استباحة المحرَّمات.. معناها وروافدها
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
مقدمة:
من أعظم البدع التي تهدم الإسلام بدعة استباحةُ الشريعة، واعتقاد جواز الخروج عنها، وقد ظهرت هذه البدعة قديمًا وحديثًا في أثواب شتى وعبر روافد ومصادر متعدِّدة، وكلها تؤدّي في نهايتها للتحلّل من الشريعة وعدم الخضوع لها.
وانطلاقًا من واجب الدفاع عن أصول الإسلام وتقرير قواعده العظام الذي أخذه مركز سلف للبحوث والدراسات على عاتقه كانت هذه الورقة العلمية التي تبيّن معنى هذه الاستباحة، وتكشف للمسلمين خطرها، مع بيان مداخلها التي تتسرب من خلالها لعقول بعض المسلمين؛ امتثالًا لقوله صلى الله عليه وسلم: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ»، قُلْنا: لِمَنْ؟ قالَ: «لِلَّهِ ولِكِتابِهِ ولِرَسولِهِ ولأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وعامَّتِهِمْ»([1]).
مركز سلف للبحوث والدراسات
أولا: حقيقة الإسلام وبيان أن التصديق المجرد عن الانقياد ليس إيمانا صحيحًا:
من المعلوم أن حقيقة الإسلام هي الخضوع والامتثال والاستسلام لأمر الله تعالى الشرعي، قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلۡنَٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ فَٱتَّبِعۡهَا وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ﴾ [الجاثية: 18]، وقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٍ وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمۡرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُ مِنۡ أَمۡرِهِمۡ﴾ [الأحزاب: 36]، وقال تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمًا﴾ [النساء: 65]، وغيرها من الآيات التي تبين وجوب الانقياد لحكم الله تعالى والتسليم لأمره.
وقد أجمع أهل السنة على أن الإيمان قول وعمل، وأنه لا يكفي التصديقُ المجرد عن الانقياد لثبوت الإيمان، بل لا بد من الانقياد لشرع الله تعالى، قال الشافعي رحمه الله: “وكان الإجماع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ومن أدركناهم؛ يقولون: الإيمان قول وعمل ونية، لا يجزئ واحدٌ من الثلاث إلا بالآخر”([2])، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “وقد حكى غيرُ واحد إجماعَ أهل السنة والحديث على أن الإيمان قول وعمل”([3]).
فلا يكفي التصديق المجرد لحصول الإيمان، بل لا بد معه من الانقياد والخضوع، فمن صدَّق أن محمدًا رسول الله، ولكنه لم يلتزم بشريعته، أو رأى جواز الخروج عليها كلها أو بعضها، فهو كافر خارج عن ملّة الإسلام بإجماع العلماء.
قال القاضي عياض رحمه الله: “أَجمع المسلمون على تكفيرِ كُلِّ من استحَلَّ القتل أو شُرْبَ الخَمْرِ أو الزِّنا مِمَّا حَرَّم اللهُ بعد عِلْمِه بتحريمِه، كأصحابِ الإباحةِ مِن القرامِطةِ، وبعضِ غُلاةِ المتصَوِّفةِ”([4]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “قد عُلم بالاضطرار من دين الإسلام أن رسالة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لجميع الناس، عربهم وعجمهم وملوكهم وزهادهم وعلمائهم وعامتهم، وأنها باقية دائمة إلى يوم القيامة؛ بل عامّة للثقلين الجن والإنس، وأنه ليس لأحدٍ من الخلائق الخروج عن متابعته وطاعته وملازمةِ ما يشرعه لأمته من الدين، وما سنَّه لهم من فعل المأمورات وترك المحظورات، بل لو كان الأنبياء المتقدمون قبله أحياء لوجب عليهم متابعته ومطاوعته… فكيف بمن دونهم؟! بل مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا يجوز لمن بلغته دعوته أن يتَّبِع شريعة رسول غيره كموسى وعيسى. فإذا لم يجز الخروج عن شريعته إلى شريعة رسول فكيف بالخروج عنه والرسل؟!”([5]).
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: “من اعتقد أنَّ بَعْض النَّاسِ لا يجِبُ عليه اتِّباعُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنَّه يسَعُه الخروجُ من شريعتِه كما وَسِعَ الخَضِرَ الخروجُ من شريعةِ موسى عليهما السَّلامُ فهو كافِرٌ”([6]).
ومن أدلة ذلك: كُفْر اليهود مع معرفتهم بالنبي صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ يَعۡرِفُونَهُۥ كَمَا يَعۡرِفُونَ أَبۡنَآءَهُمۡ﴾ [البقرة: 146].
قال سفيان بن عيينة رحمه الله: “وأما علماء اليهود فعرَفوا نَعتَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنه نبيٌّ رسولٌ كما يعرِفونَ أبناءَهم، وأقرُّوا به باللسان، ولم يتَّبِعوا شريعتَه، فسمَّاهم الله عز وجل كفارًا”([7]).
ومن الأدلة كذلك على أن الانقياد ركن في الإيمان: كُفْرُ إبليس، مع أنه كان مقرًّا بالخطاب عارفًا به عالمًا أن الله تعالى أمره بالسجود، ولكنه أبى واستكبر عن طاعة الله تعالى. فدل ذلك على أن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم والالتزام بشريعته ركن من أركان الإيمان، لا يصح الإيمان بدونه.
ثانيا: معنى الاستباحة وصورها:
من المقرَّر عند الفقهاء أن من استحلَّ شيئا من المحرمات المعلومة فهو كافرٌ. والاستحلال عندهم يطلق على معنيين:
الأول: التكذيب الذي ينافي التصديق، الذي هو قول القلب.
الثاني: الإباء والاستكبار الذي ينافي الانقياد، الذي هو عمل القلب.
فمن اعتقد أن الصلاة مثلا ليست فرضًا فهو كافر؛ لأنه مكذب لله تعالى، وكذا من اعتقد أن الصلاة واجبة، ولكنه لا يلزمه فعلها فهو كافر كذلك.
وقد نبّه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى هذا المعنى الثاني من معاني الاستباحة والاستحلال الذي لا ينتبه له البعض، ويظن أن الاستحلال محصور في معنى التكذيب. قال رحمه الله في بيان حكم تارك الصلاة وأقسامه: “هنا ثلاثة أقسام:
أحدها: إن جَحَدَ وجوبهَا فهو كافرٌ بالاتفاق.
والثاني: أن لا يجحد وجوبها لكنه ممتنع من التزام فعلها كبرًا أو حسدًا أو بغضًا لله ورسوله، فيقول: أعلمُ أنَّ الله أوجبها على المسلمين، والرسول صادقٌ في تبليغ القرآن، ولكنّه ممتنعٌ عن التزام الفعل استكبارًا أو حسدًا للرسول، أو عصبية لدينه، أو بغضًا لما جاء به الرسول، فهذا أيضا كافر بالاتفاق؛ فإنَّ إبليس لما ترك السجود المأمور به لم يكن جاحدًا للإيجاب؛ فإنّ الله تعالى باشره بالخطاب، وإنّما أبى واستكبر وكان من الكافرين. وكذلك أبو طالب كان مصدقًا للرسول فيما بلغه، لكنّه ترك اتباعه حمية لدينه، وخوفًا من عار الانقياد، واستكبارًا عن أن تعلو استُه رأسَه فهذا ينبغي أن يُتَفَطّن له.
ومن أطلق من الفقهاء أنّه لا يكفر إلا من يجحد وجوبها، فيكون الجحدُ عنده متناولًا للتكذيب بالإيجاب، ومتناولًا للامتناع عن الإقرار والالتزام”([8]).
والمقصود أن الاستحلال كفر، سواء نسب ذلك إلى الله (وهو كفر التكذيب)، أو لم ينسبه إلى الله (وهو كفر الإباء والاستكبار)، وسواء كان ذلك عاما في جميع الشريعة، أو في بعضها إذا كان ما أنكره معلومًا قطعيًّا.
فهذا هو الاستحلال الذي يناقض أصل الإيمان.
ثالثا: روافد بدعة الاستحلال ومداخلها:
ظهرت استباحة الشريعة في الأمة من عدة روافد، وهي إجمالا:
- بدعة الجبر.
- بدعة الإرجاء.
- التصوف الغالي.
- العلمانية.
ودونك تفصيل ذلك:
- عقيدة الجبر وإسقاط التكليف:
مذهب الجبر معناه: نفي الفعل القائم بالعبد ونسبته إلى الله تعالى، فنسبة الفعل للعبد عندهم هي نسبة مجازية لا حقيقية، مثل قولك: مات محمد، وفي الحقيقة وقع عليه فعل غيره، ولم يفعل شيئًا، فنسبة جميع الأفعال للعباد نسبة مجازية غير حقيقية، والعبد عندهم كالريشة المعلقة في الهواء بلا إرادة ولا قدرة لها، تحرّكها الريح حيثما توجَّهت.
قال أبو الحسن الأشعري (324هـ) في بيان عقيدة الجهم وما تفرَّد به: “وأنه لا فعل لأحد في الحقيقة إلا الله وحده، وأنّه هو الفاعل، وأنّ النَّاس إنّما تُنْسَب إليهم أفعالُهم على المجاز كما يقال: تحركت الشجرة، ودار الفلك، وزالت الشمس، وإنّما فَعَل ذلك بالشجرة والفلكِ والشمسِ اللهُ سبحانه، إلا أنه خلق للإنسان قوة كان بها الفعل وخلق له إرادة للفعل واختيارًا له منفردًا له بذلك، كما خلق له طولًا كان به طويلًا، ولونًا كان به متلونًا”([9]).
وقال ابن القيم رحمه الله: “وقالت طائفة أخرى وهم جهم وأتباعه: إن القادر على الحقيقة هو الله وحده، وهو الفاعل حقًّا، ومن سواه ليس بفاعل على الحقيقة ولا كاسب أصلا، بل هو مضطر إلى جميع ما فيه من حركة وسكون. وقول القائل: قام وقعد وأكل وشرب مجازٌ، بمنزلة: مات وكبر ووقع وطلعت الشمس وغربت، وهذا قول الجبرية الغلاة”([10]).
فالأفعال الاختيارية والاضطرارية عندهم بمعنى واحد، لا فرق بينهما.
وهذا معناه سقوط التكليف، فإن التكليف منوط بالاختيار والقدرة، ومن لا قدرةَ له ولا اختيار لا معنى لتكليفه، بل يكون تكليفُه ومحاسبتُه ظلمًا وعبثًا.
وهذا ما وقع فيه غلاة الجبرية الذين نسبوا الظلم إلى الله تعالى، واستباحوا المحرمات.
قال ابن القيم رحمه الله: “ولقد ظنَّت هذه الطَّائفةُ باللهِ أسوأَ الظَّنِّ ونسبَتْه إلى أقبَحِ الظُّلمِ، وقالوا: إنَّ أوامِرَ الرَّبِّ ونواهيَه كتكليفِ العبدِ أن يرقى فوق السموات، وكتكليفِ الميت إحياءَ الأمواتِ، واللهُ يُعذِّبُ عبادَه أشدَّ العذابِ على فِعلِ ما لا يقدِرونَ على تَركِه، وعلى تَركِ ما لا يقدِرونَ على فِعلِه، بل يعاقِبُهم على نَفسِ فِعلِه الذي هو لهم غيرُ مقدورٍ، وليس أحدٌ مُيَسَّرًا له، بل هو عليه مقهورٌ! ونرى العارِفَ منهم يُنشِدُ مُترنِّمًا، ومن ربِّه مُتشكِّيًا ومُتظلِّمًا:
ألقاه في اليَمِّ مكتوفًا وقال له إيَّاك إيَّاك أن تبتَلَّ بالماءِ”([11]).
وقال أيضا في سياق ذكر حديث احتجاج آدم وموسى([12]) ولماذا صح لآدم الاحتجاج بالقدر: “وقالت فرقة أخرى: إنما حجّه لأن آدم شهد الحكم وجريانه على الخليقة، وتفرد الرب سبحانه بربوبيته، وأنه لا تحرك ذرة إلا بمشيئته وعلمه، وأنه لا راد لقضائه وقدره، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. قالوا: ومشاهدة العبد الحكم لا يدع له استقباح سيئة لأنه شهد نفسه عدمًا محضًا، والأحكام جارية عليه معروفة له، وهو مقهور مربوب مدبر لا حيلة له ولا قوة له. قالوا: ومن شهد هذا المشهد سقط عنه اللوم… وهذا المسلك لو صح لبطلت الديانات جملة، وكان القدرُ حجةً لكل مشرك وكافر وظالم، ولم يبق للحدود معنى، ولا يلامُ جانٍ على جنايته، ولا ظالمٌ على ظلمه، ولا يُنْكَرُ مُنْكَرٌ أبدًا؛ ولهذا قال شيخ الملحدين ابن سينا في إشارته: العارف لا ينكر منكرًا لاستبصاره بسر الله تعالى في القدر. وهذا كلام منسلخ من الملل ومتابعة الرسل”([13]).
وقد ذكر أبو إسماعيل الهروي (481هـ) -وهو من مشايخ التصوف- لطائف التوبة فقال: “الثَّالِثَة: أَن مُشَاهدَة العَبْد الحكم لم تدع لَهُ اسْتِحْسَان حَسَنَة وَلَا استقباح سَيِّئَة لصعوده من جَمِيع الْمعَانِي إِلَى معنى الحكم”([14]).
وهذا الكلام معناه: أن شهود العبد للحكم القدري الكوني في فعله يلغي شهوده للحكم الشرعي والتمييز بين الحسن والقبيح، فإن هذا التمييز أو مشهد الفرق -كما يقولون- يحدث عند شهودك فعل نفسك، وأما عند شهود مشهد الجمع وأن الأفعال كلها من عند الله، فعند ذلك تستوي جميع الأفعال.
وقد اجتهد ابن القيم في تأويل كلام الهروي بعيدًا عن هذا المعنى الكفري([15])، وأنه قصد غلبة الشهود دون إنكار الأحكام الشرعية. ومع ذلك فيبقى كلامه محل إنكار عظيم؛ فإنه يفضي إلى الاستحلال بحجة شهود القدر ومشهد الجمع.
ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “وهذا الذي ذكره الجنيد من الفرق بين القديم والمحدث، والفرق بين المأمور والمحظور، بهما يزول ما وقع فيه كثير من الصوفية من هذا الضلال… وهذا الذي ذمه الجنيد رحمه الله وأمثاله من الشيوخ العارفين وقع فيه خلق كثير، حتى من أهل العلم بالقرآن وتفسيره والحديث والآثار، ومن المعظمين لله ورسوله باطنا وظاهرا، المحبين لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذابين عنها، وقعوا في هذا غلطًا لا تعمدًا، وهم يحسبون أن هذا نهاية التوحيد. كما ذكر ذلك صاحب (منازل السائرين)”([16]).
وذكر في موضع آخر أنه كان -أي الهروي- في القدر على مذهب الجهمية([17])، وأن هذه العبارة أنكرها عليه حذاق العارفين([18]).
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله كثيرًا من الحكايات عن هؤلاء الزنادقة والملاحدة الذين يحتجون بالقدر على مخاصمة الشرع واستحلاله، وسماهم القدرية الإبليسية؛ لأن إمامهم إبليس الذي قال لربه: ﴿قَالَ فَبِمَآ أَغۡوَيۡتَنِي لَأَقۡعُدَنَّ لَهُمۡ صِرَٰطَكَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ﴾ [الأعراف: 16].
قال رحمه الله: “وصعد رجل يومًا على سطح دار له، فأشرف على غلام له يفجر بجاريته، فنزل وأخذهما ليعاقبهما، فقال الغلام: إن القضاء والقدر لم يدعانا حتى فعلنا ذلك. فقال: لَعِلْمُك بالقضاء والقدر أحبُّ إلى من كل شيء، أنت حرٌّ لوجه الله. ورأى آخرُ رجلًا يفْجُر بامرأته، فبادر ليأخذه فهرب، فأقبل يضرب المرأة وهي تقول: القضاءُ والقدر، فقال: يا عدوة الله، أتزنين وتعتذرين بمثل هذا؟! فقالت: أوَتركتَ السنّةَ وأخذتَ بمذهب ابن عباس؟! فتنبه ورمى بالسوط من يده واعتذر إليها وقال: لولاك لضللت. ورأى آخر رجلًا آخر يفجر بامرأته فقال: ما هذا؟ فقالت: هذا قضاءُ الله وقدره، فقال: الخيرة فيما قضى الله، فلقب بالخيرة فيما قضى الله، وكان إذا دُعِي به غَضِب. وقيل لبعض هؤلاء: أليس الله عز وجل يقول: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7]؟! فقال: دعنا من هذا، رضِيَه وأحبه وأراده، وما أفسدنا غيره. ولقد بالغ بعضهم في ذلك حتى قال: القدر عذر لجميع العصاة”([19]).
ومن صور الجبر الحديث المستند إلى العلم التجريبي:
دعوى بعض الغربيين أن الإنسان مجبور على أفعاله؛ لأن الجينات والهرمونات هي التي تتحكَّم في أفعاله، ولا يمكنه مخالفتها، فالأفعال البشرية ليست إلا نتاج تفاعلات كيميائية في جسم الإنسان، لا سلطان له عليها، وبناء على ذلك فلا وجودَ لإرادة حقيقة عند الإنسان، وقد كانت هذه النظريةُ مدخلًا لنشر الإلحاد المعاصر([20])، وتبرير كثير من الفواحش وتسويغها وخاصة الشذوذ.
فتبعًا لهذا التصور فإن الشذوذ ليس جريمة ولا عيبًا ينبغي إزالته، بل هو مجرد ميل جنسي مختلف، نتيجة جينات معينة هي التي تؤثر في هذا السلوك.
وهذا كذب، وليس الأمر كذلك حتمًا، بل الدراسات العلمية الحديثة أكَّدت أنه لا يوجد “جين بعينه للمثلية الجنسية”، لكنَّ مزيجًا معقدًا من العوامل الوراثية والبيئية تؤثِّر على ميل شخص لشركاء من نفس الجنس.
ففي البحث الذي أجراه فريق من الباحثين قالت أندريا جانا -عالمة الأحياء بمعهد الطب الجزيئي في فنلندا، والتي شاركت في قيادة فريق الدراسة-: “فحصنا الجينوم البشري بالكامل، ووجدنا بضع نقاط؛ خمسًا تحريًا للدقة، ترتبط بوضوح بما إن كان يمارس سلوكًا جنسيًّا مثليًّا”. وأضافت جانا: “إن لهذه النقاط تأثيرًا ضئيلًا للغاية، وأنها تفسِّر مجتمعةً ما هو أقل بكثيرٍ مِن واحد في المائة في فروق سلوك المثلية الجنسية”. وأوضح الباحثون: أن ذلك يعني أن العوامل غير الجينية -مثل: الظروف المحيطة والتنشئة والشخصية والتربية- تلعب دورًا أهمّ بكثير في التأثير على السلوك الجنسي، كما هو الحال مع أغلب السمات البشرية الشخصية والسلوكية والجسدية الأخرى([21]).
فالجينات وإن كان لها تأثير بالفعل على سلوك الإنسان، إلا أنه يمكن للإنسان مقاومتها وتهذيبها، وقد بين علماؤنا أن الأخلاق منها ما هو جبلّي، ومنها وما هو كسبي، وأن الأخلاق تتغير بالرياضة([22])، وإلا فما معنى إرسال الرسل وإنزال الكتب؟!
وقد قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِأَشَجِّ عبدِ القيسِ: «إنَّ فيك خُلَّتَينِ يُحِبُّهما اللهُ: الحِلْمَ والأَناةَ»، فقال: أخُلُقَينِ تَخلَّقتُ بهِما، أم خُلُقينِ جُبِلتُ علَيهِما؟ فقال: «بل خُلقَينِ جُبِلتَ عليهما»، فقال: الحمدُ للهِ الَّذي جبَلَني على خُلقَينِ يُحِبُّهما اللهُ ورسولُه([23]).
وليس الغرض استقصاء الردّ على هذا، ولكن فقط بيان صورةٍ من صور (الجَبْر العلموي الحديث) الذي يفضي إلى استحلال الشريعة والإلحاد بالكلية.
- الإرجاء مدخل للاستحلال والاستباحة:
الإرجاء مذهب فاسد، حقيقته: إخراج العمل من الإيمان، والاكتفاء بالمعرفة القلبية في تحصيل الإيمان.
قال سفيان بن عيينة رحمه الله: “أما المرجئة اليوم فهم قومٌ يقولون: الإيمان قولٌ بلا عملٍ”([24]).
وأهل السنة يقولون: الإيمان قول وعمل، لا يجزئ أحدهما عن الآخر. وكل من أخرج شيئًا من هذا الأصول الأربعة (قول القلب – عمل القلب – قول اللسان – عمل الجوارح) عن الإيمان ففيه شعبة من شعب الإرجاء، فالإرجاء ليس درجة واحدة، بل هو درجات وفرق كثيرة. يمكننا تقسيمهم لثلاث درجات:
- إرجاء الفقهاء.
- إرجاء المتكلمين.
- إرجاء غلاة المرجئة.
فأقلهم (مرجئة الفقهاء)، وهم الذين يقولون: الإيمان هو التصديق والإقرار، والعمل ثمرة للإيمان وليس جزءًا منه. فهم يقولون بوجوب العمل، وأنه ثمرة للإيمان، وأن مرتكب الكبيرة في الآخرة تحت المشيئة، فوافقوا أهل السنة في المآل والأحكام، وخالفوهم في الأسماء، ولذلك ذكر غير واحد من أهل العلم أن الخلاف معهم قريبٌ من اللفظي؛ لأنه خلاف في الأسماء وليس في الأحكام.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية عنهم: “قالوا: إن الأعمال ليست من الإيمان. وكانت هذه البدعةُ أخفَّ البدع؛ فإنّ كثيرًا من النزاع فيها نزاع في الاسم واللفظ دون الحكم؛ إذ كان الفقهاء الذين يُضاف إليهم هذا القولُ، مثل حماد بن أبي سليمان وأبي حنيفة وغيرهما هم مع سائر أهل السنة متفقين على أنّ الله يعذب من يعذبه من أهل الكبائر بالنار، ثم يخرجهم بالشفاعة، كما جاءت الأحاديث الصحيحة بذلك، وعلى أنه لا بد في الإيمان أن يتكلم بلسانه، وعلى أن الأعمال المفروضة واجبة وتاركها مستحق للذم والعقاب، فكان في الأعمال هل هي من الإيمان وفي الاستثناء ونحو ذلك عامته نزاع لفظي”([25]).
وليس معنى هذا التهوين من هذه البدعة، فإنها فتحت باب شر وفتنة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “ولهذا لم يكفر أحدٌ من السلف أحدًا من مرجئة الفقهاء، بل جعلوا هذا من بدع الأقوال والأفعال لا من بدع العقائد؛ فإن كثيرًا من النزاع فيها لفظي، لكن اللفظ المطابق للكتاب والسنة هو الصواب، فليس لأحدٍ أن يقول بخلاف قول الله ورسوله، لا سيما وقد صار ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكلام من أهل الإرجاء وغيرهم وإلى ظهور الفسق، فصار ذلك الخطأ اليسير في اللفظ سببًا لخطأ عظيم في العقائد والأعمال”([26]).
وهذا الخطأ العظيم هو إرجاء المتكلمين، الذي يثبت الإيمان كاملا في القلب دون أن يستلزم شيئا من القول أو العمل الظاهر، فهذا هو الإرجاء الذي اشتد نكير السلف فيه.
ولا شك أن هذه الجملة التي نسبها العلماء لغلاة المرجئة -وهي قولهم: لا يضر مع الإيمان ذنب- كانت أثرًا من آثار إرجاء المتكلمين الذي يجعل الإيمان هو المعرفة كما هو قول الجهمية، أو التصديق كما هو قول الأشاعرة، أو قول اللسان كما هو قول الكرامية([27]).
وهذه الجملة وإن لم تكن منقولة عن أحد معروف بعينه، إلا أنها ربما كانت شائعة بين أقوام من الفسقة والزنادقة، بسبب تأثير هذا الفكر الإرجائي الغالي.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “فإذا عرف أن الذم والعقاب واقع في ترك العمل كان بعد ذلك نزاعهم لا فائدة فيه، بل يكون نزاعًا لفظيًّا مع أنهم مخطئون في اللفظ مخالفون للكتاب والسنة، وإن قالوا: إنه لا يضره ترك العمل فهذا كفر صريح؛ وبعض الناس يحكي هذا عنهم وأنهم يقولون: إن الله فرض على العباد فرائض ولم يُرِدْ منهم أن يعملوها ولا يضرهم تركها، وهذا قد يكون قول الغالية الذين يقولون: لا يدخل النار من أهل التوحيد أحدٌ، لكنْ ما علمتُ معيّنًا أَحْكِي عنه هذا القول، وإنما الناس يحكونه في الكتب، ولا يُعَيِّنون قائلَه، وقد يكون قولُ من لا خلاق له؛ فإنّ كثيرًا من الفساق والمنافقين يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب أو مع التوحيد، وبعض كلام الرادّين على المرجئة وصفهم بهذا”([28]).
فعُلم بهذا أن العلماء جعلوا الموقف من العمل والشريعة هو الفارق بين الإرجاء الغالي الذي يكفر صاحبه، وما دون ذلك؛ فإنّ حقيقة الإرجاء نزعة تهوّن من شأن العمل، وهذا التهوين درجات، أعظمها أن يستحلّ ترك العمل؛ بحجة أن المطلوب هو المعرفة القلبية فقط، ومن هنا كان الإرجاء مدخلا لاستباحة الذنوب والتحلل من الشريعة، ولهذا شدَّدَ السلفُ في التحذير من هذا البدعة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “ولا بدّ أن يكون مع التصديق شيء من حب الله وخشية الله، وإلا فالتصديق الذي لا يكون معه شيء من ذلك ليس إيمانًا البتة، بل هو كتصديق فرعون واليهود وإبليس، وهذا هو الذي أنكره السلف على الجهمية. قال الحميدي: سمعت وكيعا يقول: أهل السنة يقولون: الإيمان قول وعمل، والمرجئة يقولون: الإيمان قول. والجهمية يقولون: الإيمان المعرفة، وفي رواية أخرى عنه: وهذا كفر. قال محمد بن عمر الكلابي: سمعت وكيعا يقول: الجهمية شر من القدرية. قال: وقال وكيع: المرجئة: الذين يقولون: الإقرار يجزئ عن العمل؛ ومن قال هذا فقد هلك، ومن قال: النية تجزئ عن العمل فهو كفر، وهو قول جهم”([29]).
قال ابن بطة (387هـ): “فاحذروا -رحمكم الله- مجالسة قوم مرقوا من الدين، فإنهم جحدوا التنزيل، وخالفوا الرسول، وخرجوا عن إجماع علماء المسلمين، وهم قوم يقولون: الإيمان قول بلا عمل، ويقولون: إن الله عز وجل فرض على العباد الفرائض، ولم يرد منهم أن يعملوها، وليس بضائر لهم أن يتركوها، وحرم عليهم المحارم، فهم مؤمنون وإن ارتكبوها، وإنما الإيمان عندهم أن يعترفوا بوجوب الفرائض وإن يتركوها، ويعرفوا المحارم وإن استحلوها، ويقولون: إن المعرفة بالله إيمان يغني عن الطاعة، وإن من عرف الله تعالى بقلبه فهو مؤمن… وكل هذا كفر وضلال، وخارج بأهله عن شريعة الإسلام”([30]).
وما زالت هذه النزعة الإرجائية التي تهوّن من العمل وتقلّل من قدره في الإسلام موجودة حتى يومنا هذا بين أقوام لا خلاق لهم، عبر مقولات شعبية مثل: الإيمان في القلب، وأن الطهارة هي طهارة القلب… إلخ هذه المقولات.
وأخطرها الذي يصل لاستباحة المحرمات المقطوع بها كالخمور وغيرها، وترك الفرائض بحجة أن الإيمان هو علاقة روحية بين الله والعبد، وهذا هو الإرجاء الذي كفَّر السلف قائله، وحذروا منه أشد التحذير.
- التصوف الفلسفي مدخل لاستباحة الذنوب:
من المعلوم أن التصوف ليس لونًا واحدًا، فهناك التصوف السني السلوكي، وهناك التصوف الطرقي الخرافي، وأخطر هذه الأنواع هو التصوف الفلسفي([31]).
ونقصد به: التصوف المبني على نظريات الفلاسفة في الوجود والمعرفة، وبناء المعرفة على الكشف، وهو ما يعرف بالغنوصية، أي: جعل الطريق للمعرفة هو تصفية الحس والباطن ليدرك الحقيقة المطلقة التي لا يمكن إدراكها بالنظر، بل لا سبيل لإدراكها إلا بالمجاهدة والرياضة وتصفية الحس، فعند ذلك تنكشف له حقائق الوجود([32]).
وهذا التصوف في حقيقته هو لون من ألوان الفكر الباطني، الذي يرى أن للدين ظاهرًا غير مراد، وباطنًا هو المراد، ولكن لا يمكن إدراكه إلا بلون معين من الرياضة والتهذيب والسلوك. وليس هذا عجيبًا؛ فالمتصوفة قد تأثروا بالفلاسفة الباطنيين تأثرًا كبيرًا.
يقول الدكتور أبو العلا عفيفي -وهو أحد المتخصصين في دراسة فكر ابن عربي والتصوف الفلسفي عموما- وهو يذكر المصادر التي أسهمت في تكوين التصوف الفلسفي: “ولا نبالغ إذا قلنا: إنه لا تكاد مسألة من مسائل التصوف الإسلامي الفلسفي أو نظرية من نظرياته تخلو من أثر للفلسفة الأفلاطونية الجديدة، فنظريات الصوفية في خلق العالم والفيض أو الصدور عن الواحد الحق، وكلامهم في النفس والعقل والقلب والكشف والمعرفة والشهود، وفي العالم العلوي والعالم المحسوس وفي الإنسان الكامل، كلها مطبوعة بطابع هذه الفلسفة ومستند إليها”([33]).
وهذا أبو حامد الغزالي (505هـ) رغم أنه كفَّر الفلاسفة إلا أنه تأثر بكثير من أفكارهم، والتي لم يتمكن من التخلص منها بالكلية، كما قال ابن العربي (543هـ) وهو من أخص تلاميذه ومعظِّميه: “شيخنا أبو حامد دخل في بطن الفلسفة، ثم أراد أن يخرج منها فما قدر”([34]).
وهذا التصوف الفلسفي كان مدخلا لاستباحة الذنوب من عدة مداخل:
- الأول: الاتحاد والحلول: وهما بدعتان محصّلهما عدم التفرقة بين الخالق والمخلوق، وأن الخالق هو عين المخلوق، أو حلّ فيه، وإذا كان الأمر كذلك فلا خالق ولا مخلوق، ولا عبد ولا ربّ، ولا تشريع ولا حلال ولا حرام. فهذه البدعة تهدم الدين والشريعة بالكلية.
ومن ذلك قول ابن عربي (638هـ):
لقد صار قلبي قابلًا كلَّ صورةٍ فمرعى لغزلان ودِير لرهبانِ
وبيت لأوثان وكعبة طائفٍ وألواح توراة ومُصحَف قرآنِ
أدين بدين الحب أنَّى توجَّهت ركائبه فالحبُّ ديني وإيماني([35])
ولذلك صحّح ابن عربي إيمان فرعون وادعى نجاته عند الله تعالى، فيقول: “وكان موسى قُرَّةَ عين لفرعون بالإيمان الذي أعطاه اللَّه عند الغرق، فقبَضَه طاهرًا مُطهَّرًا، ليس فيه شيء من الخَبَث؛ لأنه قبضه عند إيمانه قبل أن يكتسب شيئًا من الآثام، والإسلام يَجُبُّ ما قبله”([36]).
ويصحح كذلك عبادة الأوثان وعبادة قوم نوح؛ لأنهم في الحقيقة ما عبدوا غير الله تعالى، بل لو تركوا عبادة أصنامهم لتركوا شيئا من الحق، ويفسر سورة نوح تفسيرًا باطنيًّا خبيثًا، فأمْرُ نوح لهم بالاستغفار معناه: أن يطلبوا من الله تعالى أن يستر وجودهم. وفرارهم منه وصمهم آذانهم عن دعوته هو: لعلمهم بما يجب عليهم من إجابة دعوته، فعلم العلماء بالله تعالى. والنار التي دخلوها هي نار المحبة التي أحرقت من قلوبهم كل ما سوى الله، ونحو ذلك من هذه التفسيرات الباطنية التي لا يشك في كفر قائلها وزندقته([37]).
ومن راجع تائية ابن الفارض (632هـ) المعروفة بـ (نظم السلوك) يجد كثيرًا من الأبيات الطافحة بالكفر والاتحاد.
وهذا كله من أعظم أبواب تصحيح الوثنية، وتصحيح ملل الكفر، وسقوط التكاليف والشريعة.
وهذا من أعظم أسباب دعم السياسة الغربية للتصوّف الغالي، ودعم رجاله وشبكاته، فالتصوف الفلسفي يقدم نسخة محرفة للإسلام، تتوافق مع كل القيم التي يروّجها الغرب، وتهدم كل ما يتعارض مع هذه القيم، مثل الولاء والبراء، والجهاد في سبيل الله، ورفض الحرية المنفلتة من الشرع التي يروج لها الغرب كما هو معلوم([38]).
- ومن هذه المداخل: الجبر: وقد سبق بيان كيف يكون الجبرُ مدخلا للاستباحة.
والصوفية يقولون: إن العبد إذا شهد مشهد القدر سقط عنه التكليف؛ لأن الفرق بين الحلال والحرام يكون عند شهود فعل نفسك.
وهذا معنى قول الهروي صاحب منازل السائرين: “إن مُشَاهدَة العَبْد الحكم لم تدع لَهُ اسْتِحْسَان حَسَنَة وَلَا استقباح سَيِّئَة؛ لصعوده من جَمِيع الْمعَانِي إِلَى معنى الحكم”([39]).
- ومن هذه المداخل عند الصوفية: دعوى أن هناك حقيقة تخالف الشريعة، وأن العلم بها يحصل بالكشف والإلهام.
وهذه من أعظم أبواب الضلال والزندقة، ومن نواقض الإسلام -كما سبق بيانه-، فمن اعتقد أن أحدًا يسعه الخروج عن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم كما وسِع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام فهو كافر بالإجماع؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم شريعته عامة للثقلين، ولجميع الناس، كما قال تعالى: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا ٱلَّذِي لَهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحۡيِۦ وَيُمِيتُۖ فَـَٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ٱلنَّبِيِّ ٱلۡأُمِّيِّ ٱلَّذِي يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَكَلِمَٰتِهِۦ وَٱتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ﴾ [الأعراف: 158]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيدِه، لو أنَّ موسى كان حيًّا ما وسِعَه إلا أن يَتبَعني»([40]).
وأما موسى عليه السلام فلم يكن مرسلا أصلا للخضر، ولم يكن الخضر ملزَمًا بشريعته، فلا وجه للاحتجاج بقصته على سقوط التكليف عن الأولياء.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “من هؤلاء من يرى أنّ له طريقًا إلى الله غير اتباع الرسول، ويُسَوِّغ لنفسه اتباعَ تلك الطريق وإن خالف شرع الرسول، ويحتجون بقصة موسى والخضر، ولا حجة فيها لوجهين:
أحدهما: أن موسى لم يكن مبعوثًا إلى الخضر، ولا كان يجب على الخضر اتباع موسى؛ فإن موسى كان مبعوثًا إلى بني إسرائيل…
الثاني: أن قصة الخضر ليس فيها مخالفة للشريعة، بل الأمور التي فعلها تباح في الشريعة إذا علم العبد أسبابها كما علمها الخضر؛ ولهذا لما بين أسبابها لموسى وافقه على ذلك، ولو كان مخالفا لشريعته لم يوافقه بحال”([41]).
ولا نريد أن نطيل بذكر حكايات الصوفية عن شيوخهم، كما في (الطبقات) للشعراني (973هـ)، و(جامع كرامات الأولياء) ليوسف النبهاني (1350هـ)، وكتاب (المشرع الروي في فضائل آل باعلوي) لجمال الدين الحضرمي الشافعي نزيل مكة (1096هـ)، وكلها كتب مشحونة بالخرافات والشناعات والمنكرات، بل ومن رموز الصوفية المعاصرين من يحكي ذلك([42]). وهو يدل على مدى انتشار التصوف الفلسفي بين كثير من الصوفية، وذلك بسبب تعظيمهم لرجاله كابن عربي وابن الفارض وأمثالهما من أئمة الضلالة والزندقة.
- العالمانية([43]):
وقد عرفتها دائرة المعارف البريطانية بأنها: “حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها”([44]).
وعرفها معجم أكسفورد قائلا: إنها “الرأي الذي يقول: إنه لا ينبغي أن يكون الدين أساسًا للأخلاق والتربية”([45]).
والتعاريف الأكاديمية كثيرة، وكلها تدور حول فكرة: فصل الحياة عن الدين، وأن تكون الممارسة في المجال العام ليست مؤسسة على أساس ديني، فالسياسة والاقتصاد والقوانين والأخلاق لا تستند إلى الدين، هذه هي حقيقة العلمانية وجوهرها.
ولا شك أن تطبيق الدول للعلمانية أو تأثر الأفراد بفكرها متفاوت، فهناك من يرى الفصل الحاد بين الدين والدولة، وهناك من يجعل للدين مدخلا في بعض الأمور كالأحوال الشخصية دون غيرها، وهناك من يرى الفصل ليس بين الدين والدولة فقط، بل بين الدين والسياسة والأخلاق والاقتصاد والقوانين والحياة بشكل عام، ويحصر الدين في الشأن الشخصي فقط دون أن يكون له ظهور في المجال العالم، حتى إن بعض الدول كفرنسا تمنع المسلمات من ارتداء الحجاب؛ باعتباره يتعارض مع قيم الجمهورية العلمانية.
والعلمانية بكل صورها (الشاملة – الجزئية)([46]) لا تتوافق مع الإسلام، فالإسلام بإجماع علماء المسلمين عبر التاريخ دين ودولة، فوجوب نصب الحكام، وطاعة الحكام، وعدم الخروج عليهم، وإيجاب الجهاد، وكيفية تقسيم الغنائم، ونظام القضاء، والعقوبات، والاقتصاد، وأحكام الأسرة من نكاح وطلاق ومواريث، والسلم والحرب، وعلاقة الحاكم بالمحكوم، والدولة الإسلامية بغيرها من الدول… إلخ الأحكام المتعلقة بالدولة، كل هذه المسائل لها أحكام شرعية قطعية في الكتاب والسنة، وأجمع عليها المسلمون. فكيف يقال بصحة فصل الدين عن الدولة، أو أن العلمانية الجزئية لا تعارض الدين؟!
وقد يقول قائل: ولكن العلمانية لا تناقش الحكم الفقهي من جهة نسبته إلى الله أو الشريعة، فهي مثلا لا تناقش هل حرم الله الزنا أم لا؟ ولا تناقش هل أمر الله تعالى بعقاب الزاني بالجلد والرجم أم لا؟ فما علاقتها بالاستحلال واستباحة الذنوب؟
والجواب ما قدمناه في عنصر: معنى الاستحلال، وأن له معنيين، أحدهما: التكذيب، كأن يقول: الله تعالى لم يحرم الزنا، أو لم يحرم الربا. والثاني: الإباء والاستكبار، وذلك بأن يرى نفسه غير ملزم بشرع الله تعالى؛ كإبليس، فإنه لم يردّ الأمر على الله تعالى، وإنما أبى واستكبر وكان من الكافرين.
والعلمانية لا ترى لزوم -بل ولا صحة- الاحتكام إلى شرع الله تعالى، ومن ثَمّ لا تهتم بالخوض في بيان ما هو حقيقة الشرع.
ولا شك أن هذا من الكفر الصراح، ومن استحلال الذنوب والمعاصي، فمن يرى الزنا أو الشذوذ أو التبرج أو شرب الخمور حرية شخصية وأنه لا تثريب على من فعل ذلك، فهذا كفرح لأنه استحلال للمحرمات. ومن يرى أن تحريم الربا لا يلزمنا في واقعنا المعاصر، أو أن قواعد الميراث لم تعد صالحة للتطبيق، أو أن العقوبات البدنية كجلد الزاني ورجمه تخلُّف ووحشية لا تناسب التحضر والتمدن؛ فكل هذا ردة عن الإسلام بلا خلاف بين العلماء([47]).
وقد انتشر هذا الفكر بين كثير من الناس، خاصة ممن تشربوا الثقافة الغربية وانبهروا بها، مما كان له أسوأ الأثر على كثير من الدول والأفراد الذين استحلّوا ترك الحكم بما أنزل الله، وترك الاحتكام للشريعة، وإعلاء مبدأ الحرية الفردية على شرع الله تعالى، مما أوقع الكثير في خطر استحلال الذنوب واستباحة الشريعة، وهو ما ينقض الإيمان ويهدم أصله؛ فلا يصح للعبد إسلام ولا إيمان إلا بالتسليم لحكم الله تعالى وقبوله، كما قال تعالى ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمًا﴾ [النساء: 65]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمنُ أحدُكم حتَّى يكونَ هواه تبعًا لما جئتُ به»([48]).
خاتمة:
ليس المقصود من هذه الورقة الرد المفصل على هذه البدع المنكرة، فهذا مظانه في مواضع أخرى، وإنما الغرض هو بيان روافد هذه البدعة الخطيرة التي تهدم الدين والشريعة، وهي بدعة الاستحلال واستباحة المحرمات.
وقد ظهر من خلال ما تقدم أن الشيطان قد يدخل على الناس بهذه البدعة من البدع الدينية كالتصوف والجبر والإرجاء، وقد يدخل من خلال البدع الدنيوية كالعلمانية والحداثة والتطور.
وظهر أيضا مما تقدم أن التصوف الفلسفي هو أوسع الأبواب التي توصل لاستباحة الشريعة، بل هو في الحقيقة الجامع للمداخل الأخرى والموصل لها.
والله المستعان، والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([2]) انظر: أصول اعتقاد أهل السنة، للالكائي (1593).
([5]) مجموع الفتاوى (11/ 422-424).
([6]) رسالة نواقض الإسلام، الدرر السنية (2/ 361).
([7]) انظر: السنة، لعبد الله بن أحمد (1/ 347).
([8]) مجموع الفتاوى (20/ 97-98).
([9]) مقالات الإسلاميين (1/ 219).
([12]) أخرجه البخاري (3409)، ومسلم (2652).
([13]) شفاء العليل (ص: 14-15).
([14]) منازل السائرين (ص: 14).
([15]) انظر: شفاء العليل (ص: 16-17).
([16]) منهاج السنة النبوية (5/ 341).
([17]) منهاج السنة النبوية (5/ 358)، ومجموع الفتاوى (8/ 339).
([18]) الرد على الشاذلي (ص: 104).
([20]) انظر مثلا: كتاب (الإرادة الحرة وهم) للملحد سام هاريس.
([21]) رابط التقرير على رويتر:
https://www.reuters.com/article/us-science-sex/no-gay-gene-but-study-finds-genetic-links-to-sexual-behavior-idUSKCN1VJ2C3
([22]) انظر: إحياء علوم الدين للغزالي، باب رياضة النفس (3/ 48).
([23]) أخرجه أبو داود (5225). وأصله في مسلم (17).
([24]) انظر: تهذيب الآثار (2/ 659).
([25]) مجموع الفتاوى (13/ 38-39).
([26]) مجموع الفتاوى (7/ 395).
([27]) ينظر: مجموع الفتاوى (7/ 195).
([28]) مجموع الفتاوى (7/ 181).
([29]) مجموع الفتاوى (7/ 307).
([30]) الإبانة الكبرى (2/ 893).
([31]) انظر في تفصيل هذه الأنواع كتاب: استدعاء التصوف. نشر مركز سلف.
([32]) انظر في ذلك أيضا: (الكشف والإلهام بين أهل السنة والصوفية)، و(الحقيقة المحمدية عرض ونقد)، كلاهما من أوراق مركز سلف للبحوث والدراسات.
([33]) بحث منشور للدكتور أبو العلا عفيفي، في مجلة الرسالة (196/ 105) بعنوان: التصوف الفلسفي.
([34]) انظر: نقض المنطق (ص: 95)، والرد على الشاذلي (ص: 85). ودرء التعارض (1/ 5).
([35]) الذخائر الأعلاق في شرح ترجمان الأشواق، تحقيق: محمد عبد الرحمن الكردي، القاهرة، 1986م.
([37]) انظر: فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية، فصوص الحكم بشرح مصطفى زاده الحنفي (ص: 59-74).
([38]) يراجع في ذلك كتاب: عندما يكون العم سام ناسكا، للدكتور صالح الغامدي.
([39]) منازل السائرين (ص: 14).
([40]) أخرجه أحمد (14672)، وحسنه ابن حجر في هداية الرواة (1/ 136)، والألباني في ظلال الجنة (50).
([41]) مجموع الفتاوى (2/ 233-234).
([42]) انظر مثلا كلام الشيخ علي جمعة -مقاطع مصورة على اليوتيوب- عن الشيخ الفرغل الذي يبيع الحشيش أمام المسجد، وقصته مع الحافظ ابن حجر لما أنكر عليه، وكيف عاقبه بأن أنساه الفاتحة في الصلاة، وكلامه عن الولي الذي يزني ثم لما دخل عليه طلابه جرى على الماء، وغير ذلك من هذه الحكايات السمجة التي تدور حول عدم الإنكار على الأولياء مهما اقترفوا من منكرات.
([43]) التعبير بالعالمانية أصح من التعبير بالعلمانية، فهي نسبة إلى العالم أو الدنيا، وليس نسبة إلى العلم.
([44]) دائرة المعارف البريطانية، نقلا عن العلمانية لسفر الحوالي (ص: 22).
([45]) معجم أكسفورد (ص: 785). نقلا عن العلمانية لسفر الحوالي (ص: 23).
([46]) صاحب هذا التقسيم هو الدكتور عبد الوهاب المسيري، كما في كتابه: العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة. ورفض الثانية ووافق على الأولى، حيث إن الشاملة تعني فصل الدين عن الحياة بالكلية، بخلاف الجزئية التي تقتصر على فصل الدولة وسياستها عن الدين.
([47]) انظر رسالة: تحكيم القوانين للشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله، ورسالة نواقض الإسلام بتعليقات الشيخ ابن باز رحمه الله.
([48]) أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (15). والبيهقي في المدخل (209)، وصححه النووي في الأربعين (41).