسباب وروده، ورواية للآثار، وتحقيق للمفاهيم، وشرح للغريب، وتنبيه على الإجماع، واستعمال للقياس، وفنون من الجدل وآدابه، وتنبيهات […]

مناقشة دعوى مخالفة حديث: «لن يُفلِح قومٌ ولَّوا أمرهم امرأة» للواقع

مقدمة: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا وآله وصحبه أجمعين، أمّا بعد: تُثار بين حين وآخر بعض الإشكالات على بعض الأحاديث النبوية، وقد كتبنا في مركز سلف ضمن سلسلة –دفع الشبهة الغويّة عن أحاديث خير البريّة– جملةً من البحوث والمقالات متعلقة بدفع الشبهات، ونبحث اليوم بعض الإشكالات المتعلقة بحديث: «لن يُفلِحَ قومٌ وَلَّوْا […]

ترجمة الشيخ أ. د. أحمد بن علي سير مباركي (1368-1446هـ/ 1949-2025م)(1)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة اسمه ونسبه: هو الشَّيخ الأستاذ الدكتور أحمد بن علي بن أحمد سير مباركي. مولده: كان مسقط رأسه في جنوب المملكة العربية السعودية، وتحديدًا بقرية المنصورة التابعة لمحافظة صامطة، وهي إحدى محافظات منطقة جازان، وذلك عام 1365هـ([2]). نشأته العلمية: نشأ الشيخ نشأتَه الأولى في مدينة جيزان في مسقط رأسه قرية […]

(الاستواء معلوم والكيف مجهول) نصٌ في المسألة، وعبث العابثين لا يلغي النصوص

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. فقد طُبِع مؤخرًا كتاب كُتِبَ على غلافه: (الاستواء معلوم والكيف مجهول: تقرير لتفويض المعنى لا لإثباته عند أكثر من تسعين إمامًا مخالفين لابن تيمية: فكيف تم تحريف دلالتها؟). وعند مطالعة هذا الكتاب تعجب من مؤلفه […]

التصوف بين منهجين الولاية نموذجًا

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: منذ أن نفخ الله في جسد آدم الروح، ومسح على ظهره، وأخذ العهد على ذريته أن يعبدوه، ظلّ حادي الروح يحدوها إلى ربها، وصوت العقل ينادي عليها بالانحياز للحق والتعرف على الباري، والضمير الإنساني يؤنّب الإنسان، ويوبّخه حين يشذّ عن الفطرة؛ فالخِلْقَة البشرية والهيئة الإنسانية قائلة بلسان الحال: […]

ابن تيميَّـة والأزهر.. بين التنافر و الوِفاق

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يُعد شيخ الإسلام ابن تيمية أحد كبار علماء الإسلام الذين تركوا أثرًا عظيمًا في الفقه والعقيدة والتفسير، وكان لعلمه واجتهاده تأثير واسع امتدّ عبر الأجيال. وقد استفاد من تراثه كثير من العلماء في مختلف العصور، ومن بينهم علماء الأزهر الشريف الذين نقلوا عنه، واستشهدوا بأقواله، واعتمدوا على كتبه […]

القول بالصرفة في إعجاز القرآن بين المؤيدين والمعارضين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ الآياتِ الدالةَ على نبوّة محمدٍ صلى الله عليه وسلم كثيرة كثرةَ حاجة الناس لمعرفة ذلك المطلَب الجليل، ثم إن القرآن الكريم هو أجلّ تلك الآيات، فهو معجزة النبي صلى الله عليه وسلم المستمرّة على تعاقُب الأزمان، وقد تعدَّدت أوجه إعجازه في ألفاظه ومعانيه، ومع ما بذله المسلمون […]

الطاقة الكونية مفهومها – أصولها الفلسفية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة تمهيد: إن الله عز وجل خلق الإنسان، وفطره على التوحيد، وجعل في قلبه حبًّا وميلًا لعبادته سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30]، قال السعدي رحمه الله: […]

موقف الليبرالية من أصول الأخلاق

مقدمة: تتميَّز الرؤية الإسلامية للأخلاق بارتكازها على قاعدة مهمة تتمثل في ثبات المبادئ الأخلاقية وتغير المظاهر السلوكية، فالأخلاق محكومة بمعيار رباني ثابت يحدد مسارها، ويمنع تغيرها وتبدلها تبعًا لتغير المزاج البشري، فحسنها ثابت الحسن أبدًا، وقبيحها ثابت القبح أبدًا، إذ هي تحمل صفات ثابتة في ذاتها تتميز من خلالها مدحًا أو ذمًّا خيرًا أو شرًّا([1]). […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017