جواب الاحتمال الوارد على النبوة
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
العاقل يَعلمُ علمَ يقينٍ أن المعارف البشرية على تنوعها ودِقة بعضها ليست وليدةَ العقل البشري في كل تفاصيلها، بل لها مصادر كثيرة، والمؤمن يرى أن أعظمها وأسلمها هو الوحي المتلقّى عن الأنبياء، خصوصا في جانب القيم والأخلاق والتشريعات؛ إذ لا يمكن للإنسان أن يهتدي إلى الحق في كل شيء بالاستناد إلى العقل أو التجربة والحس؛ لأن هذه مصادر تنتهي إلى حد معين، بل بعضها لا بد له من معارف أولية يستند إليها وإلا أورث حيرة وشكا وضلالا تخرج الإنسانَ عن النسق البشريّ بالكلية، قال سبحانه: {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُون} [الأنعام: 125]. فهذه الحالة النفسية هي أشدّ الحالات خطرا على النفس البشرية حين تستغني عن الوحي أو تكفر به.
وهذا المعنى الذي تشير إليه هذه الآية الكريمة هو معنى مشاهَد في الحياة بنسبة لا تفوت على مُدَّكِر، فالانتحار بات في دول الكفر والإلحاد بنسبةٍ تضاهي نسبَ الأحزاب النشطة في الدعاية الإعلامية؛ مما يعني أنه بات مشاهدًا وملحوظًا، وكلما خفَّ نور النبوّة عمّ الضيق على النفس البشرية وتعرَّضت الأنفس في أجسادها التي تحملها للإهانة قبل أن تتعرّض لها عند غيرها.
والنبوة تفيد الناسَ بعلومٍ كثيرة، لكن النبوة قد تندثر لسبب من الأسباب؛ إما كفر حمَلتها بها كما وقع لسائر الأمم قبل النبي صلى الله عليه وسلم وتحريفهم لها، وإما لسبب كوني كتبه الله على رسالة بعينها أنها لا تدوم، ويبقى عند البشر بعد ذلك من علوم النبوة ما تستقيم به حياتهم وتستقرّ إلى أن يأذن الله بنور جديد وفجرٍ يطلع عليهم يكون فيه غدُهم أحسن من أمسهم، ويأبى البشر مع ذلك إلى إلا أن يكابر بعضُهم وينكِر الواضحَ البين الذي لا يمكن دفعه، فيعترضون على النبوة ويوردون عليها الاعتراضات التي قد لا تكون في محلها، وبعضها يكون من السذاجة بمكان، وفي هذه الورقة نناقش أجوبة القرآن على الاعتراض على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم.
جواب القرآن على الاعتراضات:
منذ أن قام رسول الله صلى الله عليه وسلم منذرا لقومه وملبّيا لنداء ربه توالت الدعاوى عليه تترى كلما انقضت تمادت، وكلما كسر قرن للباطل نبت قرن أشدّ اعوجاجا من الأول، ويمكن إجمال الاعتراضات التي أجاب عليها القرآن في الآتي: الاعتراض على شخص النبي صلى الله عليه وسلم، والاعتراض على الوحي وعلى معلوماته.
وتفصيلها في المباحث التالية:
المبحث الأول: الاعتراض شخص النبي صلى الله عليه وسلم:
من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث إلى قومه سخروا منه، واعترضوا عليه عدة اعتراضات غير موضوعية ولا علمية، ومن بين هذه الاعتراضات الاعتراض على شخص النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أجاب عنها القرآن واحدة واحدة
ومن ذلك اعتراضهم على عدم أهليته للرسالة: وذلك بأمرين: الأول: كونه ليس غنيا، والثاني: أنه بشر يأكل مما يأكلون منه ويشرب مما يشربون، وقد ذكر الله ذلك عنهم فقال: {وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم أهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُون} [الزخرف: 32]. قال الطبري: “يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء المشركون بالله من قريش لما جاءهم القرآن من عند الله: هذا سحر، فإن كان حقا فهلا نزل على رجل عظيم من إحدى هاتين القريتين مكة أو الطائف، واختلف في الرجل الذي وصفوه بأنه عظيم، فقالوا: هلا نزل عليه هذا القرآن، فقال بعضهم: هلا نزل على الوليد بن المغيرة المخزومي من أهل مكة، أو حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي من أهل الطائف”([1]).
وقال سبحانه: {وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُون} [الأنعام: 124].
قال البغوي رحمه الله: “وذلك أن الوليد بن المغيرة قال: لو كانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك؛ لأني أكبر منك سنا وأكثر منك مالا، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال مقاتل: نزلت في أبي جهل، وذلك أنه قال: زاحمنا بنو عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يوحى إليه، والله لا نؤمن به ولا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه، فأنزل الله عز وجل: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ} حجة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم {قَالُوا} يعني أبا جهل: {لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ}، يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم. ثم قال الله تعالى: {اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}… يعني: الله أعلم بمن هو أحق بالرسالة”([2]).
وقد أجاب القرآن عن هذه الاعتراضات بأحقية النبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وأن اختياره كان على علم، وكذلك ترك غيره ممن يشيرون إليهم، قال القرطبي معلقا على سياق الآية: “بين شيئا آخر من جهلهم، وهو أنهم قالوا: لن نؤمن حتى نكون أنبياء، فنؤتى مثل ما أوتي موسى وعيسى من الآيات، ونظيره {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَن يُّؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً} والكناية في {جَاءَتْهُمْ} ترجع إلى الأكابر الذين جرى ذكرهم. قال الوليد بن المغيرة: لو كانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك؛ لأني أكبر منك سنا، وأكثر منك ما لا. وقال أبو جهل: والله لا نرضى به ولا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه، فنزلت الآية. وقيل: لم يطلبوا النبوة ولكن قالوا: لا نصدقك حتى يأتينا جبريل والملائكة يخبروننا بصدقك. والأول أصح، لأن الله تعالى قال: {اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} أي: بمن هو مأمون عليها وموضع لها”([3]).
وجواب هذه الشبهة كما هو في الآيات أن الله لا يبعث الرسل باختيار البشر ولا باقتراحهم، “وأن البشر ليس لهم أن يختاروا على الله، بل هو الذي يخلق ما يشاء ويختار، ثم نفى سبحانه أن تكون لهم الخيرة كما ليس لهم الخلق”([4]). فالنبوة التي هي رحمة من الله لا يمكن أن تقسم على أهواء البشر، بل هي تابعة لقضاء الله وحكمته في خلقه، وهذا منطوق آية الزخرف، وقد بين الله سبحانه أهلية النبي للرسالة في عدة مواضع من كتابه، فنفى الضلال عنه والزيغ، وزكى خلقه فقال سبحانه: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 1-4].
وبيّن أنه صادق فيما يخبر، وذلك بقسمه به فقال: {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُون} [الزمر: 33]. قال مجاهد وقتادة والربيع بن أنس وابن زيد: {الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} هُوَ الرَّسُول([5]). وزكى عقله فقال: {وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ} [التكوير: 22]، وزكى خلقه فقال سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
أما الاعتراض على بشريته ووجوده بينهم يأكل ويشرب فقد أجاب عنه القرآن وحكاه فقال: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلاَ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} [الفرقان: 7].
قال ابن عطية: “هذه الآية رد على كفار قريش في استبعادهم أن يكون من البشر رسول وقولهم: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ}، فأخبر الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته أنه لم يرسل قبل في سائر الدهر نبيا إلا بهذه الصفة، ثم أخبر عز وجل أن السبب في ذلك أن الله تعالى أراد أن يجعل بعض العبيد فِتْنَةً لبعض على العموم في جميع الناس مؤمن وكافر، فالصحيح فتنة للمريض، والغني فتنة للفقير، والفقير الشاكر فتنة للغني، والرسول المخصوص بكرامة النبوة فتنة لأشراف الناس الكفار في عصره، وكذلك العلماء وحكام العدل… والتوقيف بـ{أَتَصْبِرُونَ} خاص للمؤمنين المحقين، فهو لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، كأنه جعل إمهال الكفار فتنة للمؤمنين أي: اختبارا، ثم وقفهم هل يصبرون أم لا؟ ثم أعرب قوله: {وَكانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} عن الوعد للصابرين والوعيد للعاصين”([6]).
وقد بين الله عز وجل عدم تَعَقّلهم في طلب ملك يرسل إليهم، فقال سبحانه: {وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُون} [الأنعام: 8، 9].
قال مجاهد: “وقالوا: {لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} أي: في صورة ملك، يقول الله عز وجل: {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ} يعني لقامت الساعة {لَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا} يقول: لجعلناه في صورة رجل، أي: في خلق رجل”([7]). قال غير واحد من السلف: “هم لا يطيقون أن يروا الملك في صورته، فلو أنزلنا إليهم ملكا لجعلناه في صورة بشر، وحينئذ كان يشتبه عليهم هل هو ملك أو بشر، فما كانوا ينتفعون بإرسال الملك إليهم، فأرسلنا إليهم بشرا من جنسهم يمكنهم رؤيته والتلقي عنه، وكان هذا من تمام الإحسان إلى الخلق والرحمة”([8]).
قال ابن القيم رحمه الله: “فأخبر سبحانه عن المانع الذي منع من إنزال الملك عيانا بحيث يشاهدونه، وأن حكمته وعنايته بخلقه منعت من ذلك، فإنه لو أنزل الملك ثم عاينوه ولم يؤمنوا لعوجلوا بالعقوبة ولم ينظروا، وأيضا فإنه جعل الرسول بشرا ليمكنهم التلقي عنه والرجوع إليه، ولو جعله ملكا فإما أن يدعه على هيئة الملائكة أو يجعله على هيئة البشر، والأول يمنعهم من التلقي عنه، والثاني لا يحصل مقصدهم إذ كانوا يقولون: هو بشر لا ملك، وقال تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلاّ أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا}، فأخبر سبحانه عن المانع من إنزال الملائكة، وهو أنه لم يجعل الأرض مسكنا لهم، ولا يستقرون فيها مطمئنين، بل يكون نزولهم لينفذوا أوامر الرب سبحانه، ثم يعرجون إليه، ومن هذا قوله: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآياتِ إِلاّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ}، فأخبر سبحانه عن حكمته في الامتناع من إرسال رسله بآيات الاقتراح والتشهي، وهي أنها لا توجب الإيمان، فقد سألها الأولون، فلما أوتوها كذبوا بها، فأهلكوا، فليس لهم مصلحة في الإرسال بها، بل حكمته سبحانه تأبى ذلك كل الإباء”([9]).
فهذه الاعتراضات على بساطتها لم يهملها القرآن، بل رد عليها وأجاب أصحابها وقت اعتراضهم؛ ليكاشفهم بالحقيقة التي لا يستطيعون لها دفعا، وهي أن وجود بشر منهم يتصف بالصدق والأمانة أبلغ في إقامة الحجة عليهم من أن يرسل إليهم ملكًا ليس على خلقتهم ولا يستطيعون الاقتداء به في جميع أحواله، بل وحتى رؤيته على حقيقته.
المبحث الثاني: الاعتراض على الوحي وعلى معلوماته:
وهذه الشبهة هي فرع الشبهة الأولى، وكان هذا الاعتراض مكوَّنا من شقين: نفي الوحي مطلقا، ونفي صدق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم خصوصا.
فقد كذبوا بالوحي وكفروا به، ونفوا أن يكون من عند الله، ثم اضطربوا في تحديد ماهيته فقالوا: سحر، وقالوا: أساطير كتبها النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض الرهبان. وأجاب الله عن تلك الشبه كلها، فقد تحدث القرآن عن اضطراب الوليد بن المغيرة في الحكم على القرآن: فقال سبحانه: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَر} [المدثر: 11-29]، وقال سبحانه: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ مُّبِين} [يونس: 2].
أما نفي الوحي مطلقا فإن الله عز وجل قد حاجَّهم فيه وبين تهافت المدّعين، فقال: {وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُون} [الأنعام: 91]. بين سبحانه أن الوحي حقّ وأنه من عند الله فقال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيم} [التكوير: 19]، {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُون (41) وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُون (42) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} [الحاقة: 41-43].
ويرد القرآن كلّ الدعاوى الباطلة فيقول: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِين} [يس: 69]. وهذا النفي كان على مرأى ومسمع أهل الاختصاص وأهل الفنّ، وهم العالمون بحياة النبي صلى الله عليه وسلم من مولده إلى بعثته، ثم تحدّاهم القرآن ببلاغته وتحدّاهم كذلك بمعلوماته، فنفى علمهم ببعض الأشياء، وشكَّك في أخرى، وكل ذلك لم يستطيعوا له دفعا.
أما الدعوى أن الكتاب المقروء المتلو هو من إملاء شخص آخر فتلك شبهة أخرى فندها القرآن وصرف العبارة في تفنيدها، قال سبحانه: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَـذَا إِنْ هَـذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِين} [الأنفال: 31]، وقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِين} [النحل: 24]، وقال سبحانه: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِين} [النحل: 103].
قال ابن كثير رحمه الله: “يقول تعالى مخبرا عن المشركين ما كانوا يقولونه من الكذب والافتراء والبهت: إن محمدا إنما يعلمه هذا الذي يتلوه علينا من القرآن بشر، ويشيرون إلى رجل أعجمي كان بين أظهرهم -غلام لبعض بطون قريش-، وكان بياعا يبيع عند الصفا، فربما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس إليه ويكلّمه بعض الشيء، وذاك كان أعجميّ اللسان لا يعرف العربية، أو أنه كان يعرف الشيء اليسير بقدر ما يردّ جواب الخطاب فيما لا بدّ منه؛ فلهذا قال الله تعالى رادا عليهم في افترائهم ذلك: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} يعني: القرآن، أي: فكيف يتعلم من جاء بهذا القرآن في فصاحته وبلاغته ومعانيه التامة الشاملة التي هي أكمل من معاني كل كتاب نزل على نبي أرسل، كيف يتعلم من رجل أعجمي؟! لا يقول هذا من له أدنى مسكة من العقل”([10]).
والقرآن حسم مادة الاعتراض من هذه الناحية بالنفي المطلق وبالتّحدّي، وهذا التحدّي شمل أمورا، منها: الإتيان بمثل القرآن في ألفاظه ومعانيه، أو التحدّث بمثل معلوماته وحقائقه، كل ذلك متعذّر على البشر تعذّرا مطلقا، فمن سبل إجابة الكفار على اعتراضهم على النبوة تحدّيهم بالقرآن: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “ومحمد أخبر بهذا في أول أمره؛ إذ كانت هذه الآية في سورة (سبحان) وهي مكية، صدّرها بذكر الإسراء الذي كان بمكة باتفاق الناس، وقد أخبر خبرا وأكده بالقسم عن جميع الثقلين -إنسهم وجنهم- أنهم إذا اجتمعوا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله، بل يعجزون عن ذلك، وهذا فيه آيات لنبوته.
منها: إقدامه على هذا الخبر العظيم عن جميع الإنس والجن إلى يوم القيامة بأنهم لا يفعلون هذا، بل يعجزون عنه. هذا لا يقدم عليه من يطلب الناس أن يصدّقوه إلا وهو واثق بأن الأمر كذلك ; إذ لو كان عنده شكّ في ذلك لجاز أن يظهر كذبه في هذا الخبر فيفسد عليه ما قصده، وهذا لا يقدم عليه عاقل مع اتفاق الأمم؛ المؤمن بمحمد، والكافر به، على كمال عقله ومعرفته وخبرته، إذ ساس العالم سياسة لم يسسهم أحد بمثلها.
ثم جعله هذا في القرآن المتلوّ المحفوظ إلى يوم القيامة -الذي يقرأ به في الصلوات، ويسمعه العام والخاص والولي والعدو- دليل على كمال ثقته بصدق هذا الخبر، وإلا لو كان شاكا في ذلك لخاف أن يظهر كذبه عند خلق كثير، بل عند أكثر من اتبعه ومن عاداه، وهذا لا يفعله من يقصد أن يصدقه الناس، فمن يقصد أن يصدقه الناس لا يقول مثل هذا، ويظهره هذا الإظهار، ويشيعه هذه الإشاعة، ويخلده هذا التخليد، إلا وهو جازم عند نفسه بصدقه.
ولا يتصور أن بشرا يجزم بهذا الخبر إلا أن يعلم أن هذا مما يعجز عنه الخلق؛ إذ علم العالم بعجز جميع الإنس والجن إلى يوم القيامة هو من أعظم دلائل كونه معجزا، وكونه آية على نبوته، فهذا من دلائل نبوته في أول الأمر عند من سمع هذا الكلام، وعلم أنه من القرآن الذي أمر ببلاغه إلى جميع الخلق، وهو وحده كاف في العلم بأن القرآن معجز”([11]).
وقد ظل هذا التحدّي مصرَّفا في القرآن الكريم، قال سبحانه: {أم يقولون تقوَلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُون فلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِين} [الطور: 34]، وقال سبحانه {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِين} [يونس: 38]، وقال سبحانه: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُون} [السجدة: 3]، وقال سبحانه: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم} [الأحقاف: 8].
المبحث الثالث: جواب الاحتمال الوارد على النبوة جملة:
بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم إلى قوم يعرفونه، وقد عاش بين ظهرانيهم وشهدوا له بالكمال الخَلقي والخُلقي، وكانوا يلقبونه بالأمين، وحكموه فيما شجر بينهم قبل البعثة، وقد كان على عادة قومه في اللسان، وكان أميا لا يقرأ ولا يكتب، ولم يكن كثير الأسفار ولا له اطلاع على أحوال الأمم السابقة، فكان في هذا جواب معجز لكل معترض على النبوة؛ لأن مَن هذه حاله يستحيل عليه أن يقدّم معلومات دقيقة عن تاريخ الأمم السالفة وبتفصيل دقيق حتى القارئ والكاتب قد يفوت عليه، ثم يقدّم معلومات عن خلق الإنسان الأوّل وهو آدم، ثم عن تخلّق الإنسان في بطن أمه وكيفية تطوّره في الأرحام، ويكون مع كل هذا مدّعيا كاذبا، ثم هو مع هذا كلّه يرفض الملك والرئاسة على قومه ويرفض المال، ويبيّن أن دعوته وما يقدم من معلومات لا يريد احتكارها من أجل بقاء الميزة العلمية، بل يبذلها مجانا للناس من أجل إسعادهم وإصلاح دنياهم وأخراهم، قال الله سبحانه وتعالى حكاية عنه: {أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِين} [الأنعام: 90]، وقال سبحانه: {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُور} [الشورى: 23].
وقد كان اطلاع النبي على تاريخ الأمم السابقة وأخبارهم -وهو من هو في الأمية- أكبر برهان على نبوته وأكبر دليل في رد أي احتمال يرد عليها، قال سبحانه: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُون} [الأنبياء: 24]، وقال سبحانه: {تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِين} [هود: 49].
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنَّا إذا أردنا الجواب عن النبوة فإن الأمر يحتاج منا أمورا منها:
أولا: البحث في حياة النبي صلى الله عليه وسلم بتفاصيلها حتى لا يضيع منها شيء، ويمكن أن نتلمّس أي ثغرة يمكن الدخول منها أو النقد بها.
ثانيا: النظر في براهين النبوة ومدى ظهورها وقوتها وإمكان إدراكها والاطمئنان إليها.
ثالثا: تفوّق رسالته على البيئة الثقافية والعلمية التي نشأ فيها، وإثبات أن المعارف التي قدمها تفوق خيال أهل تلك الفترة وعلومهم، وأنها مستعلية على علومهم وليست من جنسها.
رابعا: توافق ما يدعو إليه النبي صلى الله عليه وسلم مع مبادئ العقول وحقائق الفطرة، فلا يأتي بمستحيل عقلا، ولا بتشريع تنفر منه الفطر السليمة ولا يلائمها.
خامسا: أن تكون الدعوة التي دعا إليها النبي صالحة وممكنة التطبيق، لا خيالية ولا مثالية([12]).
ولنشرع في بيان ذلك مفصلا:
أولا: البحث في حياة النبي صلى الله عليه وسلم:
حين نطرح هذه الخيارات فإننا بتتبّعها واحدة تلو الأخرى لا يمكننا إلا أن نقرّ بالرسالة بعيدا عن العناد والمكابرة غير الموضوعية؛ لأن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم من يوم مولده إلى يوم موته محفوظة لدى المسلمين بجميع تفاصيلها، وهي غاية في الكمال والحسن والعفو والبعد عن الرذائل والنقائص، وليس فيها ما يوجب قدحا ولا ذمّا، وإذا اعترض معترض على السيرة بدعوى تأليف المسلمين لها فإن السؤال المطروح: ما الذي يدعو جميع المؤلفين من جميع العصور إلى الاتفاق الكلّي على تفاصيل حياة رجل معيّن وخلوّها من التناقض دون أن يوجد أيّ ملمح تاريخيّ يدل على صناعة الشخصية كالاختلاف في اسمه ونسبه ونشأته وطبيعة الموقف منه، كل هذا لن تجد له ذكرا عند من اعتنى بالتأليف في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تجد كذلك في السيرة المكتوبة ما يدلك على وجود دجل أو خديعة أو مكر، بل تجد وأنت تقرأ أنك أمام شخص في غاية الكمال وحسن الخلق والسلامة من حظوظ النفس، ثم ظهور حياة النبي صلى الله عليه وسلم وتوفّر جميع المعلومات عنه معلوم بدرجة لا ينكرها أحد، وهذا الظهور والتوفر هو لصالح من يؤمن بنبوته، وليس في صالح من ينكرها؛ لأن من ينكرها إما أن يدّعي عليه الكذب أو الدجل أو السحر، وكل هذا منفي بالواقع المشاهد ومدفوع بالحقائق، وما من قائل قال به واستطاع المناظرة عليه.
وقد أحسن ابن تيمية رحمه الله عرض سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ودلالتها على نبوته فقال: “ما من صنف من أصناف العلماء إلا وقد تواتر عندهم من الآيات ما فيه كفاية، فكتب التفسير مشحونة بذكر الآيات متواتر ذلك فيها، وكتب الحديث مشحونة بذكر الآيات متواتر ذلك فيها، وكتب السير والمغازي والتواريخ مشحونة بذكر الآيات متواتر ذلك فيها، وكتب الفقه مشحونة بذكر الآيات متواتر ذلك فيها، وإن لم يكن هذا مقصودا منها وإنما المقصود الأحكام، لكنهم في ضمن ما يروونه من الأحكام يروون فيها من الآيات ما هو متواتر عندهم، وكتب الأصول والكلام مشحونة بذكر الآيات متواتر ذلك فيها، ونقل كل طائفة من هذه الطوائف يفيد العلم اليقيني، فكيف بما ينقله كل طائفة من هذه الطوائف، وهذه الطريق وغيرها مثل طريق الإقرار والتصديق، وطريق التواتر المعنوي، وطريق تصديق أهل العلم بالحديث بها، وغير ذلك، يستدل بها تارة على تواتر الجنس العام للآيات الخارقة للعادة، وهذا أقل ما يكون، ويستدل بها على تواتر جنس جنس منها، كتواتر تكثير الطعام، وتواتر تكثير الطهور والشراب، وعلى تواتر نوع منها، كتواتر نبع الماء من بين أصابعه، وتواتر إشباع الخلق العظيم من الطعام القليل، وتواتر شخص منها، كتواتر حنين الجذع إليه، وأمثال ذلك، وكلما أمعن الإنسان في ذلك النظر، واعتبر ذلك بأمثاله، وأعطاه حقه من النظر والاستدلال ازداد بذلك علما ويقينا، وتبين له أن العلم بذلك أظهر من جميع ما يطلب من العلم بالأخبار المتواترة، فليس في الدنيا علم مطلوب بالأخبار المتواترة إلا والعلم بآيات الرسول وشرائع دينه أظهر من ذلك، وما من حال أحد من الأنبياء والملوك والعلماء والمشايخ المتقدمين وأقواله وأفعاله وسيرته إلا والعلم بأحوال محمد صلى الله عليه وسلم أظهر من العلم به، وما من علم يعلم بالتواتر مما هو موجود الآن كالعلم بالبلاد البعيدة كعلم أهل الشام بالعراق وخراسان والهند والصين والأندلس، وعلم أهل المغرب بالشام والعراق وخراسان والهند، وعلم أهل خراسان بالشام والعراق ومصر، وعلم أهل الهند بالعراق والشام، وأمثال ذلك من علم أهل البلاد بعضهم بحال بعض، إلا وعلم الإنسان بحال المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها وما هم عليه من الدين وما ينقلونه عن نبيهم من آياته وشرائعه أظهر من علمه بهذا كله. وهذا مما يبين أنه ليس في الوجود أمر يعلم بالنقول المتواترة إلا وآيات الرسول وشرائعه تعلم بالنقول المتواترة أعظم مما يعلم ذلك”([13]).
وهذه السيرة محفوظة فلا يمكن التغيير فيها ولا التبديل؛ لأن أهل الإسلام يعرفون من حال النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يعرفه غيرهم من أحوال من يعظمونه، ولذلك لا تجد من يستطيع الادعاء أن النبي حجّ بعد الهجرة أكثر من مرة، ولا أنه كان يصوم بمكة، ولا أنه كان يؤذن للعيدين أو يخطب بعد الجمعة؛ لأن وقائع حياته بجميع التفاصيل محفوظة مدروسة ومعلومة لدى المسلمين، والدعوى فيها ليست بالسهلة؛ فإذا تحقق حفظ السيرة وتواتر وقائعها الدالة على النبوة لم يبق إلا التسليم بذلك.
ثانيا: براهين النبي على نبوته:
حين ندرس حياة النبي صلى الله عليه وسلم وما قدمه من أدلة على نبوته فإننا نقف مسلِّمين بنبوته؛ لأنه قدم عليها المعجزات المادية والمعنوية، وأول براهينه على نبوته حياته بين قومه وشهادتهم له بالعدالة والصدق والاستقامة، فدعوى الافتراء عليه واردة من هذه الناحية، قال سبحانه: {قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُون} [يونس: 16].
قال ابن عطية: “هذه من كمال الحجة، أي: هذا الكلام ليس من قبلي ولا من عندي، وإنما هو من عند الله، ولو شاء ما بعثني به ولا تلوته عليكم ولا أعلمتكم به، و{أَدْرَاكُمْ} بمعنى أعلمكم… ثم قال: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ} أي: الأربعين سنة قبل بعثته عليه السلام، ويريد: لم تجربوني في كذب ولا تكلمت في شيء من هذا، {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أن من كان على هذه الصفة لا يصح منه كذب بعد أن ولّى عمره وتقاصر أمله واشتدت حنكته وخوفه لربه”([14]).
وهذه قرينة الحال الشاهدة على صدقه لم يكتف بها، بل هناك قرينة حال أخرى، وهي أمّيّته، وتدل على النبوة من جهتين:
الجهة الأولى: أنها تدفع إمكان إتيانه بهذه المعلومات من تلقاء نفسه؛ لأنه لا يقرأ ولا يكتب.
الجهة الثانية: تدل على النبوة من حيث إن القارئ والكاتب مع قراءته وكتابته فإنه لا بد أن ينسى، بينما النبي صلى الله عليه وسلم لم يقع له شيء من ذلك.
ثالثا: المعارف التي تحدّث بها النبي صلى الله عليه وسلم:
لم تكن المعارف التي تحدّث بها النبي صلى الله عليه وسلم من عادة أهل عصره ولا لهم بها علم، فلا قريش كانت على علم بنبيّ يبعث مذكور في الكتب السابقة ومبشر به، ولا هي كانت على علم كذلك بما في هذه الكتب على سبيل الجزم، ولم تكن لديهم تشريعات منتظمة مستقيمة، بل كانوا أهل جهل وضلال وحيرة وأمية، وأهل الكتاب كانوا أهل تحريف وكذب ووضع، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم مصحِّحا لكل هؤلاء ما هم عليه حتى من يدّعي العلم من أهل ذلك الزمن مثل أهل الكتاب، فإنه صحح عقائدهم في المسيح ابن مريم وفي موسى وفي الكتب وفي الشرائع، وكل هذا لم يكن ممكنا في ذلك الوقت من شخص في جزيرة العرب.
رابعا: توافق ما يدعو إليه مع الفطرة والعقل:
لقد قدم معجزات هي براهين على نبوته؛ مثل انشقاق القمر وتكثير الطعام وصدق الأخبار، فمن بشره بالجنة لم يمت على الكفر، ومن بشره بالنار لم يستطع تكذيبه فيدخل في الإسلام.
كل هذا وغيره يدفع أن تكون النبوة مختلقة من البشر أو تمالأ أقوام على وضعها للناس، كما أن حفظ الوحي كتابا وسنة وعدم تغيّر شيء منهما على مر التاريخ والأيام وعجز البشر عن الإتيان بمثلهم أو تبديلهم كلها عوامل موضوعية تدل على أن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو الدين الحق.
وصلاحية الشريعة وتوافقها مع العقول السليمة أمر لا يحتاج إلى كبير عناء لإدراكه، فالشريعة جاءت من الشرائع بالمعهود الوسط الذي يسع الناس جميعا، كما أنها رفعت كل مشقة عن البشر، قال سبحانه واصفا للنبي صلى الله عليه وسلم ولشريعته: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون} [الأعراف: 157]، وقال سبحانه: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون} [الأعراف: 158]. وقد رفع الله الحرج عن الأمة وجَعَل رفعَه مقصدا من مقاصد الشريعة.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([5]) ينظر: تفسير ابن كثير (7/ 99).
([6]) المحرر الوجيز (4/ 205) باختصار.
([8]) منهاج السنة النبوية (2/ 33).
([10]) تفسير ابن كثير (4/ 603).
([11]) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (5/ 410).
([12]) ينظر: دلائل النبوة لسامي العامري (ص: 67).