الجمعة - 24 ذو الحجة 1446 هـ - 20 يونيو 2025 م

السلفية في المغرب.. أصول ومعالم (من خلال مجلة “دعوة الحق” المغربية)

A A

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

مدخل:

مجلة “دعوة الحق” مجلة شهرية مغربية، تعنى بالدراسات الإسلامية وبشؤون الثقافة والفكر، أسست سنة 1957م، من إصدار وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، وهي مجلة رافقت بناء الدولة المغربية بعد الاستقلال، واجتمعت فيها أقلام مختلفة التخصصات، من المشرق والمغرب، وكانت “الحركة السلفية” و”العقيدة السلفية” و”المنهج السلفي” جزءا مهمًّا من مضامين مقالاتها، والمتتبع لهذا يكتشف عجائب وغرائب تؤرخ لفترة مهمة من تاريخ الحركة السلفية في المغرب قبل وبُعيد الاستقلال، وهي أيضا شهادات صادقة عن طبيعة ودور هذه الحركة في بناء الدولة المغربية حديثة الاستقلال، وهذا كشف موجز عن بعض ذلك مما يردّ للسلفية الاعتبار اللائق، بل يرجعها إلى محلها المناسب لها إن شاء الله تعالى.

 

مركز سلف للبحوث والدراسات

 

 

 

  • دعوة الحق، رسالة السلفية والأصالة واليقظة الإسلامية([1]):

لم يكن الذين كتبوا عن “السلفية في المغرب” مغاربة فقط، بل كتب مشارقة في ذلك شهادات مطابقة ومؤكدة، ومن ذلك مقال مهم للأستاذ أنور الجندي([2]) المصري، سماه “دعوة الحق، رسالة السلفية والأصالة واليقظة الإسلام“، وهو مقال موضوع أصالة للكشف عن “رسالة السلفية” في مجلة “دعوة الحق“، وموضوع تبعا لبيان وكشف خصائص السلفية المغربية وشيء من تاريخها، وقد استصحب الأستاذ أنور شهادته فيها بــ”الأصالة واليقظة” في مقاله، وبدأه بشهادة قوية في المجلة فقال: (حاملة لواء دعوة السلفية الإسلامية والأصالة واليقظة)، ولعله من جميل ما فعله الأستاذ أنور “المشرقي“، فقد بدأ بالحديث عن السلفية المشرقية، وتحدث عنها مستصحبا نفس ما زين به “السلفية المغربية“، فجعل الشيخ محمد بن عبد الوهاب “المشرقي” حامل لواء حركة اليقظة السلفية، وعن حركته تفرعت الحركة السلفية، فلئن كان يقصد “اليقظة” فنعم، وأما إن كان يقصد “الأصالة” فلا، ويراجع في هذا مقال الأستاذ عبد القادر العافية “الاتجاه السلفي في المغرب“.

نبه الأستاذ أنور مثل غيره على أصالة السلفية في الحركة التحررية المغربية ومقاومتها للاحتلالين الإسباني والفرنسي، ثم مال إلى كشف مظاهر اليقظة والأصالة السلفية في مجلة “دعوة الحق” التي كانت لسانا فكريا لكتّاب التحرر السلفي في المغرب وغيره، فعرض أسماء كتاب وعلماء مغاربة مثل أبي بكر القادري، وعبد الله كنون، وعبد القادر العافية، وتقي الدين الهلالي الذي وصفه بالرائد العظيم، ومحمد بن تاويت الطنجي، والرحّالي الفاروقي، وعبد الهادي التازي، وعبد السلام الهراس، والحسن السائح، ومشارقة مثل محمد المبارك، وكاتب المقال نفسه: أنور الجندي، وقد خطت أيديهم مقالات مهمة منشورة في المجلة، وعرض الأستاذ أنور مجالات تلك المقالات: الدراسات الإسلامية، والتاريخ الإسلامي، والاقتصاد الإسلامي، وتاريخ أفريقيا والمغرب، والمغرب الحديث، والعالم الإسلامي، واللغة العربية، والأدب العربي والشعر، وتراجم الأعلام، وفيها مقالات عن القرآن الكريم وكتب السنة ومراجع وكتب تراثية كثيرة.

كان الأستاذ أنور الجندي في بعض مقاله يعرض فترة من السلفية المغربية بدأت عنده مع أبي شعيب الدكالي، وتحدث عن “مهمة الحركة السلفية في المغرب“، وشرح الخصيصتين اللتين قصد إلى شرحهما في رسالة “دعوة الحق الأصالة واليقظة“، وختم مقاله بالتنبيه على أن (هناك مجالا واسعا لدراسة الحركة السلفية في المغرب)، وقد صدق.

  • الأيديولوجة السلفية([3]):

تعددت القراءات للحركة السلفية وأصولها ومقاصدها في مقالات دعوة الحق، وكان من لطيف ذلك محاولة للأستاذ الحسن السايح([4])، فقد حاول عرض “أيديولوجية” السلفية، أي: “علم الأفكار” في الحركة السلفية، وقد كان مقالا عميقا في مضامينه، ثوريا في مقاصده، وقد وضع اسم المقال بالخط العريض على واجهة العدد الأول من السنة الثامنة عشرة، إشارة إلى أهمية المقال، وقد عرف الحسن السايح الأيديولوجة بـ”علم الأفكار أو تنسيق الأفكار“، وهذا يعني أنه جعل مقاله للكشف عن “التكوين البنيوي للفكر السلفي“، ولبيان “التنسيق” بين مكوناته، وقد أجمل مقاصده في قوله: (إن الأيديولوجية السلفية تعني اقتناص الأفكار العامة وتنسيقها وصياغتها بطريقة علمية محددة، وهي أيديولوجية مستمدة من القيم الدينية الإسلامية وواقع الوضع القومي)، فللسلفية منهج في التعامل مع “الأفكار الواردة“، وفي نقدها وتنسيقها وصياغتها، فهي من جهة حركة بناء، ومن جهة أخرى حركة نقد وهدم لكل فكر دخيل معارض للمصادر الأصلية، (فالسلفية من هذا الجانب بعث إسلامي وجداني، وتلاحم الصف لمقاومة الاعتداء الأوروبي، وصد التحدي وضرورة للحياة الكريمة)، بل هي (عودة للأصول الرئيسية للدين الإسلامي، تقتضي وتفرض كرامة الإنسان باعتباره إنسانا خليفة للخالق في الأرض، له من الكرامة والمكانة ما لا يحق لغيره أن لا يحترمها، فالسلفية تحافظ على مزايا الإنسان وشخصيته، ولأجل ذلك تنطلق من الإيمان بالله إيمانا مطلقا لا شبيه فيه، وتستوعب العقيدة الصافية بملاءمتها الفلسفية مع الواقع الإسلامي، والإيمان بالله الخالق الكامل الكمال المطلق دون حاجة إلى الإغراق في الاستدلالات الفلسفية على الوجود، لأنه موجود بالضرورة… وكل تعاليمه مصدرها الوحي، والتعاليم السنية)، فلم يدع الأستاذ السايح في هذا النص الطويل محلا للزيادة، فقد جمع فيه كل ما ينبغي استحضاره عن “السلفية“، “مصادرها“، “مضامينها“، “ومقاصدها“، ولم يكتف السايح بهذا، بل تحس منه انطلاقة واندفاعا في محاولة الكشف عن “حقيقة” هذه “السلفية” التي يريد أن يتعرف عليها قراء “دعوة الحق“، وكأنه مقال تبشيري بحركة تنويرية جديدة، فمثل هذا التشريح الدقيق كاشف عن حالة نفسية لطيفة لكاتب المقال، تدل على تجذر “السلفية” في فكره ونفسه، وليس هذا مستغربا، فقد كان السايح يتحدث عن حركة أصولها الوحي، وعقيدتها صافية ربانية، ومقاصدها إنسانية، فهي عنده أساس الاستخلاف في الأرض، وهو معنى قوي، والأقوى منه باعتبار السياق السياسي، كونها أساسا “لتلاحم الصف لمقاومة الاعتداء الأوروبي“، وهي أمر نبه عليه جل من كتب عن هذه الحركة في “دعوة الحق“، فهي “حركة مدافعة وبناء” في وقت واحد، ولذلك لم يكن مستغربا أن تختارها الحركة الوطنية المغربية، بل وتبنى عليها “العقيدة القتالية” لجيش التحرير الوطني، وسيعود السايح مرة أخرى مبشرا بها فيقول: (قد يكون تعريف السلفية من النظريات الصعبة ذاتها، ذلك لأن السلفية ظلت تعني في التاريخ كل حركة تجديدية إسلامية، تعتمد على أرضية صلبة، وقدرة على المعاصرة دون التخلي عن الأصول الأولى أو عن الوعي الذاتي للملاءمة مع التطور والمحيط والتطور الواقعي للمجتمع البشري، فهي دعوة إلى العودة إلى الإسلام الأول الذي كان صافيا، لم يعكر بالتأثيرات والشروح والتفسيرات التي أملتها المذاهب الفلسفية والكلامية والعلمية، ومن خصائص هذا الصفاء أن يكون صادرا عن وعي ذاتي، وهي في نفس الوقت مسايرة للواقع والمعاصرة).

كانت نظرة السايح للسلفية أوسع بكثير، فقد رأى أنها حركة متعلقة بكل شيء تقريبا، ولذلك يستغرب قارئ عابر حينما يجده يعتبر السلفية “حركة اقتصادية“، زيادة على كونها “اجتماعية وأخلاقية“، ويبين ذلك بقوله: (إن السلفية لا ترى في الاقتصاد أساس العلاقات بين البشر ولا أنه سبب التآزر الاجتماعي، فهذا رأي مادي محض، وإنما ترى السلفية أن الدين والعقيدة أساس للترابط الإنساني، ويأتي الاقتصاد كناحية من نواحي التنظيم الاجتماعي)، بل يذهب الكاتب أبعد من هذا فيقول: (إن السلفية اليوم تعني أن نعيد النظر في المشاكل والقضايا الإسلامية على ضوء التطورات الحديث في ميدان علم النفس والاجتماع والتاريخ والاقتصاد، كما نعيد النظر في الآراء والنظريات الحديثة من الوجهة الإسلامية، لنعيد صياغتها في إطارها الإسلامي دون السير وراءها دون ترو). هكذا كان يرى السايح “السلفية“، وهكذا عرضها، ولأمر ما وضع عنوان مقاله على غلاف المجلة.

لو قيل للقارئ: اختصر المقال، لما وجد لذلك مساغا، فالمقال مركز ومليء، وهو أصعب مقال حاولت استقراءه، فلم يدع الأستاذ السايح للقارئ مجالا لذلك، فإما أن تأخذه كله، أو تتركه كله، ومما يتعلق بعلاقة الحركة الوطنية المغربية، بل حركة البناء والتجديد والتصحيح ما جاء في قوله: (ولقد عرف المغرب ثورة الحركة السلفية التي استنبطت كل حركة تغيرية تطورية، سواء كانت فردية أو وطنية جماعية، وكل الحركات تولدت عن الإسلام السلفي سواء بطريق الانضواء أو المعاكسة، والحركة السلفية حررت الإنسان المغربي من رواسب انحرافات الماضي القريب بالعودة إلى الماضي البعيد، ليكون انطلاقا للتغير والتطور والملاءمة مع العصر)، ويقول: (لقد ظل المغرب وفيا للإسلام الحق الذي لم تكدر صفاءه التيارات الأجنبية عنه... ولذلك كان العلماء المغاربة من دعائم السلفية).

فالسلفية عنده هي الإسلام الذي لم تكدر صفاءه التيارات الأجنبية عنه، ومثل هذا يُتوقف عنده، فقد وضع السايح يده بل قلمه على أصل الأصول في معنى السلفية، ولست أستطيع الانفكاك من أسر المقال ونصوصه، وها هو نص آخر يبث فيه السايح بعض ما تبقى في خاطره من “تصوراته” للفكر السلفي، فيقول: (كان السلفيون دوما واقعيين يرفضون الاستعمار والتبعية.. ويواجهون معركة الفكر التقليدي الثابت الذي لا يتحرك، والفكر الاستسلامي والمراوغ، والداعي إلى النخبة، والمعرفة المستترة.. والسلفية ليست شرحا للدين فقط، ولكنها شرح وتحليل للمجتمع والمعاصرة والأخذ بالبعد الوطني والاقتصادي وتحدي كل سيطرة أجنبية استلابية فكرية أو ثقافية أو اقتصادية).

كل نص من هذه النصوص التي أوردتها مع طولها جدير بأن يكون نصا فلسفيا، يعرض على الطلبة لتحليله، ليس فقط لاستخراج مضامينه ومقاصده، بل للكشف عن محل السلفية في “دعوة الحق“.

  • السلفية وأثرها في النهضة الإسلامية([5]):

لعل هذا المقال أقوى مقال في نظري منشور على مجلة “دعوة الحق” في موضوع السلفية، وصاحبه شخصية ذات وزن ثقيل في تاريخ “الدولة المغربية“، فقد كان الأستاذ محمد الفاسي أول وزير تعليم في المغرب بعد الاستقلال زمن الملك محمد الخامس رحمه الله، وشهادته شهادة عالية جدا لاعتبارات كثيرة، وقد كان المقال نص المحاضرة التي ألقاها الأستاذ محمد بنادي اتحاد الطلبة المغاربة بالرباط، ولهذا دلالات مهمة ينبغي الحرص على ملاحظتها، فإن إلقاء “أول وزير للتعليم” في المغرب محاضرة عن “السلفية وأثرها في النهضة” بناد “للطلبة” بالعاصمة الإدارية “الرباط” يدل على قيمة كبرى للسلفية في الفكر والخطاب الوطني في ذلك الوقت، خاصة وأنه كان للسلفية دور مركّز وأساس في صناعة المقاومة والحصانة من الآثار السيئة للاحتلال في المغرب.

كانت السلفية عند الأستاذ محمد مقرونة بالروح التجديدية والتحررية بكل معاني التحرر التي كانت مبثوثة في صفوف النخبة المغربية، خاصة علماء وتلاميذ القرويين بفاس، والتي حمل لواءها ثلة من رواد الحركة الإصلاحية السلفية حينها، وكانت السلفية (من أقوى العوامل لتوحيد الاتجاه الفكري والثقافي عند شباب ذلك العصر)، كانت السلفية في رأي وزير التعليم “رسالة شاقة” لتوحيد الشباب نحو “المثل العليا“، كي يتم (الإصلاح في كل الميادين، ويسود المغرب الدين الإسلامي الصحيح الذي يضمن السعادة).

كان السؤال الأساس الذي فرَّع المقال هو: ما هي الحركة السلفية؟ وما هي أصولها؟ وكان الجواب من الأستاذ محمد عجيبا، عجيبا جدا!

بدأ الوزير جوابه بالحديث عن بدء البعثة النبوية، وتسلسل كلامه بحديث عن مختلف مراحل الدعوة الإسلامية، وحقيقة الإسلام وخصائصه ومقاصده السياسية والأخلاقية والتربوية والاجتماعية، ثم مال إلى الحديث عن ظهور علل التخلف التي اعترت جسم الحضارة الإسلامية، وكانت العلة الأولى “التفرق“، ثم “ضلالات” وبدع روجها أعداء الإسلام من يهود ومجوس ونصارى وملحدين، حاول مسربوها أن يشوهوا محاسن الإسلام، ويعدلوا به عن طريقه السوي، فكان ذلك سببا في الفرقة والوهن والضعف، فتآلب عليهم أعداؤهم بسبب ذلك، وهو توصيف دقيق جدا، وحسن عرض لما حصل للأمة، ولم يكن هذا هو العجيب في ما حاول الأستاذ محمد أن يوصله للحاضرين في النادي، بل كان قصده شيء آخر وراء كل هذا.

(انتشرت العقائد الباطلة والضلالات البعيدة عن روح الإسلام، وتمكنت عوائد لا تمت إلى الدين الحنيف بصلة، وأخذ العالم الإسلامي يرجع إلى الوراء)، هكذا صور الوزير حالة العالم الإسلامي بعد حالة نهضة وانتشار، وقد نبه في هذا على أن ظهور “الضلالة” كان سببا رئيسا للـ”رجوع إلى الوراء“، فكان هناك حاجة إلى جهة تقوم بعملية إصلاح، فتمنع هذه “الضلالة” من إفساد حركة الحضارة الإسلامية، وقد كانت هذه الحالة دافعا أساسا لبعض من تصدر وتصدى لهذه العملية الإصلاحية النهضوية، وكانت الشخصية التي قدمها الوزير لهذا شخصية مثيرة، وكان اختياره لها أكثر إثارة.

يقول الوزير: (نتج عن هذه الحالة السيئة في القرنين السادس والسابع أن أخذ بعض الملهمين من علماء الإسلام يفكرون في أسباب هذا الانحطاط وهذه الحالة التي صارت عليها البلاد، وأن الذي توفق إلى اكتشاف السر وتشخيص العلة هو الإمام ابن تيمية رحمه الله).

هذه شهادة عالية في شيخ الإسلام ابن تيمية من وزير التعليم المغربي، وزير مرحلة التحرر المغربي، وهو اعتراف ظاهر بفضل “السلفية” ورجالها في تحريك عجلة الإصلاح والنهض والتنمية في المغرب، ولم يقف الأمر هنا، فلم يوفق ابن تيمية إلى معرفة الداء فحسب، بل توصل أيضا إلى معرفة “الدواء“، فوصفه، وبادر باستعماله. وتستمر شهادة الوزير في هذا فيقول: (وقد توفق كذلك إلى وصف الدواء، إلا أن أولئك المستغلين لغباوة العامة وجهلهم كانوا لا يزالون هم الأقوياء، فلم يستطع النجاح في علاج الجسم الإسلامي مما حل به، ولكنه وضع الأسس للمصلحين من بعده الذين استطاعوا أن يخرجوا أفكاره وأقواله إلى حيز الوجود، وهذا أصل الحركة السلفية). فلاحظ كيف جعل مشروع ابن تيمية أصلا للسلفية، فقد كانت سلفية ابن تيمة سلفية مواجهة لمشروع إفساد كان قد نخر في جسم الأمة، فقام ابن تيمية، بل قل: قام مشروع ابن تيمية بالتكليف الشاق الكبير الذي بدأ منه، واستمر بعده، ولا يزال مستمرا.

انتقل الوزير من “ابن تيمية” إلى “محمد بن عبد الوهاب” صاحب الدعوة الإصلاحية المكملة لحركة ابن تيمية قبله، باعتبارها استمرارا للمشروع التيمي الإصلاحي، ثم عقب ذلك بذكر ترجمة موجزة لابن تيمية، ثم انتقل إلى الحديث عن شخصية إصلاحية أخرى أخذت من المشروع التيمي صفوه، وعرضته في كتابين كبيرين مهمين، وهما “الموافقات” و”الاعتصام“، لم تكن الشخصية سوى أبي إسحاق الشاطبي، وهو وإن كان أشعريا في الأصول، فقد استلهم المشروع التيمي، وأحسن استعماله في نقد التصوف والتقليد، واستمر الأمر بظهور محاولات إصلاحية في كل زمان ومكان، إلى أن وصل إلى “الملك محمد بن عبد الله“، والذي وصفه الوزير بكونه من العلماء السلفيين، والذي كان يوقع تآليفه هكذا: (محمد بن عبد الله المالكي مذهبا، الحنبلي اعتقادا، وقال في شرح هذا بعد كلام: فطريق الحنابلة في الاعتقاد سهلة المرام منزهة عن التخيلات والأوهام، موافقة لاعتقاد الأئمة كما سبق مع السلف الصالح من الأنام).

يصف الوزير حالة التقهقر التي أصابت البلاد الإسلامية وصفا لطيفا فيقول: (كل من كان يحاول من العلماء الرجوع بالإسلام إلى صفائه الأول، تقوم عليه قيامة الجامدين والقبوريين، فلا يكون لندائه أثر، ويبقى التقهقر والانحطاط مستمرين إلى أن اكتسحت دول الغرب البلاد الإسلامية، واستولت عليها باسم نشر الترقي في مستوى الأمة إلى غير ذلك من تلك الأقاويل التي كان يتبجح بها دعاة التوسع الأوروبي والاستيلاء على قارتي آسيا وأفريقيا). وهذا نص مهم، ضمنه الوزير إشارة خطيرة، وهي أن مشروع الإصلاح السلفي كان دائما يواجه بجمود طوائف من المتفقهين، وطوائف من أهل البدع على رأسهم القبوريون، وهو ما كان يفسد عملية الإصلاح، وكان كل ذلك ممهدا لتسلط الدول الغربية على بلاد المسلمين وإرغام شعوبها على سلوك مسالك النظم الغربية المادية التي زعموا أنها موصلة للترقي المتوهم.

يعتبر الوزير محمد أن مرحلة محمد بن عبد الوهاب هي المرحلة التالية للحركة السلفية الحديثة (التي كتب لها النصر، والتي يرجع إليها الفضل في محاربة الجامدين الذين كان يعول عليهم الاستعمار في تثبيت أقدامه بالبلاد التي منيت به). وهذا يؤكد أن السلفية كانت عند الوزير “حركة” ضد “الجمود“، و”مقاومة” للمحتل، ولعل أهم ما يستخرج من شهادته هنا أن لاحظ خاصية “الذكاء” الدعوي في الحركة السلفية، إذ لاحظ أنها “تقاوم الجمود” لتحقيق “التحرر من المستعمر“، وملاحظة هذه اللازمة سر من أسرار قوة الحركة السلفية.

انتقل الوزير إلى الحديث عن الملك سليمان العلوي، شارحا سياق استمراره على طريقة والده في الجملة، ونبه على خطبته المشهورة في ذم البدع والنهي عن الخرافات، ولكن الوزير محمدا كان دائما ما ينبه متحسرا على أن كل هذه المحاولات الإصلاحية لم يكن لها أثر كبير بسبب عوائق الجمود ومكر الاحتلال.

كان كل هذا توطئة من الوزير محمد الفاسي للدخول في خطاب الإصلاح وهو على منصة نادي اتحاد الطلبة، فقد انتقل انتقال اعتبار وتأس إلى الحديث عن “الحركة الوطنية“، وصرح بصوت واضح أن سر نجاحها في دفع المحتل كان “الأساس السلفي” الذي بنيت عليه، والتي أشرف عليها طائفة من العلماء السلفيين مثل محمد بن العربي العلوي وشيخ الوزير عبد السلام السرغيني، وكثير من طلبتهما، وقد عقد مقارنة سريعة بين حركة هؤلاء العلماء ومن معهم، وبين حركة العلماء الجزائريين التي أسسها عبد الحميد بن باديس رحم الله الجميع.

استعمل الوزير كلمة عجيبة لشرح طريقة تأثر الملوك العلويين بالحركة السلفية، فقال: (تسربت الفكرة الإصلاحية كذلك إلى القصر بواسطة السيد المعمري، وهو صديق لابن العربي، ومقتنع بالفكرة السلفية، وقد كان أستاذا لصاحب الجلالة محمد الخامس نصره الله، فشب ملكنا على هذه الروح الوثابة نحو الإصلاح والتحرر التي كانت ميزة حركتنا الوطنية). ولا يتردد الوزير بعد هذا في الاعتراف للسلفية بما حققته الحركة الوطنية التحررية، فيقول: (وقد كان النصر المبين الذي حصلنا عليه في الميدان السياسي بتحقيق استقلال البلاد نصرا كذلك في نفس الوقت للفكرة السلفية التي كان يقاومها المستعمرون وأذنابهم من منتحلي التصوف المزيف الكاب، والتصوف الحقيقي بريء منهم). ويصر الوزير على وضع “السلفية” في مقابل “الاستعمار“، وشهادته كافية لشرح دافعه إلى ذلك.

  • الاتجاه السلفي بالمغرب([6]):

كان الأستاذ عبد القادر العافية رحمه الله([7]) -خريج دار الحديث الحسنية- صريحا حينما نص على أن الاتجاه السلفي في مذهب مالك كان ابتداؤه من (زعيم السلفية الإمام مالك)، وليس مثل هذا ما يدانيه في الكشف عن حقيقة “الاتجاه السلفي“، وطبيعة علاقته بالمذهب المالكي، فرد هذا الاتجاه إلى منبع المذهب، بل اعتبار مالك زعيما له دال على تجذر عميق لهذا الاتجاه في الفكر المالكي في المغرب، وكانت عبارة الأستاذ عبد القادر الشارحة مفتتح المقال: (الاتجاه السلفي بالمغرب له جذور تمتد بأعماق تاريخنا، ومنذ الفترات الأولى للوجود الإسلامي بهذه البلاد، والاتجاه السلفي هو الاتجاه الصحيح الذي يقف باستمرار في وجه الانحراف والزيغ عن الجادة). وهذه شهادة عدل متخصص، فالأستاذ العافية صاحب قلم تاريخي نافذ عبر تفاصيل الأحداث المهمة في تاريخ المغرب، وشهادته في “تاريخ السلفية” من الشهادات المؤسسة القوية، ومن لطيف تنبيهاته أنه ربط بين “السلفية” وبين “الفترات الأولى للوجود الإسلامي“، ولطافة هذا ظاهرة في تطابق الأولية بين الجهتين، فطبيعة “الأولية” في “السلفية” مناسبة لـ”أولية الإسلام” في المغرب.

الاتجاه السلفي عند الأستاذ عبد القادر هو الاتجاه الصحيح القويم القائم على “نقاوة العقيدة” و”متانة الدين“، ولكنه عنده لا يقف عند مجرد تقرير هذه “النقاوة“، بل الفكر السلفي عنده فكر “مقاوم” لمظاهر الزيغ والانحرافات الفكرية والعقدية، مثل الشيعة والخوارج والمرجئة، وغلاة المعتزلة والقرامطة والباطنية، وقد كان للسلفية المالكية في المغرب الكبير دور في الدفاع عن السنة في وجه كل هذه المذاهب والاتجاهات المنحرفة التي ظهرت في المشرق، وامتدت فروعها إلى المغرب في فترات مختلفة بعد دخول الإسلام والاتجاه السلفي معه إلى المغرب، فالحركة السلفية كما يقول الأستاذ عبد القادر: (لها جذور قديمة في تاريخ الفكر الإسلامي بشمال المغرب).

يضرب الأستاذ عبد القادر العافية لهذا التجذر والأثر مثالا تاريخيا ظاهرا، فيقول: (استطاع الفكر السلفي بالمغرب العربي أن ينشئ بالمغرب العربي دولة المرابطين التي قاومت انحراف برغواطة وخلصت المغرب من الانقسامات التي قاومت القبلية)([8]). وهنا يبدع الأستاذ عبد القادر مرة أخرى، فلاحظ إشاراته اللطيفة إلى طبيعة دور “الاتجاه السلفي” في المغرب، فالسلفية “قاومت” الفكر الضال، و”خلصت” من واحدة من أقبح الحالات السياسية السيئة، ألا وهي “الانقسامات“، وفي هذا إشارة مهمة إلى بعض مجالات “الإصلاح السلفي” في تاريخ الإسلام، وقد استمر هذا الدور المركب للحركة السلفية منذ نشأتها على أصولها المثبتة في عصر الصحابة سلف هذه الأمة الأول.

السلفية إذن هي مذهب السلف في العقيدة والمنهج، وهي أداة إصلاح ومدافعة للباطل، فبها يدفع العلماء “مفسدات الأديان“، وبها يدفع الأمراء “مفسدات العمران“، وقد كانت الدولة المرابطية من أفضل الأمثلة على ذلك، خاصة عند التحام العلماء والأمراء في مواجهة المفسدات في النوعين، أما العلماء فشواهد التاريخ متواترة، وأما الأمراء فيقول المؤرخ الأستاذ عبد القادر العافية: (ويسجل التاريخ أن كثيرا من أمراء المغرب وقادته كانوا يناصرون الاتجاه السلفي).

يمثل العهد المريني عند الأستاذ عبد القادر مثالا لنوع خاص من العلاقة بين الدولة المغربية ومكوناتها وبين “الاتجاه السلفي“، وسيكتشف الواقف على “ورقات في الحضارة المرينية” الشواهد التاريخية التي اعتمدها الأستاذ عبد القادر، فقد أتحفنا العلامة المنوني رحمه الله بنصوص رائعة في ذلك، ولعل ألطف ما يقف عليه القارئ أن (وجد بالمغرب من ربط صلته بالعلامة ابن تيمية) كما يقول الأستاذ عبد القادر، وفي الورقات بيان طبيعة تلك العلاقة، بين ابن تيمية وبين بعض طلبته من المغاربة في الزمن المريني.

ستستمر العلاقة القوية بين “الاتجاه السلفي” و”الأمراء والعلماء” في المغرب، وسيجعل الأستاذ عبد القادر للحديث عن زمن الدولة العلوية سطورا كتبها بمداد الإنصاف والاعتراف، وكان البدء بالسلطان العلوي محمد بن عبد الله، الداعي إلى التشبث بالعقيدة السلفية، الناشر للدعوة إلى الكتاب والسنة، ثم ولده السلطان سليمان، والذي (ناصر الإمام محمد بن عبد الوهاب الذي ظهر بالجزيرة العربية، ورد على رسالته ردا جميلا متضامنا مع ما ورد فيها، كما ذكر ذلك الزياتي في الترجمانة، والناصري في الاستقصا).

استمر الأمر على هذه الحال في الدولة العلوية، من تلاحم “الأمير السلفي” و”العالم السلفي” برهة من الزمن، وظهر من أهل العلم في هذا عدد لا بأس به، خاصة في مواجهة “الاحتلال الأجنبي” للمغرب، فقد كانت “السلفية” هي الأصل الجامع للمقاومتين الفكرية والسياسية، بل (وجدت الحركة السلفية في شباب علماء جامعة القرويين خير مدافع ومعتنق… وفي هذا الجو السلفي نشأت الحركة الوطنية المغربية)، حركة المقاومة للاحتلال التي بثت الوعي ونشرت الأفكار المناهضة للاحتلال بمباركة الملك محمد الخامس رحمه الله، واشتدت المقاومتان، وصمد المغاربة على (الخط الإسلامي المالكي السلفي)، ووقف في وجه الاحتلال، وفي وجه التيارات المنحرفة.

أختم بشهادة جميلة للأستاذ عبد القادر العافية ختم بها مقاله، وهي ملخصة لجملة ما عرضه من قبل، فقال: (فالاتجاه السلفي بالمغرب هدف دائما وأبدا إلى إيقاظ الهمم، وتحرير العقل ومناهضة عوامل التخلف، ومقاومة الاستسلام، كما جعل من غاياته المحافظة على الأصالة في العقيدة والفكر والحضارة، وهو اتجاه سليم بريء من كل ما وصمه به أعداؤه من الرجعية والتخلف، وتاريخ المغرب خير شاهد).

  • السلفية والتحليل الماركسي([9]):

مقال ذكي“، هذا ما أجده الآن في وصفه، سماه صاحبه “السلفية والتحليل الماركسي“، وهو عنوان غريب ومثير، لكنه عميق وصادق، ويبدأ الأستاذ محمد العربي الناصر([10]) مقاله بالتنبيه على انشغال “الماركسيين” بكلمة “السلفية” في فترة ظهورها، واغتنائها معنويا، وجريانها تحت أقلامهم بالنقد والتشويه، وقد لفت انتباهي محاول الكاتب اختصار معنى “السلفية” في كلمة بديعة، فقد نأى عن التعريفات المعتادة المنتشرة، وقال: (ما ثم في الماضي يمكن تحقيقه في المستقبل)، وهذا تعريف قوي ومليء، والظاهر أنه اختار هذا التعريف ليعاكس ما كان مشروع “الماركسية” و”تحليلها” يروجه عن اتجاه “الحركة السلفية” التي كانت تهددها وتصادمها، وقد عرض الكاتب في مقاله هذا ما (حاول التحليل الماركسي أن يقوم به لإفقار السلفية من كل محتوياتها الغنية وتهميشها فكريا ومجتمعيا).

استقرأ الكاتب أدبيات التحليل الماركسي للفكر السلفي في كتب ومجلات الحركة الماركسية في العالم الإسلامي، من ذلك كتب مثل “من التراث إلى الثورة” لطيب تيزيني، ومقالات مثل مقال: “الاستلاب في الفكر السلفي“، ثم عرض جملة من “التهم الماركسية” للفكر السلفي وحركته، وحررها، ثم نقضها، وكانت الأساس الذي بنى عليه الكاتب مناقضته أن السلفيين (عندما يتحدثون عن الماضي، يجردونه من مضمونه الزمني، بمعنى يبعدون مقولة الماضي، ويؤكدون أكثر على المضمون والمحتوى الذي طرحه الماضي، فتدل السلفية على المنطلقات الأصيلة للتراث)، أي: أن المراد من الماضي ما حدث فيه، وهو ظهور “الأصول” القرآن والسنة، و”المنهج” المتمثل في الصحابة رضي الله عنهم، باعتبارهم المخاطبين بالتنزيل غير المعصوم لهذه الأصول المعصومة، ودليل هذا كلمة التوحيد، وهي لفتة جميلة من الكاتب (فمقولة السلفية الأساسية: لا إله إلا الله، تراعى فيها مقولة الزمن الماضي والمستقبل والحاضر، أم يراعى فيها مضمون التوحيد ونبذ الشرك)، وبهذا يظهر التدليس في الزعم بكون السلفية “ماضوية“!

يلخص الكاتب الموقف الماركسي في تحليله من السلفية في:

  • تجريد السلفية من مضامينها الفكرية وطرحها في مقولات زمنية.
  • اعتبارها خارجة عن أي اتجاه جدلي عقلاني.
  • اعتبارها أيديولوجية مزيفة.

فالماركسية ضد كل ما هو “سلفي” في قراءة التراث والماضي كله، والذي تريده الماركسية القطع مع التراث جملة وتفصيلا، إلا ما كان يخدم تحليلها ويزكيه، على طريقة الانتقاء والتجزئة، لكن الماركسية مع كل ذلك حريصة على “القطيعة المعرفية” كما نادى بها محمد عابد الجابري المغربي مثلا.

يتعالى الكاتب عن مقولات التدليس في دعاوي خطاب التحليل الماركسي إلى محاولة الكشف عن حقيقة “الفكر السلفي“، فهذا كفيل بتزييف كل تحليل ماركسي مدلس، يقول الأستاذ محمد العربي: (ما تطرحه السلفية هو قضايا متجددة فكريا واجتماعيا، فكريا بحضور المطلق باستمرار، واضطرارنا إلى الاعتراف بوجوده، واجتماعيا بحضور السلوك الإنساني بأخلاقه في سائر مجالات الحياة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا… فجوهر السلفية إنما هو استمرارية الاختيارات الإنسانية فكريا واجتماعيا، وتوحيد الوعي بهما والإيمان بهما… وعلى هذا الأساس تعمل السلفية على الالتزام بالسلوك الإنساني في المجتمع وتتجاوز ما عداه). ولفهم جيد لهذه الشهادة يجب استحضار السياق الذي وضعه فيه الكاتب… فضح التدليس الماكرسي في تحليله المزعوم.

من المسائل المهمة جدا التي عالجها وتناولها الكاتب بالتحليل والنقد دعوى التحليل الماركسي عدم عقلانية الفكر السلفي، وهي تهمة متكررة غير متقررة، فلسان حال الماركسي: كيف للسلفي وهو التقليدي التراثي أن يتطلع إلى المعاصرة وإلى التجديد؟! وهي مغالطة يفضحها سبق بيان الكاتب أن السلفية متعلقة بمضمون الماضي لا بالماضي نفسه باعتباره زمنا، ومع انكشاف العقلانية السلفية في خطاباتها يصر التحليل الماركسي على محاولة تغطية نور الشمس بغربال التدليس والتمويه، فيقول بعضهم: (إن العقلانية التي يدعيها السلفي هي العقلانية التقليدية الدينية الغيبية)، وليس يخفى كمية التجني والمغالطات في هذه العيارة القصيرة، فكيف بمقالات وكتب؟! ولعل ما يرفع الاستشكال هنا، ويفصح عن سبب معادات الماركسيين للفكر السلفي أن يستحضر أن “السلفية” هي الفكرة التي “قاومت” الاستغراب الفكري والاستعمار السياسي والثقافي، فليس يستغرب أن يقوم وكلاء هذا الاستعمار الشرقي التوسعي بمثل هذه الحملة التشويهية المؤدلجة، وقد نبه الكاتب على هذا بقوله: (موقف السلفية العقلي هو دعوة إلى… معارضة كل نزعات التجدد المنفصلة عن الدين والمتأثرة بالمذاهب الغربية)، فواضح جدا أن: موقف “التحليل الماركسي” من “السلفية” موقف “عداء بالوكالة“.

  • مهمة الحركة السلفية في المغرب([11]):

سيكون الختم بمقال كهيئة الجواب عن السؤال المهم: ما دور الحركة السلفية اليوم؟ ولن يخلو هذا المقال من “طُرفة” إن علم أنه نشر في العدد الثاني من السنة الأولى من تاريخ “دعوة الحق“، وفي هذا دلالات كثيرة.

يبدأ الأستاذ السايح مقاله “الجواب” هذا بعبارة ثقيلة وصادمة لكثير من الناس وهي: (لن تنجح حركة دينية فكرية في العالم الإسلامي نجاح الحركة السلفية)، وسيشرح السايح هذا الجواب بشيء من التفصيل والتمثيل، وقبل ذلك ينبه على واحدة من خصائص هذه الحركة، وهي كونها “متجذرة تاريخيا“، و”نهضة” و”مكافحة” للتبشير ودسائس الاستعمار، وليس مثله مستغربا من السايح، فقد كان مندفعا في عرضه للسلفية كلما كتب عنها، واندفاع المؤرخ دال على قوة حججه التاريخية وشواهده الواقعية، ومن ذلك أنه صرح أيضا بأن (الحركة السلفية كانت عاملا من عوال التطور العقلي في الشعوب الإسلامية)، وهذا جريا منه في محاولة شرح جوابه الأول، فكونها عامل تطور عقلي إضافة إلى ما (كان من مقاومتها لمكايد الغربيين) جعل السلفية في عين الأستاذ حسن السايح الطريقة الأقوى، بل الوحيدة لإقامة نهضة حقيقية من كل وجه، لكن المثير في مقال السايح هو حديثه عن ما يمكن تسميته “مهمة السلفية” اليوم، وهو حديث خطير، بسبب صعوبة التحديات التي تواجه هذه الحركة الآن، فلأنها مناهضة للخرافة والطرق الصوفية، معارضة للاستغراب الفكري، فقد واجهت مقاومة من أرباب ذلك، من بقايا الطرقيين والمستغربين الجدد، يقول الأستاذ الحسن: (هذه مهمة الحركة السلفية قبل الاستقلال، مقاومة المستعمرين، وتطهير الفكر والرجوع بالإسلام إلى عذوبة ينابيعه الأولى، وقد أصبحت الحركة السلفية اليوم تواجه مشاكل أخرى، وهي في نظري أشد عناء من المشاكل السابقة، ذلك لأن أعداءها بالأمس كانوا يكيدون في وضح النهار، وهم اليوم يكيدون لها في ظلام الليل). قال هذا منذ نحو خمسين سنة، فكيف لو رأى زماننا؟! وقد صدق الأستاذ السايح: كانت السلفية تواجه “ظاهرية العدو“، واليوم تواجه “باطنيته” وهي أشد، وهي الطريقة المثلى التي اختارها أعداء الإسلام لمحاربته، جريا على طريقة إبليس في الوسوسة والتخفي، وأعتبر هذه الإشارة من الأستاذ الحسن من أولى الإشارات التي نبهت على تغير طريقة العدو وتكتيكاته في التخريب والإفساد، وهو ما يوجب أن ننظر إلى تطوير وتجديد أدوات الحركة السلفية، وتكتيكاتها هي أيضا، وهذا هو عين التجديد والإبداع والمواكبة التي ينبغي أن تسلكه السلفية لمواجهة العدو “الباطني”.

خلاصات:

قديما قيل:

تكاثرت الظباء على خراش *** فما يدري خراش ما يصيد

وهذا ما حدث عند محاولة وضع خلاصات لهذه المقالات المنتقاة من بين عشرات أخرى، مما قد لا يوحي اسمها بمضمونها، وقد كانت “دعوة الحق” واضحة صريحة في إعلان “سلفيتها “عند “التأسيس“، وقد بذل كُتاب تلك المقالات صدقا وإتقانا في محاولة إقامة شواهد ذلك، فإن كان المغاربة اختاروا أن تكون السلفية المنهج المعتمد في “بناء الإنسان والعمران“، فقد اختارتها مجلة “دعوة الحق” لتكون قلبها النابض، فلا يكاد يخلو عدد من أعداد السنوات الأولى من مقال في ذلك، وقد وفت “دعوة الحق” بالنسبة، ويمكن تلخيص ذلك في ما يلي: “السلفية منهج لبناء الإنسان والعمران“، و”أداة توحيد للأوطان“، و”أقوى آلية في الحجة والبرهان“، وهي “عقيدة القرآن“، الجامعة بين “الأصالة والتجديد“، ودعوة “تنوير ويقظة“، و”حركة ونهضة“، و”بناء ونقد” و”إصلاح وتصحيح” في صفات أخرى، تستمدها السلفية من أصولها، وحري بكل بلد يريد “التحرر” و”البناء” أن يتخذها منهجا موجها، فما خاب من اعتمدها، والله المستعان على ما يصفون.

والحمد لله رب العالمين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) مجلة دعوة الحق، العدد 223، من ص30 إلى ص36.

([2]) كاتب ومفكر مصري، له أكثر من ثلاثين مؤلفا، توفي سنة 2002م.

([3]) مجلة دعوة الحق، السنة 18، العدد 1، من ص17 إلى ص20.

([4]) كتاب ومؤرخ مغربي، له كتب منها “الحضارة الإسلامية في المغرب“، ولا يزال حيا، وعمره نحو 94 سنة.

([5]) مجلة دعوة الحق، السنة الثانية، العدد الثامن، من ص12 إلى ص19.

([6]) مجلة دعوة الحق، السنة الخامسة والعشرون، العدد السابع، من ص72 إلى ص74.

([7]) توفي عام 1445هـ، الموافق لعام 2023م.

([8]) ينظر مقال: “دور المرابطين في توحيد المغرب وإقرار العقيدة السلفية” للمؤرخ المغربي: محمد بن عبد العزيز الدباغ، منشور ضمن “مجلة دعوة الحق”، السنة الثانية عشرة، العدد السابع، من ص 220 إلى ص228.

([9]) دعوة الحق، السنة العشرون، العدد الأول، من ص5 إلى ص10.

([10]) باحث وروائي مغرب.

([11]) مجلة دعوة الحق، السنة الأولى، العدد الثاني، من ص 21 إلى ص 22.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جديد سلف

السلفية في المغرب.. أصول ومعالم (من خلال مجلة “دعوة الحق” المغربية)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مدخل: مجلة “دعوة الحق” مجلة شهرية مغربية، تعنى بالدراسات الإسلامية وبشؤون الثقافة والفكر، أسست سنة 1957م، من إصدار وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، وهي مجلة رافقت بناء الدولة المغربية بعد الاستقلال، واجتمعت فيها أقلام مختلفة التخصصات، من المشرق والمغرب، وكانت “الحركة السلفية” و”العقيدة السلفية” و”المنهج السلفي” جزءا مهمًّا من مضامين […]

قطعية تحريم الخمر في الإسلام

شبهة حول تحريم الخمر: لم يزل سُكْرُ الفكرة بأحدهم حتى ادَّعى عدمَ وجود دليل قاطع على حرمة الخمر، وتلمَّس لقوله مستساغًا في ظلمة من الباطل بعد أن عميت عليه الأنباء، فقال: إن الخمر غير محرم بنص القرآن؛ لأن القرآن لم يذكره في المحرمات في قوله تعلاى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ […]

السَّلَف والحجاج العَقلِيّ .. الإمام الدارمي أنموذجًا

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: من الحقائق العلمية التي تجلَّت مع قيام النهضة العلمية لأئمة السلف في القرنين الثاني والثالث وما بعدها تكامل المنهج العلمي والمعرفي في الدين الإسلامي؛ فالإسلام دينٌ متكاملٌ في مبانيه ومعانيه ومعارفه ومصادره؛ وهو قائم على التكامل بين المصادر المعرفية وما تنتجه من علوم، سواء الغيبيات والماورائيات أو الحسيات […]

ذلك ومن يعظم شعائر الله .. إطلالة على تعظيم السلف لشعائر الحج

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: لا جرم أن الحج مدرسة من أعظم المدارس أثرا على المرء المسلم وعلى حياته كلها، سواء في الفكر أو السلوك أو العبادات، وسواء في أعمال القلوب أو أعمال الجوارح؛ فإن الحاج في هذه الأيام المعدودات لو حجَّ كما أراد الله وعرف مقاصد الحج من تعظيم الله وتعظيم شعائره […]

‏‏ترجمة الشيخ الداعية سعد بن عبد الله بن ناصر البريك رحمه الله

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة اسمه ونسبه: هو الشيخ سعد بن عبد الله بن ناصر البريك. مولده: ولد الشيخ رحمه الله في مدينة الرياض يوم الاثنين الرابع عشر من شهر رمضان عام واحد وثمانين وثلاثمائة وألف للهجرة النبوية 14/ 9/ 1381هـ الموافق 19 فبراير 1962م. نشأته العلمية: نشأ رحمه الله نشأته الأولى في مدينة […]

تسييس الحج

  منذ أن رفعَ إبراهيمُ عليه السلام القواعدَ من البيت وإسماعيلُ وأفئدة الناس تهوي إليه، وقد جعله الله مثابةً للناس وأمنا، أي: مصيرًا يرجعون إليه، ويأمنون فيه، فعظَّمه الناسُ، وعظَّموا من عظَّمه وأقام بجواره، وظل المشركون يعتبرون القائمين على الحرم من خيارهم، فيضعون عندهم سيوفهم، ولا يطلب أحد منهم ثأره فيهم ولا عندهم ولو كان […]

البدع العقدية والعملية حول الكعبة المشرفة ..تحليل عقائدي وتاريخي

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة تُعدُّ الكعبةُ المشرّفة أقدسَ بقاع الأرض، ومهوى أفئدة المسلمين، حيث ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بعقيدة التوحيد منذ أن رفع قواعدها نبي الله إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، تحقيقًا لأمر الله، وإقامةً للعبادة الخالصة. وقد حظيت بمكانةٍ عظيمة في الإسلام، حيث جعلها الله قبلةً للمسلمين، فتتوجه إليها وجوههم في الصلاة، […]

الصد عن أبواب الرؤوف الرحيم

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: من أهمّ خصائص الدين الإسلامي أنه يؤسّس أقوم علاقة بين الإنسان وبين إلهه وخالقه سبحانه وتعالى، وإبعاد كلّ ما يشوب هذه العلاقة من المنغّصات والمكدرات والخوادش؛ حيث تقوم هذه العلاقة على التوحيد والإيمان والتكامل بين المحبة والخوف والرجاء؛ ولا علاقة أرقى ولا أشرف ولا أسعد للإنسان منها ولا […]

إطلاقات أئمة الدعوة.. قراءة تأصيلية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: يقتضي البحث العلمي الرصين -لا سيما في مسائل الدين والعقيدة- إعمالَ أدوات منهجية دقيقة، تمنع التسرع في إطلاق الأحكام، وتُجنّب الباحثَ الوقوعَ في الخلط بين المواقف والعبارات، خاصة حين تكون صادرة عن أئمة مجدِّدين لهم أثر في الواقع العلمي والدعوي. ومن أبرز تلك الأدوات المنهجية: فهم الإطلاق […]

التوحيد في موطأ الإمام مالك

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يختزن موطأ الإمام مالك رضي الله عنه كنوزًا من المعارف والحكمة في العلم والعمل، ففيه تفسيرٌ لآيات من كتاب الله تعالى، وسرد للحديث وتأويله، وجمع بين مختلفه وظاهر متعارضه، وعرض لأسباب وروده، ورواية للآثار، وتحقيق للمفاهيم، وشرح للغريب، وتنبيه على الإجماع، واستعمال للقياس، وفنون من الجدل وآدابه، وتنبيهات […]

مناقشة دعوى مخالفة حديث: «لن يُفلِح قومٌ ولَّوا أمرهم امرأة» للواقع

مقدمة: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا وآله وصحبه أجمعين، أمّا بعد: تُثار بين حين وآخر بعض الإشكالات على بعض الأحاديث النبوية، وقد كتبنا في مركز سلف ضمن سلسلة –دفع الشبهة الغويّة عن أحاديث خير البريّة– جملةً من البحوث والمقالات متعلقة بدفع الشبهات، ونبحث اليوم بعض الإشكالات المتعلقة بحديث: «لن يُفلِحَ قومٌ وَلَّوْا […]

ترجمة الشيخ أ. د. أحمد بن علي سير مباركي (1368-1446هـ/ 1949-2025م)(1)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة اسمه ونسبه: هو الشَّيخ الأستاذ الدكتور أحمد بن علي بن أحمد سير مباركي. مولده: كان مسقط رأسه في جنوب المملكة العربية السعودية، وتحديدًا بقرية المنصورة التابعة لمحافظة صامطة، وهي إحدى محافظات منطقة جازان، وذلك عام 1365هـ([2]). نشأته العلمية: نشأ الشيخ نشأتَه الأولى في مدينة جيزان في مسقط رأسه قرية […]

(الاستواء معلوم والكيف مجهول) نصٌ في المسألة، وعبث العابثين لا يلغي النصوص

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. فقد طُبِع مؤخرًا كتاب كُتِبَ على غلافه: (الاستواء معلوم والكيف مجهول: تقرير لتفويض المعنى لا لإثباته عند أكثر من تسعين إمامًا مخالفين لابن تيمية: فكيف تم تحريف دلالتها؟). وعند مطالعة هذا الكتاب تعجب من مؤلفه […]

التصوف بين منهجين الولاية نموذجًا

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: منذ أن نفخ الله في جسد آدم الروح، ومسح على ظهره، وأخذ العهد على ذريته أن يعبدوه، ظلّ حادي الروح يحدوها إلى ربها، وصوت العقل ينادي عليها بالانحياز للحق والتعرف على الباري، والضمير الإنساني يؤنّب الإنسان، ويوبّخه حين يشذّ عن الفطرة؛ فالخِلْقَة البشرية والهيئة الإنسانية قائلة بلسان الحال: […]

ابن تيميَّـة والأزهر.. بين التنافر و الوِفاق

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يُعد شيخ الإسلام ابن تيمية أحد كبار علماء الإسلام الذين تركوا أثرًا عظيمًا في الفقه والعقيدة والتفسير، وكان لعلمه واجتهاده تأثير واسع امتدّ عبر الأجيال. وقد استفاد من تراثه كثير من العلماء في مختلف العصور، ومن بينهم علماء الأزهر الشريف الذين نقلوا عنه، واستشهدوا بأقواله، واعتمدوا على كتبه […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017