مناقشة دعوى بِدعية تقسيم التوحيد
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
مقدّمة:
إن معرفة التوحيد الذي جاء به الأنبياء من أهم المهمّات التي يجب على المسلم معرفتها، ولقد جاءت آيات الكتاب العزيز بتوحيد الله سبحانه في ربوبيته وأنه الخالق الرازق المدبر، قال تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]، كما أمر الله تبارك وتعالى عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، والقرآن الكريم من أوله إلى آخره تضمن أنواع التوحيد، من أول الفاتحة إلى سورة الناس وهي آخر سورة في القرآن.
ففي سورة الفاتحة: {الْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 2-4] وهو توحيد الربوبية، وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] هو توحيد الألوهية.
وفي سورة الناس: {قُل أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ} [الناس: 1] توحيد الربوبية، وقوله: {إِلَٰهِ ٱلنَّاسِ} [الناس: 3] توحيد الألوهية.
ومن المحال أن يذكر الله عز وجل كلمتين في نفس السياق لهما نفس المعنى بالمطابقة دون أن تضيف الأخرى معنًى زائدًا، وإلا كان القرآن عريًّا من الإعجاز والبلاغة، ولو صنع هذا الصنيع شاعر أو أديب لنسبه أهل البلاغة إلى ركاكة الأسلوب بتكرار الكلام دون فائدة، فكيف يُظن برب العالمين ذلك؟! تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
ويتجلى التوحيد بأقسامه الثلاثة في قوله تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65]، فقوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} توحيد الربوبية، وقوله: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} توحيد الألوهية، وقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} هو توحيد الأسماء والصفات، أي: لا شبيه له في ذاته ولا صفاته([1]).
ولقد زاد السجال في الفترة الأخيرة في مسألة تقسيم التوحيد إلى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وقد صُنفت فيه التصانيف، وزادت فيها الردود والسجالات العلمية حتى زعم بعض المتأخرين -كالزيني دحلان وأبي حامد مرزوق ويوسف الدجوي وغيرهم- أنه تقسيم مبتدَع منِ اختراع ابن تيمية، وكان آخر هذه التصانيف ما صنفه أحد المعاصرين بعنوان: (البراهين الشرعية على بدعة توحيد المشركين في الربوبية)، وهو كتاب تضمن فواقرَ لم يَكن يُتصوَّر صدورها في كتاب تم تقديمه من لفيف من المنسوبين إلى العلم، وكأنهم لم يقرؤوا الكتاب أو يتأملوا ما جاء فيه من مضامين.
وفي هذه الورقة العلمية بيانُ من قال بهذا التقسيم من الأشاعرة وغيرهم، وبيانُ موارد الغلط وسوء الفهم عند بعض المعاصرين، وسينتظم الحديث في النقاط التالية:
1- تقسيم التوحيد اصطلاحيّ استقرائيّ.
2- تقسيم المتكلمين للتوحيد إلى ثلاثة أقسام.
3- سبب نقد الأشاعرة في العصور المتأخرة لتقسيم التوحيد.
4- سوء فهم بعض الأشاعرة لكلام شيخ الإسلام ابن تيمية.
5- مغالطة بعض الأشاعرة في معنى الرب والإله.
6- هل انفرد ابن تيمية بتقسيم التوحيد؟
وهذا أوان الشروع في المقصود.
مركز سلف للبحوث والدراسات
أولا: تقسيم التوحيد اصطلاحيّ استقرائيّ:
إن تقسيم التوحيد إلى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية مما تضافرت به آيات الكتاب العزيز والسنة المطهرة وآثار السلف الصالحين، ولذلك لم يعترض على هذا التقسيم العلماء السابقون، بل قرروه في كتب التوحيد، وذكروه في كتب التفسير وشروح الحديث، وهو تقسيم اصطلاحي استقرائي لا مشاحة فيه.
يقول بكر أبو زيد في رده على منكري تقسيم التوحيد: (هذا التقسيم الاستقرائي لدى متقدمي علماء السلف أشار إليه ابن منده، وابن جرير الطبري، وغيرهما، وقرره شيخا الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وقرره الزبيدي في تاج العروس، وشيخنا الشنقيطي في أضواء البيان، وآخرون، رحم الله الجميع، وهو استقراءٌ تامٌّ لنصوص الشرع، وهو مطّرد لدى أهل كل فن، كما في استقراء النحاة كلام العرب إلى (اسم، وفعل، وحرف)، والعرب لم تفه بهذا، ولم يعتب على النحاة في ذلك عاتب”([2]).
بل إن المعاصرين لشيخ الإسلام ابن تيمية لم يؤثَر عنهم نقدهم لهذا التقسيم، رغم أنهم أخذوا عليه مسائل مشهورة مثل مسألة التوسل والزيارة وفتوى الطلاق ونحو ذلك، إلا أنهم لم يؤثر عنهم أي انتقاد له على تقسيم التوحيد، وكان في عصره كبار الأصوليين ممن كانوا يناقشونه في حضرة الأمراء، كالسبكي وابن الوكيل وبدر الدين بن جماعة وابن دقيق العيد وغيرهم، وما كانوا يتركون شيئًا مما يخالفهم فيه إلا وناقشوه فيه، ومع ذلك لم نعهد منهم إنكار تقسيم التوحيد إلى ألوهية وربوبية في أيٍّ من مؤلفاتهم، ولا ذكَر ذلك التقيّ السبكي رغم عداوته لابن تيمية وحرصه على بيان أخطائه؛ وذلك لأنهم يعلمون أنه تقسيم اصطلاحي، ومعناه صحيح لا مشاحة فيه. ولكن لمَّا قلَّ العلم في العصور المتأخرة وأصبح العلم لمحض المناكفات أثار بعض المعاصرين مسائل لم يثِرها سلفُهم.
وانظر إلى إنصاف الشيخ عبد الفتاح أبي غدة الماتريدي في قوله: “وأما تقسيم التوحيد إلى ما ذكره هؤلاء الأئمة -شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، والشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى- إلى توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية فهذا تقسيم اصطلاحي استقاه العلماء مما جاء في الكتاب والسنة في مواضع لا تحصَى مما ردّ الله تعالى به على المشركين الذين كانوا يؤمنون بتوحيد الربوبية دون توحيد الألوهية، وفي سورة الفاتحة التي يقرؤها المسلم في صلاته مرات كل يوم دليل على ذلك: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}”([3]).
وانظر أيضًا إلى قول الشيخ حسن أيوب الأزهري الأشعري في كتابه الشهير (تبسيط العقائد الإسلامية) والذي كتبه على المذهب الأشعري، قال بعد أن قسَّم التوحيد إلى الربوبية والألوهية: “والتوحيد بالمعنى الأول -أي: الربوبية- لم يكن مثارَ جدال ونقاش بين المسلمين والمشركين، فإنّ المشركين كانوا يؤمنون بوجود الله تعالى، وبأنه الخالق الرازق المدبر المهيمن المالك للسموات والأرض كما أخبرنا القرآن الكريم”([4]).
وتأمل قول مُرْتَضى الزَّبيديّ الأشْعَريّ الماتُريديّ: “التّوحيد توحيدان: توحيد الرّبوبيّة، وتوحيد الإلهيّة، فصاحب توحيد الرّبانيّة يشهد قيّوميّة الرّبّ فوق عرشه، يدبّر أمر عباده وحده، فلا خالق ولا رازق ولا معطي ولا مانع ولا محيي ولا مميت ولا مدبّر لأمر المملكة ظاهرًا وباطنًا غيره، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا تتحرّك ذرّةٌ إلّا بإذنه، ولا يجوز حادثٌ إلّا بمشيئته، ولا تسقط ورقةٌ إلّا بعلمه، ولا يعزب عنه مثقال ذرّةٍ في السّموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلّا وقد أحصاها علمه، وأحاطت بها قدرته، ونفذت فيها مشيئته، واقتضتها حكمته. وأمّا توحيد الإلهيّة فهو أن يجمع همّته وقلبه وعزمه وإرادته وحركاته على أداء حقّه، والقيام بعبوديّته)([5]).
فانظر إلى قول العلامة الزبيدي عن التوحيد وأنه قسمان؛ تعرف من ذلك تلبيس بعض المعاصرين في محاولتهم إهدار هذا القسم، مع كونه حقيقة العبودية لله عز وجل.
ثانيا: تقسيم المتكلمين للتوحيد إلى ثلاثة أقسام:
من المفارقات أن يرى المعترض تقسيم التوحيد إلى ربوبية وألوهية بدعة تيميَّة، والعلة عنده هي ذات التقسيم لا مضمون التقسيم، وحجته في ذلك أن التوحيد لا ينقسم إلى أقانيم -بحسب تعبيره-، وفي الوقت نفسه يتجاهل أن متكلمي الأشاعرة قد قسموا التوحيد إلى ثلاثة أقسامٍ أيضًا وهي: 1- توحيد الذات، 2- توحيد الصفات، 3- وتوحيد الأفعال. وهذه الأقسام داخلة تحت معنى الربوبية، ومع ذلك قسموها إلى أقسام!
قالَ السَّنوسيُّ: (أوجه الوحدانيّة ثلاثةٌ: وحدانيّة الذّات، ووحدانيّة الصّفات، ووحدانيّة الأفعال، وكلّها واجبةٌ لمولانا جلّ وعزّ وحده؛ فوحدانيّة الذّات تنفي التّركيب في ذاته تعالى، ووجود ذاتٍ أخرى تماثل الذّات العليّة، وبالجملة فوحدانيّة الذّات تنفي التّعدّد في حقيقتها متّصلًا كان أو منفصلًا، ووحدانيّة الصّفات تنفي التّعدّد في حقيقة كلّ واحدةٍ منها متّصلًا أيضًا كان أو منفصلًا، فعلم مولانا جلّ وعزّ ليس له ثانٍ يماثله لا متّصلًا أي: قائمًا بالذّات العليّة، ولا منفصلًا أي: قائمًا بذاتٍ أخرى؛ بل هو تعالى يعلم المعلومات الّتي لا نهاية لها بعلمٍ واحدٍ لا عدد له ولا ثاني له أصلًا، وقس على هذا سائر صفات مولانا جلّ وعزّ، ووحدانيّة الأفعال تنفي أن يكون ثمّ اختراعٌ لكلّ ما سوى مولانا جلّ وعزّ في فعلٍ من الأفعال”([6]).
فلو كان محض التقسيم بدعة لذاته لا لمعناه -كما هو ظاهر اعتراض المتأخرين- فلماذا لا يكون تقسيم الأشاعرة يدخل في باب البدعة أيضًا؟!
فإن قالوا: إن تقسيم الأشاعرة معناه صحيح؛ نقضوا بذلك أصلهم الذي بنوا عليه بدعية التقسيم لذاته لا لمعناه، ورجعوا إلى قولنا بالنظر إلى المعنى لا إلى مجرد التقسيم، وحينئذٍ ينكشف وجه المغالطة.
وإن قال المعترض: سلمنا لكم أن معنى التقسيم صحيح، لكنَّ غرض ابن تيمية من هذا التقسيم هو تكفير المسلمين؛ ولذلك نحن نرفض هذا التقسيم.
فالجواب: أن هذا فيه خروج عن محل النزاع، ويظهر بجلاء أن المعارضين تدفعهم المغالطات الانطباعية، إذ المعارض يقرُّ أنه تقسيم صحيح، غير أنه يرفضه خوفًا من أمرٍ يزعم أن مخالفه يبطنه في نفسه. وتلك مغالطة معروفة في علم المنطق، وهو إبطال قضية صحيحة خوفًا من قضيةٍ أخرى. وكان ينبغي على المُغالط مناقشة محل النزاع دون التعرض لتقاسيم صحيحة.
فمحل النزاع ينبغي أن يكون في توصيف ممارسات القبورية، وهل تدخل في مُسمى العبادة أم لا، لكن لا ينبغي أن يكون النزاع في إنكار وجود توحيد الألوهية رأسًا.
ولو قال المعارض: نحن نرفض التقسيم لأن ابن تيمية زعم أن مشركي قريش أقروا بالربوبية.
قلنا: بغضّ النظر عن أنه لا خصوصية لابن تيمية بهذا القول -كما سيأتي-، لكن ومع ذلك نقول: حتى هذه المسألة لا علاقة لها بصحة التقسيم من عدمه، فإن البحث في عقائد مشركي الجاهلية يدخل في باب: (نسبة الأقوال إلى قائليها)، فلو قبِلنا البحث فيها جدلًا فهي قضية تُدرس في كتب الملل والنحل والأديان، كمن ينسب المجوس إلى عبادة النار مثلًا أو من ينسبهم إلى تقديس النار دون عبادتها، وغير ذلك من الأقوال التي محلها كتب الملل والأديان، فلو فرضنا جدلًا أن المجوس ما كانوا يعبدون النار، فلا يُفهم من ذلك تسويغ عبادة النار أو التساهل في عبادتها.
والحاصل أن البحث في اعتقاد طوائف الجاهلية هو بحث في نسبة الأقوال إلى قائليها، ولا يعني بالضرورة إنكار توحيد الألوهية أو التساهل فيه، ولا يعني أن المشركين لم يُشركوا في الألوهية أيضًا. فالربط بين المسألتين خلل في البحث العلمي.
ومن تلك الآثار الانطباعية أيضًا في نقض تقسيم التوحيد أن أحد شيوخهم المعاصرين اعترض على تقسيم ابن تيمية، ثم برر اعتراضه بأن ابن تيمية مال في توحيد الصفات إلى التجسيم، ولم يستطع إجراء بعض نصوص الصفات على ظواهرها مثل قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] وتأولها([7])، والسؤال هنا: ما علاقة تجسيم ابن تيمية أو تناقضه في باب الصفات بتقسيم التوحيد؟! أليس الأشاعرة قد نصوا في تقسيمهم الثلاثي على توحيد الصفات أيضًا؟!
الحاصل أنه مما سبق يظهر جليًّا أن المعاصرين قد بنوا نقدَهم على الانطباعات النفسيَّة المُسبَّقة، لا النقد المعرفي البنّاء الذي يهدف إليه البحث العلمي، ولو أخذ البحث العلمي مجراه بعلمٍ وعدالـة، مع إخلاص النية لله عز وجل، لظهر الإنصاف يُكلل هذه البحوث التي يزعمون أنهم علمية.
والحاصل أن الأقسام الثلاثة للتوحيد التي ذكرها المتكلمون (توحيد الذات، وتوحيد الصفات، وتوحيد الأفعال) قد استنبطوها من النظر في أدلة الحدوث ودليل الأعراض والأجسام كما نصوا على ذلك في كتبهم. وكل باحثٍ منصف تأمل تقسيم التوحيد إلى (ربوبية وألوهية) سيجده أكثر لصوقًا بالنصوص القرآنية والنبوية، ومصطلحات السلف والمفسرين الذين نصوا على هذين النوعين باللفظ الصريح تارة، وبالإشارة تارة أخرى، فضلًا عن يسر مفهومه وسهولته، وموافقته للفطرة والعقل.
ولما كان تقسيم المتكلمين بدعة كلامية محدثة، لا دليل عليه من الكتاب والسنة، فضلًا عن إيجابهم النظر في أدلة كلامية معقّدة، وتركهم المصطلحات الشرعية التي تتضمّن حقيقة الإسلام ويُسره وسهولته، فلم يكن من ابن تيمية بُدٌّ من رد هذا التقسيم المُحدث بنشر تصنيف السلف لأنواع التوحيد وإذاعته، وتركيز الضوء على أدلته المبنية في جوهرها على الأصول القرآنية والنبوية.
ثالثا: سبب نقد الأشاعرة في العصور المتأخرة لتقسيم التوحيد:
الذي يبدو أن اعتراض بعض شيوخ الأشاعرة في العصور المتأخرة -بعد دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب- على هذا التقسيم سببه الرئيس التبرير لعبَّاد القبور؛ وذلك لأنهم لما نظروا وتحقّقوا من أفعال عباد القبور ووجدوا أن فيها من معاني الألوهية والافتقار لغير الله، وأن نفيهم دخول هذه الممارسات في مسمى العبادة من التكلف والمكابرة؛ فلأجل ذلك اعتبروا أن الشرك الأكبر لا يكون إلا بالشرك في الربوبية فقط، وأن ما سوى ذلك من توجيه الدعاء لغير الله ليس شركًا أكبر، وحتى يتقبَّل الناس هذا الرأي الشاذ المخالف للفطرة أرادوا أن يجعلوا تقسيم التوحيد رأيًا شاذًّا لابن تيمية، مع فهمهم المقلوب لكلام بعض علماء المسلمين في مسألة التوسل بالصالحين، وظنوهم يُبيحون الشرك في الألوهية -وحاشاهم من ذلك-.
وبسبب هذا الفهم المقلوب وسوء التصور للمسائل خرجوا بنتيجة ظنوها صحيحة، وهي أن نقض تقسيم التوحيد سوف يُبيح لهم طلب الحوائج من غير الله عز وجل، أو على الأقل سيمنع من تكفير من دعا غير الله. والأمر ليس كذلك كما سنبيِّن إن شاء الله.
ونحن نطالبهم بنصّ واحد لأحد أئمة المسلمين أيًّا كان مذهبه -سواء كان من الأشاعرة أو غير الأشاعرة- قال بأن دعاء غير الله أو عبادة غير الله ليس شركًا، ودون ذلك خرط القتاد. فجميع المسلمين متّفقون على أن عبادة غير الله من أعظم الشرك، لا يجادل في ذلك إلا زنديق لا يعرف دين الإسلام.
ولذلك يُشير الدكتور عبد الرحيم بن صمايل السلمي إلى نتيجة مهمّة تخص حقيقة مذهب المعاصرين، فيقول: “وهنا ينبغي أن نتنبَّه لأمرٍ مهمّ وهو أن خلاف هؤلاء في تقسيم التوحيد وادعاءَهم بدعيته، وأنه من بدع ابن تيمية ومن سار على منهجه ليس خلافًا في التقسيم الفني بحيث يكون لفظيًا؛ لأنهم ينكرون أن يتعلّق التوحيد بأفعال العباد وإرادتهم وأقوالهم، فيقع الشرك كما يقع في اعتقاد شريك مع الله تعالى في الخلق والرزق والتدبير. كما أن الخلاف ليس خلافًا للتقسيم لذاته؛ لأنهم -كما تقدَّم- يقسمون التوحيد نفسه إلى: (واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له)، وقد يُعبِّرون عنه بتقسيمٍ ثنائي آخر وهو: (نفي الكميَّة المتّصلة، ونفي الكمية المنفصلة)، كما أنهم يقسمون المعاني في سائر العلوم إلى أقسام متعددة، فهم إذن لا يرون أن محضَ التقسيم بدعة في ذاته. إذن الدافع لنفي التقسيم هو وجود قسم في التوحيد يمنعهم من الاستغاثة بغير الله والنذر لغير الله والذبح لغيره وتعظيم المشاهد والقبور”([8]).
والذي انتهى إليه الدكتور السلمي هو الدافع المنطقيّ والوحيد لإنكار المعاصرين لهذا التقسيم؛ لأنك كما ترى أن للمعاصرين تبريرات غير مفهومة لإنكار التقسيم، فتارة يقولون: إن القول بقسم الألوهية يترتب عليه تكفير المسلمين، ثم يتناقضون ويقولون: لا، بل نحن نقول بتوحيد الألوهية وابن تيمية افترى علينا، وتارة ثالثة: التقسيم باطل لأن ابن تيمية مُشبِّه في باب الصفات. إلى آخر المبررات التي هي بعيدة عن محل النزاع أصلًا. وهكذا كل من عارض ما جاء به الله ورسوله سيقع في التناقض ولا بد.
وتأمل قول زيني دحلان: “وأما جعلهم التوحيد نوعين: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية فباطل؛ فإن توحيد الربوبية هو توحيد الألوهية، ألا ترى إلى قوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]، ولم يقل: ألست بإلهكم، فاكتفى منهم بتوحيد الربوبية، ومن المعلوم أن من أقر لك بالربوبية فقد أقر له بالألوهية”([9]).
وهنا أخطأ الزيني دحلان خطأً فاحشًا بسبب العصبية والحميَّة في الرد؛ فإن من أقر بالألوهية أقر بالربوبية، دون العكس؛ لأن هناك طوائف من الربوبيين والفلاسفة يقرون بوجود الصانع الحكيم، ولكن لا يعبدونه.
ولذلك يقول الملا علي القاري الماتريدي: “والحاصل أنه يلزم من توحيد العبودية توحيد الربوبية دون العكس في القضية؛ لقوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر: 38]، بل غالب سور القرآن وآياته متضمنة لنوعي التوحيد، بل القرآن من أوله إلى آخره في بيانهما”([10]).
ويقول الشيخ البيجوري في تفسير الحمد لله رب العالمين، يقول: “يشير إلى تقرير توحيد الربوبية المترتّب عليه توحيد الألوهية، المقتضي من الخلق تحقيق العبودية”([11]).
وكلام الملا القاري والبيجوري يدلّ على أن اللفظتين مختلفتين، وأن توحيد الألوهية نتيجة مترتبة على توحيد الربوبية، دون العكس، وإذا تأمل القارئ المنصف كلام الزيني دحلان، ثم كلام القاري والبيجوري، سيتبيَّن له أن بعض الأشاعرة في العصور المتأخرة بسبب حميَّة الرد على الوهابية قد التزموا لوازم وفرَّعوا أصولًا لم يقل بها من سبقهم.
رابعًا:سوء فهم بعض الأشاعرة لكلام شيخ الإسلام ابن تيمية:
مِن أهمّ الأمور التي ينبغي على الباحث مراعاتها تمام المراعاة تصوّرُ مذهب ابن تيمية تصورًا صحيحًا، وتحميل كلامه محملًا مستقيمًا يتّسق مع أصوله وقواعده، دون الانجرار إلى لوازم لم يفُه بها ابن تيمية، أو تقليد بعض الشيوخ ممن لم يفهموا كلامَ ابن تيمية على وجهه، وحمَّلوه ما لا يحتمل.
ويُمكن إيجاز سوء تصوُّر بعض الأشاعرة لكلام ابن تيمية فيما يلي:
1- زعمهم أن ابن تيمية يقول بأن إيمان المشركين بالربوبية كان صحيحًا:
وهذا الكلام خاطئ، ويُمثل سوء تصور لمذهب شيخ الإسلام رحمه الله، فلم يقل ابن تيمية -ولا حتى الوهابية- أن المشركين قد سلموا في باب الربوبية، وأن إيمانهم بالربوبية كان صحيحًا بشكلٍ تامٍّ وكامل، بل قال: (أقروا بالربوبية)، والإقرار الجُملي لا يلزم منه السلامة من كل وجه. وبيان ذلك من وجهين:
الوجه الأول: لأن الربوبية تقتضي الألوهية، فمن أشرك في الألوهية فلا بد وأن يكون إيمانه بالربوبية فيه نوع إخلالٍ أيضًا، وإن أقرَّ بها إجمالًا. فالداعي لغير الله عز وجل ظن أن المخلوق يقدر على الرزق وإبراء المرضى وتفريج الكربات مشاركةً مع الله في ربوبيته، فحصل خلل في الربوبية أيضًا من هذه الجهة.
يقول السهسواني: “وأصل تقريرهم [أي: الوهابية]: إنا نرى كثيرًا من العامة وبعض الخواص يأتون بألفاظ دالة دلالة مطابقة على أنهم يعتقدون التأثير لغير الله تعالى، ويطلبون من الصالحين أحياءً وأمواتًا أشياء لا يقدر عليها إلا الله… وبعد ملاحظة أصل تقريرهم، فوجه التكفير ظاهر، فإن اعتقاد تأثير غير الله كفر صريح، والدعاء والنذر والنحر عبادة، وعبادة غير الله شرك وكفر”([12]).
ويقول ابن تيمية أيضًا مؤكدًا هذا المعنى: “فالإله الذي هو مراد لنفسه إن لم يكن ربًّا امتنع أن يكون معبودًا لنفسه، ومن لا يكون ربًّا خالقًا لا يكون مدعوًّا مطلوبًا منه مرادًا لغيره؛ فلأن لا يكون معبودًا مرادًا لنفسه من باب الأولى، فإثبات الإلهية يوجب إثبات الربوبية، ونفي الإلهية يوجب نفي الربوبية؛ إذ الإلهية هي الغاية، وهي مستلزمة للبداية كاستلزام العلة الغائية للفاعلية”([13]).
بل وينسب ابن تيمية كثيرًا من مشركي العرب إلى الشرك في بعض الربوبية ويقول: فإن هؤلاء ونحوهم يثبتون أمورًا محدثة بدون إحداث الله تعالى إياها، فهم مشركون في بعض الربوبية، وكثير من مشركي العرب وغيرهم قد يظن في آلهته شيئًا من هذا، وأنها تنفعه وتضره، بدون أن يخلق الله ذلك. فلما كان هذا الشرك في الربوبية موجودًا في الناس بيَّن القرآن بطلانه، كما في قوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91]”([14]).
الوجه الثاني: أن إيمان المشركين بالربوبية لم يكن كاملًا في جميع أبواب الربوبية؛ بل كان عندهم شك في قدرة الله تعالى على البعث، ولذا أنكروا البعث يوم القيامة، قال الله جل جلاله: {زَعَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ} [التغابن: 7]، وكانوا ينسبون بعض الحوادث للدهر، وكانوا يئدون البنات لأنها مدعاة للفقر، وينسبون إنزال المطر لبعض الأنواء، وكانوا يتطيرون، إلى غير ذلك من الأمور التي تقدح في توحيد الربوبية. وكل هذه الأمور ذكرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب بأدلتها في كتابه (التوحيد)، وذكر أنواع شرك الربوبية الذي كان عند المشركين.
والمشركون وإن كانوا يتفاوتون في هذه الاعتقادات وليسوا على اعتقادٍ واحد، لكنهم -ومع ذلك- أقروا بوجود الله وأنه هو الخالق والرازق والمدبر للسماوات والأرض.
والقصد مما سبق: أن إلزام ابن تيمية للمتكلمين كان في باب إثبات الصانع فقط؛ لأن محض إثبات وجود الصانع بالأدلة الكلامية وجعله غاية التوحيد هو مما أقر به المشركون، وليس إلزام ابن تيمية إياهم في جميع أبواب الربوبية، كالإيمان بالبعث ونسبة بعض الحوادث للدهر ونحو ذلك، وابن تيمية يعلم أن لديهم إخلالًا في بعض مباحث الربوبية، فينبغي التنبه لهذه النكتة.
وليس ابن تيمية هو أول من ألزم المتكلمين بذلك، بل سبقه أئمة أهل الحديث أيضًا عند كلامهم عن المرجئة والجهمية.
يقول الآجري: “من قال: الإيمان: المعرفة، دون القول والعمل، فقد أتى بأعظم من مقالة.. ويلزم أن تكون اليهود -لمعرفتهم بالله وبرسوله- أن يكونوا مؤمنين، قال الله عز وجل: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146]، فقد أخبر عز وجل أنهم يعرفون الله تعالى ورسوله. وقد علمنا أن أهل الكفر والشرك قد عرفوا بعقولهم أن الله خلق السموات والأرض وما بينهما، ولا ينجيهم في ظلمات البر والبحر إلا الله عز وجل، وإذا أصابتهم الشدائد لا يدعون إلا الله، فعلى قولهم أن الإيمان المعرفة كل هؤلاء مثل من قال: الإيمان: المعرفة. على قائل هذه المقالة الوحشية لعنة الله…”([15]).
وفي النص السابق يقرر الإمام الآجُرِّي أن اليهود والنصارى بل ومشركي العرب مؤمنون على مذهب المرجئة؛ لأنهم قد عرفوا وأقروا بربوبية الخالق. وهو من الآجري من باب الإلزام لبيان شناعة قولهم، ولا يلزم من ذلك أن الجهمية والمرجئة يلتزمون هذا اللازم.
2- زعمهم أنّ ابن تيمية نسب الأشاعرة إلى إباحة عبادة غير الله عز وجل:
أساء المخالفون من المعاصرين فهم شيخ الإسلام ابن تيمية في نقده للمتكلمين، إذ ظنوا أن ابن تيمية يرى أن الأشاعرة يبيحون صرف العبادة لغير الله، وأن عبادة غير الله عندهم ليست من الشرك، وهذا خلل في فهم كلامه رحمه الله؛ فإن الذي يُبيح عبادة غير الله لا شك أنه كافر، فكيف يُظن بابن تيمية نسبة ذلك إلى الأشاعرة مع ما عُرف عنه من العلم والعدل والإنصاف؟!
وقد نقل ابن تيمية عن أشاعرة زمانه رفضَهم لقول القبورية، بل ذكر أن البَكري طاف بجوابه على أهل العلم طالبًا منهم أن يوافقوه على طلب الحوائج من الأولياء فلم يوافقوه، ونزههم عن هذا القول القبيح. يقول شيخ الإسلام: “وقد طاف -أي: البكري- بجوابه على علماء مصر ليوافقه واحد منهم فما وافقوه، وطلب منهم أن يخالفوا الجواب الذي كتبته فما خالفوه.. بل عامتهم وافقوا على منع الاستغاثة به، بمعنى أن يُطلب منه ما لا يقدر عليه”([16]).
وابن تيمية كان مُعظِّمًا لعلماء زمانه من المشايخ والعلماء والقضاة، وثناؤه عليهم وثناؤهم عليه ومواقفه معهم أشهر من أن تُذكر، ومعلوم أن أكثرهم كانوا من الأشاعرة أو المتأثرين بهم، فهل كان ابن تيمية يمدح من يراهم يبيحون الشرك في العبادة؟! سبحانك هذا بهتانٌ عظيم.
فكان الواجب على المعاصرين استصحاب هذه المقدمة البدهية قبل الخوض في الشيخ رحمه الله والتشنيع عليه هو وأتباعه بمثل ذلك.
إذن ما دام المتكلمون يقرون بتوحيد العبادة فما مقصوده بنقد المتكلمين؟
الجواب أن مصدر الخلل عند المعاصرين في فهم ابن تيمية أنهم لم يُفرقوا بين مقامين:
1- مقام بيان خطأ المتكلمين من حيث التأصيل الكلامي النظري.
2- مقام التزام هذا الخطأ الكلامي النظري وما يُبنى عليه من لوازم، وإن لم يلتزمها أصحابها.
وبيان ذلك أن المتكلمين وإن أخطؤوا في التقرير الكلامي للتوحيد، إلا أنهم يقرُّون بتوحيد العبادة عمليًّا أو ضمنيًّا، وينصون عليه في كتبٍ أخرى، كالتفاسير وشروح الحديث ونحوها من الكتب التي يتحرر فيها العالم، ويُعمل نظره وفهمه لروح الشريعة.
لكنَّ الإقرار الضمنيّ لا يمنع من بيان خطأ التقرير المدرسي؛ وعليه فلا وجه لقول القائل: إنَّ ابن تيمية قد ظلم المتكلمين وافترى عليهم، والقائل بذلك ساذج الطرح، ولم يفهم المأخذ الرئيس من النقد؛ وذلك لأن الخطأ يبقى خطأً حتى وإن لم يلتزمه صاحبه دائمًا وأبدًا. فتعريف التوحيد في الكتب التي خُصَّت باسم (التوحيد) يجب أن يتضمن توحيد العبادة الذي هو حقيقة دعوة الإسلام، لا أن يكون علم التوحيد غايته إثبات وجود الصانع فقط بالأدلة الكلامية التي أثبتها كافة الإلهيين والربوبيين والفلاسفة، بل وحتى أكثر المشركين.
ومن ذلك ما قرره الفخر الرازي من أن الإله هو القادر على الاختراع، ورفض أن يكون معناه المستحق للعبادة، يقول الرازي: “قال أهل السنة [يقصد الأشاعرة]: كلامكم مبني على أن لفظ «الله» معناه المستحق للعبادة. وهذا باطل؛ ويدل عليه وجهان… -ثم ذكرهما، ثم قال:- إذا ثبت هذا فنقول: الإله هو القادر على الاختراع. والدليل عليه: أنه تعالى إنما ظهر الامتياز بينه وبين سائر الذوات بصفته الخلَّاقية؛ فقال: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} [النحل: 17]؟! ولما كان المذكور في معرض الامتياز هو هذه الصفة علمنا: أن معنى الإلهية ليس إلا الخلَّاقية”([17]).
ورغم أن الرازي في تقريره السابق يقرر أن التوحيد هو إثبات القدرة على الاختراع ورفض أن يكون معناه المستحق للعبادة، إلا أنه لم يلتزم لوازم هذا القول الباطل، ففي مواضع كثيرة في تفسيره أشار إلى توحيد العبادة، وقد جعل عباد القبور من جنس عمل المشركين، وأشار أيضًا إلى أن مشركي العرب كانوا يقرّون أن الله هو الخالق الرازق، وأن أصنامهم لا تنفع ولا تضر.
يقول الفخر الرازي في تفسير قوله تعال: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]: “ونظيره في هذا الزمان اشتغال كثير من الخلق بتعظيم قبور الأكابر، على اعتقاد أنهم إذا عظّموا قبورهم فإنهم يكونون شفعاء لهم عند الله”([18]).
ويقرر الرازي أن مشركي العرب أقروا بالربوبية، فيقول في تفسير قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ..} [يونس: 31]: “ثم بيَّن تعالى أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا سألهم عن مدبر هذه الأحوال فسيقولون: إنه الله سبحانه وتعالى، وهذا يدل على أن المخاطبين بهذا الكلام كانوا يعرفون الله ويقرون به، وهم الذين قالوا في عبادتهم للأصنام: إنها تقربنا إلى الله زلفى، وإنهم شفعاؤنا عند الله، وكانوا يعلمون أن هذه الأصنام لا تنفع ولا تضر“([19]).
تأمّل قول الرازي عن مشركي العرب: (وكانوا يعلمون أن هذه الأصنام لا تنفع ولا تضر).
إذن لم يلتزم متقدمو المتكلمين لوازم ما قرروه في كتبهم الكلامية، وقد فهموا أن الألوهية داخلة تبعًا ولا حاجة إلى الإشارة إليها -بحسب ظنهم-، ولكن لما قلَّ العلم في المتأخرين لم يفهم كثير من الشيوخ هذه النكتة التي فهمها متقدموهم، وفتحوا بابًا لتبرير شرك القبور في العصور الحديثة، وجعلوا هذا التقرير الكلامي تُكأة لمعارضة أهل السنة والمصلحين ممن أنكروا شرك القبور.
ومعلوم أن البدعة تبدأ شبرًا وتنتهي ذراعًا، وهذا يدلّ على دقة نظر ابن تيمية وفراسته وصواب نقده للمتكلمين.
والقصد مما سبق: أن قول ابن تيمية بأن “غاية ما يثبته المتكلمون هو توحيد الربوبية الذي أقر به المشركون”([20]) غرضه من ذلك بيان فساد التقرير الكلامي في كتب علم الكلام، بمشابهة النظير بنظيره عند المشركين، لا لكون ابن تيمة يقول بأن الأشاعرة مشركون في الألوهية أو يبيحون شرك العبادة كما فهم بعض المعاصرين.
وقد ذكرنا -فيما سبق- إلزام الإمام الآجري للمرجئة أن المشركين مؤمنون على مذهبهم؛ إذ غاية ما أقروا به هو معرفة الخالق دون العمل بالجوارح، وهو إلزامٌ لبيان خطأ هذا القول، وقد ذكرنا أيضًا أن المرجئة لا يلتزمون هذا اللازم بالضرورة.
لكن من المعلوم أنّ من طرق النقد بيان فساد القول ببيان أشباهه ونظائره، وبيان لوازمه الباطلة؛ ليتفطّن اللبيب إلى غلط هذا التقرير النظري، وهو بابٌ واسع يستخدمه كافة الطوائف ردًّا على مخالفيهم.
خامسا: مغالطة بعض الأشاعرة في معنى الرب والإله:
قال الجوهري: “أَلهَ بالفتح إِلاهَةً، أي: عَبَدَ عِبَادَةً. وإلاهَةُ أيضًا: اسمٌ للشمس. والآلِهَةُ: الأصنامُ، سَمَّوها بذلك لاعتقادهم أنَّ العبادة تَحقُّ لها”([21]).
وقال: “رَبُّ كلِّ شيءٍ: مالكُهُ. والربُّ: اسم من أسماء الله عَزَّ وجَلَّ، ولا يقال في غيره إلا بالإضافة… ورَبَّ الضَيْعَةِ، أي: أصلحها وأتَمَّها. ورَبَّ فلان ولده يَرُبُّهُ رَبًّا، ورَبَّبَهُ، وتَرَبَّبَهُ، بمعنى، أي: رَبَّاهُ. والمَرْبوبُ: المُرَبَّى”([22]).
وقال ابن فارس: “(أله) الهمزة واللام والهاء أصل واحد، وهو التعبُّد. فالإله الله تعالى، وسمّيَ بذلك لأنّه معبود. ويقال: تألّه الرجُل، إذا تعبّد. قال رؤبة:
للهِ دَرُّ الغانِياتِ المُدَّهِ سَبَّحْنَ واستَرْجَعْنَ مِن تَأَلُّهِي”([23]).
وقال: “(رب) الراء والباء يدلُّ على أُصولٍ: فالأول إصلاح الشيءِ والقيامُ عليه. فالرّبُّ: المالكُ، والخالقُ، والصَّاحب. والرّبُّ: المُصْلِح للشّيء. يقال: رَبَّ فلانٌ ضَيعتَه، إذا قام على إصلاحها. وهذا سقاء مربُوبٌ بالرُّبِّ. والرُّبّ للعِنَب وغيرِه؛ لأنّه يُرَبُّ به الشيء. وفَرَسٌ مربوب… والرّبُّ: المُصْلِح للشّيء. والله -جلّ ثناؤُه- الرَّبٌّ؛ لأنه مصلحُ أحوالِ خَلْقه. والرِّبِّيُّ: العارف بالرَّبّ. وربَبْتُ الصَّبيَّ أرُبُّه، وربَّبْتُه أربِّبُه. والرَّبيبة الحاضِنة. ورَبيبُ الرَّجُل: ابنُ امرأَتِه. والرَّابُّ: الذي يقوم على أمر الرَّبيب”([24]).
ومما سبق يتبين أن: أئمة اللغة أرجعوا لفظة الإله إلى مفهوم العبادة، ولفظة الرب إلى مفهوم الملك والخلق والتدبير. إذن فالأصل اللغوي لكلا اللفظتين مختلف، وهو المعنى الذي أشار إليه ابن تيمية وأئمة السلف من علماء اللغة وعلماء التفسير، دون من شذَّ عنهم.
والعجيب أن صاحب كتاب (البراهين الشرعية) ادعى أنه لا فرق في الأصل اللغوي بين الرب والإله، فيقول: “التفريق بين الربوبية والألوهية لم يثبت أصلًا، وذلك لعدم ثبوت الفرق بين الأصلين الذي اشتق كل منهما”([25]).
وتلك مغالطة مكشوفة؛ لأن الجذر اللغوي لكلا اللفظتين مختلف كما مرَّ بيانه، واستدلال المؤلف بمجيء لفظة الرب بمعنى الإله أو العكس سوف نوضحه فيما يلي إن شاء الله.
استدلالهم بمجيء لفظ الرب مرادًا به معنى الإله والعكس:
استدل بعض متأخري الأشاعرة بمجيء لفظة الرب في مواضع في القرآن بمعنى الإله على أن اللفظتين مترادفتان لغةً، ولا حجة لهم في ذلك، لأنه مع ما بين اللفظتين من تباين لغوي، إلا أنه يجوز أن يُعبَّر بأحدهما عن الآخر لما بينهما من اشتراك بالتضمن والتلازم، فالألوهية تتضمن الربوبية، فكل من عبد الله ولم يشرك به شيئًا، فهو معترف بأن الله هو الخالق الرازق المدبر، وأما الربوبية فهي تستلزم الألوهية، فكل من اعترف بأن الله هو الخالق الرازق لزمه أن يعبده ولا يشرك به شيئًا.
ولذلك فإن استدلال بعض المعاصرين يعتبر مغالطة منطقية؛ فمجيء الإله بمعنى الرب بالتضمن، أو مجيء الرب بمعنى الإله بالالتزام، لا ينفي وجود توحيد ألوهية وتوحيد ربوبية.
وقد ذكر الله تعالى الربوبية للإلزام بالألوهية في آيات كثيرة، منها آية الميثاق في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ} إلى قوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172]؛ لأن آية الميثاق تتحدّث عن زمنٍ سابق قبل التكليف، فليس من المناسب قوله: (ألست بإلهكم) والتي تعني (ألست معبودكم)؛ لأنه لم تحصل منهم العبادة بعدُ، بل لن تحصل في المستقبل أيضًا، فمن الناس من سوف يكون عابدًا للأوثان، ومنهم من سيكون عابدًا للأبقار وغير ذلك، فكان من المناسب قوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ}، يعني: ألست أنا مالككم وخالقكم، فيلزمكم من إقراركم هذا أن تعبدونني فيما بعد؟! فذكر الله تعالى ربوبيته عليهم ليُلزمهم بالألوهية.
وهذا هو وجه النكتة التي لم يفهمها بعض المناوئين، حيث أخذوا بظواهر الآيات دون تدبر لمعانيها ومقاصدها، ولم يفطنوا أن الربوبية تستخدم للإلزام بالألوهية.
وهنا تعرف وجه المغالطة التي قالها الشيخ يوسف الدجوي: “وكان الواجب أن يُغيِّر الله عبارة الميثاق إلى ما يوجب اعترافهم بتوحيد الألوهية حيث إن توحيد الربوبية غير كاف”([26]).
ومن ذلك أيضًا أن تكون الآيات تتحدّث عن شرك الربوبية والألوهية معًا، كما في قوله تعالى: {وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ} [آل عمران: 64]، فذِكرُ الأرباب هنا هو الأنسب والأليق؛ وذلك لأنه كما في حديث عدي بن حاتم أن أحبارهم ورهبانهم يحلّون لهم الحرام ويحرمون عليهم الحلال، فأطاعوهم([27])، فاتخذوهم أربابًا ومشرعين، ومعلوم أن باب التشريع والأمر والنهي من الربوبية، لكن لما أطاعوهم دخلت في باب الألوهية أيضًا.
إذن نستطيع أن نقول: إنَّ الربوبية والألوهية قد يتفقان في مواضع ويفترقان في مواضع أخرى، من جنس (الإسلام والإيمان)، فقد يأتي في القرآن لفظ (الإيمان) ويُراد به مطلق (الإسلام) كما في قوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] أي: من المسلمين، وقد يأتي أحيانًا الإيمان ويراد به درجة أعلى من مجرد الإسلام، كما في قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14].
وكذلك الأمر في لفظتي (الإله والرب) قد يأتي أحدهما بمعنى الآخر من باب أنه يتضمنه أو يستلزمه، ولذلك قد يُعبِّر بعض أهل العلم بمصطلح الإله بما يتضمنه من معاني الربوبية، ولا يقتصر على الألوهية فقط، وهذا لا حرج فيه؛ والعالم قد يفسر اللفظة بالتضمن والالتزام، وهو أمر معروف في كافة المباحث الشرعية، ولا خصوصية لهذه المسألة في ذلك، ولا ينفي التفسير بالتضمن أصل معناه اللغوي، أو المفارقة عند الاقتران.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “وإن كانت الإلهية تتضمن الربوبية والربوبية تستلزم الإلهية؛ فإن أحدهما إذا تضمن الآخر عند الانفراد لم يمنع أن يختص بمعناه عند الاقتران، كما في قوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (١) مَلِكِ النَّاسِ (٢) إِلَهِ النَّاسِ} [الناس: ١-٣]، فجمع بين الاسمين: اسم الإله، واسم الرب؛ فإن الإله هو المعبود الذي يستحق أن يُعبد، والرب هو الذي يربّ عبده فيدبره”([28]).
ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب: “فاعلم أن الربوبية والألوهية يجتمعان ويفترقان كما في قوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (١) مَلِكِ النَّاسِ (٢) إِلَهِ النَّاسِ} وكما يقال: رب العالمين وإله المرسلين، وعند الإفراد يجتمعان كما في قول القائل: من ربك؟ مثاله الفقير والمسكين نوعان في قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: ٦٠]، ونوع واحد في قوله: «افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد إلى فقرائهم»([29]). إذا ثبت هذا فقول الملكين للرجل في القبر: «من ربك»([30])؛ معناه: من إلهك؟ لأن الربوبية التي أقر بها المشركون ما يمتحن أحد بها، وقوله: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا} [الأنعام: ١٦٤]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: ٣٠] فالربوبية في هذا هي الألوهية ليست قسيمة لها كما تكون قسيمة لها عند الاقتران، فينبغي التفطن لهذه المسألة”([31]).
ويقول الشيخ حافظ الحكمي: “والمقصود أنّ الربوبية والإلهية متلازمان، لا ينفك نوع منهما عن الآخر”([32]).
سادسًا: هل انفرد ابن تيمية بتقسيم التوحيد؟
اشتهر بين علماء السلف الإشارة إلى نوعي التوحيد بناءً على دلالة النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، ومن ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال له: «إنك تأتي قوما أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن يوحدوا الله…»([33]) وفي رواية: «أن يعبدوا الله»([34])، قال الحافظ ابن حجر: “ووجه الجمع بينها أن المراد بالعبادة: التوحيد، والمراد بالتوحيد: الإقرار بالشهادتين”([35]). وقال في موضع آخر: “ويُجمع بينها بأن المراد بعبادة الله توحيده.. ووقعت البداءة بهما لأنهما أصل الدين الذي لا يصح شيء غيرهما إلا بهما”([36]).
فلا غرو أن يتداول العلماء جيلًا بعد جيل هذا التقسيم إلى الربوبية والألوهية، فهو منتشر في كتب الفقهاء قبل أن يولد ابن تيمية إما لفظًا وإما مضمونًا. ومنعًا للإطالة سنكتفي بذكر من ذكر التقسيم بشكلٍ صريح دون من ذكره بالإشارة.
يقول ابن بطة الحنبلي العكبري: “فإن الله عز وجل وصف نفسه لعباده وعرفهم ربوبيته، ودعاهم إلى توحيده وعبادته”([37]).
وبشكلٍ صريح يُقسّم ابن بطة التوحيد إلى ثلاثة أقسام فيقول رحمه الله: “وذلك أن أصل الإيمان بالله الذي يجب على الخلق اعتقاده في إثبات الإيمان به ثلاثة أشياء:
أحدها: أن يعتقد العبد ربانيته؛ ليكون بذلك مباينًا لمذهب أهل التعطيل الذين لا يثبتون صانعًا.
والثاني: أن يعتقد وحدانيته؛ ليكون بذلك مباينًا لأهل الشرك الذين أقروا بالصانع وأشركوا معه في العبادة غيره.
والثالث: أن يعتقده موصوفًا بالصفات التي لا يجوز إلا أن يكون موصوفًا بها من العلم والقدرة والحكمة وسائر ما وصف به نفسه في كتابه؛ إذ قد علمنا أن كثيرًا ممن يقر به ويوحده بالقول المطلق قد يلحد في صفاته فيكون إلحاده في صفاته قادحًا في توحيده.
ولأنَّا نجد الله تعالى قد خاطب عباده بدعائهم إلى اعتقاد كل واحدة من هذه الثلاث والإيمان بها”([38]).
والمُلاحظ في كلام ابن بطة: أنه قسَّم التوحيد ثلاثة أقسام (الربوبية، والألوهية، والصفات)، وذكر أن أهل الشرك قد أقروا بالصانع وأشركوا معه في العبادة غيره، وهو نفس ما ينقده المعارضون على ابن تيمية.
وممن ذهب أيضًا إلى تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام الجرجاني وهو من الماتريدية.
يقول الجُرْجانيِّ الحنفي: “التَّوْحيدُ ثَلاثةُ أشْياءَ: مَعْرِفةُ اللهِ تَعالى بالرُّبوبيَّةِ، والإقْرارُ بالوَحْدانيَّةِ، ونَفْيُ الأنْدادِ عنه جُمْلةً”([39]).
ويقول أبو منصور الماتريدي: “وبعد فَإِنَّهُ لم يذكر عَن غير الإِله الَّذِي يعرفهُ أهل التَّوْحِيد دَعْوَى الإلهية، وَالإِشَارَة إِلَى أثر فعل مِنهُ يدل على ربوبيته”([40]).
نلاحظ من هذا أن الماتريدي قسم التوحيد إلى قسمين: الإلهية والتي تعني توحيد المعبود، ونسب الربوبية إلى آثار أفعال الله، وهو نفس المعنى الذي أشار إليه ابن تيمية.
ويقول الماتريدي أيضًا: “مَجِيء الرُّسُل بِالآيَاتِ الَّتِي يضطَر من شَهدها أَنَّهَا فعل من لَو كَانَ مَعَه شريك ليمنعهم عَن إظهارها إِذ بذلك إبطَال ربوبيتهم وألوهيتهم”([41]).
ويقول أيضًا: “الْحَمد لله المتوحد بالقدم والإلهية، المتفرد بالدوام والربوبية”([42]).
ويقول ابن طاهر المقدسي: “التوحيد أربعة أشياء: معرفة الوحدانيّة، والإقرار بالربوبيّة، وإخلاص الإلهيّة، والاجتهاد في العبوديّة”([43]).
فذكر ابن طاهر الربوبية والألوهية ضمن أقسامٍ أربعة، وفي الحقيقة فإن القسمين الزائدين يرجعان إلى الربوبية والألوهية أيضًا، وبغضّ النظر عن تقسيمه الرباعي فالقصد من ذلك أن محض التقسيم لا مشاحة فيه.
يقول القرطبي: “الشرك على ثلاث مراتب وكله محرم، وأصله اعتقاد شريك لله في ألوهيته، وهو الشرك الأعظم وهو شرك الجاهلية، وهو المراد بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 116]. ويليه في الرتبة اعتقاد شريك لله تعالى في الفعل، وهو قول من قال: إن موجودًا ما غير الله تعالى يستقلّ بإحداث فعلٍ وإيجاده، وإن لم يعتقد كونه إلهًا… ويلي هذه الرتبة الإشراك في العبادة”([44]).
ويتضح من كلام القرطبي السابق: أنه فرَّق بين شرك الألوهية وشرك الربوبية واعتقاد استقلال مخلوق بالفعل دون الله تعالى وإن لم يعتقده إلهًا، وجعل الشركين متباينَين.
وبصرف النظر من أن القرطبي جعل الإشراك في العبادة قسمًا غير الإشراك في الألوهية -وهو داخلٌ فيه-، إلا أن كلامه يتحقّق به المطلوب أيضًا؛ لأنه جعل شرك العبادة قسمًا مستقلًا عن الربوبية واعتقاد استقلال الفعل، وهو ما يُجادل فيه بعض المعاصرين.
ويقول ملا القاري الحنفي الماتريدي: “والحاصل أنه يلزم من توحيد العبودية توحيد الربوبية دون العكس في القضية لقوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر: 38]، بل غالب سور القرآن وآياته متضمنة لنوعي التوحيد، بل القرآن من أوله إلى آخره في بيانهما”([45]).
تأمل قول الملا القاري: (يلزم من توحيد العبودية توحيد الربوبية دون العكس في القضية)، فهذا معناه أن المصطلَحين ليسا بمتطابقين كما يدَّعي بعض الأشاعرة المعاصرين، وقوله: (غالب سور القرآن وآياته متضمنة لنوعي التوحيد) فيه دلاله على تقسيمه للتوحيد، وأن النوعين غير متطابقين عنده.
ويقول علّامة المعقول البيضاوي حين تكلّم عن تحقق أنواع المناسبة بين نوعي التوحيد في قوله تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]، فقال: “فإنه الموجد والمتصرف تبارك الله رب العالمين، تعالى بالوحدانية في الألوهية، وتعظّم بالتفرد في الربوبية… ثم أمرهم بأن يدعوه متذللين مخلصين فقال: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] أي: ذوي تضرع وخفية؛ فإن الإخفاء دليل الإخلاص”([46]).
ويقول الخرشي في شرح قول خليل: (فلا مشارك له في إنعامه وألوهيته، ولا معاند له في أحكامه وربوبيته) بعد أن تكلّم عن توحيد الربوبية وانفراد الواحد بالتصريف والخلق والتدبير: “وكذا نقول في قوله: (وألوهيته)، ولا يقال: إن أل نائبة عن الضمير؛ لأنا نقول: ليس ذلك متفقا عليه، والإنعام من آثار الألوهية، فالمناسب تأخيره عنها إلا أنه قدمه للسجع، قوله: (وألوهيته) أي: كونه إلها أي معبودا بحق.. وقوله: (وربوبيته) أي: كونه ربًّا أي: مالكًا للعالم”([47]).
وقد تقدّم نقل قول مرتضى الزّبيديّ: “التّوحيد توحيدان: توحيد الرّبوبيّة، وتوحيد الإلهيّة…”([48]).
ويقول المقريزيّ الشافعي: “لا ريب أنّ توحيد الرّبوبيّة لم ينكره المشركون، بل أقرّوا بأنّه سبحانه وحده خالقهم، وخالق السّموات والأرض، والقائم بمصالح العالم كلّه، وإنّما أنكروا توحيد الإلهيّة والمحبّة، كما قد حكى الله تعالى عنهم في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّه} [البقرة: 165]، فلمّا سوّوا غيره به في هذا التّوحيد كانوا مشركين، كما قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1]”([49]).
ويقول الألوسي المُفسر: “وقد يقال: إنهم أشاروا بالجملة الأولى إلى توحيد الربوبية، وبالجملة الثانية إلى توحيد الألوهية، وهما أمران متغايران، وعبدة الأوثان لا يقولون بهذا، ويقولون بالأول”([50]).
ويقول الشيخ البيجوري في تفسير الحمد لله رب العالمين، يقول: “يشير إلى تقرير توحيد الربوبية المترتب عليه توحيد الألوهية المقتضي من الخلق تحقيق العبودية”([51]).
فتأمل قول البيجوري: (توحيد الربوبية المترتب عليه توحيد الألوهية) مما يدل على أن معنى الألوهية يضيف معنًى زائدًا على الربوبية، وليسا هما متطابقين كما يقول بعض الأشاعرة المعاصرين.
وقد يتعجب المخالف كيف يذهب بعض الأشاعرة والماتريدية إلى التقسيم التيمي للتوحيد مع كونهم من الأشاعرة، والجواب على ذلك: أن القول بالتقسيم إلى ربوبية وألوهية لا يرونه متعارضًا مع مذهبهم الأشعري، فهو تقسيم صحيح باعتبار، وتقسيم أهل الكلام صحيح -على مذهبهم- باعتبارٍ آخر.
ولذلك قد ذكرنا أن معاصري ابن تيمية لم ينكروا عليه هذا التقسيم، وإنما جاء هذا الإنكار في العصور الحديثة بعد دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
وخلاصة البحث في النقاط التالية:
- تقسيم التوحيد إلى ربوبية وألوهية هو تقسيم استقرائي لدلالة الكتاب والسنة والعقل والفطرة عليه.
- علماء المسلمين بكافة توجهاتهم -ومنهم أهل الحديث والأشاعرة وغيرهم- جيلًا بعد جيل يذكرون تقسيم التوحيد إلى ربوبية وألوهية إما نصًّا وتصريحًا، وإما بالمعنى والإشارة، بل بعضهم نص على التقسيم الثلاثي أيضًا كابن بطة وغيره. ولم ينكَر هذا التقسيم إلا في العصور المتأخرة جدًّا بعد دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، من قِبل بعض الشيوخ الذين عارضوا الدعوة، ثم قلَّدهم بعض المعاصرين دون نظر أو تدبر.
- لم يقل ابن تيمية: إن مشركي قريشٍ موحِّدون في باب الربوبية، وإنما ذكر أنهم مقرون بالربوبية، والإقرار هنا هو إقرارٌ جُملي، لا يلزم منه الصحّة والسلامة من كلِّ وجه، كما فهم بعض المعاصرين.
- لم يقل ابن تيمية: إن المتكلمين أباحوا شرك العبادة كما فهم بعض المعاصرين، وإنما انتقد تقريرهم الكلامي وإن لم يلتزموا لوازمه.
- أكثر علماء المسلمين بكافة توجّهاتهم -كالأشاعرة وأهل الحديث- نصوا على أن المشركين أقروا بالربوبية دون الألوهية، وأن المشركين معترفون أن الرب مستقلّ بالخلق والتدبير، فمنهم من صرح بالعبارة ذاتها، ومنهم من أشار إلى معناها كما مرَّ بيانه.
- إذا ثبت جدلًا أن بعض المشركين أشركوا في الربوبية في بعض المعاني، فهذا لا ينقض ما قرره ابن تيمية والطبري وابن بطة والسمعاني وابن كثير والزبيدي وكثير من الأشاعرة من أنهم أقروا بالربوبية؛ وذلك لأن كلام العلماء قد خرج مخرج الغالب، وفقًا بما جاءت به آيات القرآن، وآيات القرآن تتحدّث عن الغالب من أحوالهم، لا لكون كلّ فردٍ فيهم قد أقر بالربوبية بالضرورة.
ثم يبقى البحث في هل كلّ المشركين اعتقدوا بتلك العقيدة أم أكثرهم أم طوائف منهم؟ وهي مسألة تاريخية تثبُت بالآثار والنظر في الروايات والترجيح بينها، وقد يُقبل البحث فيه تجاوزًا، وهو بحث تاريخي لا علاقة له بصحة وجود قسمين من التوحيد، وأن الشرك في الألوهية كالشرك في الربوبية. فالربط بين المسألتين خلل في البحث العلمي.
- كثير من الأشاعرة في العصور الحديثة أساؤوا فهم المسألة، وظنوا أن محض التقسيم هو سبب تكفير المسلمين، كما ظنّوا -جهلًا منهم- أن المتكلمين يبيحون دعاء غير الله، مما دفعهم إلى إنكار الشرك في الألوهية لتمرير الطلب من الأولياء، والتبرير لشرك القبور، فأتوا ببدعٍ زائدة على متقدّميهم.
هذا؛ والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) تقسيم التوحيد إلى نوعين باعتبار، وإلى ثلاثة باعتبار آخر، فتوحيد الأسماء والصفات يدخل في الربوبية لأنه من معرفة الخالق سبحانه، ولكن جاز إفراده والتنبيه عليه لدلالة القرآن عليه، ولإنكار طوائف من أهل القبلة له.
([2]) التحذير من مختصرات الصابوني في التفسير (ص: 20).
([3]) كلمات من كشف الأباطيل (ص: 37).
([4]) تبسيط العقائد الإسلامية (ص: 239).
([6]) حاشية الدسوقي على أم البراهين (ص: 134).
([7]) مقال بعنوان: (التقسيم الثلاثي للتوحيد بين الأشاعرة وابن تيمية) للشيخ محمد صالح الغرسي، على الرابط:
([8]) حقيقة التوحيد بين أهل السنة والمتكلمين (ص: 481).
([9]) الدرر السنية في الرد على الوهابية (ص: 37).
([10]) شرح الفقه الأكبر (ص: 22).
([11]) شرح جوهرة التوحيد (ص: 311).
([12]) صيانة الإنسان من وسوسة دحلان (ص: 213).
([14]) شرح الأصبهانية (ص: 134).
([16]) الاستغاثة والرد على البكري (ص: 284).
([17]) المطالب العالية (9/ 284-285).
([18]) مفاتيح الغيب (17/ 227).
([25]) البراهين الشرعية (ص: 28).
([26]) مقال للشيخ الدجوي في مجلة نور الإسلام، المجلد الرابع (ص: 257).
([27]) أخرجه الترمذي (3095)، وحسنه الألباني.
([28]) مجموع الفتاوى (١٠/ ٢٨٤).
([29]) رواه البخاري (1395)، ومسلم (19).
([30]) رواه البخاري (1369)، ومسلم (2871).
([31]) مؤلفات محمد بن عبد الوهاب في العقيدة (ص ١٧).
([34]) رواه البخاري (1389)، ومسلم (19).
([38]) الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية (2/ 172).
([44]) تفسير القرطبي (5/ 181).
([45]) شرح الفقه الأكبر (ص: 22).
([46]) تفسير البيضاوي (1/ 342).
([47]) حاشية الخرشي على مختصر خليل (1/ 13-14).