الخميس - 23 ربيع الأول 1446 هـ - 26 سبتمبر 2024 م

الإيمان بالغيب عاصم من وحل المادية (أهمية الإيمان بالغيب في العصر المادي)

A A

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

مقدمة:

يعيش إنسان اليوم بين أحد رجلين: رجل تغمره الطمأنينة واليقين، ورجل ترهقه الحيرة والقلق والشكّ؛ نعم هذا هو الحال، ولا يكاد يخرج عن هذا أحد؛ فالأول هو الذي آمن بالغيب وآمن بالله ربا؛ فعرف الحقائق الوجوديّة الكبرى، وأدرك من أين جاء؟ ومن أوجده؟ ولماذا؟ وإلى أين المنتهى؟ بينما الآخر لا يؤمن ولا يصدق إلا بما يشاهد ويدرك، ولا يسلم بما وراء ذلك. ولا شك أن البشرية اليوم تواجه عاصفة المادية الهوجاء التي أصبحت تطيش بها يمنة ويسرة، وكادت أن تسيطر على أفكارها ورغباتها وميولها واختياراتها؛ فلا يكاد كثير من الناس يؤمن إلا بما هو محسوس مادّيّ، ولا يسعى إلا لنيل الأجر المادّيّ المحسوس، ولا يشغِل عقلَه وقلبَه إلا ما يراه ويبصره ويدركه بحواسه وحسب.

وكأن الإنسان هو الكائن الخارق ذو الكمال والجلال في قدراته وحواسه وإمكاناته، وكأن الإنسان يعرف ويُدرك بحواسه جميع ما في هذا الكون، بل وكأنه يُدرك جميع ما يُحيط به من كائنات، بل وكأنه يُدرك ويعرف بقدراته وحواسه جميع ما في نفسه!

لقد أدرك الإنسان ضعفَه وعرف حدود قدراته وإمكاناته وحواسه؛ ولذا آمنت البشرية منذ فجر التاريخ بأن هناك كائنات وأمورًا وراء ما يدركه بحواسه، وأمورًا وغيبيات لا يمكنه أن يدركها بقدراته وإمكاناته؛ ولذا كان الإيمان بالغيب سمة بارزةً ودائمة في البشرية على كافّة أطوارها ومراحلها التاريخية، ولم يكد ينكر أو يجحد هذه الحقيقة إلا شرذمة قليلون؛ لا تكاد مزابل التاريخ أن تحملهم، ولكنه اليوم أصبح هو الفكر الطاغِي والمتسلِّط على القوى العالمية؛ فغدا له أثره على الأمم عامة وعلى أمة الإسلام خاصة.

ولا غرو بعد هذا أن تسمع الهمهمة وأن ترى طأطأة الرأس المتعجِّبة تعجُّب استنكار حين تسمع حديثا أو آية فيه شيء من الغيبيات كأوصاف الملائكة وأحوال الجن وأحوال الأمم البائدة واللاحقة وما فيها من غيبيات.

ومن هنا كانت هذه الورقة تذكيرًا للمؤمنين بأهمية الإيمان بالغيب، وتبصيرا لمن فُتن بالمادية، وإيقاظا لمن تزحزح يقينه بالغيب.

مركز سلف للبحوث والدراسات

تمهيد:

الغيب هو: كل ما غاب عن العبد من شيء، وأشهر تقسيماته تقسيمه قسمين:

القسم الأول: غيب مطلق، وهو الذي لا يمكن للإنسان إدراكه بعقله وقدراته المجردة، ولا بد فيه من الخبر ليعرفه، وإلا بقي مجهولا عنده، كإدراك أهوال اليوم الآخر ومنازل المعاد والبرزخ وعلم الساعة والغيوب الماضية ونحوها.

القسم الثاني: غيب نسبي، ويقصد بذلك الأمور التي تغيب عن الإنسان مما يمكنه إدراكه بقدراته واستنتاجاته العقلية، ويدخل في هذا جميع الأشياء التي لا يمكن للحواس إدراكها، ولها آثار محسوسة تدل عليها، فيمكن حينئذ معرفة ذلك الغيب بآثاره، وذلك مثل معرفة كون من يكتب لديه مهارة الكتابة؛ لرؤية أثر هذه المهارة، وإدراك هذا النوع يكون بإعمال الحواس مع العقل([1]).

أهمية الإيمان بالغيب في زمن المادية:

محور الإيمان وحقيقته هو الإيمان بالغيب؛ لأن عامة المخلوقات الحية تؤمن بالمشاهَد ولا تنكره، ولا تجد غضاضة في التسليم به وجودًا وأثرًا، وإنما يمتاز المؤمن عن غيره بإيمانه وتسليمه بما جاء عن الله ورسوله مما لا تدركه البشرية ولا تعرفه، وليس هو من العالم المشاهد بالنسبة إليها؛ فالشأن كل الشأن في الإيمان والتصديق التامّ بما أخبرت به الرسل، المتضمّن لانقياد الجوارح بالغيب الذي لم نره ولم نشاهده، وليس الشأن في الإيمان بالأشياء المشاهدة بالحس، وهو ما افترق فيه كفار قريش وغيرهم من منافقي العهد النبوي؛ فهنا يمتاز المؤمن الحق عن غيره، ويختلف الصادق في الإيمان بالله ورسله عن المرتاب في ذلك؛ ولذا كان هذا موضوعًا أساسيًا بارزا في الأديان عامّة، وفي الأديان الكتابية خاصة([2])، ولسنا بحاجة إلى سرد النصوص الكثيرة المؤكّدة على التسليم لكلام الله ورسوله: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].

ومن هنا نستنتج أن العلامة الفارقة والسمة المميّزة بين أهل الإيمان وبين أهل الإنكار والإلحاد هو الإيمان بالغيب؛ ولذا جعله المولى سبحانه وتعالى فاتحة صفات المتقين في أول سورة البقرة حيث قال: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 2، 3]، فالإيمان بالغيب هو السمة الأولى التي ميَّز الله بها أهل الإيمان والتقوى، وإنما ابتدأ الله صفات المؤمنين بالإيمان بالغيب لأنها بوابة ومدخل لما بعدها من أصول الإيمان؛ فمن يؤمن بالغيب يؤمن بخالقه وبكل ما في الوجود من خلقِه؛ سواء أغابت عن علمه أو كانت في محيط علمه القاصر المحدود، فالإيمان بالغيب هو أساس الإيمان بما بعده([3]).

يقول الطاهر ابن عاشور: “خص بالذكر الإيمان بالغيب دون غيره من متعلقات الإيمان؛ لأن الإيمان بالغيب -أي: ما غاب عن الحس- هو الأصل في اعتقاد إمكان ما تخبر به الرسل عن وجود الله والعالم العلوي، فإذا آمن به المرء تصدى لسماع دعوة الرسول وللنظر فيما يبلغه عن الله تعالى فسهل عليه إدراك الأدلة، وأما من يعتقد أن ليس وراء عالم الماديات عالم آخر وهو ما وراء الطبيعة فقد راض نفسه على الإعراض عن الدعوة إلى الإيمان بوجود الله وعالم الآخرة كما كان حال الماديين”([4]).

وفي الحقيقة من أنكر وجود عالم غير عالم الماديات إنما جنى على عقله ونفسه، وكابر فطرته، وتناقض مع ذاته حين زعم أن ما لا تدركه الحواس البشرية غير موجود؛ إذ العقل والحس بالإضافة إلى الفطرة كلها تدل على وجود الغيبيات؛ ولكنها لا تدلنا على تفاصيلها؛ لأن لها قدرات وإمكانيات محدودة. وهنا مفترق الطرق بين أهل الوحي الإلهي الحق وبين أهل التخرصات والتخمينات والافتراضات بله الخرافات والخزعبلات.

فأهل الوحي الحق يلجون إلى باب الغيبيات من خلال مصادر يقينية ثابتة، بعكس غيرهم ممن يخوضون هذا الباب بمصادر غير موثوقة وتخمينات وافتراضات غير مؤكدة.

ومن النقاط الجوهرية المؤكّدة لأهمية الإيمان بالغيب أن به يمكن للإنسان تفسير الوجود تفسيرًا كاملًا متَّسقًا، وبدونه يبقى في حيرة وشك واضطراب؛ فالمادية مهما استطاعت كشف مساحات كبيرة من العلوم والمعارف مما لم تكن تعرفه، إلا أنها تبقى حائرة أمام أهم الأسئلة الوجودية الكونية، وأهم تلك الأسئلة المتعلقة بشخص الإنسان؛ من أين جاء؟ ولماذا؟ وإلى أين المصير؟

فالفكر المادي مهما حاول الإجابة عن هذه الأسئلة إلا أنه يبقى تائهًا متخبِّطا مترددا ما دام منكرًا للغيب قاصرًا نظره على المشاهد؛ وأساس ذلك أن الحقائق والأشياء الخارجية (بعكس الذهنية) لا تخلو من حالين:

المعارف المشاهدة: وهي تنقسم إلى:

النوع الأول: مدركات حسية، وذلك مثل إدراك ألوان الأشياء وأصوات المخلوقات، ومن الواضح أن هذا النوع من المعارف إنما يدرك بالحواس الخمسة وهي: البصر والسمع والشم والتذوق واللمس لا بغيرها، وهي المدركات الحسية الموجودة في الواقع، فمنها يبدأ الإنسان تعلم العلوم، فهي “المدركات الأُول للإنسان في مبدأ فطرته”([5]).

والمهم هنا أن إدراك هذه الحواس محدود المدى، فلها نطاق محدد لا يمكنها تجاوزه، وليس من نطاق بحثها البحث في القضايا الوجودية الكبرى، بل هي من النوع الثاني.

النوع الثاني: مدركات غيبية، ومنها -محل حديثنا- المواضيع الوجودية الكبرى؛ مثل: من أين جئنا؟ وإلى أين نسير؟ وما الغاية من وجودنا؟

يقول أحد علماء الاجتماع: “هذا اللغز العظيم الذي يستحث عقولنا: ما العالم؟ ما الإنسان؟ من أين جاء؟ من صنعهما؟ من يدبّرهما؟ ما هدفهما؟ كيف كانت البداية؟ وكيف ينتهيان؟ ما الحياة؟ ما الموت؟ ما القانون الذي يجب أن يقود عقولنا؟… هذه الأسئلة لا توجد أمة ولا شعب ولا مجتمع إلا وضع لها حلولا جيّدة أو رديئة، مقبولة أو سخيفة، ثابتة أو متحولة”([6]).

إذن؛ هذه الأسئلة هي التي توجّه حياة الإنسان، وتجعل منه آدميًّا متميِّزا عن البهائم وعن المخلوقات، وإلا لم تكن له قيمة تُذكر.

وليس للإنسان أن يدرك الجواب عن هذه الأسئلة بأدواته المعرفية القاصرة وأن يجتهد في هذه القضايا المطلقة التي لا دخل لأدواته الحسية وعقله في إدراكها، وليس لمعرفتها طريق إلا الخبر الصادق؛ وبدون هذا الطريق يتخبط الإنسان في ظلمات الأفكار البشرية، ويتهادى بين الأهواء الشخصية، ويصبح طريق الحقائق وعرًا، وتُطبق عليه الحيرة إطباقًا، فينتهي الحال إلى الحيرة والشك والاضطراب، تماما كما حصل مع الباحثين في الأحافير والآثار، ومثله من غاص في علم المثيولوجيا والخائضون في الأساطير القديمة للكشف عن حقائق الوجود الكونية الكبرى([7]).

ومن المعلوم أن الفكر المادي اليوم يعترف صراحة أن ليس من نطاق البحث في العلم التجريبي أن يبحث في الغايات النهائية، ولا القيم العليا التي تضبط حياة الإنسان؛ وإنما نطاق بحثه دراسة الظواهر وتفسيرها وأسبابها، والقفز به إلى ما فوق نطاقه ذلك يُعد خبطًا وخطَلًا؛ ولذا فهو في كثير من القضايا يحتاج إلى غيره ولا يمكنه الاكتفاء بنفسه، يقول أ. ي. مانديز: “إن الحقائق التي توصَّلنا إلى معرفتها لا تنحصر في الحقائق الحسية، فهناك حقائق أخرى كثيرة لم نتعرف عليها مباشرة، ولكننا عثرنا عليها على كل حال، ووسيلتنا هي الاستنباط”. إلى أن قال: “إن حقائق الكون لا يدرك بالحواس منها غير القليل، فكيف يمكن أن نعرف شيئا عن الكثير الآخر… هناك وسيلة، وهي الاستنباط أو التعليل، وكلاهما طريق فكري، نبتدئ به بواسطة حقائق معلومة، حتى ننتهي بنظرية: إن الشيء الفلاني يوجد هنا ولم نشاهده مطلقًا”([8]).

وهذا مكمن تميز المنهج المعرفي الإسلامي أنه يعتمد على الأخبار الصحيحة الصادقة، فيخبرنا بالمغيبات وبما لم نكن نعلم مما علمه الله.

وتفصيل ذلك أن المصادر المعرفية ثلاثة:

1- ما يدرك بالحواس الخمسة، وتتميز من بين المدركات بأنها دقيقة توصلنا إلى عين الشيء المدرك، ولكن لا نستطيع بها الوقوف على الأمور الكلية.

2– ما يدرك بالمهارات العقلية كالاستنباط والاستدلال ونحوها، وذلك كإدراك وجود مهارة كتابة بمجرد رؤية النص المكتوب، وهذا النوع من المدركات تتسم بأنها كلية، ولكننا لا نستطيع إعمال تلك الكليات إلا بالمدركات الحسية.

3- ما يدرك عن طريق الخبر، فلو أخبرني شخص متخصّص في الكيمياء أعرف صدقه وخبرته أنه جرّب مزج عنصر بآخر فاستخرج دواءً لمرض من الأمراض، فالأصل أني أصدقه.

وهذا النوع من المدركات نطاقه واسعٌ جدًّا، فبه يمكن إدراك الكليات والجزئيات والعمومات والعينيات وما وُجد وما يمكن وجوده؛ وبابه أوسع الأبواب التي يمكن بها نيل المعارف والعلوم، وهو باب الغيبيات محل حديثنا وإدراك الحقائق الوجودية الكبرى([9]).

أضف إلى كل ذلك أن غالب أركان الإيمان هو من الإيمان بالغيب؛ فمن آمن بالغيب كان ذلك مفتاحًا لأن يلج إلى الإيمان الشرعي الذي دل عليه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسالاته واليوم الآخر([10])؛ فالإيمان بالله سبحانه وتعالى بوجوده ووحدانيته في ربوبيته وأولوهيته وأسمائه وصفاته كل ذلك من الإيمان بالغيب، وكذلك الإيمان بما ورد من أخبار عن الملائكة والجن والشياطين وما ورد عن أنبياء الله وكتبه، والأخبار الكثيرة عن الساعة واليوم الآخر كله من علم الغيب، ومثله الإيمان بالقدر. ولما كان الإيمان بالغيب هو حقيقة الإيمان المتضمن للإيمان بكل هذه الأركان فصَّل المولى ذلك فقال أولا: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} [البقرة: 285]، ثم فصّل فقال: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة: 285]، يقول ابن تيمية (728هـ) رحمه الله: “والغيب الذي يؤمن به ما أخبرت به الرسل من الأمور العامة، ويدخل في ذلك الإيمان بالله وأسمائه وصفاته وملائكته والجنة والنار، فالإيمان بالله وبرسله وباليوم الآخر يتضمن الإيمان بالغيب؛ فإن وصف الرسالة هو من الغيب، وتفصيل ذلك هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر كما ذكر الله تعالى ذلك في قوله: {وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَالمَلَائِكَةِ وَالكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} وقال: {وَمَنْ يَكفُرْ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا}”([11]).

ومما يؤكد لنا أهميةَ الإيمان بالغيب أن الإنسان كلّما قَوِي إيمانه بالغيب كان إيمانه بالله ورسله وكتبه أقوى وأمتن، فمن ازداد الإيمان بالغيب في قلبه ازداد إيمانه بالله وقويت علاقته به، والعكس صحيح؛ ولذا فإن من أهم ما ينبغي العناية به في هذا الزمن الذي طغت فيه المادية التذكيرَ بالإيمان بالغيب ومكانته وأهميته وتعاهد ذلك في النفوس؛ خاصة وأن كثيرا منها ركنت إلى المادية والإيمان بما هو مادي وعدم اليقين بالغيبي، والأمور الغيبية لا يقبل فيها التردد والريب، بل لا بد فيها من اليقين والتسليم التام المتيقن لما أخبر الله به.

ولئن أمعنَّا النظر في التاريخ البشري وجدنا أن البشرية لم تنكر في مختلف مراحلها التاريخية عالم الغيب إلا شراذم -والنادر لا حكم له-، ولهذا كانت عامة الاعتقادات والأديان قائمة على الإيمان بالغيب؛ بغض النظر عن كونه حقًّا أو خرافة؛ ولكن اتفقت البشرية على وجود عالم غيبي لا يدركه الإنسان بقدراته، ولكنه يشعر به ويعيش كثيرا من آثاره، “فالعقائد الدينية بمختلف أنواعها تتميز بخصيصة الإيمان بالغيب؛ ثم إن هذا الغيب الذي تؤمن الأديان بوجوده من وراء عالم الشهادة هو شيء ذو قوة مدبرة مؤثرة؛ حتى الأقوام الذين عبدوا الأشجار والأنهار والطير والحيوان والإنسان لم يقصدوا بعبادتهم في الحقيقة هياكلها الملموسة؛ وإنما يزعمون أنها مهبط لقوة غيبية أو تجسّد لها أو رمز لها… فأساس الديانات الوثنية الهمجية مبني على ظن الاتصال بعالم الغيب”([12]).

وكثير من أعمال القلوب مبناها على الإيمان بالغيب، ومما تكرّر التأكيد عليه في كلام الله سبحانه وتعالى أن الإيمان بالغيب يورث المؤمنَ خشيته سبحانه وتعالى بالغيب، ولذا كان من أهم صفات المتقين كما قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 48، 49]، فهم يؤمنون بالغيب ويخافون مولاهم بالغيب على الرغم من أن الله سبحانه بالنسبة لهم غيب وما أخبر به من الآخرة غيب أيضا؛ ومع ذلك يؤمنون به ويخشون مولاهم ويخافونه([13])، ولذا أخبر سبحانه أن هذه الصفة من صفات المؤمنين الصادقين المصغين للنصح والإرشاد، قال تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} [فاطر: 18]، فمن أهم صفاتهم أنهم “يخافون عقاب الله يوم القيامة من غير معاينة منهم لذلك”([14]).

ولما كان هذا حالهم جعل لهم الأجر العظيم والثواب الجزيل: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك: 12]، فهذا الأجر العظيم للذين “يخافون ربهم بالغيب، وهم لم يروه”([15])، ومثله قوله تعالى: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق: 32، 33].

ثم إن المولى سبحانه وتعالى شرع كثيرًا من الشرائع والأحكام ليختبر إيمان المؤمن بالغيب، ويرى مدى قابليته للتسليم بما أمره الله سبحانه وتعالى، ومن ذلك على سبيل المثال الصيام، فقد فرضه الله على المسلمين وجعل ثوابه بين العبد وربه، لأنه أمر غيبي لا يمكن أن يطّلع عليه أحد غير الإنسان نفسه، ولذلك جاء في المتَّفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله: كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به»([16])، وجاء ذلك صراحة في نص أوضح حيث قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 94]. والمقصود بالغيب أن يكون الإنسان وحده لا يراه، ولا يعلم به إلا الله سبحانه وتعالى، ومثله حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله؛ فمدار أمرهم على خشية الله سبحانه بالغيب.

هل يمكن أن يُكشَف الغيب؟

سبق أن الغيب نوعان:

فأما الغيب النسبي فهو مكشوفٌ لبعض الناس دون بعض كما سبق.

وأما الغيب المطلق فلا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى؛ ولا يعلمه أحد غيره سبحانه وتعالى، سواء في ذلك الملائكة المقربون والأنبياء المرسلون، فضلا عمن هو في مرتبة أقل منهم، وهو ما أكدته عائشة رضي الله عنها ردا على من زعم في النبي معرفة الغيب، فقالت: (من زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول: ﴿قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلَّا اللهُ﴾ [النمل: 65])([17])، ومثله قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59].

وكان لا بد من هذا التأصيل لأن الغلو في المادية أفرز أفكارا خرافية كالتعلق بالأبراج وما يسمى بالعلاج بخط الزمن والمذاهب الروحية الحديثة وأفكار الطاقة الكونية وغيرها من الأفكار التي ترجم بالغيب بشكل مباشر أو غير مباشر، وليس هذا موضعَ تفصيل هذه المسائل، ولكن القاعدة هنا أن كل طريق يراد به الوصول لعلم الغيب غير طريق الخبر الصادق (الوحي) فغالبه ظنون وتخرصات وتكهنات ما أنزل الله بها من سلطان، ولذا جاء تحريم السحر والكهانة والتنجيم والعرافين.

ولا يعني هذا أن ما يحتاج إليه الإنسان من الغيب لا يمكنه أن يصل إليه، بل عامة ما يحتاجون إليه من الغيوب أخبرنا الله سبحانه وتعالى عنه، وبلَّغه لنا رسول الهدى صلى الله عليه وسلم أتم البلاغ، وبينه أحسن بيان؛ من معرفة الله سبحانه وتعالى وأسمائه الحسنى وصفاته العلى وربوبيته وألوهيته ومعرفة الملائكة وأخبار الرسل، بل قصة بداية الخلق، وعمارة الأرض، وأخبار الأمم الماضية، وما جرى لهم، أو ما كان منه في المستقبل من أنباء آخر الزمان، وعلامات الساعة، وأخبار البعث، والقيامة والمصير، مما فيه صلاح للإنسان وهداية له إلى غايته وعبادته لمولاه، وأحوال عباده وخصومهم أخبرهم به.

يقول ابن القيم (751هـ) رحمه الله: “أعطاهم من الأمور المتعلقة بصلاح معاشهم ودنياهم بقدر حاجاتهم؛ كعلم الطب والحساب، وعلم الزراعة والغراس، وضروب الصنائع، واستنباط المياه، وعلم الأبنية، وصنعة السفن، واستخراج المعادن وتهيئتها لما يراد منها، وتركيب الأدوية، وصنعة الأطعمة، ومعرفة ضروب الحيل في صيد الوحش والطير ودواب الماء، والتصرف في وجوه التجارات، ومعرفة وجوه المكاسب، وغير ذلك مما فيه قيام معاشهم. ثم منعهم سبحانه علم ما سوى ذلك مما ليس من شأنهم، ولا فيه مصلحة لهم، ولا نشأتهم قابلة له؛ كعلم الغيب، وعلم ما كان وكل ما يكون، والعلم بعدد القطر وأمواج البحر وذرات الرمال ومساقط الأوراق، وعدد الكواكب ومقاديرها، وعلم ما فوق السموات وما تحت الثرى، وما في لجج البحار وأقطار العالم، وما يكنه الناس في صدورهم، وما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد، إلى سائر ما حجب عنهم علمه؛ فمن تكلف معرفة ذلك فقد ظلم نفسه، وبخس من التوفيق حظه، ولم يحصل إلا على الجهل المركب والخيال الفاسد في أكثر أمره. وجرت سنة الله وحكمته أن هذا الضرب من الناس أجهلهم بالعلم النافع وقلهم صوابا؛ وترى عند من لا يرفعون به رأسا من الحكم والعلم الحق النا ما لا يخطر ببالهم اصلا، وذلك من حكمة الله في خلقه وهو العزيز الحكيم”([18]).

هل للعاقل أن ينكر الغيب ولا يؤمن إلا بعالم الشهادة؟

الغيب أمر حتميّ بالنسبة للإنسان، ولا يمكنه إنكار وجوده، ومن أجلى وأوضح ما في ذلك نفس الإنسان التي بين جنبيه وروحه التي بها يعيش؛ فالإنسان مكوَّن من شيئين: روح وجسد، وأمر الروح من أمر الله الذي لا يعلم الإنسان عنه شيئا غير أنه به يعيش؛ قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]، فكيف بمن يزعم أن ما لا تدركه الحواس البشرية غير موجودة مع أنه يسلِّم بوجود روحه وعقله وهما غير مدركين ولا محسوسين ولا ماديَّين؟!

ولئن غالط الإنسان نفسَه وزعم أن هذا وإن كان لا يعلمه، إلا أن للعلم الحديث أبحاثا وتجارب وأطروحات حوله، وزعم أنه لم يعد من الغيب، فكيف يقول عن الغيوب التي تغمره في حياته اليومية كمعرفته لرزقه وكسبه في يومه وغده وشهره وحد ذلك؟! فهل يزعم أنه ليس من علم الغيب؟ ثم هل يمكنه أن يعرف حاله في يومه وغده وشهره أيعيش أم يموت؟ ثم إن عاش أيعيش صحيحا معافى أم مريضا مبتلى؟ أيعيش غنيا مقتدرا أم فقيرا محتاجا؟ أيعيش مع أهله وولده أم سيعيش فاقدا؟

ثم هل للإنسان أن ينكر وجود تاريخ بشري عتيق قبله؟ فهل يدَّعي هو علمه ومعرفته بأدواته أم هو من علم الغيب الذي إنما ينكشف بواسطة أخبار المؤرخين والكتاب؟ وهل هو ينكر مثلا وجود أرسطو وأفلاطون وغيرهما؟ وإن كان لا ينكرهم فكيف له أن يعلم وجودهم إلا بخبر صادق؟!

فالانكشاف المعرفي للإنسان بعد أن كان غيبا من أدل الدلائل على وجود الغيب، قال تعالى: {قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُون} [البقرة: 33].

ومن ينكر الغيب فقد أخبر المولى سبحانه وتعالى أنه في الحقيقة منكر لعقله معاند مكابر لفطرته متناقض مع نفسه؛ فعلى الرغم من تضافر الأدلة في واقعهم وفي عقولهم وفي فطرهم بل في أنفسهم، إلا أنهم اختاروا عدم الإيمان، ولو افترضنا أن هؤلاء المعاندين كُشف لهم الغيب فإنهم سيبقون على إنكارهم وعنادهم وتكذيبهم، ولن ينفعهم مشاهدتهم للغيب شيئا في واقع الأمر؛ بل كل ما في الأمر هو فساد قلوبهم واختلال عقولهم ليس إلا، يقول الله تعالى واصفا حالهم: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا المَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا﴾ [الفرقان: 21]، وأخبر سبحانه في موضع آخر عنهم بأنهم لو كُشف لهم الغيب لما آمنوا: ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ﴾ [الأنعام: 111].

وهذا على عكس حال أصحاب القلوب النقية المؤمنة، فمشاهدة الغيب نافعة لأصحاب القلوب السليمة الراغبة في الإيمان المحبة له، حيث تزداد بتلك المشاهدة إيمانا ويقينا كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في المتفق عليه من حديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم»، قال: «فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا» قال: «فيسألهم ربهم وهو أعلم منهم: ما يقول عبادي؟ قالوا: يقولون: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك»، قال: «فيقول: هل رأوني؟» قال: «فيقولون: لا والله ما رأوك؟» قال: «فيقول: وكيف لو رأوني؟» قال: «يقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة، وأشد لك تمجيدا وتحميدا، وأكثر لك تسبيحا»، قال: «يقول: فما يسألوني؟» قال: «يسألونك الجنة»، قال: «يقول: وهل رأوها؟» قال: «يقولون: لا والله يا رب ما رأوها»، قال: «يقول: فكيف لو أنهم رأوها؟» قال: «يقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصا، وأشد لها طلبا، وأعظم فيها رغبة، قال: فمم يتعوذون؟» قال: «يقولون: من النار»، قال: «يقول: وهل رأوها؟» قال: «يقولون: لا والله يا رب ما رأوها»، قال: «يقول: فكيف لو رأوها؟» قال: «يقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فرارا، وأشد لها مخافة»، قال: «فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم»، قال: «يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم، إنما جاء لحاجة، قال: هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم»([19]).

والواقع اليوم عند بعض مفكّري العالم الغربي القائم على الفكر المادي أنهم أدركوا أثر الاعتقاد بالغيب، “ونتج عن ملاحظة الآثار العظيمة للاعتقاد بالغيب عموما المناداة بالعودة إلى الروحانيات من قبل علماء النفس والأطباء وغيرهم في الغرب، وكثرت الأبحاث التي تدرس أثر العبادات والعقائد على الصحة البدنية والنفسيّة، فتغيّرت تبعًا لذلك نظرة كثير من الغربيين إلى الأديان، وإلى من يسمَّون وسطاء روحانيين أو مرشدين روحيّين، الأمر الذي أدى إلى خروجهم بكثرة وبصورة حركات ومؤسسات منظمة في الآونة الأخيرة”([20]).

هل الإيمان بالغيب يعني التسليم الأعمى؟

ولا بد من التأكيد على أنه وإن كانت عامة البشرية مسلِّمة بوجود عالم الغيب ومؤمنة به في الأصل، إلا أنهم ضلوا في ذلك ضلالا مبينًا، وتخبَّطوا فيه أيما تخبُّط؛ مما أسهم في إعراض كثير من العقلاء عن باب الغيب والإيمان به؛ ليس لشيء إلا لأنه غيب عن الإنسان ولا يمكنه أن يصل بمجرد مصادره فيه إلى علم يقيني إلا بخبر يقيني صادق من عالم الغيب، ولا يكون ذلك إلا بوحي من علام الغيوب عالم الغيب والشهادة سبحانه وتعالى.

إذن؛ الخوض في تفاصيل عالم الغيب بمجرد العقل والحسّ هو نقش في بحر وكتابة في وحل؛ لأنهما مصدران قاصران عن تلك التفاصيل، والمصدر الحق الوحيد هو الوحي الإلهي.

ومن هنا لم يترك المولى سبحانه البشرية يتيهون بين الخرافات والخزعبلات والتخرصات؛ فليس المقصود بالإيمان بالغيب أن يؤمن الإنسان بكلّ ما يسمع ويسلّم لكل ما يقال تسليمًا أعمى، وإنما المقصود الإيمان بالغيب الذي ثبت بالبراهين والحجج صدقُ قائله واتصال سنده إلى علام الغيوب سبحانه وتعالى، وهم الرسل الكرام الذين أرسِلوا بالوحي الحقّ المبين والأخبار الصادقة عن عالم الغيب بل وعالم الشهادة.

وهكذا إن كانت البشرية لا بد وأن تؤمن بالغيب فقد علم المولى سبحانه هذه الحاجة البشرية إلى الإيمان بالغيب ومعرفته؛ ولذا جعل لهم سبيلًا آمنا موثوقا يصلون من خلاله إلى الغيبيات ألا وهو الوحي الحق المبين؛ فقد كشف المولى سبحانه وتعالى للمؤمنين جوانب من عالم الغيب؛ يزدادون به إيمانا مع إيمانهم، وتتجلى به عظمته ورحمته وجلال صفاته، ويعينهم به على عبادته، وتطمئن به نفوسهم؛ وذلك من خلال رسله مصابيح الدجى وأنوار الهدى -عليهم صلوات الله وسلامه-، فجاؤوا مبشرين ومنذرين بما فيه صلاح البشرية في عالم الغيب وعالم الشهادة؛ ولم يخل رسول من رسل الله إلا وقد أخبر عن عالم الغيب، بل ولا يوجد دين من الأديان إلا وهو قائم على الإيمان بالغيب.

ولئن كان هذا هو الحال في عامة الملل والنحل فإن الدين المهيمن على الدين كله -وهو الإسلام- جاء في هذا الباب بالحق المبين واليقين الواضح؛ فالإيمان بالغيب هو مبتدأ الإسلام، وعليه تقوم كثير من معتقداته وتشريعاته؛ فهو أساس الإيمان بكثير من العقائد، كما أنه أساس الانقياد للأحكام والتشريعات والأخلاق الإسلامية؛ وعلى سبيل المثال نجد أن أركان الإسلام وأركان الإيمان والإحسان قائمة على الإيمان بالغيب والتصديق بغيبيات أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم.

ختاما:

الإيمان بالغيب أساس ومفتاح لأسس الإيمان، وبه تستقيم منظومة الإنسان المعرفية وتطمئن قلوبهم وأفئدتهم إن أيقنوا بالحقائق الوجودية الكبرى التي أخبر الله بها الإنسان، ومن أغرق في المادية وكابر عقله وفطرته وواقعه فإن روحه التي بين جنبيه تصرخ فاضحة له بتناقضه، ورزقه وأجله وغده فاضح له بكذبه، فهل له أن يخبرنا عن غيبيات نفسه: ماذا يكسب غدا؟ وبأي أرض يموت؟

وصلَّى الله وسلم على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) ينظر: لسان العرب (1/ 654)، تاج العروس للزبيدي (3/ 501)، النهاية في غريب الحديث، ابن الأثير (3/ 399)، جامع البيان (1/ 237)، تفسير السمعاني (1/ 43) التفسير البسيط، الواحدي (2/ 70 وما بعدها).

([2]) ينظر: تفسير السعدي (ص: 40-41).

([3]) ينظر: أضواء البيان (1/ 176).

([4]) التحرير والتنوير (1/ 230).

([5]) معيار العلم في فن المنطق للغزالي (ص: 90).

([6]) نقلا عن: الدين، محمد عبد الله دراز (ص: ٨٤).

([7]) ينظر: أصول الإيمان بالغيب وآثاره، فوز كردي (ص: 248).

([8]) الإسلام يتحدى لوحيد الدين خان (ص: 47).

([9]) ينظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية (7/ 324)، والمعرفة في الإسلام د. عبد الله القرني (ص: 22 وما بعدها).

([10]) ينظر: تفسير القرطبي (1/ 252).

([11]) مجموع الفتاوى (13/ 233).

([12]) أصول الإيمان بالغيب وآثاره، فوز كردي (ص: 26) بتصرف.

([13]) ينظر: جامع البيان (18/ 454).

([14]) جامع البيان (20/ 456).

([15]) جامع البيان (23/ 511).

([16]) صحيح البخاري (1904)، صحيح (1151).

([17]) أخرجه مسلم (177).

([18]) مفتاح دار السعادة (2/ 800).

([19]) صحيح البخاري (6408)، صحيح مسلم (2689).

([20]) أصول الإيمان بالغيب وآثاره، فوز كردي (ص: 224).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

جديد سلف

آثار الحداثة على العقيدة والأخلاق

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الفكر الحداثي مذهبٌ غربيّ معاصر دخيل على الإسلام، والحداثة تعني: (محاولة الإنسان المعاصر رفض النَّمطِ الحضاري القائم، والنظامِ المعرفي الموروث، واستبدال نمطٍ جديد مُعَلْمَن تصوغه حصيلةٌ من المذاهب والفلسفات الأوروبية المادية الحديثة به على كافة الأصعدة؛ الفنية والأدبية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية…)([1]). ومما جاء أيضا في تعريفه: (محاولة […]

الإيمان بالغيب عاصم من وحل المادية (أهمية الإيمان بالغيب في العصر المادي)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يعيش إنسان اليوم بين أحد رجلين: رجل تغمره الطمأنينة واليقين، ورجل ترهقه الحيرة والقلق والشكّ؛ نعم هذا هو الحال، ولا يكاد يخرج عن هذا أحد؛ فالأول هو الذي آمن بالغيب وآمن بالله ربا؛ فعرف الحقائق الوجوديّة الكبرى، وأدرك من أين جاء؟ ومن أوجده؟ ولماذا؟ وإلى أين المنتهى؟ بينما […]

مناقشة دعوى الإجماع على منع الخروج عن المذاهب الأربعة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فإن طريقة التعامل مع اختلاف أهل العلم بَيَّنَها الله تعالى بقوله: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ ‌أَطِيعُواْ ‌ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ […]

بدعية المولد .. بين الصوفية والوهابية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدّمة: من الأمور المقرَّرة في دين الإسلام أن العبادات مبناها على الشرع والاتباع، لا على الهوى والابتداع، فإنَّ الإسلام مبني على أصلين: أحدهما: أن نعبد الله وحده لا شريك له، والثاني أن نعبده بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فالأصل في العبادات المنع والتوقيف. عَنْ عَلِيٍّ […]

الخرافات وأبواب الابتداع 

[ليس معقولاً، لا نقلاً، ولا عقلاً، إطلاق لفظ «السُّنَّة» على كل شيء لم يذكر فيه نص صريح من القرآن أو السنة، أو سار عليه إجماع الأمة كلها، في مشارق الأرض ومغاربها]. ومصيبة كبرى أن تستمر التهم المعلبة،كوهابي ، وأحد النابتة ، وضال، ومنحرف، ومبتدع وما هو أشنع من ذلك، على كل من ينادي بالتزام سنة […]

ترجمة الشَّيخ د. علي ناصر فقيهي

‏‏للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة ترجمة الشَّيخ د. علي ناصر فقيهي([1]) اسمه ونسبه: هو الشَّيخ الأستاذ الدكتور علي بن محمد بن ناصر آل حامض الفقيهي. مولده: كان مسقط رأسه في جنوب المملكة العربية السعودية، وتحديدا بقرية المنجارة التابعة لمحافظة أحد المسارحة، إحدى محافظات منطقة جيزان، عام 1354هـ. نشأته العلمية: نشأ الشيخ في مدينة جيزان […]

مناقشة دعوَى أنّ مشركِي العرب جحدوا الربوبية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: اعتَمَد بعضُ الأشاعرةِ في العصور الحديثةِ على مخالفة البدهيات الشرعية، وتوصَّلوا إلى نتائج لم يقل بها سلفُهم من علماء الأشعرية؛ وذلك لأنهم لما نظروا في أدلة ابن تيمية ومنطلقاته الفكرية وعرفوا قوتها وصلابتها، وأن طرد هذه الأصول والتزامَها تهدم ما لديهم من بدعٍ، لم يكن هناك بُدّ من […]

حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية في الإسلام

  إنَّ حريةَ الاعتقاد في الإسلام تميَّزت بتفاصيل كثيرة واضحة، وهي تعني أن كلَّ شخص حرّ في اختيار ما يؤمن به وما يدين به، ولا يجب على أحدٍ أن يُكرهَه على اعتقاده، كما تعني الاحترامَ لحرية الآخرين في اختياراتهم الدينية والمعتقدات الشخصية. موقفُ الإسلام من الحرية الدينية: الأصلُ عدمُ الإجبار على الإسلام، ولا يُكره أحد […]

دفع إشكال في مذهب الحنابلة في مسألة حَلِّ السِّحر بالسحر

  في هذا العصر -عصر التقدم المادي- تزداد ظاهرة السحر نفوذًا وانتشارًا، فأكثر شعوب العالم تقدّمًا مادّيًّا -كأمريكا وفرنسا وألمانيا- تجري فيها طقوس السحر على نطاق واسع وبطرق متنوعة، بل إن السحر قد واكب هذا التطور المادي، فأقيمت الجمعيات والمعاهد لتعليم السحر سواء عن طريق الانتظام أو الانتساب، كما نظمت المؤتمرات والندوات في هذا المجال. […]

الفكر الغنوصي في “إحياء علوم الدين” لأبي حامد الغزالي وموقف فقهاء ومتصوفة الغرب الإسلامي منه

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة بسم الله الرحمن الرحيم لا تخفى المكانة التي حظي بها كتاب إحياء علوم الدين عند المتصوفة في المغرب والأندلس، فكتب التراجم والمناقب المتصوفة المغربية المشهورة، شاهدة على حضور معرفي مؤثر ظاهر لهذا الكتاب في تشكيل العقل المتصوف وتوجيه ممارسته، وأول ما يثير الانتباه فيه، هو التأكيد على الأثر المشرقي […]

لماذا أحرق أبو بكر وعمر الأحاديث؟

تمهيد: يلتفُّ بعض فرق المبتدعة حول الحداثيين والعلمانيين، ويلتفُّ العلمانيون ومن نحى نحوهم حول هذه الفرق، ويتقاطع معهم منكرو السنَّة ليجتمعوا كلّهم ضدَّ منهج أهل السنة والجماعة في تثبيت حجية السنة والأخذ بها والعمل بها والذبِّ عنها. وبالرغم من أنّ دوافع هذه الفرق والطوائف قد تختلف، إلا أنها تأخذ من بعضها البعض حتى يطعنوا في […]

هل كان ابن فيروز وغيره أعلم من ابن عبد الوهاب بمنهج ابن تيمية؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة يعتمد المخالفون على أن مناوئي الدعوة -من الحنابلة- كانوا معظِّمين لابن تيمية وابن القيم، بل وينتسبون إليهم أيضًا؛ كابن فيروز وابن داود وابن جرجيس، ويعتبرون ذلك دليلًا كافيًا على كونهم على مذهب ابن تيمية، وعلى كون الشيخ محمد بن عبد الوهاب بعيدًا عن منهج الشيخين ابن تيمية وابن القيم. […]

ترجمة الشَّيخ د. عمر حسن فلاته (محدث الحرمين الشريفين وأول من نال شهادة الماجستير في المملكة العربية السعودية)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة ترجمة الشَّيخ د. عمر حسن فلاته([1]) محدث الحرمين الشريفين وأول من نال شهادة الماجستير في المملكة العربية السعودية   اسمه ونسبه: هو محدث الحرمين الشريفين الشَّيخ الدكتور أبو ميْسُون عُمر بن حسن بن عثمان بن محمد الفُلَّاني المدني المالكي، المعروف بـ(عمر حسن فلاته)([2]). مولده: ولد الشَّيخ في المدينة المنورة […]

ترجمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده والصلاة على من لا نبي بعده.  وبعد: فهذه ترجمة للشيخ محمد بن عبد الوهاب أخذتها من كتاب زعماء الإصلاح للكاتب والأديب المصري الراحل أحمد أمين، وقد ضمنتها بعض التعاليق التي تبين الوجهة الصحيحة من الشيخ وما في زمانه من أحداث، وتتميز […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017