
ضبط السنة التشريعية
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
مقدمة:
السنة النبوية لها مكانة رفيعة في التشريع الإسلامي، فهي المصدر الثاني بعد القرآن الكريم، وهي التطبيق العملي لما جاء فيه، كما أنها تبيّن معانيه وتوضّح مقاصده. وقد وردت آيات وأحاديث كثيرة تأمر بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم والعمل بسنته، وتحذّر من مخالفته أو تغيير سنته، وتؤكد أن طاعته هي طاعة لله، كقوله: {مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80]، وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7]، وقوله: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [آل عمران: 164]، وقد ذهب أهل العلم والتحقيق إلى أن المراد بالحكمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن الموضوعات الخطيرة التي أثارت جدلًا واسعًا بين العلماء المعاصرين: تقسيم السنة النبوية إلى “تشريعية” و”غير تشريعية”. هذا التقسيم يفتقر إلى الضوابط المحدّدة له، مما فتح الباب للتوسع غير المحمود من جانب العصرانيين وغيرهم.
ومع ذلك يُلاحظ أن المجتمع العلمي يواجه صعوبة في التعامل مع المصطلحات والتقسيمات الجديدة، فقد يُسرع بعض الغيورين على السُنة إلى رفض هذه التقسيمات جُملةً وتفصيلًا دون التحقق من دلالاتها. وهذا ليس منهجًا سديدًا، ولا يتماشى مع المنهج العلمي القائم على الفحص والتحليل والتبيين.
ولا شك أن ما صدر عن النبي ﷺ يتضمن ما هو تشريع وما ليس بتشريع، فهذا التقسيم صحيح من هذا الجانب، إلا أن بعض العصرانيين قد قصدوا به معنى باطلًا أيضًا، ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “لا يُنفقُ الباطل إلى الوجود إلا بشَوبٍ من الحق”([1]).
ولما رأى مركز سلف للبحوث والدراسات حاجةَ تقسيم السنة النبوية بهذه الطريقة إلى ضبط وتحرير وجّه إلى كتابة هذه الورقة العلمية.
مركز سلف للبحوث والدراسات
وستنظم في المطالب التالية:
أولًا: ضبط المصطلح وتفكيكه:
بادئ ذي بدء ينبغي تأمل المصطلح، فقد ظهر طائفتان حيال هذا التقسيم، طائفة قالت بالتقسيم ودافعت عنه دون مراعاة لكلام الأصوليين وضوابطهم، بل أهملوا كلامهم بدعوى الاجتهاد والتجديد، وطائفة أخرى ردت هذا التقسيم جملةً وتفصيلًا دون مراعاة للمعاني الصحيحة، وتحيَّروا فيما ورد عن الأصوليين من اعتبار بعض تصرفاته ﷺ ليست تشريعًا.
والسبيل الأصح في ذلك هو تفكيك التقسيم محلّ البحث، وبيان المعاني الصحيحة والمعاني الفاسدة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في قضية الاصطلاح المُشتبه: “يكون النزاع في معنيين متنوعين نزاعا لفظيًّا اعتباريًّا، وقد قال بعض الفضلاء: أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء، لكنَّ وقوع الاشتراك والإجمال يضل به كثير من الخلق، كما يهتدي به كثير من الخلق”([2]).
وبناءً على ذلك نقول: السنة عند الأصوليين هي ما نقل عن النبي ﷺ من قول أو فعل أو تقرير.
أما عند المحدثين فهي جميع ما روي عن النبي ﷺ في كتب الحديث والمسانيد، حتى ما روي عنه قبل بعثته ﷺ، ولا شك أن المعنى الثاني -أي: عند المحدثين- ليس مقصودًا في البحث.
وبما أنَّ مسألة البحث أصولية فالضبط الدقيق للتقسيم هو: إنَّ تصرفات النبي ﷺ تنقسم إلى تشريعية وغير تشريعية، أما السنة النبوية فكلها تشريعية.
هذا هو التقسيم الدقيق الذي عليه عمل الفقهاء؛ لأنهم تكلموا في التصرفات النبوية، ولم يتكلَّموا في تقسيم السُنة من حيث كونها سُنة؛ لأن ما ليس تشريعًا لا يدخل في نطاق السُنة عندهم من الأساس.
نعم، قد يقول قائل: لا مشاحة في الاصطلاح، وهذا الكلام في أصله صحيح، إلا أنَّ الاصطلاح إن كان يجرُّ إلى معانٍ فاسدة أو يتم توسيعه ليشمل أمورًا تشريعية -وهو ما حدث بالفعل- فهنا لا بد من ضبط المصطلح وتحديده.
والحاصل أنه: إن قُصد بالسنة كل ما روي عن النبي ﷺ في كل كتب الحديث فهذا المعنى صحيح، وإن أرادوا السُنة عند الأصوليين- وهي ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير- فهو داخل تحت الأحكام التكليفية الخمسة، وبالتالي لا يصح أن يُقال: إن سنته ليست تشريعية.
والذين قسموا السنة إلى تشريعية وغير تشريعية تارةً يقصدون هذا المعنى، وتارةً يقصدون غيره، وقد اختلف أصحاب هذا التقسيم ما بين موسّعٍ ومضيق في دائرة السنة غير التشريعية، فمن هؤلاء من ضيق دائرتها حتى اقتصرت على ما اقتصر عليه الأصوليون، كالتصرفات الجبلية والعادات، وهذا الصنف الخلاف معه لفظي اعتباري.
والبعض الآخر توسع فأدخل في السنة غير التشريعية تصرفاته بالقضاء والإمامة دون تفصيل، واشتطَّ البعض الآخر فجعلها شاملة لما ورد في أبواب المعاملات المالية، وغيرها مما أجمع عليه الفقهاء بكونه من التشريع، ولا يشكّ عاقل أن التقسيم جرَّ إلى مذاهب غير محمودة.أن ه
ثانيًا: الجواب عما استدلوا به من كلام بعض الفقهاء:
كثير من الأئمة المعتبرين وضعوا قواعد ومناهج لفهم التصرفات النبوية وفقًا للسياق الذي جاءت فيه، الهدف من هذا التمييز هو فهم المرويات النبوية في سياقاتها المتعددة، بحيث نأخذ في الاعتبار السياق التشريعي والديني والاجتماعي والعرفي والجِبِلّي من العوامل التي قد تؤثر في تفسير قول النبي أو فعله أو تقريره.
وقد استدلَّ العصرانيون بكلام بعض العلماء ممن تكلَّموا في مراتب التصرُّفات النبوية من خلال الاستقراء والاجتهاد، وظنوا أنَّ لهم سلفًا في هذا التقسيم المعاصر؛ لذا نستعرض طرفًا من كلامهم ونشفعه بالتحليل:
1- ابن قتيبة الدينوري (276هـ):
قال ابن قتيبة بعد أن قسم السنة ثلاثة أقسام: “والسنة الثالثة: ما سنَّه لنا تأديبًا، فإن نحن فعلناه كانت الفضيلة في ذلك، وإن نحن تركناه فلا جناح علينا إن شاء الله؛ كأمره في العِمَّة بالتَّلحِّي، وكنهيه عن لحوم الجلالة وكسب الحجام”([3]).
وقد غفلوا عن قول ابن قتيبة: (فإن نحن فعلناه كانت الفضيلة في ذلك)، والمندوب يدخل في التشريع. وعليه فكلام ابن قتيبة ليس فيه ما فهموه من نفي التشريع، بل مقصوده المندوبات في اصطلاح الأصوليين.
وابن قتيبة من أهل الحديث المتقدّمين، من تلاميذ إسحاق بن راهويه، وفي ذلك الوقت لم يكن قد استُقِرّ بعد على اصطلاحٍ أصوليّ معروف، بل كانوا يسمون المندوب بفضائل الأعمال ونحو ذلك.
2- ابن حزم الظاهري (456هـ):
قال ابن حزم في حديث تأبير النخل: “فهذا بيان جليّ مع صحة سنده في الفرق بين الرأي في أمر الدنيا والدين، وأنه صلى الله عليه وسلم لا يقول الدين إلا من عند الله تعالى، وأن سائر ما يقول فيه برأيه ممكن فيه أن يُشار عليه بغيره فيأخذ عليه السلام به؛ لأن كل ذلك مباح مطلق له، وأننا أبصر منه بأمور الدنيا التي لا خير معها إلا في الأقل، وهو أعلم منا بأمر الله تعالى وبأمر الدين المؤدّي إلى الخير الحقيقي”([4]).
ومن النص السابق يتّضح تفرقةُ ابن حزم بين الرأي في أمر الدنيا والدين، وغاية مراد ابن حزم جوازُ عدم وجود التشريع في أمور الدنيا، وهذا أمر لا نزاعَ فيه بين الفقهاء، وإنما النزاع الحقيقي هو نفي جنس التشريع عن جميع أمور الدنيا.
3- القاضي عياض (544هـ):
قال القاضي عياض: “أما ما ليس طريقه البلاغ، ولا بيان الأحكام من أفعاله صلى الله عليه وسلم، وما يختص به من أمور دينية وأذكار قلبية مما لم يفعله ليُتبع فيه؛ فالأكثر من طبقات علماء الأمة على جواز السهو والغلط عليه فيها، ولحوق الفترات والغفلات بقلبه، وذلك بما كلفه من مقاساة الخلق وسياسات الأمة ومعاناة الأهل وملاحظة الأعداء، ولكن ليس على سبيل التكرار، ولا الاتصال، بل على سبيل الندور”([5]).
والقاضي عياض يناقش قضية عصمة الأنبياء، وأنهم معصومون فيما يبلِّغونه عن الله، وجواز وقوع السهو والخطأ عليه ﷺ فيما ليس بلاغًا عن الله، وذلك على سبيل النادر -كما ذكر-، لكنَّ الوحي لا يقرّه على خطأ فيما هو مظنة اتباع.
ولم يصرّح القاضي عياض أن أمور الدنيا لا يدخلها التشريع في المطلق، ومحل النزاع المعاصر هو مطلق أمور الدنيا، لا جنس وقوع الخطأ على الأنبياء، فهذا أمرٌ وارد لا نزاع فيه، ولا ينفي مبدأ عدم اتباعهم في الأوامر والنواهي، أو التفرقة بين أمور الدين وأمور الدنيا.
4- الإمام القرافي (684هـ):
استدل القائلون بالتقسيم بكلام القرافي رحمه الله حيث قسم السنة إلى أقسام متعددة، منها: “ما ذكره بلاغًا عن ربه، وما ذكره فتوى، وما كان حكمًا وقضاءً”([6]).
ثم فرَّق بين هذه الأقسام وقال: “تصرفه بالحكم هو مغاير للرسالة والفتيا؛ لأن الفتيا والرسالة تبليغ محض واتباع صرف، والحكم إنشاء وإلزام من قِبله بحسب ما يسنح من الأسباب والحجاج”([7]).
ويبدو أنهم فهموا أنه جعل القسم الأول -وهو التصرف بالتبليغ والفتيا- من قبيل السنة التشريعية، وأما الحكم والإمامة فليس من التشريع.
لكن هذا الفهم الذي فهموه ليس صحيحًا، فإن مقصود القرافي أن الفتيا والبلاغ هو تشريع عام للأمة، وأما القضاء والإمامة فهو تشريع غير عام، بل هو مخصوص لذوي الاختصاص في الدولة، بمعنى أنه لا يجوز الإقدام عليه إلا بإذن الإمام؛ كتوزيع الجيوش وتوزيع الخراج ونحو ذلك، وليس لأحد أن يفعله بنفسه بدعوى الاقتداء بالرسول؛ وذلك لأنه حكم خاص ببعض الناس في الدولة.
أما وصف القرافي للبلاغ والفتيا أنهما (تبليغ محض واتباع صِرف) فمقصد القرافي هو التفرقة بين ما كان وحيًا صرفًا وبين اجتهاده بتفويضه بالحكم بين الناس، فهو تقسيم فني استقرائي، وليس نفيًا للصبغة التشريعية عن القضاء والحكم، وإلا فهو قد أثبتها في آخر كلامه، حيث ختم القرافي كلامه عن الإمامة قائلًا: “لأنه إنما فعله بطريق الإمامة، وما استبيح إلا بإذنه، فكان شرعًا مقررًا لقوله تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]”([8]).
5- ابن قيم الجوزية (751هـ):
قال ابن القيم في كلامه عن حديث (لا عدوى): “وقد سلك بعضهم مسلكا آخر فقال: ما يخبر به النبي صلى الله عليه وسلم نوعان:
أحدهما: يخبر به عن الوحي، فهذا خبر مطابق لمخبره من جميع الوجوه ذهنا وخارجا، وهو الخبر المعصوم.
والثاني: ما يخبر به عن ظنه من أمور الدنيا التي هم أعلم بها منه؛ فهذا ليس في رتبة النوع الأول ولا تثبت له أحكامه، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن نفسه الكريمة بذلك تفريقا بين النوعين، فإنه لما سمع أصواتهم في النخل يؤبرونها وهو التلقيح قال: «ما هذا؟» فأخبروه بأنهم يلقحونها، فقال: «ما أرى، لو تركتموه…» فتركوه فجاء شيصًا، فقال: «إنما أخبرتكم عن ظني، وأنتم أعلم بأمر دنياكم، ولكن ما أخبرتكم عن الله»“.
وشرح ابن القيم هذا المسلك قائلًا: “فهكذا إخباره عن عدم العدوى إخبارٌ عن ظنه، كإخباره عن عدم التلقيح، لا سيما وأحد البابين قريب من الآخر، بل هو في النوع واحد؛ فإن اتصال الذكر بالأنثى وتأثره به كاتصال المُعدي بالمعدي وتأثره به، ولا ريب أن كليهما من أمور الدنيا مما لا يتعلق به حكم في الشرع، فليس الإخبار به كالإخبار عن الله سبحانه وصفاته وأسمائه وأحكامه، قالوا: فلما تبيَّن له من أمر الدنيا الذي أجرى الله به عادته من ارتباط هذه الأسباب بعضها ببعض وتأثير التلقيح في صلاح الثمار وتأثير إيراد الممرض على المُصح أقرَّهم على تأبير النخل، ونهاهم أن يورد ممرض على مصح. قالوا: وإن سُمي هذا نسخًا بهذا الاعتبار، فلا مُشاحة في التسمية إذا ظهر المعنى؛ ولهذا قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: فلا أدري أنسي أبو هريرة أو نسخ أحد القولين بالآخر، يعني حديثه بالحديثين، فجوَّز أبو سلمة النسخ في ذلك مع أنه خبر، وهو بما ذكرنا من الاعتبار، وهذا مسلك حسن”([9]).
وبالنظر لما نقله ابن القيم عن هذا الفريق يتضح أنهم قصدوا نوعًا معينًا من أمور الدنيا، وهي كما نقل عنهم: (ما يُخبر به عن ظنه من أمور الدنيا)، فخصصه بما يُخبر به عن ظنه، ثم بيَّنوا أنهم عرفوا ذلك بتراجع النبي عنها -أي: بقرينة صارفة عن التشريع-، ولذلك قالوا: (وإن سُمي هذا نسخًا بهذا الاعتبار فلا مُشاحة في التسمية). فهذا الفريق يقصد به بعض أمور الدنيا لا كلها.
6- ولي الله الدهلوي (1176هـ):
قال الدهلوي: “اعلم أن ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ودوِّن في كتب الحديث على قسمين، أحدهما: ما سبيله سبيل تبليغ الرسالة، وفيه قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7]، منه علوم المعاد وعجائب الملكوت، وهذا كله مستند إلى الوحي وهو أنواع:
– علوم المعاد وعجائب الملكوت، وهذا كله مستند إلى الوحي، ولا دخل للاجتهاد فيه.
– شرائع للعبادات والارتفاقات، فاجتهاده صلى الله عليه وسلم بمنزلة الوحي لأن الله تعالى عصمه من أن يتقرر رأيه على الخطأ.
– حِكَم مرسلة ومصالح مطلقة لم يوقتها، ولم يبين حدودها كبيان الأخلاق الصالحة وأضدادها، ومستندها غالبا الاجتهاد.
– فضائل الأعمال ومناقب العمال، ورأى أن بعضها مستند إلى الوحي وبعضها إلى الاجتهاد.
وثانيهما: ما ليس من باب تبليغ الرسالة، وفيه قوله: «إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيءٍ من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيءٍ من رأيي فإنما أنا بشر»، وقوله في قصة تأبير النخل: «فإنما ظننتُ ظنًا، ولا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئًا فخذوا به، فإني لم أكذب على الله»، ومنه الطب، ومنه باب قوله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالأدهم الأقرح»، ومستنده التجربة”([10]).
ومن خلال كلام الدهلوي يتبيَّن أنه لم يقل: إن السُنة تنقسم إلى تشريعية وغير تشريعة، بل كان دقيقًا في طرحه رحمه الله، حيث ذكر في أول كلامه: (ما روُي ودوِّن في كتب الحديث)، ومعلومٌ أن هذا أشمل من مجرد السُنة في اصطلاح الأصوليين. وعليه فكلام الدهلوي منضبط إلى حدٍّ كبير، ولا يدخل فيه التقسيم المعاصر كما توهم ذلك بعض الباحثين.
لذا يجب أن ننبه أن العلامة الدهلوي لم يكن مراده نفيَ التشريع عن أمور الدنيا بإطلاق، بل هو يرى التفصيل بين ما كان عادة وجبِلة، وبين ما قُصِد به القربة، ولذلك ذكر أنه من أمور الشرع: (حِكَم مرسلة ومصالح مطلقة لم يوقتها، ولم يُبيِّن حدودها كبيان الأخلاق الصالحة وأضدادها، ومستندها غالبا الاجتهاد، وفضائل الأعمال ومناقب العمال، ورأى أن بعضها مستند إلى الوحي وبعضها إلى الاجتهاد).
ومعلوم أن هذه المصالح المستندة إلى الاجتهاد تدخل في أمور الدنيا أيضًا، ومع ذلك اعتبرها الدهلوي تشريعًا، فكلام الدهلوي من حيث التأصيل منضبط ولا شيء فيه.
إلا أنَّه أخطأ في جعله (الطب) من العادات، وقد تابع في ذلك ابن خلدون في استثناء الطب من قضايا التشريع، وهو من مفردات ابن خلدون حيث ألحقه بالعادات والجبلة. وخالفهم غيرهم ممن صنفوا في الطب النبوي، وعلى هذا عمل جمهور الفقهاء.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “فكل ما قاله بعد النبوة وأُقر عليه ولم ينسخ فهو تشريع، لكن التشريع يتضمن الإيجاب والتحريم والإباحة، ويدخل في ذلك ما دل عليه من المنافع في الطب؛ فإنه يتضمن إباحة ذلك الدواء والانتفاع به، فهو شرع لإباحته، وقد يكون شرعًا لاستحبابه… والمقصود أن جميع أقواله يُستفاد منها شرع”([11]).
والخلاصة:
أنَّ ما احتجّوا به من كلام بعض العلماء ليس صريحًا في نفي التشريع عن أمور الدنيا بالمطلق، وإنما هو على دروب: إما على سبيل التقاسيم والاصطلاح، وإما على سبيل جواز وقوع الخطأ على النبي في بعض أمور الدنيا، وإما على سبيل تفرد آحاد العلماء كمن استثنى الطب دون غيره مستصحبًا عادات العرب في أمور الاستشفاء، وهو لا يعدو أن يكون اجتهادًا تفرَّد به ابن خلدون وتابعه عليه الدهلوي.
والمقصود: أن المعاصرين أخذوا هذا الكلام -دون ضوابط- ثم عمّموه على سائر أمور الدنيا، التي أجمع عليها الفقهاء؛ مثل قضايا الحكم والسياسة الشرعية، وكآداب دخول الخلاء، وصفة الأكل باليمين، وقضايا الإمامة والبيوع وغيرها الكثير.
ولا شك أن هذا مسلك غير سديد في بحث المسائل، بل الواجب النظر في عين المسألة الدنيوية، وما ورد فيها من أدلة، فإن كان فيها أدلة على قصد القربة كانت تشريعًا، وإن كانت القرائن تدل على أنها من الجبلة والعادة أو الخصوصية لم تكن تشريعًا. هذا ما يُقرره الأصوليون والفقهاء، وهو القول الوسط دون إفراطٍ أو تفريط، والله أعلم.
ثالثًا: توضيح خطأ العصرانيين في المسألة:
ذكرنا أن التقسيم المعاصر له وجهٌ صحيح ذكره الأصوليون من الأفعال الجبلية والعادات، أو الخصوصيات التي اختص بها النبي عن الأمة، لكن تقسيم المعاصرين فيه إجمالٌ واشتباه ويحتاج إلى تفصيل، فإن قصدوا ما قصده الأصوليون من وجود أمور نبوية من المباحات أو الخصوصيات النبوية فكلامهم صحيح، وإن قصدوا توسيع نطاق ما ليس بتشريع من الأقوال والأفعال بالمطلق فكلامهم خاطئ.
والواقع أنهم -أو بعضهم- أراد توسيع نطاق ما ليس بتشريع واستدل في ذلك بأدلة، كحديث تأبير النخل، وكتغيير النبي ﷺ رأيه في غزوة الخندق، وتصحيح الوحي له في أسارى بدر، وتصحيح الوحي له في آية الظهار، وقول حباب بن المنذر في غزوة بدر: “أهذا منزل أنزلكه الله أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟”([12]).
فينبغي لطالب العلم تفصيل المسألة، وبيان وجه الخطأ فيها ووجه الصواب، كما يلي:
أ- الخطأ الأول: خطأ التفريق بين الأمور الدينية أو الدنيوية:
ميَّز بعض العصرانيين بين أفعال النبي ﷺ الدنيوية والأخروية في معرفة التشريع، فيُقال لهم: ما الحدود الفاصلة بين الدين والدنيا؟ فإنَّ تقسيم الأعمال إلى دين ودنيا ليس له ضابط؛ لأن الرسول جاء بما يُصلح الناس في دينهم ومعاشهم ودنياهم، فعن حديث سلمان: قال لنا المشركون: إني أرى صاحبكم علمكم كل شيء حتى الخراءة، فقال: نعم، إنه نهانا أن يستنجي أحدنا بيمينه…([13]).
فالتمييز بين أمور الدين وأمور الدنيا مشكل؛ إذ ليس له ضابط مُحدّد؛ فإن معنى (الدين) هو الطريقة أو المنهج الذي يشمل الدنيا والآخرة معًا، والدين أتى بصلاح الدنيا والآخرة، فليس الإسلام من الأديان الطقوسية التي لا مدخل للدنيا فيها.
والنبي ﷺ قد تكلَّم في أمور دنيوية مثل آداب دخول الخلاء، وتكلم في الأكل باليمين وذمَّ من يأكل باليسار، كما تكلَّم في شئون الخلافة والملك، بقوله: «أوفوا بيعة الأول فالأول..»([14]).
وكل هذه الأمور -وأمثالها- من أمور الدنيا من حيث الظاهر، لكنها دخلت في الدين لما تكلَّم عنها النبي صلى الله عليه وسلم.
إذن، فالتمايز بين الدين والدنيا في معرفة التشريع بإطلاق ليس بضابطٍ مُستقيم. والصواب: أنه لا فرق بين ما صدر من الأقوال النبوية مما ظاهره دين أو دنيا من حيث التكليف الشرعي.
وفي ذلك يقول الشاطبي: “إن بعض الناس قال: إن مصالح الدار الآخرة ومفاسدها لا تُعرف إلا بالشرع، وأما الدنيوية فتُعرف بالضرورات والتجارب والعادات، والظنون والمعتبرات، هذا قوله! وفيه بحسب ما تقدم نظر؛ أما أن ما تعلق بالآخر لا يُعرف إلا بالشرع فكما قال، وأما ما قال في الدنيوية فليس كما قال من كل وجه، بل ذلك من الوجوه دون بعض، ولذلك لما جاء الشرع بعد زمان فترة تبيَّن به ما كان عليه أهل الفترة من انحراف الأحوال عن الاستقامة، وخروجهم عن مقتضى العدل في الأحكام، ولو كان الأمر على ما قال بإطلاق لم يحتج في الشرع إلا إلى بث مصالح الدار الآخرة خاصة، وذلك لم يكن، وإنما جاء بما يُقيم أمر الدنيا وأمر الآخرة معًا، وإن كان قصد بإقامة الدنيا للآخرة، وقد بث في ذلك من التصرفات وحسم من أوجه الفساد التي كانت جارية ما لا مزيد عليه، فالعادة تُحيل استقلال العقول في الدنيا بإدراك مصالحها ومفاسدها على التفصيل”([15]).
والشاطبي رحمه الله يُعتبر إمام المقاصديين عند المعاصرين، وكلامه واضح في المسألة بأن التفرقة بين أمور الدين والدنيا غير منضبط؛ إذ يجب التفصيل في أمور الدنيا، وهذا التفصيل يرجع إلى وفرة القرائن المصاحبة -كما سيأتي-.
ب- الخطأ الثاني: التمييز بين ما قاله النبي باجتهاده البشري وما قاله بلاغًا عن الله:
أولًا: تمييز بعض العصرانيين بين اجتهاد النبي ﷺ البشري وبين ما يُبلغه عن الله ليس بضابط مُستقيم أيضًا؛ لأن كثيرًا من الأمور التي قالها برأيه ثم صححها له الوحي كانت تمس أمورًا شرعية، مثل مفاداة أسارى بدر، واجتهاده في آية الظهار ثم تصحيح الوحي له، ونحو ذلك. ولو لم ينزل الوحي لكان اجتهاد النبي ﷺ حكمًا شرعيًّا قائمًا حتى الآن.
وهذا يدل أنه يقول برأيه واجتهاده حتى في أمور الدين. وبذلك يلزمهم ألا نأخذ من النبي تشريعًا دينيًّا أيضًا؛ لأنه يجوز عليه الخطأ الاجتهادي -بحسب استدلالهم-، وهذا مخالف لما هو معلوم بالضرورة من الإسلام.
ثانيًا: تمييزهم بين الاجتهاد البشري والوحي يلزم منه أنه في الأمور التي أخطأ فيها وصحّح له الوحي قد اقتحم ببشريته مجالًا ليس له، وقد تألى على الله، ولن يقولوا بذلك.
أو يقولوا: له الحق في الاجتهاد، والوحي يقرُّه تارة، ويصحح له تارة أخرى، فإن قالوا بهذا نقضوا هذا التمييز بين الاجتهاد البشري وغيره.
ثالثًا: هذا التمييز لا ضابط له، فكيف يُعرف ما قاله النبي ﷺ باجتهاده، أو قاله بالوحي؟! فإن النبي لا يُنبه أصحابه أنه يتكلم بالوحي في كل مرة، بل يكون تارة وحيًا، وتارة اجتهادًا، ولا يلزم أن يُخبر أصحابه هل هو وحيٌ أم باجتهاده. فهذه من المُحال معرفتها بعد وفاته.
واستدلالهم بقول حباب بن المنذر: (أهذا منزل أنزلكه الله أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟) هذا الاستدلال -إن صح الإسناد- يحتوي على مغالطة؛ وذلك لأن هذا يصح في حياة النبي ﷺ فيُمكن أن يُسأل: هل هذا الأمر تشريع أم ليس بتشريع؟ أما بعد وفاته وتمام الدين فلا سبيل إلى معرفة التشريع إلا بالأدلة الشرعية فقط.
ولهذا لم يوظِّف الأصوليون هذه الأدلة التي استدل بها العصرانيون فيما ليس بتشريع.
رابعًا: مما يدلّ أنَّ اجتهاد النبي ﷺ برأيه تشريع مُلزم: حديث الأعرابي الذي سأله عن الحج، أفي كل عامٍ يا رسول الله؟ فسكت عنه، حتى أعادها ثلاثًا، فقال له: «لو قلتُ: نعم لوجبت، ولما استطعتم، ذروني ما تركتكم..»([16]).
فقول النبي ﷺ: «لو قلتُ: نعم لوجبت» دليل أنه لو اجتهد برأيه لوجب الأخذ به.
فعُلم من ذلك أن هذا التمييز بين الاجتهاد البشري والوحي لا ضابط له عند العصرانيين، بل هو كلامٌ إنشائيّ بعيدٌ عن العلم وأصوله.
خامسًا: اختلف الأصوليون على جواز وقوع الخطأ في الاجتهاد النبوي، والتفرقة بينه وبين الوحي، إلا أنه اختلافٌ صوري؛ لأن الوحي لا يقره على خطأ في الاجتهاد.
وفي ذلك يقول ابن تيمية: “واختلف أصحابنا بجواز الحكم له بالاجتهاد في تطرق الخطأ عليه فيه، فقال أصحابنا وذكره أبو الخطاب في مسألة تصويب المجتهدين وأكثر الشافعية وأهل الحديث: يجوز ذلك لكن لا يُقَرّ عليه، وسلم ابن عقيل وغيره امتناع الخطأ فيما أخبر به عن الله وفيما أجمعت الأمة عليه”([17]).
إذن، قد اختلف الأصوليون هل للنبي ﷺ أن يجتهد دون وحي أم لا؟ وهل يجوز الخطأ عليه أم لا؟ على قولين، ففريق قال: ليس له الاجتهاد دون وحي، وفريق قال: إنه يجتهد لكن لا يقره الوحي على خطأ.
فهذا الخلاف غير مؤثر في المسألة؛ لأنَّ في كلتا الحالتين ما صدر منه سيكون تشريعًا.
والمقصود: أنه يجب على الباحث لِحاظ أن توظيف العصراني لجواز وقوع الخطأ على النبي ﷺ غير مؤثر في المسألة، لأن الوحي لا يقره على خطأ.
فمَكمَن الخلل عند العصرانيين في قضية الاجتهاد يرجع إلى عدم تمييزهم بين أمرين:
1- زمن التشريع: وهو الزمن الذي يصحّح الوحي له، ويعدل فيه النبي ﷺ عن رأيه.
2- بعد زمن تمام الدين، أي: بعد نزول قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، فبعد وفاة الرسول ﷺ فقد تم دين الإسلام، ويكون كل ما أمر به فهو من الشريعة.
ج- ضبط المسألة:
من خلال لِحاظ مواضع خلط العصرانيين في المسألة يُمكن ضبط المسألة بقانونٍ جامع كتالي:
(كل ما صدر من النبي ﷺ فهو تشريع ما لم تأتِ قرينة تصرفه عن ذلك، إما بالعادة والجبلة تارة، أو بالخصوصية تارة، أو بالعدول عن رأيه أو بتصحيحٍ من الوحي تارة أخرى).
هذا هو الضابط الجامع في المسألة، وكل دليل استدلوا به لن يخرج عن هذا الضابط؛ حتى حديث تأبير النخل -وهو أقوى دليل في الباب- لا يخرج عن هذا التأصيل أيضًا؛ وذلك لأن الصحابة التزموا برأي النبي ﷺ في ترك تأبير النخل، وتركوا ما عرفوه من الخبرة، حتى جاءهم دليل خاص وهو تنبيه النبي ﷺ أنَّ ذلك كان من رأيه. وهذا التنبيه بمثابة قرينة أو دليل خاص يصرفه عن التشريع.
والتزام الصحابة في بادئ الأمر دليل على أنَّ الأصل عندهم الأخذ بكل ما صدر منه.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “فكل ما قاله بعد النبوة وأُقر عليه ولم ينسخ فهو تشريع، لكن التشريع يتضمن الإيجاب والتحريم والإباحة، ويدخل في ذلك ما دل عليه من المنافع في الطب؛ فإنه يتضمن إباحة ذلك الدواء والانتفاع به، فهو شرع لإباحته، وقد يكون شرعًا لاستحبابه… والمقصود أن جميع أقواله يُستفاد منها شرع”([18]).
رابعًا: ضبط الأفعال غير التشريعية عند الأصوليين:
1- الأفعال الخاصة به صلى الله عليه وسلم: وهي التي ثبت بالدليل اختصاصُه بها كالجمع بين أكثر من أربع نسوة، والوصال في الصوم، فهذا القسم يحرم فيه التأسّي به.
قال ابن القيم رحمه الله: “الأصل: مشاركة أمته له في الأحكام إلا ما خصه الدليل”([19]).
2- الأفعال الجبلية والعادات:
أما أفعال الجبلة المحضة: كالقيام، والقعود، والأكل، والشرب، والراحة، فهذا القسم لا تشريع فيه؛ لأن ذلك لم يقصد به التشريع ولم نتعبد به، ولذلك نسب إلى الجبلّة وهي الخلقة. لكن لو تأسى به متأسٍ فلا بأس، كما كان يفعل عبد الله بن عمر من باب المحبة، لا من باب التشريع.
وأما العادات مثل الزينة واللباس والائتزار والتكحل ولبس النعل السبتي ولبس العمة فقد وقع فيها خلاف بين الفقهاء، فبعضهم ألحقها بالجبلية، والبعض الآخر جعلها في قسمٍ مستقل من أفعال العادات المباحة.
وإذا اشتبه فعل في واقعة معينة هل هو من العادة أو من التشريع، يُعرف بالقرائن المُحتفَّة والأدلة التي تصرفه إلى التشريع، كالأمر بالأكل باليد اليُمنى وكالأمر بحف الشارب، قال المازري: “أو شوهدت قرائن دلت على أنه قصد به البيان والامتثال للأمر، فهذا أيضا شرع لنا اتباعه عليه، على حسب ما تضمنه القول المبين”([20]).
والقاعدة العامة في الأفعال الجبلية والعادات: أنَّ الأصل أنها ليست تشريعًا إلا إذا أتت قرينة أو دليل خاص تصرفه إلى التشريع، كمدح العمل تارة، أو الحث عليه تارة، أو الأمر به تارة، فتدخل في الأحكام التكليفية بحسبها.
قال صاحب المراقي في ألفية الأصول:
وفِعله المركوز في الجبلهْ ** كالأكل والشرب فليس مِلّهْ
من غير لمح الوصف والذي احتمل ** شرعا ففيه قل تردد حَصَلْ
فالحج راكبا عليه يجرى ** كضجعة بعد صلاة الفجر
فقول الناظم في الأبيات السابقة: (من غير لمح الوصف) أي: وصف يصرفه إلى التشريع، ومن ذلك: أن الأكل في الأصل جبلي، لكن جاء دليل خاص لفعلٍ مخصوص مثل الأكل باليمين، فهذا مما يشرع فيه التأسي.
والبول أصله جبلي، لكن صفته من قيام أو قعود تدخل في التشريع ويتعلق بها التأسي؛ لورود النهي عن البول قائما؛ والنهي تشريع وحقه الامتثال. ثم ثبوت فعله صلى الله عليه وسلم له قائما.
– مثال العبادات: الصلاة، الأصل أنها من العبادات، لكن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته جالسًا خلف أبي بكر الصديق وردت قرينة صارفة عن التأسي به في الجلوس، وهو المرض. فمرضه من الأمور الجبلية التي تعتري البشر، فلا يُشرع التأسي به في تلك الحالة لمن كان يستطيع القيام.
3- الأمور المحتملة للوجهين:
أ- الفعل المقترن بقصد القربة:
أن يكون الفعل في نفسه من الجبلة أو العادة، ولم يأت دليل واضح من كلام النبي ﷺ أنه قربة، ولكن أتت قرينة لاحتمال القربة، كأن يداوم النبي ﷺ على فعله مثلًا، فيظن بعض الصحابة أنه من القربات، ومثال ذلك ما ذهب إليه بعض العلماء أن لبس العمامة سنة، وذهب البعض الآخر أنها من العادات.
ولا بأس أن يحصل الخلاف في أمورٍ معينة لاحتمالها للوجهين.
وضابط هذا القسم كما يقول الآمدي: “وأما ما لم يقترن به ما يدل على أنه للبيان -أي: التشريع- لا نفيا ولا إثباتا، فإما أن يظهر فيه قصد القربة أو لم يظهر. فإن ظهر فيه قصد القربة فقد اختلفوا فيه، فمنهم من قال: إن فعله عليه السلام محمول على الوجوب في حقه وفي حقنا، كابن سريج والإصطخري وابن أبي هريرة وابن خيران والحنابلة وجماعة من المعتزلة. ومنهم من صار إلى أنه للندب، وقد قيل: إنه قول الشافعي، وهو اختيار إمام الحرمين. ومنهم من قال: إنه للإباحة وهو مذهب مالك، ومنهم من قال: بالوقف، وهو مذهب جماعة من أصحاب الشافعي كالصيرفي والغزالي وجماعة من المعتزلة. وأما ما لم يظهر فيه قصد القربة فقد اختلفوا أيضا فيه على نحو اختلافهم فيما ظهر فيه قصد القربة، غير أن القول بالوجوب والندب فيه أبعد مما ظهر فيه قصد القربة، والوقف والإباحة أقرب”([21]).
قال المازري: “وأما إن لم يكن من الأفعال التي تجري مجرى الجبلة، ولا من الأفعال الاختيارية التي قارنها قول أو شاهد حال على حسب ما ذكرناه، فلا يخلو أيضا أن يكون أوقعها على وجه التقرب إلى الله سبحانه، أو أوقعها إيقاعًا مطلقا لا يظهر فيه قصد التقرب، فإن المصنفين اختلف نقلهم للمذاهب في هذين القسمين”([22]).
ب- دخول إحدى العادات في عبادة مخصوصة:
قد تدخل إحدى العادات في العبادة، ولا تكون مقصودة للعبادة. ومثال ذلك: نزوله ﷺ المحصّب([23]) بعد الحج، فقد عرف بعض الصحابة بالقرائن أنه نزل هذا المنزل ليسهل عليه الخروج للسفر، قال ابن عباس: التحصيب ليس بشيء([24]).
وجلسة الاستراحة جعلها بعض العلماء من الجبلة؛ بسبب استراحته من التعب، واستدلوا بحديث: «لا تبادروني بالركوع والسجود؛ فإني قد بدنت»([25])، وإن خالفهم فريق آخر من العلماء وجعلوها من السنن.
والحاصل: هذه أمور محتملة اجتهادية، وضابطها وفرة القرائن على قصد القربة، أو على كونها من العادة والجبلة.
وإذا ضبط طالب العلم الأمور التشريعية وغير التشريعية فسيتبقى أمور اجتهادية، وهي أمور قليلة ومحصورة بين الفقهاء، وهذا أمر لا شيء فيه، وليس منفَذًا للعصرانيين.
والسبب في ذلك: أنَّ مُنطلقات الفقهاء صحيحة، من حيث التزام كل ما صدر عن النبي في أمور الدنيا، وهو ما يختلف عن مُنطلقات العصرانيين. والخلاف في تخريج آحاد المسائل لا يقدح في سلامة الأصل ذاته.
خامسًا: تلخيص محل الاشتباه وكيفية ضبطه:
لم يختلف المعاصرون -لا سيما المعتدلون في التقسيم دون من شطَّ في المسألة- في الأمور التي ثبت فيها الوحي من الله أو قالها الرسول على سبيل التعبد؛ مثل كيفية الصلوات والسنن والشعائر وإخراج الزكوات وصفة الحج ونحو ذلك، ولكنهم اختلفوا في الأمور الدنيوية التي ليس فيها بيان للتشريع.
فيُمكن تلخيص محل الاشتباه في المسألة فيما يُعرف عند الأصوليين بـ (الفعل المبتدأ لقصد)، وهو الفعل مما ليس فيه أمر ولا نهي ولا ترغيب، فهذا هو محل الاشتباه الحقيقي عند أغلب المعاصرين، ويُمكن ضبطه كما يلي:
أ– الفعل المبتدأ في أمور الشرع أو ما يخالطه: وهذا الأصل أنه من التشريع ولا يُصرف إلا بقرينة.
ومن أمثلته: الاعتكاف، فهو مستحب عند جميع الفقهاء، وكذلك الحكم والقضاء الشرعي وغير ذلك.
وقد اختلف الفقهاء في جلسة الاستراحة والنزول بالمحصب بسبب القرائن الصارفة عن التشريع، وهذا الباب فيه خلاف، وضابطه وفرة القرائن.
ب- الفعل المبتدأ في أمور الدنيا: كالتكحل ولبس العمامة ونحو ذلك، فهذا الأصل فيه أنه ليس شرعًا، إلا إذا ظهر فيه قصد القربة فهو تشريع، وإن لم يقصد فيه القربة فليس بتشريع، ويُعرف ذلك بالقرائن.
والخلاف بين العلماء في هذا الباب قوي، ومرده إلى مدى وفرة القرائن.
يقول المازري: “وأما ما سوى هذا -يعني: ما سوى الجبلة المحضة- مما يقع عن قصد مبتدأ مجرد ولسببٍ ما، فإنه لا يخلو من أن يكون قارنَه قول على اقتداء الخليقة بالرسول فيه، أو يقع على حالة تجري مجرى ما قارنه القول، أو يكون معرى من ذلك..”([26]).
وينقل الخلاف في هذا القسم قائلًا: “وأما إن لم يكن من الأفعال التي تجري مجرى الجبلة، ولا من الأفعال الاختيارية التي قارنها قول أو شاهد حال على حسب ما ذكرناه، فلا يخلو أيضا أن يكون أوقعها على وجه التقرب إلى الله سبحانه، أو أوقعها إيقاعًا مطلقا لا يظهر فيه قصد التقرب، فإن المصنفين اختلف نقلهم للمذاهب في هذين القسمين، فبعضهم يقيد النقل في الفعل الواقع على جهة القربة خاصة دون ما وقع مطلقا، وبعضهم يجعل القسمين يجريان مجرى واحد في نقل الخلاف فيهما”([27]).
وفي الختام:
ينبغي على الباحث الرجوع إلى مدونات الفقه الإسلامي، والتي تم الاستقرار عليها طيلة أربعة عشر قرنًا، فمعلومٌ أن الفقهاء -منذ عهد الصحابة حتى زمن التدوين من المذاهب الأربعة وأصحابهم- وظَّفوا كل ما احتمل تشريعًا من تصرفاته ﷺ في أبواب العبادات والآداب والمعاملات، والجهاد، وحتى القضاء والإمامة وغير ذلك، واختلفوا في أمورٍ اجتهادية محتملة للوجهين.
وأما التصرفات النبوية التي ليست تشريعًا أو التي رجع عنها النبي ﷺ فلم يوظفها الفقهاء في كتب الفقه، ولم يعتبروها من السُنة أصلًا (من حيث المصطلح).
إذن، هنا ضابط دقيق لا يلتفت إليه كثير من المتنازعين اليوم: أنَّ كل ما خرج عن كتب الفقه الإسلامي المعتبرة فلا اعتبار به، كمن يقول ما سنَّه النبي ﷺ في بعض أبواب المعاملات ليس تشريعًا، أو في بعض أحكام القضاء أو السياسة الشرعية ونحو ذلك، فيُنظر في دعواه إن كانت المسألة المعينة لم يفهم منها الفقهاء التشريع فكلامه صحيح، وإن فهموا منها التشريع فكلامه خطأ، وإن اختلفوا في مسألةٍ معينة نُظر في أدلة المسألة، ولم يُثرَّب عليه في الأخذ بأحد القولين إن كانت محتملة.
وهذه الخطوة وإن كانت ليست فنية صناعية، إلا أنها منهجية، وترفع الكُلفة في النزاع والجدال؛ إذ المعاصرون لا يسوغ لهم التفرد بقولٍ لم يفهمه الصحابة ولا الفقهاء من بعدهم، وإلا كان شذوذًا.
وهذا آخر ما تيسَّر في بيان المسألة وضوابطها، وتحرير محل النزاع فيها، والله أعلم.
وصلِّ اللهم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) مجموع الفتاوى (35/ 115).
([3]) تأويل مختلف الحديث (ص: 196-197).
([4]) الإحكام في أصول الأحكام (5/ 128-129).
([6]) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام (ص: 86-87).
([9]) مفتاح دار السعادة (5/ 122).
([10]) حجة الله البالغة (1/ 128-129).
([11]) مجموع الفتاوى (١٨/ ١١-١٢).
([14]) أخرجه البخاري (3455) واللفظ له، ومسلم (1842).
([16]) أخرجه البخاري (7288) مختصرًا، ومسلم (1337) باختلاف يسير.
([17]) المسودة في أصول الفقه (ص: 508)، وانظر: المستدرك على مجموع الفتاوى (2/ 53-54).
([18]) مجموع الفتاوى (١٨/ ١١-١٢).
([20]) إيضاح المحصول من برهان الأصول (ص: 360).
([21]) الإحكام في أصول الأحكام (1/ 174).
([22]) إيضاح المحصول من برهان الأصول (ص: 360).
([23]) اسم موضع بين مكة ومنى وإلى منى أقرب، ويسمى الأبطح.
([24]) أخرجه البخاري (1765، 1766)، ومسلم (1310).