القيادة والتنمية عند أتباع السلف الصالح الأمير عبد الله بن طاهر أمير خراسان وما وراء النهر أنموذجا (182-230ه/ 798-845م)
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
المقدمة:
كنتُ أقرأ قصةَ الإمام إسحاق بن راهويه -رحمه الله- عندما عرض كتاب (التاريخ الكبير) للإمام البخاري -رحمه الله- على الأمير عبد الله بن طاهر، وقال له: (ألا أريك سحرًا؟!)، وكنت أتساءل: لماذا يعرض كتابًا متخصِّصًا في علم الرجال على الأمير؟ وهل عند الأمير من الوقت للاطّلاع على الكتب، فالأمير -كما في الرواية- لم يفهم الكتابَ وإن أعجبه تأليفُه، ما العلاقة بين إسحاق والأمير ليعرضَ عليه الكتاب؟! كيف استطاع إسحاق بن راهويه الدخولَ على الأمير ومجالسته وعرضَ كتابٍ عليه؟
وإذا وراء ذلك كلِّه سرديةٌ تُحكى، وقصص تُروى، وحقبة من الزمان كادت أن تطمسَ، فالأمير عبدُ الله هو ابن الأمير طاهر بن الحسين الذي مكّن للمأمون ملكَه بقتل أخيه الأمين، فولّاه المأمون بعد والده خراسان، فهو شخصية ملكية مرموقة، وسيرتها سيرة أمير ابن أمير ورث الحكم عن أبيه وورّثه هو لأبنائه، فيما عرف تاريخيًّا بالدولة الطاهرية.
وإن من قرأ سيرة هذا الأمير يدرك أنه كان رفيقًا بالأمة، قاصِدًا الخير لها، مبتغيًا العدلَ مع رعيته، مصلحًا لشؤون دولته، نزيهًا في تعامله، محبًّا للعلماء والأولياء، وباحثًا عن الحق في عقيدته، حتى أدركه الله برحمته، فهيّأ له بطانةً من علماء السنّة تدلُّه على الخير، وتهدِيه إليه، في زمن كانت للبدعة دولةٌ، وللفتنة صَولة، وسيفُها مسلَّط على رقاب العلماء، فإن أجابوا نجَوا، وإن خالفوا حُبِسوا وقُتلوا، حتى سخّر الله لهم أميرًا محبًّا للسنة وأهلها، مَهيبًا مُطاعًا، فلاذوا به، واعتصموا بجواره، ونشروا الحقّ في إمارته، ومهَّدوا لمن بعدهم الطريقَ، فارتفع لواء السنة في خراسان ونيسابور وما وراء النهر، بفضل الله تعالى ثم بفضل هذا الأمير، ولا أُبعد القول إن الله تعالى كما سخَّر الإمامَ أحمد -رحمه الله- لنصرة عقيدة أهل السنة بثباته يومَ المحنة في عاصمة الخلافة بغداد، سخَّر الأميرَ عبد الله بن طاهر لنصرتها في المشرق.
وهذه السيرةُ لم تظهِر الجهودَ العظيمة والخدماتِ الجليلة التي قام بها عبد الله بن طاهر في نشر العلم وتقريب العلماء، وأنّ جهود الأمير كانت سببًا بعد الله تعالى في ظهور كتُب الحديث في القرن الثالث -وهو العصر الذهبي لتدوين السنة النبوية-، فالعلماء الذين عاشوا في زمنه في خراسان وما جاورها وكانوا في دولته وتحت نفوذِه هم شيوخ أصحاب الكتب الستّة وغيرها، وهو منِ استقدم عددًا منهم من بغداد إلى نيسابور وما وراء النهر معه عند توليه إمارة خراسان، ضمنَ رؤية تنمويّة خطَّط لها، فكانت نهضة علمية حديثية بسببه، فأصحاب أمّهات كتب الحديث خرجوا من هذه البلاد، فهو صاحبُ مشروعٍ تنمويّ شاملٍ لمناحي الحياة الفكريّة والاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
فسيرة عبد الله بن طاهر سيرةٌ تدرَّس في القيادة والتخطيط والتنمية الشاملة، وهي مرجعية عِلمية تصلُح أن تقرَّر في معاهد القيادة والتخطيط الإستراتيجي، ليدرسها أصحاب القيادات العليا في المجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية.
فهذا الأمير الشابّ قاد الجيوش وقمَع الفتن وحكم الأقاليم في الشام ومصر وغيرها وعمره لم يتجاوز الثانية والعشرين، وكان تحت يدِه الأموالُ الطائلة التي منحها أياها المأمون عندما أعاد مصر للخلافة العباسية، ومع ذلك لم ينزل عن المنبر إلا وأنفقها على رعيَّته، وقبل ذلك عرض عليه ابن السري الذي استقلَّ بحكم مصر عن الخلافة ما يغري النفسَ من الهدايا والأموال والعبيد، ولكنه كان صادقًا أمينًا عفيفًا، وكان محبًّا للعلماء شاعرًا أديبًا.
فكان هذا الكتاب بعنوان: “القيادة والتنمية عند السلف الصالح”، فربما عرفنا عن السلف الصالح عقيدتَه وورعَه وأخلاقه وعِلمه، ولكن لم نعرف عن مهاراتهم القيادية وإدارتهم الإستراتيجية، فسيرة عبد الله بن طاهر تمثل نموذجًا للعلاقة الإيجابية بين الحاكم والمحكوم، وأنّ العلاقة بين القيادة والتنمية علاقة تلازم، أساسها الشرع الحكيم وإقامة الأمن والعدل، وهذا منهج إسلاميّ منذ نشوء دولة الإسلام الأولى في المدينة النبوية، وتطوّرها في عهد الخلفاء الراشدين، ولا سيما في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وما قام به الأمير عبد الله بن طاهر -رحمه الله- ليس إلا تجديدًا لهذا المنهج، فعندما تقرأ رسالةَ والده له عند تولِّيه الإمارة تعلم أن الفكر السياسي عند المسلمين وصل لدرجة عالية في وقت مبكر، والأعجب كيف حوَّل الأمير الشابّ هذا الفكر لبرنامج عملي تنمويّ، فأصبح واقعًا ملموسًا تعيشه الأمّة، ولا أبالغ إن قلت: إن عبد الله بن طاهر هو مجدِّد الأمة في القرن الثالث من الناحية السياسيّة، كما كان عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- مجدِّدَها في القرن الثاني، إلا أن مدة حكمه القصيرة لم ترقَ لأعمال عبد الله بن طاهر التنموية.
واعتمدتُ في الكتاب على المصادر التاريخية المشهورة، مع تتبّع بعض الأحداث من مصادرها الخاصة؛ ككتب التراجم، وطبقات الشعراء والأطباء، وكتب البلدان والفتوح والوفيات ونحوها، واجتهدتُ أن لا أترك شاردة ولا واردة تحدثَّت عن سيرة عبد الله بن طاهر إلا وذكرتُها، مع اختصارٍ في تفاصيل مجريات المعارك، وحذفٍ لبعض القصص الأدبيّة، مع محاولة تجميع الروايات وترتيبها وتنسيق أحداثها، فجاء الكتاب سرديًّا، مع التركيز على إظهار الجوانب القيادية والتنموية في سيرة هذا الأمير.
وابتَدأ السردُ بذكر عناية الخليفة المأمون به حتى أحلَّه محلَّ الولد، ووثق به وولاه القيادة العسكرية والسياسية في العراق والشام ومصر، ثم ولاية خراسان وما وراء النهر بعد وفاة والده.
ثم ذكرُ إجلالِه وحبه لأحد أئمة الحديث وهو الإمام يحيى بن يحيى النيسابوري، عندما استقر به الأمر في نيسابور، وكيف أن هذه العلاقة الخاصة كانت مفتاحَ خير لأهل الحديث، وخاصة الإمام إسحاق بن راهويه الذي أصبح نديم الأمير ومستشاره، وعلى يده عرف الأمير عقيدة أهل الحديث.
وجاء بعد ذلك ذكرُ ملامح المشروع التنموي الذي قام به الأمير عبد الله بن طاهر، مؤسّسًا على وصية والده له التي وضعت دستورًا للدولة، فطبّقه ابنه ببرنامج عمليّ تنمويّ.
وختمت حكاية عبد الله بن طاهر بذكر محاسِنه وصفاتِه ومواقفِه وحِكَمه، وأقوال العلماء والمؤرخين فيه، وذكر وفاته.
أسأل الله العظيم ربَّ العرش الكريم أن يجزلَ الثواب لأبي العباس عبد الله بن طاهر، ويجزيه عن الأمة خير الجزاء، وأن يتقبل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم.
في قصر المأمون:
لو علم المأمون أنَّ عبد الله بن طاهر سيكون سببًا بعد الله تعالى في نشر عقيدة أهل الحديث في المشرق ما ولّاه خراسان.
عاصر الأمير عبد الله بن طاهر الخليفةَ المأمونَ الذي أظهر القول بخلق القرآن وامتحن الناس عليه سنة 218ه، وفيها توفي المأمونُ، وخلفه أخوه المعتصمُ، وأخذ بوصية أخيه بالقول بخلق القرآن وامتحان الناس من أهل العلم، ومنهم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، واستمر الأمر في خلافة الواثق ابن المعتصم، وفيها كانت وفاة عبد الله بن طاهر سنة 230ه.
ولم تتحدَّث كتب التاريخ عن طفولة عبد الله بن طاهر، لكنه نشأ في بيت إمارة وسياسة، فوالده طَاهِرُ بنُ الحُسَيْنِ بنِ مُصْعَبِ بنِ رُزَيْقٍ الخُزَاعِيُّ الأَمِيْرُ، مُقَدَّمُ الجُيُوْشِ، ذُو اليَمِينَيْنِ، أَبُو طَلْحَةَ الخُزَاعِيُّ، القَائِمُ بِنَصْرِ خِلافَةِ المَأْمُوْنِ، فَإِنَّهُ نَدَبَهُ لِحَرْبِ أَخِيهِ الأَمِينِ، فَسَارَ فِي جَيْشٍ لَجِبٍ، وَحَاصَرَ الأَمِينَ، فَظَفِرَ بِهِ، وَقَتَلَهُ صَبْرًا([1]).
وفِي سَنَةِ أَرْبَعٍ ومائتين ولّى المأمون طَاهِرَ بن الحسين جَمِيعَ خُرَاسَانَ، وَأَمَرَ لَهُ بِعَشرَةِ آلاَفِ أَلفِ دِرْهَمٍ. وَفِي سَنَةِ سَبْعٍ ومائتين مَاتَ طَاهِرٌ، فَقَامَ بَعْدَهُ ابْنُهُ طَلْحَةُ، فَوَلاهُ المَأْمُوْنُ خُرَاسَانَ، فَبَقِيَ سَبْعَةَ أَعْوَامٍ ومَاتَ، فَوَلِيَهَا أَخُوهُ عَبْدُ اللهِ بنُ طَاهِرٍ([2]).
وذكر ابن جرير في شأن تولية طلحة بن طاهر إمارة خراسان قولين، الأول: أن المأمون ولاه بعد وفاة أبيه طاهر مباشرة، والرأي الآخر: قال: (إن المأمون ولى عبد الله في قول هؤلاء بعد موت طاهر عمل طاهر كله -وكان مقيما بالرقة على حرب نصر بْن شبث- وجمع له مع ذلك الشام، وبعث إليه بعهده على خراسان وعمل أبيه، فوجه عبد الله أخاه طلحة بخراسان)([3]).
ويرى ابن كثير أن المأمون وَلَّى وَلَدَهُ عَبْدَ اللَّهِ مَكَانَهُ، مَعَ إِضَافَةِ أَرْضِ الْجَزِيرَةِ وَالشَّامِ إِلَى نِيَابَتِهِ، فَاسْتَخْلَفَ عَبْدُ اللَّهِ عَلَى خُرَاسَانَ أَخَاهُ طَلْحَةَ بْنَ طَاهِرٍ سَبْعَ سِنِينَ، ثُمَّ تُوُفِّيَ طَلْحَةُ فَاسْتَقَلَّ عَبْدُ اللَّهِ بِجَمِيعِ تِلْكَ الْبِلَادِ([4]).
بمعنى أن الإمارة كانت لعبد الله بن طاهر، وهو من أوكل إمارة خراسان لأخيه طلحة، وبناء على هذا القول يكون عبد الله بن طاهر تولى الإمارة عام 207ه، وكان عمره آنذاك خمسًا وعشرين سنة، وامتد حكمه إلى عام 230ه سنة وفاته، فحكم مدة ثلاث وعشرين سنة، وكان عمره عند وفاته ثمانيا وأربعين سنة.
وجده هو الحسين بن مُصْعَب بن رزيق بن أسعد مولى طلحة بن عبد الله الخُزَاعيّ، وهو طلحة الطّلحات أمير سجستان، وأسعد جدّ بني طاهر كان يُعرف في العجم بفُرخ رزين موزة، فأسلم على يد عليّ رضي الله عنه على أن لا يغيّر اسمه. فسأل عن اسمه فقيل: اسمٌ مُشْتَقٌّ من السّعادة، فقال: هو إذًا أسعد، وكان والده يُسَمّى فيروز([5]).
وأصلهم من مدينة بوشنج، فهي بلد طاهر بن الحسين بن مصعب، افتتحها أوس بن ثعلبة التيمي والأحنف بن قيس، وهما من قبل عبد الله بن عامر في خلافة عثمان رضي الله عنه، وأهلها أخلاط من العجم، وبها عرب يسير([6]).
وقال ياقوت الحموي: (بُوشَنْجُ بفتح الشين وسكون النون وجيم: بليدة نزهة خصيبة في واد مشجر من نواحي هراة، بينهما عشرة فراسخ، رأيتها من بعد ولم أدخلها، حيث قدمت من نيسابور إلى هراة)([7]).
وهي بلدة صغيرة بالقرب من مدينة هراة، وتلفظ أحيانا (بوشنك)([8])، وهراة من أمهات مدن خراسان، وهي اليوم من مدن أفغانستان([9]).
وخراسان حاليًّا تشمل أجزاءً من إيران وغرب أفغانستان، وأما ما وراء النهر فتشمل دول آسيا الوسطى: أوزبكستان وكازاخستان وقيرغيزستان وطاجكستان وتركمانستان.
وتشير المصادر أن المأمون تبناه ورباه([10])، وكان له مكانة خاصة فيعامله معاملة الولد، وذات ليلة انصرف عبد الله بن طاهر من دار المأمون وذلك بعد خروج طاهر إلى خراسان، وكان قد غلب عليه النبيذ، فبات في القبة الطاهرية من دار طاهر بمدينة السلام، فتعلق طرف من الخيش -وقد يبس- بالشمعة فاحترقت القبة، واحتمل عبد الله فأخرج منها.
واتصل الخبر بطاهر، فكتب إلى عبد الله يعذله ويؤنبه ويقول: لو ورد الخبر بوفاتك كان أسهل علي من وروده بفضيحتك، وأن يبلغ بك النبيذ مبلغًا لا تحس معه باحتراق موضع أنت فيه، ويأمره بالتجهز والخروج إليه، فأقلق عبد الله ذلك وكتمه عن جميع الناس، وختم الكتاب وجعله تحت مصلاه، وتبين الهم عليه، فسأله المأمون عن خبره فكتمه، ثم سأل من يخصه، فأعلمه أن كتابًا ورد عليه لا يعلم ما فيه، فأقسم عليه المأمون في إحضار الكتاب، فأحضره.
فكتب المأمون إلى طاهر يعاتبه على ما فعل، ويعلمه منزلته عنده وإحلاله محل الولد، وأنه لا يد لطاهر عليه إلا بحق خلافته، فإن صرفه عنها فليس له أن يزعجه عن الحضرة، فأجاب طاهر بالشكر لتطوله إذ كان هذا محله عنده([11]) وهذا إنما كان في أول شبابه.
ووثق به المأمون ثقة عظيمة، وكان معجبًا بشخصيته القيادية ونزاهته، فولاه الشام حربًا وخراجًا، فخرج من بغداد إليها، واحتوى عليها، وبلغ إلى مصر ثم عاد، فولاه المأمون إمارة خراسان فخرج إليها، وأقام بها حتى مات([12]).
وقَالَ الْمَأْمُون يَوْمًا لأَصْحَابه: (هَل تعرفُون رجلا برع بِنَفسِهِ حَتَّى مد أَهله، وبرز على جَمِيع أهل دهره فِي نزاهة نَفسه، وَحسن سيرته، وكرم حزبيته، فَذكر قوم نَاسًا فأَطرَوْهم. فَقَالَ: لم أرد هَؤُلَاءِ. فَقَالَ علي بن صَالح صَاحب الْمصلى: مَا أعلم -يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ- أحدا أكمل هَذِه الْخِصَال إِلَّا عمر بن الْخطاب رَحمَه اللَّهِ. فَقَالَ الْمَأْمُون: اللَّهُمَّ غفرًا، لم نرد قُريْشًا وَلَا أخلاقها. فَأمْسك الْقَوْم جَمِيعًا. فَقَالَ الْمَأْمُون: ذَاك عبد اللَّهِ بن طَاهِر، وليته مصر وأموالها جمة، فَعرض عَلَيْهِ عبيد اللَّهِ بن السري -أمير مصر الذي خرج عن طاعة الخلافة- من الْأَمْوَال مَا يقصر عَنهُ الْوَصْف كَثْرَة، فَمَا تعرض لدينار مِنْهَا وَلَا دِرْهَم، وَمَا خرج عَن مصر إِلَّا بِعشْرَة آلَاف دِينَار وَثَلَاثَة أَفْرَاس وحمارين، وَلكنه غرس يدي وخريج أدبي)([13]).
وروى ابن عساكر بسنده عن إسحاق بن إبراهيم بن مصعب -ابن عم عبد الله بن طاهر- أنه تضمن خراج السواد من المأمون لسنة ثلاث عشرة ومائتين بأربع مائة ألف كر شعيرًا حاصلًا، وثمانية آلاف درهم، سوى مؤن العمل وأرزاق العمال وغير ذلك، فارتفع لي فيه من الفضل بعد المؤن والأرزاق الجارية عشرون ألف ألف درهم، قال: فأتيت المأمون فقلت: يا أمير المؤمنين، إني قد استفضلت في ضمان السواد عشرين ألف ألف درهم، قال: قد سررتني، وقد سوغتكها، ولكن اكتب إلى عبد الله بن طاهر، فعرفه أني ضمنتك السواد له، وسوغتك هذا الفضل لمكانه ومحله مني، ففعلت([14]).
وقال له المأمون عند خروجه لمصر لقتال عبيد الله بن السري: (يَا عبد اللَّهِ، إِنِّي استخير اللَّهِ مُنْذُ شهر وَأَرْجُو أَن يُخَيّر اللَّهِ لي، وَرَأَيْت الرجل يصف ابْنه ليطريه لرأيه فِيهِ وليرفعه ورأيتك فَوق مَا قَالَ أَبوك فِيك). فعقد له المأمون لواءً مكتوبًا عليه ألقاب عبد الله بن طاهر، وزاد فيه: يا منصور([15]).
(فحاصره عبد الله بن طاهر، وضيّق عليه حتى أباده وأشرف على الهلاك، فطلب عبيد الله بن السري الأمان من عبد الله بن طاهر بشروطه، وبعث إليه بتقدمة من جملتها ألف وصيف ووصيفة، مع كل وصيف ووصيفة ألف دينار في كيس حرير، وبعث بهم ليلًا، فرد عبد الله بن طاهر ذلك عليه، وكتب إليه: لو قبلت هديتك نهارًا قبلتها ليلًا، {بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [النمل: 36]، فلما بلغه ذلك طلب الأمان من غير شرط، فأمنه عبد الله بن طاهر بعد أمور صدرت، فخرج إليه عبيد الله بن السري بالأمان، وبذل إليه أموالًا كثيرة، وأذعن له، وسلم إليه الأمر، وذلك في آخر صفر سنة إحدى عشرة ومائتين)([16]).
وكتب المأمون إلى عبد الله بن طاهر وهو بمصر حين فتحها، في أسفل كتاب له:
أخي أنت ومولاي … ومن أشكر نعماه
فما أحببتَ من أمر … فإني الدهرَ أهواه
وما تكرَه من شيء … فإني لستُ أرضاه
لك الله على ذاك … لك الله لك الله([17])
كان عبد الله بن طاهر شديدَ الولاء للعباسيين، فوعظ يومًا ابن أخيه مَنْصُور بن طَلْحَة ونهاه عَن الْكَلَام فِي الْإِمَامَة فقال: (إِنَّمَا نبت شعرنَا على رؤوسنا ببني الْعَبَّاس، وَلَو كَانَ هَؤُلَاءِ الْقَوْم الَّذِي يعزى إِلَيْهِم هَذَا الْأَمر فِي مَكَان هَؤُلَاءِ لكَانَتْ الرَّحْمَة من النَّاس لَهُم؛ لِأَن سَبِيل النَّاس على ذَلِك)([18]).
واختبره المأمون في ولائه بعد تشكيك بعض العباسيين فيه، نقل ابن طيفور عن عَطاء صَاحب مظالم عبد اللَّهِ بن طَاهِر قَالَ: (قَالَ رجل من إخوة أَمِير الْمُؤمنِينَ لِلْمَأْمُونِ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِن عبد اللَّهِ بن طَاهِر يمِيل إِلَى ولد أبي طَالب، وَكَذَا كَانَ أَبوهُ وجده، قَالَ: فَدفع الْمَأْمُون ذَلِك وَأنْكرهُ، ثمَّ عَاد بِمثل هَذَا القَوْل، فَدس إِلَيْهِ الْمَأْمُون رجلا ثمَّ قَالَ لَهُ: امْضِ فِي هَيْئَة الْغُزَاة أَو النساك إِلَى مصر، فَادع جمَاعَة من كبرائها إِلَى الْقَاسِم بن إِبْرَاهِيم بن طَبَاطَبَا -أحد العلويين- وَاذْكُر مناقبه وعلمه وفضائله، ثمَّ صر بعد ذَلِك إِلَى بعض بطانة عبد اللَّهِ بن طَاهِر، ثمَّ ائته فَادعُهُ ورغبه فِي استجابته لَهُ، وابحث عَن دَقِيق نِيَّته بحثًا شافيًا وأتني بِمَا تسمع مِنْهُ.
قَالَ: فَفعل الرجل مَا قَالَ لَهُ وَأمره بِهِ، حَتَّى إِذا دَعَا جمَاعَة من الرؤساء والأعلام قعد يَوْمًا بِبَاب عبد اللَّهِ وَقد ركب إِلَى عبيد اللَّهِ بن السّري بعد صلحه وَأَمَانه، فَلَمَّا انْصَرف قَامَ إِلَيْهِ الرجل فَأخْرج من كمه رقْعَة فَدَفعهَا إِلَيْهِ، قَالَ: فَأَخذهَا بِيَدِهِ. قَالَ: فَمَا هُوَ إِلَّا أَن دخل فَخرج الْحَاجِب إِلَيْهِ فَأدْخلهُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَاعد على بِسَاط مَا بَينه وَبَين الأَرْض غَيره، وَقد مد رجلَيْهِ وخُفاه فيهمَا، فَقَالَ لَهُ: قد فهمتُ مَا فِي رقعتك من جملَة كلامك فهات مَا عنْدك. قَالَ: ولي أمانُك وَذمَّةُ اللَّهِ مَعَك؟ قَالَ: لَك ذَلِك. قَالَ: فأظهر لَهُ مَا أَرَادَ وَدعَاهُ إِلَى الْقَاسِم وَأخْبرهُ بفضائله وَعلمه وزهده، فَقَالَ لَهُ عبد اللَّهِ: أتنصفني؟ قَالَ: نعم، قَالَ: هَل يجب شكر اللَّهِ على الْعباد؟ قَالَ: نعم. قَالَ: فَهَل يجب شكر بَعضهم لبَعض عِنْد الإِحْسَان والْمنَّة والتفضل؟ قَالَ نعم. قَالَ: فتجيء إِلَيّ وَأَنا فِي هَذِه الْحَال الَّتِي ترى؛ لي خَاتم فِي الْمشرق جَائِز، وَفِي الْمغرب كَذَلِك، وَفِيمَا بَينهمَا أَمْرِي مُطَاع وَقَوْلِي مَقْبُول، ثمَّ مَا ألْتفتُ يَمِيني وَلَا شمَالي وورائي وقدامي إِلَّا رَأَيْت نعْمَةً لرجل أنعمها عليّ، وَمِنّةً ختم بهَا رقبتي، ويدًا لائحة بَيْضَاء ابتدأني بهَا تفضلًا وكرمًا، فتدعوني إِلَى الْكفْر بِهَذِهِ النِّعْمَة وَهَذَا الْإِحْسَان، وَتقول: اغدُر بِمن كَانَ أَولا لهَذَا وآخرًا، وَاسْعَ فِي إِزَالَة خيط عُنُقه وَسَفك دَمه، تراني لَو دعوتني إِلَى الْجنَّة عيَانًا من حَيْثُ أعلم أَكَانَ الله يحب أَن أغدر بِهِ وأكفر إحسانه ومنته وأنكث بيعَته؟!… فَسكت الرجل. فَقَالَ لَهُ عبد اللَّهِ: أما إِنَّه قد بَلغنِي أَمرك، وتالله مَا أَخَاف عَلَيْك إلا نَفسك، فارحل عَن هَذَا الْبَلَد؛ فَإِن السُّلْطَان الْأَعْظَم إِن بلغه أَمرُك -وَمَا آمنُ ذَلِك عَلَيْك- كنتَ الْجَانِي على ظهرك وَظهر غَيْرك.
قَالَ: فَلَمَّا أيس الرجل مِمَّا عِنْده جَاءَ إِلَى الْمَأْمُون فَأخْبرهُ الْخَبَر، فَاسْتَبْشَرَ وَقَالَ: (ذَاك غرس يَدي، وإلف أدبي، وترب تلقيحي). وَلم يُظْهر من ذَلِك لأحد شَيْئا، ولا علِم بِهِ عبد اللَّهِ إلا بعد موت الْمَأْمُون([19]).
وكان يجلس مع المأمون مجالسَ علمية خاصة، قال صاحب (كتاب بغداد) أبو الفضل ابن طيفور: (حَدثنِي سُلَيْمَان بن يحيى بن معَاذ، عَن عبد اللَّهِ بن طَاهِر، عَن الْمَأْمُون قَالَ: تَفْسِير حَدِيث: “إِذا لم تستح فافعل مَا شِئْت” إِنَّمَا مَعْنَاهُ: إِذا كنت تفعل مَا لَا يستحي مِنْهُ فافعل مَا شِئْت)([20]).
وروى المعافى بن زكريا عن اللَّيْث بْن مُحَمَّد بْن اللَّيْث أَبي نصر المَرْوَزِيّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا نصر مُحَمَّد بْن يَحْيَى بْن طَاهِر الْخُزَاعيّ المَرْوَزِيّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْد اللَّه بْن مَنْصُور بن طَلْحَة يَقُولُ: سَمِعْتُ عمي عَبْد اللَّه بْن طَاهِر يَقُولُ: سَأَلَني الْمَأْمُون أَمِير الْمُؤْمِنِين، فَقَالَ: يَا أَبَا الْعَبَّاس، مَا معنى إِذا سرقت فاسرق دُرَّة، وَإِذَا زَنَيْت فازْنِ بحُرَّة، فَقلت: أو يخبرني أَمِير الْمُؤْمِنِين، قَالَ: لَيْسَ هَذَا حَثًّا عَلَى الزِّنَا، وَلا عَلَى السَّرِقَة، وَلَكِن إِذا رُمْتَ الزِّنا من الْحُرَّة تَعذَّر عَلَيْك، وَإِذَا رُمْتَ السّرقَة للدُّرة تعذَّر عَلَيْك؛ لِأَنَّهَا مصونة فَلَا تقدر عَلَيْهَا)([21]).
ولهذه الثقة عهِد إليه المأمون بأعمال كثيرة، فقد روى ابن عساكر عن أبي عبيد الله محمد بن عمران بن موسى المرزباني قال: عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب بن رزيق أبو العباس، كان بارع الأدب، حسن الشعر، نبيهًا في نفسه، تنقّل في الأعمال الجليلة شرقًا وغربًا، قلده المأمون مصر والمغرب، ثم نقله عنها إلى خراسان بعد وفاة أبيه، وتوفي عبد الله بنيسابور في خلافة الواثق في سنة ثلاثين ومئتين، وكان إليه وقتَ وفاته الشرطتان بمدينة السلام وسر من رأى والسواد، وخليفته على ذلك إسحاق بن إبراهيم المصعبي، وكان إليه الحرب والخراج بخراسان وأعمالها بجانبي النهر وطبرستان وجرجان والري وأعمالها([22]).
وعندما حضرت المأمونَ الوفاة سنة 218ه، وجعل الخلافة لأخيه المعتصم، أوصاه بِتَقْوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ، وأوصاه أن يَعْتَقِدَ مَا كَانَ يَعْتَقِدُهُ فِي الْقُرْآنِ، وَأَنْ يَدْعُوَ النَّاسَ إِلَى ذَلِكَ، وَأَوْصَاهُ بعبد الله بن طاهر([23]).
فالوظيفة العامة عند السلطان لمن كان كفؤًا أمينًا يؤدّي حقّها ويكون ناصحًا لولي الأمر باب من أبواب الخير، فقد مكّن الله تعالى لعبد الله بن طاهر حكم خراسان وما وراء النهر، وكان هذا الأمير الشاب مُجلًّا للعلماء -كما سيأتي-، فنشر الله على يديه عقيدة أهل الحديث في المشرق.
مع إسحاق بن راهويه وأهل الحديث:
قال وَهْب بن جَرِيرٍ: جَزَى اللهُ إِسْحَاقَ بنَ رَاهويه عَنِ الإِسْلامِ خَيْرًا؛ أَحْيَى السُّنَةَ بِالمَشْرِقِ.
قبل الحديث عن علاقة الأمير بالإمام إسحاق بن راهويه نذكر علاقته بمن كان سببًا في دخول إسحاق على الأمير واتخاذه مستشارًا له، وهو الإمام يحْيَى بنُ يَحْيَى بنِ بَكْرِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ التَّمِيْمِيُّ، شَيْخُ الإِسْلاَمِ، وَعَالِمُ خُرَاسَانَ، أَبُو زَكَرِيَّا، التَّمِيمِيُّ المِنْقَرِيُّ النَّيْسَابُوْرِيُّ الحَافِظ([24])، وهو شيخ البخاري ومسلم، ويظهر أن الأمير تعرف عليه عند وصوله لنيسابور، ولم تذكر المصادر بداية هذه العلاقة، ولكن حبّ الأمير للعلم والعلماء وشهرة إمام نيسابور يحيى بن يحيى جعلته قريبًا منه، بل ويجلّه إجلالًا عظيمًا، أورد الإمام الذهبي عن الحُسَيْنَ بنَ مَنْصُوْرٍ قال: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بنَ طَاهِرٍ الأَمِيرَ يَقُولُ: (رَأَيْتُ فِي النَّوْمِ فِي رَمَضَانَ كَأَنَّ كِتَابًا أُدْلِيَ مِنَ السَّمَاءِ، فَقِيْلَ لِي: هَذَا الكِتَابُ فِيهِ اسْمُ مَنْ غُفِرَ لَهُ، فَقُمْتُ فَتَصَفَّحْتُ فِيهِ، فَإِذَا فِيهِ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، يَحْيَى بنُ يَحْيَى)([25])، فانظر إلى تعلق الأمير عبد الله بن طاهر بالإمام يحيى بن يحيى.
ومن حبه له أنه لما كتب له رقعة فيها قضاء دين إسحاق بن راهويه قبّل الرقعة ووضعها على عينيه([26]). وقال عنه: (ما رأى يحيى بن يحيى مثل نفسه، وشكُّ يحيى بن يحيى عندنا يقينٌ)([27]).
ولما أراد يحيى بن يحيى الحجَّ استأذن الأمير بذلك، فخشي عليه من بطش السلطان بسبب فتنة القول بخلق القرآن الكريم، روى الحاكم من طريق الحسين بن منصور قال: (أراد يَحْيَى بنُ يَحْيَى الحَجَّ، فَاسْتَأْذَنَ عَبْدَ اللهِ بنَ طَاهِرٍ الأَمِيرَ، فَقَالَ: أَنْتَ مِنَ الإِسْلامِ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى، فَلا آمَنُ أَنْ تُمْتَحَنَ، فَتَصِيرَ إِلَى مَكْرُوهٍ، فَهَذَا الإِذْنُ، وَهَذِهِ النَّصِيحَةُ، فَقَعَدَ)([28]). قال الإمام الذهبي: (إن يحيى بن يحيى أراد الحجّ بأخرةٍ، فأشفق عليه عبد الله بن طاهر من المحنة وترك الحجَّ)([29]).
وهذه الحادثة تُظهر أن عبد الله بن طاهر كان يدرك أبعاد الفتنة، وأنه لم يتّبع السلطة في القول بخلق القرآن، كما أن السلطة تعلم بوجود علماء في المشرق الإسلامي يخالفونها الرأي، ولكنها لم تتجرأ عليهم هيبة للأمير عبد الله بن طاهر، فخروج يحيى بن يحيى للحج سيعرضه للامتحان ووقوع المكروه عليه، بعيدًا عن نفوذ الأمير عبد الله بن طاهر.
فطاعة الأمير عبد الله للخلفاء العباسيين كانت طاعةً بالمعروف، فإذا خالفت الحقَّ فلا طاعةَ، ومع ذلك فإنه لم يخلع يدَ الطاعة، ولم يخرج بالسيف على الخلافة، ولم يشقّ صفّ المسلمين مع قدرته العسكرية، وبقي وفيًّا لولي أمر المسلمين.
وهذه العلاقة الخاصّة بين يحيى بن يحيى والأمير استثمرها هذا العالم في توجيه السلطة الحاكمة للخير والتقوى، روى ابن عساكر عن فاطمة امرأة يحيى بن يحيى أنها قالت: (قام يحيى ليلةً لورده، فلما فرغ منه قعد يقرأ في المصحف، فذكر قصة في دخول عبد الله بن طاهر الأمير عليه، قال: فلما قرب منه وسلّم قام إليه والمصحف في يده، ثم رجع إلى قراءته حتى ختَم السورة التي كان افتتحها، ثم وضع المصحف واعتذر إلى الأمير وقال: لم أشتغل عنه تهاونًا بحقه، إنما كنت افتتحت سورة فختمتها، فقعد عبد الله ساعة يحدثه، ثم قال له: ارفع حوائجك، فقال: وهل يُستغنى عن السلطان أيَّده الله؟! وقد وقعت لي حاجة في الوقت فإن قضاها رفعتها، فقال: مَقضِيّة ما كانت، فقال أبو زكريا: قد كنت أسمع بمحاسن وجه الأمير ولم أعاينها إلا ساعتي هذه، وحاجتي أن لا يرتكب ما يحرق هذه المحاسن بالنار، فأخذ الأمير عبد الله بن طاهر في البكاء حتى قام يبكي)([30]).
وكان حب الأمير ليحيى بن يحيى مفتاحَ خير للمحدّثين عامة، ولإسحاق بن راهويه خاصة، فلما ركب الدّين إسحاق خرج من مرو، وَجَاء إلى عبد الله بن طَاهِر بنيسابور، فَكلم أَصْحَاب الحَدِيث يحيى بن يحيى -أي: النيسابوري- فِي أَمر إِسْحَاق، فَقَالَ: مَا تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: تكْتب لَهُ إلى عبد الله بن طَاهِر رقْعَة، وَعبد الله بن طَاهِر كَانَ أَمِير خُرَاسَان وَكَانَ بنيسابور، فَقَالَ يحيى: مَا كتبت إليه قطّ، فألحّوا عَلَيْهِ، فَكتب فِي رقْعَة إلى عبد الله بن طَاهِر: أَبُو يَعْقُوب إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم رجل من أهل الْعلم وَالصَّلَاح. فَحمل إِسْحَاق الرقعة إلى عبد الله بن طَاهِر، فَلَمَّا جَاءَ إلى الْبَاب قَالَ للحاجب: معي رقْعَة يحيى بن يحيى إلى الْأَمِير، فَدخل الْحَاجِب فَقَالَ لعبد الله بن طَاهِر: رجل بِالْبَابِ يزْعم أَن مَعَه رقْعَة يحيى بن يحيى إلى الْأَمِير، فَقَالَ: يحيى بن يحيى؟ قَالَ: نعم، قَالَ: أدخلهُ. فَدخل إِسْحَاق، وناول الرقعة عبدَ الله بن طَاهِر، فَأخذ عبد الله الرقعةَ وَقبّلهَا، وأقعد إِسْحَاق بجنبه، وَقضى دينه ثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم، وصيّره من ندمائه، وكَانَ يحيى بن يحيى لَا يخْتَلف إِلَيْهِ([31]).
قال التاج السبكي معلقًا على هذه الحادثة: (انْظُر مَا كَانَ أعظم أهل الْعلم عِنْد الْأُمَرَاء، وَانْظُر مَا أدنى هَذِهِ الْكَلِمَة وأقصر هَذِهِ الرقعة، وَمَا ترَتّب عَلَيْهَا من الْخَيْر، وَمَا ذَلِك إِلَّا لحسن اعْتِقَاد ذَلِك الْأَمِير وصيانة أهل الْعلم أَيْضًا، وَالنَّاس بزمانهم أشبه مِنْهُم بآبائهم)([32]).
ولا أدري هل تعجَب من عفَّة يحيى بن يحيى في علاقته بالأمير، فإنه لم يستغلّ محبة الأمير له في قضيّة خاصّة، ولم يكتب له قطّ، ولكن في أمر غيره طلب من الأمير إعانته، أم تعجب من شدة إجلال الأمير ليحيى بن يحيى!
ومن هنا كانت البداية بينهما، حيث أصبح إسحاق بن راهويه أحدَ مستشاري الأمير -ونعم المستشار الأمين للأمير- فكان بعد الله تعالى من أسباب هداية الأمير للحق، في زمن كان للباطل فيه دولة وسلطان، ومن لم يقل بهذا الباطل فيمتحن، فإن أجاب مكرهًا ترك، وإن لم يجب حبس وجلد وربما قتل.
ولعل فتنة القول بخلق القرآن ألقت بظلالها على الحوارات العلمية التي دارت في مجلس الأمير، فتراه يسأل سؤال المتعلم عن مسألة لا تبعد عن مسألة القول بخلق القرآن، وهي صفة النزول الإلهي الوارد في الأحاديث، فقد روى اللالكائي بسنده عن أَحْمَد بْن عَلِيٍّ الْأَبَّار أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ طَاهِرٍ قَالَ لِإِسْحَاقَ بْنِ رَاهويه: مَا هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي يُحَدَّثُ بِهَا: “أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَنْزِلُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا”، وَاللَّهُ يَصْعَدُ وَيَنْزِلُ؟ قَالَ: فَقَالَ لَهُ إِسْحَاقُ: تَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَنْزِلَ وَيَصْعَدَ وَلَا يَتَحَرَّكُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَلِمَ تُنْكِرُ؟!([33]).
وروى البيهقي عن إِسْحَاق بْن رَاهويه قال: (سَأَلَنِي ابْنُ طَاهِرٍ عَنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -يَعْنِي فِي النُّزُولِ- فَقُلْتُ لَهُ: النُّزُولُ بِلَا كَيْفٍ)([34]).
وروى أيضًا بسنده عن إِسْحَاقَ بْن رَاهويه قال: دَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ فَقَالَ لِي: يَا أَبَا يَعْقُوبَ، تَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ؟ فَقُلْتُ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ إِلَيْنَا نَبِيًّا، نُقِلَ إِلَيْنَا عَنْهُ أَخْبَارٌ، بِهَا نُحَلِّلُ الدِّمَاءَ وَبِهَا نُحَرِّمُ، وَبِهَا نُحَلِّلُ الْفُرُوجَ وَبِهَا نُحَرِّمُ، وَبِهَا نُبِيحُ الْأَمْوَالَ وبِهَا نُحَرِّمُ، فَإِنْ صَحَّ ذَا صَحَّ ذَاكَ، وَإِنْ بَطَلَ ذَا بَطَلَ ذَاكَ. قَالَ: فَأَمْسَكَ عَبْدُ اللَّهِ([35]).
وروى بسنده عن أَحْمَدَ بْن سَلَمَةَ قال: سَمِعْتُ إِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيَّ يَقُولُ: جَمَعَنِي وَهَذَا الْمُبْتَدِعُ -يَعْنِي إِبْرَاهِيمَ بْنَ أَبِي صَالِحٍ- مَجْلِسُ الْأَمِيرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ، فَسَأَلَنِي الْأَمِيرُ عَنْ أَخْبَارِ النُّزُولِ فَسَرَدْتُهَا، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: كَفَرْتُ بِرَبٍّ يَنْزِلُ مِنْ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ. فَقُلْتُ: آمَنْتُ بِرَبٍّ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. قَالَ: فَرَضِيَ عَبْدُ اللَّهِ كَلَامِي وَأَنْكَرَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ([36]).
ونقل الذهبي عن إِبْرَاهِيم بن أبي طَالب: سَمِعت أَحْمد بن سعيد الرباطي يَقُول: حضرت مجْلِس ابْن طَاهِر وَحضر إِسْحَاق، فَسئلَ عَن حَدِيث النُّزُول: أصحيح هُوَ؟ قَالَ: نعم، فَقَالَ لَهُ بعض القُوّاد: كَيفَ ينزل؟! قَالَ: أثْبِته فَوق حَتَّى أَصف لَك النُّزُولَ، فَقَالَ الرجل: أثْبته فَوق! فَقَالَ إِسْحَاق: قَالَ الله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22]، فَقَالَ ابْن طَاهِر: هَذَا -يَا أَبَا يَعْقُوب- يَوْم الْقِيَامَة، فَقَالَ: وَمن يَجِيء يَوْم الْقِيَامَة من يمنعهُ الْيَوْم؟!([37]).
والمعنى الذي أراد أن يبينه الإمام إسحاق بن راهويه أن إثبات صفة العلو لله تعالى كما يليق بجلاله أمر فطريّ رسَّخته الآيات القرآنية في النفس كثيرًا، وهي صفة ذاتية، تقود لإثبات صفة فعلية وهي صفة النزول، ودليله أن القرآن الكريم أثبت صفة المجيء وهي صفة فعلية لله تعالى، مع إثباته صفة العلو، فنأخذ بهما لورود النص القرآني فيهما، ولا نشبّه، ولا نكيّف، ولا نعطّل، ولا نعارض بين الآيات، وكذلك صفة النزول الإلهي وردت في السنة النبوية الثابتة، فنثبتها، فاستعمل الإمام إسحاق بن راهويه القياس، فقاس صفة النزول على صفة المجيء لاتحادهما في الفعل، فكما أن القرآن لا يناقض بين صفة العلو والمجيء، فكذلك لا تعارض بين صفة العلو والنزول، فلذلك قال لخصمه: (أثبته فوق)؛ لإلزامه الحجة، ولكن خصمه المعتزلي استنكر ذلك، فأورد له إسحاق الآية القرآنية في إثبات صفة المجيء، فلما اعترض الأمير بأن سياق الآية في الآخرة، قال له إسحاق: فمن يمنعه اليوم؟! فالمقصد إثبات الصفة، فإن ثبتت أقيمت الحجة، وهذا نموذج للحجاج العقدي عند السلف المؤسَّس على النص واستعمال العقل البدهي الذي يقود للحق.
وهذا يبين لك حب الأمير للوصول للحق وإذعانه له، ولا شك أن السلطة المركزية في بغداد كانت تراقب الأمير وتبعث له بالعيون، وتبث في مجلسه من يثير هذه المسائل لاختباره، ولكنه وفِّق للحق على يد إسحاق بن راهويه.
وكان معجبًا بحفظ إسحاق بن راهويه، فسأله يومًا: قيل لي: إنك تحفظ مائة ألف حديث؟ قال: مائة ألف حديث ما أدري ما هو، ولكني ما سمعت شيئا قط إلا حفظته، ولا حفظت شيئا قط فنسيته([38]).
وسأله عن وصفة طبية لتجويد الحفظ، قال إِسْحَاقَ: قَالَ لِي عَبْدُ اللهِ بنُ طَاهِرٍ: بَلَغَنِي أَنَّكَ شَرِبتَ البَلاذُرَ([39]) لِلْحِفْظِ، قُلْتُ: مَا هَمَمْتُ بِذَلِكَ، وَلَكِنْ أَخْبَرَنِي مُعْتَمِرُ بنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عُثْمَانُ بنُ سَاجٍ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (خُذْ مِثْقَالًا مِنْ كَنْدَرٍ([40])، وَمِثْقَالًا مِنْ سُكَّرٍ، فَدُقَّهُمَا، ثُمَّ اقْتَحِمْهُمَا عَلَى الرِّيْقِ، فَإِنَّهُ جَيِّدٌ لِلنِّسْيَانِ وَالبَوْلِ)، فَدَعَا عَبْدُ اللهِ بِقِرْطَاسٍ، فَكَتَبَهُ([41]).
وكان مجلس الأمير عبد الله بن طاهر تدور فيه حوارات ساخنة بين اتجاهين في الدولة، المحدثين وخصومهم، فالأمير كان يعيش صراعًا فكريًّا، بين التوجه العام للدولة بقيادة الخلفاء بتبني الفكر الاعتزالي، وبين ميله لعلماء الحديث، فاستثمر الإمام إسحاق بن راهويه حبَّ الأمير للمحدثين في دعوته للحق، فكان للأمير بطانتان: بطانة المحدثين وعلى رأسهم الإمام إسحاق بن راهويه الذي كان يرغِّب الأمير بالسنة ويروي له الأحاديث، وبطانة خصوم المحدثين. وذات مرة كان إسحاق عند الأمير عبد الله بن طاهر وعنده إبراهيم بن أبي صالح([42])، فسأل الأمير إسحاق عن مسألة، فقال إسحاق: السنة فيها كذا وكذا، وكذلك يقول من سلك طريق أهل السنة، وأما فلان وأصحابه فإنهم قالوا بخلاف هذا، فقال إبراهيم: لم يقل فلان بخلاف هذا، فقال إسحاق: حفظته من كتاب جده وأنا وهو في كتاب واحد، فقال إبراهيم: أصلحك الله، كذب إسحاق على جدي، فقال إسحاق: ليبعث الأمير إلى جزء كذا وكذا من جامعه. فأتي بالكتاب، فجعل الأمير يقلّب الكتاب، فقال إسحاق: عدَّ من الكتاب إحدى عشرة ورقة، ثم عدّ سبعة أسطر. ففعل، فإذا المسألة على ما قال إسحاق، فقال الأمير عبد الله بن طاهر: قد تحفظ المسائل، ولكني أعجب لحفظك هذه المشاهدة، فقال إسحاق: ليوم مثل هذا لكي يخزي الله على يدي عدوًّا مثله([43]).
وفي حادثة أخرى يقول إسحاق بن راهويه: دَخَلْتُ عَلَى ابْنِ طَاهِرٍ وَإِذَا عِنْدَهُ إِبْرَاهِيْمُ بنُ أَبِي صَالِحٍ، فَقَالَ لَهُ: يَا إِبْرَاهِيْمُ، مَا تَقُوْلُ فِي غَسِيلِ الثِّيَابِ؟ قَالَ: فَرِيضَةٌ، قَالَ: مِنْ أَيْنَ تَقُوْلُ؟ قَالَ: مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وِثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المُدَّثِرُ: 4]، فَكَأَنَّ عَبْدَ اللهِ بنَ طَاهِرٍ اسْتَحْسَنَهُ، فقلت: أَعَزَّ اللهُ الأَمِيْرَ، كَذب هَذَا، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}، قَالَ: (قَلْبَكَ فَنَقِّهِ)، فقلت: وَأَخْبَرَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَرُوْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}، قَالَ: (عَمَلَكَ فَأَصْلِحْهُ)، ثُمَّ ذَكَرَ إِسْحَاقُ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ: (مَنْ قَالَ فِي القُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)، فَقَالَ ابْنُ طَاهِرٍ: يَا إِبْرَاهِيمُ، إِيَّاكَ أَنْ تَنْطِقَ فِي القُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ([44]).
هذه العلاقة بين الأمير وعلماء الحديث جعلته يعَدّ من أهل الحديث، رواية وعقيدة، فروى الحديث وروى عنه العلماء، ووصفه الإمام الذهبي بالحافظ([45]).
قال الإمام الذهبي: (وَسَمِعَ مِنْ: وَكِيْعٍ، وَيَحْيَى بنِ الضُّرَيْسِ، وَالمَأْمُوْنِ، رَوَى عَنْهُ: ابْنُ راهويه، وَنَصْرُ بنُ زِيَادٍ، وَالفَضْلُ بنُ مُحَمَّدٍ الشَّعْرَانِيُّ، وَعِدَّةٌ)([46]).
وعندما أراد أن يذكر سنة مولده سأل الإمام إسحاق بن راهويه: متى مات عبد الله بن المبارك؟ فقلت له: مات سنة اثنتين وثمانين ومئة، قال: (ذلك مولدي)([47]). فسؤاله عن سنة وفاة الإمام عبد الله بن المبارك -رحمه الله- يدل على متابعته لتاريخ العلماء واعتزازه بهم.
وروى الخطيب البغدادي بسنده إلى أبي سعيد الضرير قال: كنت عند عبد الله بن طاهر، فورد عليه نعي أبي عبيد -يعني القاسم بن سلام-، فقال لي: يا أبا سعيد، مات أبو عبيد، ثم أنشأ يقول: يا طالب العلم، قد مات ابن سلام، وكان فارس علم غير محجام([48]).
وكان يعرف مراتب العلماء ومكانتهم في العلم، فروى الخطيب البغدادي عنه أنه قال: (كان للناس أربعة: ابن عباس -رضي الله عنه- في زمانه، والشعبي في زمانه، والقاسم بن معن في زمانه، وأبو عبيد القاسم بن سلام في زمانه)([49]).
وكان عبد الله بن طاهر لمّا قدم مصرَ رأى سعيد بن عفير أبا عثمان الأنصاريّ، مولاهم المصريّ، فأعجبه وأُعجب به، واستحسن ما يأتي به، وهو من شيوخ البخاري ومسلم([50]).
وفي قصته مع محمد بن أسلم الزاهد يظهر معرفته بالحديث، وفيها يقول محمد بن أسلم: (فأُخرِجت وأُدخِلت عليه، وفي رأسي عمامة كبيرة طويلة، فقال لي: ما تقول فِي السّجود على كَوْر العمامة؟ قُلْتُ: حدثنا خَلادُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُحَرَّرِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الأصم، عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ عَلَى كَوْرِ الْعِمَامَةِ، فقال: هذا إسناد ضعيف)([51]).
وكان يسأل عن أسماء الرواة، قال إسحاق بْن إِبْرَاهِيم: قال لي عَبد الله بْن طاهر: لم قيل لك: ابن راهويه؟ وما معنى هذا؟ وهل تكره أن يقال لك هذا؟ قال: اعلم أيها الأمير أن أبي ولد في طريق مكة، فقال المراوزة -أي: أهل مرو-: راهويه بأنه ولد في الطريق، كان أبي يكره هذا، وأما أنا فلست أكرهه([52]).
ومما يدل على حبه للحديث وأهله ما رواه ابن عساكر عن أبي بكر البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: قرأت بخط أبي عمرو المستملي: سمعت الحسين بن منصور يحكي عن فتيان من طلبة الحديث قالوا: كنا بالشام أيام عبد الله بن طاهر، قال: فأملقنا -أي: أصابنا الفقر- حتى صرنا في غير نفقة، وكانت العلماء لا تحدث يوم الجمعة، فقلنا لأصحابنا يوم الجمعة: مروا بنا إلى الفرات نغسل هذا الشعث عنا والدنس. فذهبنا إلى الفرات، فجعلنا نغسل ثيابنا ورؤوسنا إذ أقبل شاب بين غلالتين -نوع من الثياب-، يتلوه خادم، حتى وقف علينا فقال: من أنتم؟ قلنا: شُتُوت -من أماكن متفرقة- من الناس ونوازع بلدان، فقال: من طلبة الحديث؟ قلنا: نعم، فقال: ممن يقول الإيمان قول وعمل يزيد وينقص؟ قلنا: نعم، قال: فما حالكم في نفقاتكم؟ قلنا: أسوأ حال. فالتفت إلى الخادم قال: يعطَون ألفًا ألفًا. قال: فمر بنا، فألقيت في أكمامنا ألفًا ألفًا، فقلنا للخادم: من هذا؟ قال: عبد الله بن طاهر([53]).
ومن حبه لأهل الحديث والعلماء أنه اصطحبهم معه عندما تولى إمارة خراسان، فأخذ معه الحسين بن الفضل البجلي، قال الذهبي: (العَلامَة، المفسِّر، الإِمَام، اللُّغَوِيّ، المُحَدِّث، أَبُو عَلِيٍّ البَجَلِيّ الكُوفِيّ، ثُمَّ النَّيْسَابُورِيّ، عَالِم عصره). ثم نقل عن الإمام الحاكم النيسابوري: الحُسَيْن بن الفَضْلِ بنِ عُمَيْرِ بنِ قَاسم بن كَيْسَان البَجَلِيّ، المفسِّر، إِمَام عصره فِي معَانِي القُرْآن، أَقدمه ابْن طَاهِر مَعَهُ نَيْسَابُور، وَابتَاع لَهُ دَار عَزْرَة، فسكنهَا، وَهَذَا فِي سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ وَمائَتَيْنِ، فَبقي يُعلِّم النَّاس، وَيُفْتِي فِي تِلْك الدَّار إِلَى أَنْ تُوُفِّي، وَدُفِن فِي مَقْبَرَة الحُسَيْن بن مُعَاذٍ، فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمائَتَيْنِ، وَهُوَ ابْن مئَة وَأَربع)([54])، وقال الخليلي: (الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ الْبَجَلِيُّ الْكُوفِيُّ، وَرَدَ نَيْسَابُورَ، وَأَقَامَ بِهَا، سَمِعْتُ الْحَاكِمَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: هُوَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ حَمَلَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ الَّذِينَ نَقَلَهُمْ مِنَ الْعِرَاقِ، فَأَقَامَ بِنَيْسَابُورَ، وَهُوَ ثِقَةٌ مَأْمُونٌ، سَمِعَ الثَّوْرِيَّ، وَإِسْرَائِيلَ، وَأَقْرَانَهُمَا)([55]).
فالأمير عبد الله بن طاهر كان سببًا بعد الله تعالى في نشر علم هذا الرجل من تفسير وحديث وفقه في نيسابور، ومن رعايته للعلماء أنه اشترى له بيتًا ليتفرغ للعلم.
ومنهم أحمد بن خالد أبو سعيد الضرير البغدادي، كان عبد الله بن طاهر استقدمه من بغداد إلى خراسان، وأقام بنيسابور وأملى بها المعاني والنوادر، ولقي أبا عمرو الشيباني وابن الأعرابي، وكان يلقى الأعراب الفصحاء الذين استوردهم ابن طاهر نيسابور فيأخذ عنهم، وله تصانيف، منها: كتاب الردّ على أبي عبيد في غريب الحديث، وكتاب الأبيات. ولما قدم عبد الله بن طاهر نيسابور وأقدم معه جماعة من فرسان طرسوس وملطية وجماعة من أدباء الأعراب، فتفرّس أولاد قواده وغيرهم بأولئك الفرسان، وتأدبوا بأولئك الأعراب، وبهم تخرّج أبو سعيد الضرير، وكان وافى نيسابور مع عبد الله بن طاهر، فصار بهم إمامًا في الأدب([56]).
ومنهم أبو إسحاق القرشي، وهو إِبْرَاهِيمُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عَرْعَرَةَ بنِ البِرِنْدِ القُرَشِيُّ، الحَافِظُ الكَبِيرُ، المُجَوِّدُ، أَبُو إِسْحَاقَ القُرَشِيُّ، السَّامِيُّ، البَصْرِيُّ، نَزَلَ بَغْدَادَ، وَنَشَرَ بِهَا العِلْمَ، وَهُوَ مِنْ أَوْلاَدِ المُحَدِّثِيْنَ، شيخ الإمام مسلم، توفي سنة سَنَة إِحْدَى وَثَلاَثِيْنَ وَمائَتَيْنِ([57]).
ومن الذين استقدمهم حامد بْن عمر بن حفص بْن عُبَيْد اللَّه بْن أبي بكرة الثّقفيّ البكراويّ، أبو عبد الرحمن البصريّ، قاضي كِرْمان، روى عن: أبي عَوَانة، وحمّاد بْن زيد، وعبد الواحد بْن زياد، وبكّار بْن عبد العزيز بْن أبي بَكْرة، وبشر بن المفضل، ومسلمة بن علقمة المازني، وجماعة، وروى عنه البخاري ومسلم وآخرون([58]).
قال ابن حبّان: (مَاتَ أول سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، استقدمه عبد الله بن طَاهِر بنيسابور، فَكتب عَنهُ أَهلهَا)([59]).
ومنهم الدَّارِمِيُّ أَحْمَدُ بنُ سَعِيدِ بنِ صَخْرٍ، الإِمَامُ، العَلامَةُ، الفَقِيهُ، الحَافِظُ، الثَّبْتُ، أَبُو جَعْفَرٍ السَّرَخْسِيُّ، حَدَّثَ عَنْهُ الجَمَاعَةُ السِّتَّةُ سِوَى النَّسَائِيِّ، أَقْدَمَهُ أَمِيرُ خُرَاسَانَ عَبْدُ اللهِ بنُ طَاهِرٍ إِلَى نَيْسَابُوْرَ لِيُحَدِّثَ بِهَا، فَأَقَامَ بِهَا مَلِيًّا، ثُمَّ وَلِيَ قَضَاءَ سَرخسَ، ثُمَّ رُدَّ إِلَى نَيْسَابُورَ، وبِهَا مَاتَ([60]).
وقام بتولية بعض العلماء مناصب في الدولة، ومن هؤلاء أَحْمد بن سعيد بن إِبْرَاهِيم أَبُو عبد الله الْمروزِي الْمَعْرُوف بالرباطي، شيخ الإمام البخاري، حيث تولى مسؤولية الرباط في سبيل الله تعالى، ووقعت له قصة مع الإمام أحمد -رحمه الله-، قال الرباطي: جئت إلى أحمد بن حنبل فجعل لا يرفع رأسه إليّ، فقلت: يا أبا عبد اللَّه، إنه يُكتَب عني الحديث بخراسان، فإن عاملتني بهذا رموا بحديثي. فقال الإمام أحمد: يا أحمد، هل بُدٌّ أن يقال يوم القيامة: أين عبد اللَّه بن طاهر وأتباعه؟ فانظر أين تكون منه، قلت: إنما ولاني أمر الرباط، فجعل يردد قوله عليّ([61]). وذلك أن مذهب الإمام أحمد عدم الدخول على السلطان وتولي مناصب الدولة، ولكن الرباطي بين له أنه إنما تولى عمل الرباط وهذا من أعمال البر.
وكان يحرص على تقريب العلماء من مجلسه، فطلب من أحد علماء الحديث -وهو علي بن عَثَّام بن علي، أبو الحسن العامريُّ الكِلابيُّ الكوفيُّ، نزل نَيْسابور سنة خمس ومائتين فسكنَها، وهو شيخ الإمام مسلم- حضورَ مجلسه، فأبَى عليه وتَشَفَّع بإسحاق حتى أَعفاه([62]).
ومن إجلاله لعلماء الحديث قبوله لشفاعةٍ للإمام يحيى بن يحيى النيسابوري في مُحَمَّد بن أَسْلَمَ بنِ سَالِمِ بنِ يَزِيدَ الكِنْدِي مَوْلاهُمْ، أَبي الحَسَنِ الخُرَاسَانِي الطُّوْسِي الزاهد([63])، فنقل الذهبي عن أحمد بْن سَلَمَةَ: سمعت محمد بْن أسلم يقول: لمّا أدخلت على عبد الله بْن طاهر ولم أسلم عليه بالإمرة غضِب، وقال: عمدتم إلى رجل من أهل القِبْلة فكفَّرتموه. فقيل: قد كان ما أُنْهِيَ إلى الأمير. فقال عبد الله بن طاهر: شراك نعل عُمَر بْن الخَطَّاب خير منك، وكان يرفع رأسه إلى السَّمَاء، وقد بَلَغَني أنَّكَ لا ترفع رأسك إلى السَّمَاء. فقلت برأسي هكذا إلى السَّمَاء ساعةً، ثُمَّ قلت: ولِمَ لا أرفع رأسي إلى السّماء؟! وهل أرجو الخير إلا بمن فِي السَّمَاء؟! ولكنّي سَمِعْتُ المؤمل بْن إسماعيل يقول: سَمِعْتُ سُفْيَان الثُّوريّ يقول: النظر فِي وجوهكم معصية. فقال بيده هكذا يحبسني، فأقمنا وكنّا أربعة عشر شيخًا، فحُبِست أربعة عشر شهرًا، ما اطّلع اللَّه على قلبي أني أردت الخلاص من ذلك الحبْس، قلت: اللَّه حبسني وهو مطلقي، وليس لي إلى المخلوقين من حاجة.
وفي القصة: قال الأمير عبد الله بن طاهر: ورد كتاب أمير المؤمنين يَنْهَى عن الْجَدَل والخصومات، فتقدّم إلى أصحابك أنْ لا يعودوا. فقلت: نعم. ثُمَّ خرجت من عنده، قال أحمد بْن سَلَمَةَ: فقلت له: أخبرني غير واحد أنّ جُلّ أصحابنا صاروا إلى يحيى بْن يحيى، فكلّموه أنْ يكتب عبد الله بْن طاهر فِي تَخْليتك، فقال يحيى: لا أُكاتب السّلطان، وإن كُتِب على لساني لم أكره حَتَّى يكون خلاصه. فكُتِب بحضرته على لسانه، فلمّا وصل الكتاب إلى عبد الله بْن طاهر أمر بإخراجك وأصحابك، قال: نعم([64]). ويظهر من القصة حِلم الأمير عبد الله بن طاهر، فإن الكلام الذي قيل له لو قيل لغيره من الأمراء لأوقع عليه أشد العقوبة، ولكنه أمر بسجنه، ثم لما وصله الكتاب الذي كتب على لسان يحيى بن يحيى النيسابوري أمر بإخلاء سبيله.
ومن تقديره للعلماء ما قاله في عبد الرحمن بن بشر بن الحكم النيسابوري شيخ البخاري ومسلم وأبي داود وابن ماجه، حيث قال: (ما بخُراسان رَجُل أحسنُ عَقْلا من عَبْد الرَّحْمَن بْن بِشْر)([65]). وكان موصوفا بطيب الصوت، فكان عبد الله بن طاهر يحضر بالليل متنكرًا إلى مسجد عبد الرحمن ليسمع قراءته([66]).
ومن ذلك قصته مع الإمام محمد بن يوسف الفريابي شيخ البخاري ومسلم، روى السَّريُّ بن معاذٍ أميرُ الرَّي قال: كنتُ مع أبي، كان قائدًا من قوَّاد عبدِ الله بنِ طاهر وأنا غلام، فخرج عبدُ الله بن طاهرٍ إلى الشام ونحن معه، كان قريبًا من شهر رمضان، فقال عبدُ الله بن طاهر: هاهنا أحدٌ من العلماء؟ نسأله عن الإِفطار وعن الصيام، فإنَّا على ظهر سَفَر، فقيل له: هاهنا بالقُرب منك محمدُ بن يوسفَ الفِريابي صاحبُ سفيانَ الثوري، فضرب بعسكره إلى باب دارِه، كان له حاجبان، أحدُهما يقال له: عُزَير، والآخر: ميكال، وكانا على مقدِّمته، فتقدَّما على بابه، فأومأ إليهما عبدُ الله بن طاهرٍ أن ترفَّقا في قَرع الباب، فقرعاه ثمَّ وقفا مليًّا، فخرجت جاريةٌ تخدُم الفِريابي، فقالت: مَن أنتما؟ فقالا: قولي للشيخ: الأميرُ عبد اللهِ بنُ طاهرٍ بالباب، قال: فمضت الجاريةُ فأطالت، ثمَّ عادت فقالت: يقول لكما الشيخ: ما حاجتُه؟ فتذمَّرا، فأومأَ إليهما ابنُ طاهرٍ أن اسكتا، وتقدَّم ابنُ طاهرٍ إلى الباب فقال لها: قولي للشيخ: يقول لك عبدُ الله بنُ طاهر: إنَّنا على سفر، وقد أظلَّنا رمضان، أفنصوم أم نُفطر؟ ما ترى في ذلك؟ قال: فمضت الجاريةُ ورجعت بعد هُنيَّة، فقالت: يقول لكم الشيخ: إنْ كنتم على سفرٍ في طاعة اللهِ فأنتم مخيَّرون بين الصومِ والإفطار، وإن كنتم على سفرٍ في معصية الله فلا تجمعوا بين العصيانِ والإفطار، فانصرف ابنُ طاهر، ثمَّ التفتَ إلى عُزير وميكال وقال: هذا واللهِ العزّ، لا الذي نحن عليه([67]).
فلا أدري أتعجب من موقف الإمام الفريابي في تعامله مع الأمير، أم من احترام الأمير له!
وكان يجلّ الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-، فعندما بيّن خطأ المرجئة في قولهم: إن إيمانهم كإيمان جبريل وميكائيل قال: لا أستجيز أن أقول: إيماني كإيمان أحمد بن حنبل ويحيى بن يحيى. فجعل إيمان أحمد بن حنبل مقياسًا لهذا الأمر، بل وصرح بحبه للإمام أحمد بن حنبل، فروى ابن الجوزي عن صالح بن أحمد بن حنبل قال: كتَب إليَّ إسحاق بن راهويه: إنَّ الأمير عبد الله بن طاهر وَجَّه إليَّ، فدخلتُ إليه وفي يدي كتاب أبي عبد الله -يعني الإمام أحمد- فقال: ما هذا الكتاب؟ فقلتُ: كتابُ أحمد بن حنبل، فأخذه وقرأه وقال: إني أُحبه وأُحبُّ حَمزة بن الهَيضَم البُشَنْجي([68])، لأنهما لم يختلطا بأمر السلطان، قال صالح: وأمسَك أبي عن مُكاتبة إسحاق بن راهويه لما أدخل كتابه إلى عبد الله بن طاهر وقرأه([69]).
ومن تقديره للعلم والعلماء إعجابُه بمؤلفات علماء الحديث، فقد عرض عليه الإمام إسحاق بن راهويه عددًا من كتب الحديث، ومنها كتاب (التاريخ الكبير) للإمام البخاري، روى الخطيب البغدادي عن محمد بن أبي حاتم الوراق قال: سمعت محمد بن إسماعيل -يعني البخاري- يقول: (أخذ إسحاق بن راهويه كتاب التاريخ الذي صنفتُ فأدخله على عبد الله بن طاهر، فقال: أيها الأمير، ألا أريك سحرا؟ قال: فنظر فيه عبد الله بن طاهر فتعجب منه، وقال: لست أفهم تصنيفه)([70]).
ومن الكتب التي أعجب بها كتاب (غريب الحديث) للإمام أبي عبيد القاسم بن سلام، روى الخطيب البغدادي عن أحمد بن يوسف قال: (لما عمل أبو عبيد كتاب غريب الحديث عُرض على عبد الله بن طاهر فاستحسنه، وقال: إن عقلًا بعث صاحبه على عمل مثل هذا الكتاب لحقيق أن لا يحوَج إلى طلب المعاش، فأجرى له عشرة آلاف درهم في كل شهر)([71]).
وروى بسنده عن حارث بن محمد بن أبي أسامة قال: (حُمل غريب حديث أبي عبيد إلى عبد الله بن طاهر، فلما نظر فيه قال: هذا رجل عاقل دقيق النظر، فكتب إلى إسحاق بن إبراهيم بأن يجري عليه في كل شهر خمسمِائَة درهم)([72]).
فانظر إلى هذا الأمير كيف يقدّر العلم والعلماء، ويقدّم لهم المكافآت المعنوية والمادية.
وجل هذه الطبقة التي عاصرت الأمير عبد الله بن طاهر هم من شيوخ أصحاب كتب الرواية، كأصحاب الكتب الستة وغيرهم من علماء الحديث كالدارمي وأبي يعلى الموصلي وابن أبي الدنيا وابن خزيمة، فما قام به الأمير عبد الله بن طاهر كان سببًا في تنشيط حركة رواية الحديث في خراسان وما وراء النهر، وذلك باستقدامه لعلماء الحديث معه إلى خراسان، وتقريبهم من مجلسه، ورعايته لهم، فالإمام إسحاق بن راهويه قال عنه المزي: (أحد أئمة المسلمين وعلماء الدين، اجتمع له الحديث والفقه والحفظ والصدق والورع والزهد، ورحل إلى العراق والحجاز واليمن والشام، وعاد إلى خراسان فاستوطن نيسابور إلى أن مات بها، وانتشر علمه عند أهلها)([73]).
ثم ذكر من روى عنه، فمنهم: أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه، والإمام أحمد بن حنبل وهو من أقرانه، وتأمل قوله: (وانتشر علمه عند أهلها) أي: نيسابور، فهو يظهر أثره في رواية الحديث في بلاد ما وراء النهر وخراسان.
وكذلك يحيى بن يحيى النيسابوري، أصله مروزي، روى عنه إسحاق بن راهويه والبخاري ومسلم ومحمد بن يحيى الذهلي والدارمي وغيرهم([74]).
فظهر أن تيار المحدثين كان له الغلبة على قلب الأمير وفكره، فتأثر بعقيدة أهل الحديث، قال الذهبي: (وكان ابن طاهر عادلًا في الرعية، عظيم الهيبة، حسن المذهب)([75]).
ولم يتأثر بمقولات المعتزلة التي روّجها الخليفة المأمون، بل كان تأثير علماء الحديث -ولا سيما الإمام إسحاق بن راهويه- واضحًا في تبنيه عقيدة أهل السنة والجماعة، وسببًا سخره الله لنشر هذه العقيدة.
بين بطانتيْن:
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَا اسْتُخْلِفَ خَلِيفَةٌ إِلَّا لَهُ بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْخَيْرِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللهُ»([76]).
فانظر كيف كانت بطانة الخير -ممثلة بإسحاق بن راهويه إمام المحدثين في الشرق- لهذا الأمير الشاب تدله على الصلاح والتمسك بالسنة والعقيدة الصحيحة، وانظر إلى بطانة الشر التي أثرت على لخليفة المأمون، قال ابن كثير: (وكان على مذهب الاعتزال لأنه اجْتَمَعَ بِجَمَاعَةٍ مِنْهُمْ بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ الْمَرِيسِيُّ، فخدعوه وأخذ عَنْهُمْ هَذَا الْمَذْهَبَ الْبَاطِلَ، وكَانَ يُحِبُّ الْعِلْمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَصِيرَةٌ نَافِذَةٌ فِيهِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الدَّاخِلُ، وَرَاجَ عِنْدَهُ الْبَاطِلُ، ودعا إليه وحمل الناس عليه قهرًا، وَذَلِكَ فِي آخِرِ أَيَّامِهِ وَانْقِضَاءِ دَوْلَتِهِ)([77]).
وكان عبد الله بن طاهر عالمًا بالمقولات العقدية في زمانه، فقد روى ابن عساكر عن أحمد بن سعيد الرباطي: قال لي عبد الله بن طاهر: (يا أحمد، إنكم تبغضون هؤلاء القوم -يعني المرجئة- جهلة، وأنا أبغضهم عن معرفة، وإن أول أمرهم أنهم لا يرون للسلطان طاعة، والثاني: ليس للإيمان عندهم قدر. والله، لا أستجيز أن أقول: إيماني كإيمان يحيى بن يحيى، ولا كإيمان أحمد بن حنبل، وهم يقولون: إيماننا كإيمان جبريل وميكائيل)([78]).
وسبق ذكر قصته مع طلبة الحديث بالشام حيث قال لهم: (من طلبة الحديث؟ قلنا: نعم، فقال: ممن يقول الإيمان قول وعمل يزيد وينقص؟ قلنا: نعم)، وكان يفهم منهج السلف الصالح في التعامل مع الحكام، فروى ابن عساكر بسنده عن أبي محمد بن الجنيد يقول: سمعت إسحاق بن إبراهيم بن راهويه يقول: سمعت الأمير عبد الله بن طاهر يقول: (أحب يحيى بن يحيى وأحمد بن حنبل وإن كانا لا يقربان السلطان، ليس لخلاف منهما ولكن لجَورهم)([79])، فهو يعلم أن علماء السلف لا يقصدون منازعة السلطان في ملكه، وإنما يتباعدون منه إذا ظهر ظلمه في المجتمع، وكان يدرك خطورة تكفير الحاكم، يقول محمد بْن أسلم: (لما أدخلت على عبد الله بْن طاهر ولم أسلّم عليه بالإمرة غضب، وقال: عمدتم إلى رجل من أهل القِبْلة فكفَّرتموه؟!)، وأما الخوارج فقاتلهم لما أحدثوا من الفتن والقتل بين المسلمين، ضمن مشروعه التنموي لإرساء الأمن والعدل في دولته، هذا المشروع الذي تأسّس على الدستور الطاهري، وهو وصية عبد الله بن طاهر لابنه عندما ولاه المأمون ولاية الرقّة ومصر.
الدستور الطاهري:
قال المأمون لما قرأ كتاب طاهر لابنه عبد الله: (ما بقّى أبو الطيب -يعنى طاهرًا- شيئًا من أمر الدين والدنيا والتدبير والرأي والسياسة وإصلاح الملك والرعية وحفظ البيضة وطاعة الخلفاء وتقويم الخلافة إلا وقد أحكمه وأوصى به)، وأمر أن يكتب بذلك إلى جميع العمال في نواحى الأعمال.
يعدّ كتاب طاهر بن الحسين لابنه عبد الله بن طاهر من الوصايا السياسية التنموية والأخلاقية، وهو يشبه أن يكون دستورًا للدولة، فذكره المؤرخون والكُتاب وأرباب السياسة، واعتنى به الباحثون، بل يعدّ خطة إستراتيجية للعمل تشبه الخطط العشرية وغيرها التي تضعها الدول في زماننا للتنمية والتطوير والازدهار، حيث ذكرها ابن طيفور في كتاب بغداد([80])، والإمام الطبري في تاريخه([81])، وابن خلدون في مقدمته، وابن الأزرق الغرناطي في كتابه([82])، وغيرهم([83]).
قال ابن خلدون عن سياسة الدولة: (أن يراعى فيها مصلحة السّلطان وكيف يستقيم له الملك مع القهر والاستطالة، وتكون المصالح العامّة في هذه تبعًا، وهذه السّياسة الّتي يحمل عليها أهل الاجتماع الّتي لسائر الملوك في العالم من مسلم وغيره، إلّا أنّ ملوك المسلمين يجرون منها على ما تقتضيه الشّريعة الإسلاميّة بحسب جهدهم، فقوانينها إذًا مجتمعة من أحكام شرعيّة وآداب خلقيّة وقوانين في الاجتماع طبيعيّة، وأشياء من مراعاة الشّوكة والعصبيّة ضروريّة والاقتداء فيها بالشّرع أوّلًا، ثمّ الحكماء في آدابهم والملوك في سيرهم، ومن أحسن ما كتب في ذلك وأوعب كتاب طاهر بن الحسين لابنه عبد الله بن طاهر لمّا ولّاه المأمون الرّقّة ومصر وما بينهما، فكتب إليه أبوه طاهر كتابه المشهور، عهد إليه فيه ووصّاه بجميع ما يحتاج إليه في دولته وسلطانه من الآداب الدّينيّة والخلقيّة والسّياسة الشّرعيّة والملوكيّة، وحثّه على مكارم الأخلاق ومحاسن الشّيَم بما لا يستغني عنه ملك ولا سوقة)([84]).
وسأعرض الرسالة على هيئة خطة إستراتيجية، مما يلزم تغيير ترتيبها، وذكر أساسياتها، ولمن أراد الرجوع للنص الأصلي فقد ذكرت مصادرها.
– الشريعة مرجعية الحكم:
قال الأمير طاهر بن الحسين: (ثم اعتصم في أحوالك كلها بأمر الله، والوقوف عند محبته، والعمل بشريعته وسنته، وإقامة دينه وكتابه، واجتنب ما فارق ذلك وخالفه ودعا إلى سخط الله).
وقال: (ثم أتبِع ذلك الأخذَ بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمثابرة على خلائقه، واقتفاء آثار السلف الصالح من بعده، وإذا ورد عليك أمر فاستعن عليه باستخارة الله وتقواه، ولزوم ما أنزل الله في كتابه من أمره ونهيه وحلاله وحرامه، وائتمام ما جاءت به الآثار عن النبى صلى الله عليه وسلم، ثم قم فيه بما يحق لله عليك).
وقال: (فإن الله جعل الدينَ حرزًا وعزًّا، ورفع من اتَبعَه وعزّزه، فاسلك بمن تسوسه وترعاه نهج الدين وطريقةَ الهدى، وأقم حدود الله في أصحاب الجرائم على قدر منازلهم وما استحقوه، ولا تعطّل ذلك ولا تهاون به).
وقال: (واستعن بالله على جميع أمورك واستخره، فإن الله مع الصلاح وأهله، وليكن أعظم سيرتك وأفضل رغبتك ما كان لله رضًا، ولدينه نظامًا، ولأهله عزًّا وتمكينًا، وللذمة والملة عدلًا وصلاحًا).
– أخلاق القائد:
قال: (وليكن أول ما تلزم به نفسك وتنسب إليه فعالك المواظبة على ما افترض الله عليك من الصلوات الخمس والجماعة عليها بالناس قبلك في مواقيتها، على سننها في إسباغ الوضوء لها، وافتتاح ذكر الله فيها، وترتّل في قراءتك، وتمكّن في ركوعك وسجودك وتشهّدك، ولتصدق فيها لربك نيتك، واحضض عليها جماعة من معك وتحت يدك، وادأب عليها فإنها -كما قال الله- تأمر بالمعروف، وتنهى عن الفحشاء والمنكر).
وقال: (واعزم على أمرك في ذلك بالسنن المعروفة، وجانب الشّبه والبدعات يسلم لك دينك، وتقم لك مروءتك، وإذا عاهدت عهدا فَفِ به، وإذا وعدت الخير فأنجزه، واقبل الحسنة وادفع بها، وأغمض عن عيب كل ذي عيب من رعيتك، واشدد لسانك عن قول الكذب والزور، وأبغض أهله، وأَقصِ أهل النميمة، فإن أوّل فساد أمرك في عاجل الأمور وآجلها تقريب الكذوب والجرأة على الكذب؛ لأن الكذب رأس المآثم، والزور والنميمة خاتمتها؛ لأن النميمة لا يسلم صاحبها، وقائلها لا يسلم له صاحب، ولا يستقيم لمطيعها أمر).
وقال: (واملك نفسك عند الغضب، وآثر الوقار والحلم، وإياك والحدة والطيش والغرور فيما أنت بسبيله، وإياك أن تقول: إنى مسلَّط أفعل ما أشاء، فإن ذلك سريع بك إلى نقص الرأي وقلة اليقين بالله وحده لا شريك له، وأخلص لله النية فيه واليقين به. واعلم أن الملك لله، يعطيه من يشاء، وينزعه ممن يشاء، ولن تجد تغيّر النعمة وحلول النقمة إلى حدّ أسرع منه إلى حملة النعمة من أصحاب السلطان والمبسوط لهم في الدولة، إذ كفروا بنعم الله وإحسانه، واستطالوا بما آتاهم الله من فضله، ودع عنك شره نفسك).
وقال: (وإياك أن تنسيك الدنيا وغرورها هول الآخرة، فتتهاون بما يحقّ عليك، فإن التهاون يوجب التفريط، والتفريط يورث البوار، وليكن عملك لله وفيه تبارك وتعالى، وارج الثواب، فإن الله قد أسبغ عليك نعمته في الدنيا، وأظهر لدينك فضله، فاعتصم بالشكر، وعليه فاعتمد، يزدك الله خيرا وإحسانًا، فإن الله يثيب بقدر شكر الشاكرين وسيرة المحسنين، وقضى الحقّ فيما حمّل من النعم، وألبس من العافية والكرامة، ولا تحقرن ذنبًا، ولا تمالئن حاسدًا، ولا ترحمنَّ فاجرًا، ولا تصلنّ كفورًا، ولا تداهننّ عدوًّا، ولا تصدّقن نمّامًا، ولا تأمننّ غدّارًا، ولا توالينّ فاسقًا، ولا تتبعن غاويًا، ولا تحمدن مرائيًا، ولا تحقرن إنسانًا، ولا تردّن سائلا فقيرا، ولا تجيبنّ باطلًا، ولا تلاحظنّ مضحكًا، ولا تخلفنّ وعدًا، ولا تزهونّ فخرًا، ولا تظهرنّ غضبًا، ولا تأتينّ بذخًا، ولا تمشينّ مرحًا، ولا تركبنّ سفهًا، ولا تفرّطنّ في طلب الآخرة، ولا ترفع للنّمام عينًا، ولا تغمضنّ عن الظالم رهبة منه أو مخافةً، ولا تطلبن ثواب الآخرة بالدنيا).
– العدل أساس الحكم:
قال: (فإن الله قد أحسن إليك، وأوجب عليك الرأفة بمن استرعاك أمرهم من عباده، وألزمك العدل عليهم، والقيام بحقه وحدوده فيهم).
وقال: (ولا تمل عن العدل فيما أحببت أو كرهت).
وقال: (وحسبُ ذي سلطانٍ من السعادة أن يكون على جنده ورعيته رحمة في عدله وحيطته وإنصافه وعنايته وشفقته وبرّه وتوسعته).
وقال: (وليس من يرغب في العدل ويعرف محاسن أموره في العاجل وفضل ثواب الآجل كالذي يستقبل ما يقرّبه إلى الله، ويلتمس رحمته به).
– اختيار القيادات العليا ومحاسبتهم:
قال: (واعلم أنك جعلت بولايتك خازنًا وحافظًا وراعيًا، وإنما سمّى أهل عملك رعيتك لأنك راعيهم وقيّمهم، تأخذ منهم ما أعطوك من عفوهم ومقدرتهم، وتنفقه في قوام أمرهم وصلاحهم وتقويم أودهم، فاستعمل عليهم في كور عملك ذوي الرأي والتدبير والتجربة والخبرة بالعمل، والعلم بالسياسة والعفاف، ووسّع عليهم في الرزق).
وقال: (واجعل في كل كورة -أي: منطقة- من عملك أمينًا يخبرك أخبار عمالك، ويكتب إليك بسيرتهم وأعمالهم، حتى كأنك مع كل عامل في عمله، معاين لأمره كله، وإن أردت أن تأمره بأمر فانظر في عواقب ما أردت من ذلك، فإن رأيت السلامة فيه والعافية ورجوت فيه حسن الدفاع والنصح والصنع فأمضه، وإلّا فتوقف عنه، وراجع أهل البصر والعلم، ثم خذ فيه عدته، فإنه ربما نظر الرجل في أمر من أمره قد واتاه على ما يهوى، فقوّاه ذلك وأعجبه، وإن لم ينظر في عواقبه أهلكه ونقض عليه أمره، فاستعمل الحزم في كل ما أردت، وباشره بعد عون الله بالقوة، وأكثر استخارة ربك في جميع أمورك، وافرغ من عمل يومك، ولا تؤخره لغدك، وأكثر مباشرته بنفسك، فإن لغد أمورا وحوادث تلهيك عن عمل يومك الذي أخرت).
(وانظر عمّالك الذين بحضرتك وكتّابك، فوقّت لكل رجل منهم في كل يوم وقتا يدخل عليك فيه، بكتبه ومؤامرته وما عنده من حوائج عمّالك وأمر كورك ورعيتك، ثم فرّغ لما يورده عليك من ذلك سمعك وبصرك وفهمك وعقلك، كرّر النظر إليه والتدبّر له، فما كان موافقًا للحزم والحق فأمضه، واستخر الله فيه، وما كان مخالفًا لذلك فاصرفه إلى التثبت فيه والمسألة عنه).
وقال: (واعرف ما تجمع عمّالك من الأموال وما ينفقون منها، ولا تجمع حرامًا، ولا تنفق إسرافًا).
وقال: (ولا تتهمنّ أحدًا من الناس فيما توليه من عملك قبل أن تكشف أمره، فإن إيقاع التهم بالبرآء والظنون السيئة بهم مأثم، واجعل من شأنك حسن الظن بأصحابك، واطرد عنك سوء الظن بهم وارفضه فيهم، يعِنك ذلك على اصطناعهم ورياضتهم، ولا يجدنّ عدو الله الشيطان في أمرك مفخرًا، فإنه إنما يكتفى بالقليل من وهنك، فيدخل عليك من الغم في سوء الظن ما ينغّصك لذاذة عيشك. واعلم أنك تجد بحسن الظن قوة وراحة، وتكفى به ما أحببت كفايته من أمورك، وتدعو به الناس إلى محبتك، والاستقامة في الأمور كلها، ولا يمنعك حسن الظن بأصحابك والرأفة برعيتك أن تستعمل المسألة، والبحث عن أمورك، والمباشرة لأمور الأولياء، والحياطة للرعية، والنظر فيما يقيمها ويصلحها، بل لتكن المباشرة لأمور الأولياء والحياطة للرعية، والنظر في حوائجهم وحمل مئوناتهم آثر عندك مما سوى ذلك).
– مواصفات أهل الشورى:
قال: (وآثر الفقه وأهله، والدين وحملته، وكتاب الله والعاملين به، فإن أفضل ما تزيّن به المرء الفقه في دين الله والطلب له والحث عليه، والمعرفة بما يتقرب به إلى الله، فإنه الدليل على الخير كله، والقائد له، والآمر به، والناهي عن المعاصي والموبقات كلها، وبها مع توفيق الله تزداد العباد معرفة بالله عزّ وجل، وإجلالًا له، ودركًا للدرجات العلا في المعاد، مع ما في ظهوره للناس من التوقير لأمرك، والهيبة لسلطانك، والأنسة بك، والثقة بعدلك).
وقال: (وأكثر مشاورة الفقهاء، واستعمل نفسك بالحلم، وخذ عن أهل التجارب وذوي العقل والرأى والحكمة).
وقال: (وأكثر مجالسة العلماء ومشاورتهم ومخالطتهم، وليكن هواك اتباع السنن وإقامتها، وإيثار مكارم الأمور ومعاليها، وليكن أكرم دخلائك وخاصتك عليك من إذا رأى عيبًا فيك لم تمنعه هيبتك من إنهاء ذلك إليك في سر، وإعلامك ما فيه من النقص، فإن أولئك أنصح أوليائك ومظاهريك لك).
وقال: (وانظر أحرار الناس وذوي الشرف منهم، ثم استيقن صفاء طويّتهم، وتهذيب مودتهم لك، ومظاهرتهم بالنصح والمخالصة على أمرك، فاستخلصهم وأحسن إليهم).
– واجبات الحاكم اتجاه الرعية:
قال: (وتعاهد أهل البيوتات ممن قد دخلت عليهم الحاجة، فاحتمل مؤنتهم، وأصلح حالهم، حتى لا يجدوا لخلّتهم مسًّا، وأفرد نفسك بالنظر في أمور الفقراء والمساكين، ومن لا يقدر على رفع مظلمته إليك، والمحتقر الذي لا علم له بطلب حقه فاسأل عنه أحفى مسألة، ووكّل بأمثاله أهل الصلاح من رعيتك، ومرهم برفع حوائجهم وحالاتهم إليك، لتنظر فيها بما يصلح الله به أمرهم، وتعاهد ذوي البأساء ويتاماهم وأراملهم، واجعل لهم أرزاقا من بيت المال، اقتداءً بأمير المؤمنين -أعزه الله- في العطف عليهم والصلة لهم؛ ليصلح الله بذلك عيشهم، ويرزقك به بركة وزيادة، وأَجرِ للأضرّاء من بيت المال، وقدّم حملة القرآن منهم والحافظين لأكثره في الجراية على غيرهم، وانصب لمرضى المسلمين دورا تؤويهم، وقوّاما يرفقون بهم، وأطباء يعالجون أسقامهم، وأسعفهم بشهواتهم، ما لم يؤدّ ذلك إلى سرف في بيت المال. واعلم أن الناس إذا أُعطُوا حقوقَهم وأفضل أمانيتهم لم يُرضهم ذلك، ولم تطب أنفسهم دون رفع حوائجهم إلى ولاتهم، طمعًا في نيل الزيادة وفضل الرفق منهم، وربما برم المتصفح لأمور الناس لكثرة ما يرد عليه، ويشغل فكره وذهنه منها ما يناله به مؤنة ومشقة، وليس من يرغب في العدل ويعرف محاسن أموره في العاجل وفضل ثواب الآجل كالذي يستقبل ما يقرّبه إلى الله، ويلتمس رحمته به، وأكثرِ الإذنَ للناس عليك، وأبرز لهم وجهك، وسكّن لهم أحراسك، واخفض لهم جناحك، وأظهر لهم بشرك، ولِنْ لهم في المسألة والمنطق، واعطف عليهم بجودك وفضلك، وإذا أعطيت فأعط بسماحة وطيب نفس، والتمس الصنيعة والأجر غير مكدّر ولا منّان، فإن العطية على ذلك تجارة مربحة إن شاء الله).
وقال: (وأحبّ أهل الصدق والصلاح، وأعزّ الأشراف بالحق، وواصل الضعفاء، وصل الرحم، وابتغ بذلك وجه الله وعزة أمره، والتمس فيه ثوابه والدار الآخرة، واجتنب سوء الأهواء والجور، واصرف عنهما رأيك، وأظهر براءتك من ذلك لرعيتك).
وقال: (ولا تمنَّن على رعيتك ولا على غيرهم بمعروف تأتيه إليهم).
– أهمية السلطة القضائية:
وقال: (واعلم أن القضاء من الله بالمكان الذي ليس به شيء من الأمور؛ لأنه ميزان الله الذي يعتدل عليه الأحوال في الأرض، وبإقامة العدل في القضاء والعمل تصلح الرعية، وتأمن السبل، وينتصف المظلوم، ويأخذ الناس حقوقهم، وتحسن المعيشة، ويؤدَّى حق الطاعة، ويرزق الله العافية والسلامة، ويقوم الدين، وتجرَى السنن والشرائع، وعلى مجاريها يتنجّز الحق والعدل في القضاء، واشتدَّ في أمر الله، وتورع عن النّطف -أي: فعل الفاحشة-، وامض لإقامة الحدود، وأقلل العجلة، وأبعد من الضجر والقلق، واقنع بالقسم، ولتسكن ريحك، ويقرّ حدك، وانتفع بتجربتك، وانتبه في صمتك، واسدد في منطقك، وأنصف الخصم، وقف عند الشّبهة، وأبلغ في الحجة، ولا يأخذك في أحد من رعيتك محاباة ولا محاماة ولا لوم لائم، وتثبت وتأنّ وراقب، وانظر وتدبر، وتفكر واعتبر، وتواضع لربك، وارأف بجميع الرعية، وسلّط الحق على نفسك، ولا تسرعنّ إلى سفك دم -فإن الدماء من الله بمكان عظيم- انتهاكًا لها بغير حقها).
– تنمية الموارد المالية:
قال: (ولتكن ذخائرك وكنوزك التى تدّخر وتكنز البرّ والتقوى والمعدلة، واستصلاح الرعية، وعمارة بلادهم، والتفقّد لأمورهم، والحفظ لدهمائهم، والإغاثة لملهوفهم، واعلم أن الأموال إذا كثرت وذخرت في الخزائن لا تثمر، وإذا كانت في إصلاح الرعية وإعطاء حقوقهم وكف المئونة عنهم نمت وربت، وصلحت به العامة، وتزينت به الولاة، وطاب به الزمان، واعتقد فيه العز والمنعة، فليكن كنز خزائنك تفريق الأموال في عمارة الإسلام وأهله، ووفّر منه على أولياء أمير المؤمنين قبلك حقوقهم، وأوف رعيتك من ذلك حصصهم، وتعهّد ما يصلح أمورهم ومعايشهم، فإنك إذا فعلت ذلك قرّت النعمة عليك، واستوجبت المزيد من الله، وكنت بذلك على جباية خراجك، وجمع أموال رعيتك وعملك أقدر، وكان الجمع لما شملهم من عدلك وإحسانك أسلس لطاعتهم، وأطيب نفسا لكل ما أردت فاجهد نفسك فيما حددت لك في هذا الباب، ولتعظم حسبتك فيه، فإنما يبقى من المال ما أنفق في سبيل حقه، واعرف للشاكرين شكرهم، وأثبهم عليه).
وقال: (ولا تدخلن في مشورتك أهل الدقة والبخل، ولا تسمعن لهم قولًا، فإن ضررهم أكثر من منفعتهم، وليس شيء أسرع فسادا لما استقبلت في أمر رعيتك من الشح، واعلم أنك إذا كنت حريصا كنت كثير الأخذ قليل العطية، وإذا كنت كذلك لم يستقم لك أمرك إلا قليلًا، فإن رعيتك إنما تعتقد على محبتك بالكفّ عن أموالهم وترك الجور عنهم، ويدوم صفاء أوليائك لك بالإفضال عليهم وحسن العطية لهم، فاجتنب الشح، واعلم أنه أوّل ما عصى به الإنسان ربه، وأن المعاصى بمنزلة خزي، وهو قول الله عز وجل: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]، فسهّل طريق الجود بالحق، واجعل للمسلمين كلهم من نيتك حظا ونصيبًا، وأيقن أن الجود من أفضل أعمال العباد، فأعدده لنفسك خلقًا، وارض به عملًا ومذهبًا).
وقال: (وعليك بالاقتصاد في الأمور كلها، فليس شيء أبين نفعًا ولا أحضر أمنًا ولا أجمع فضلا من القصد، والقصد داعية إلى الرشد، والرشد دليل على التوفيق، والتوفيق قائد إلى السعادة وقوام الدين، والسنن الهادية بالاقتصاد، فآثره في دنياك كلها، ولا تقصّر في طلب الآخرة والأجر والأعمال الصالحة والسنن المعروفة ومعالم الرشد، فلا غاية للاستكثار من البرّ والسعى له إذا كان يطلب به وجه الله ومرضاته ومرافقة أوليائه في دار كرامته، واعلم أن القصد في شأن الدنيا يورث العز، ويحصّن من الذنوب، وإنك لن تحوط نفسك ومن يليك ولا تستصلح أمورك بأفضل منه، فأته واهتد به تتمّ أمورك، وتزد مقدرتك، وتصلح خاصتك وعامتك).
وقال: (وانظر هذا الخراج الذي قد استقامت عليه الرعية، وجعله الله للإسلام عزّا ورفعة، ولأهله سعة ومنعة، ولعدوّه وعدوهم كبتًا وغيظًا، ولأهل الكفر من معاديهم ذلًّا وصغارًا، فوزّعه بين أصحابه بالحق والعدل والتسوية والعموم فيه، ولا ترفعن منه شيئًا عن شريف لشرفه، ولا عن غنيّ لغناه، ولا عن كاتب لك ولا أحد من خاصتك، ولا تأخذنّ منه فوق الاحتمال له، ولا تكلّفنّ أمرا فيه شطط، واحمل الناس كلهم على مرّ الحق، فإن ذلك أجمع لألفتهم، وألزم لرضا العامة).
وقال: (ولا يصرفنك عنه صارف، فإنك متى آثرته وقمت فيه بالواجب استدعيت به زيادة النعمة من ربك وحسن الأحدوثة في عملك، واحترزت النصحة من رعيتك، وأعنت على الصلاح، فدرّت الخيرات ببلدك، وفشت العمارة بناحيتك، وظهر الخصب في كورك، فكثر خراجك، وتوفرت أموالك، وقويت بذلك على ارتباط جندك وإرضاء العامة بإفاضة العطاء فيهم عن نفسك، وكنت محمود السياسة، مرضيّ العدل في ذلك عند عدوّك، كنت في أمورك كلها ذا عدل وقوة وآلة وعدة، فنافس في هذا ولا تقدّم عليه شيئًا، تحمد مغبّة أمرك إن شاء الله).
وهذه الوصية تمثل خطة إستراتيجية وضعها خبير بالحكم، جمعت القيم الدينية والأخلاقية والمصالح الدنيوية التنموية، ضمن رؤية ثاقبة لأمور الحكم وسياسة الرعية، ولو شئت لقلتَ: إنها دستور للدولة بصيغة وصيّة، وتمثل تطور الفكر السياسيّ عند المسلمين منذ وقت مبكر، وحوّلها عبد الله بن طاهر لبرنامج عمل للدولة بكل ما تحمل الكلمة من معنى، اتباعًا لأمر والده حيث قال له: (وتفهّم كتابى إليك، وأكثر النظر فيه والعمل به، واستعن بالله على جميع أمورك واستخره)، كما سيأتي تفصيله عن التنمية الشاملة في عهده.
التنمية الشاملة:
(وبإقامة العدل في القضاء والعمل تصلح الرعية، وتأمن السبل، وينتصف المظلوم، ويأخذ الناس حقوقهم، وتحسن المعيشة، ويؤدَّى حق الطاعة، ويرزق الله العافية والسلامة، ويقوم الدين، وتجري السنن والشرائع، وعلى مجاريها يتنجّز الحق والعدل في القضاء). الأمير طاهر بن الحسين في وصيته لولده.
الأمن والعدل -أو قل: العدل والأمن- هما كفتا ميزان التنمية، فالأمن يمهد لتنفيذ التنمية لتصبح واقعًا ملموسًا، وبغير الأمن تصبح مقدرات التنمية عرضة للضياع والعبث، فكم رأينا دولًا كانت آمنة مطمئنة تنعم برفاهية التنمية وإنجازاتها، وفي لحظة فقدان الأمن نهبت وسرقت ودمرت.
وكما أن الأمن يحقق التنمية، فإن كفة الميزان للتنمية لا تكون إلا بالعدل بين الناس في قطف ثمار التنمية، فلا تستأثر بها فئة دون الناس بسبب المحسوبية، أو تحتكرها السلطة لحسابها دون الشعب، فالعدالة الاجتماعية تفرض أن يساهم كل فرد بتحقيق التنمية، وأن ينعم بثمارها.
روى ابن عساكر بسنده عن أبي سليمان بن زبر أبياتًا لعبد الله بن طاهر:
إذا كنتم للناس أهل سياسة *** فسوسوا كرام الناس بالبر والفضل
وسوسوا لئام الناس بالنبل يصلحوا *** على الذل إن الذل يصلح للنذل([85])
وهذا ما سعى له الأمير عبد الله بن طاهر، فعند تولّيه إمارة خراسان كانت تموج الفتن في أرجاء الخلافة، وكان المأمون يعلم قدرات عبد الله بن طاهر القيادية والعسكرية، فولاه القيادة لإخماد عدد من الفتن في زمانه، وكان عبد الله بن طاهر لم يتجاوز الثانية والعشرين من عمره، وساعده في ذلك أن نشأ في بيت قيادة وحرب وسياسة، وتربى على يد الخليفة المأمون.
– قتاله نصر بن شبث العقيلي:
ابتدأت أوائل خلافة المأمون بشيء من هذه الفتن، فقد عصى عليه نصر بن شبث العقيلي، وكان يسكن كيسوم شمالي حلب، كان في عنقه بيعة للأمين وله فيه هوى، فلما قتل الأمين أظهر نصر الغضب، وتغلب على ما جاوره من الكور، واجتمع عليه خلق كثير من الأعراب وأهل الطمع، وقويت نفسه، وعبر الفرات إلى الجانب الشرقي، وحدثته نفسه بالتغلب عليه. فلما رأى الناس ذلك منه كثرت جموعه وزادت عما كانت عليه وقوي أمره، فأرسل عليه المأمون أحد عظام قواده طاهر بن الحسين، فلقيه نصر وكسره، فسير إليه المأمون عبد الله بن طاهر القائد العظيم ابن ذاك القائد العظيم، فحصره في كيسوم من مدن العواصم، وأخذه بعد وقائع كثيرة، واحتوى على الشام جميعه، وهدم عدة أسوار من المدن المجاورة لحلب ومنها كيسوم، وسار عبد الله بن طاهر يستقري الشام بلدًا بلدًا، لا يمر ببلد إلا أخذ من رؤساء القبائل والعشائر والصعاليك اللصوص، وهدم الحصون وحيطان المدن، وبسط الأمان للأسود والأبيض والأحمر، وضمهم جميعًا، ونظر في مصالح البلدان، وحط عن بعضها الخراج، فلم يبق مخالف ولا عاص إلا خرج من قلعته وحصنه، وعاد عبد الله بن طاهر إلى مدينة السلام يحمل معه المتغلبين على الشام([86]).
وكان مقام عبد الله بْن طاهر على نصر بْن شبث محاربا له -فيما ذكر- خمس سنين حتى طلب الأمان، فكتب عبد الله إلى المأمون يُعلِمه أنه حصره وضيّق عليه، وقتل رؤساء من معه، وأنه قد عاذ بالأمان وطلبه، فأمره أن يكتب له كتاب أمان، فكتب إليه، أمانًا نسخته:
(بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فإن الإعذار بالحق حجة الله المقرون بها النصر، والاحتجاج بالعدل دعوة الله الموصول بها العز، ولا يزال المعذر بالحق المحتج بالعدل في استفتاح أبواب التأييد، واستدعاء أسباب التمكين، حتى يفتح الله وهو خير الفاتحين، ويمكّن وهو خير الممكنين، ولست تعدو أن تكون فيما لهجت به أحد ثلاثة: طالب دين، أو ملتمس دنيا، أو متهوّرا يطلب الغلبة ظلمًا، فإن كنت للدين تسعى بما تصنع فأوضح ذلك لأمير المؤمنين يغتنم قبوله إن كان حقًّا، فلعمري ما همته الكبرى ولا غايته القصوى إلا الميل مع الحقّ حيث مال، والزوال مع العدل حيث زال، وإن كنت للدنيا تقصد فأعلم أمير المؤمنين غايتك فيها، والأمر الذي تستحقها به، فإن استحققتها وأمكنه ذلك فعله بك، فلعمري ما يستجيز منع خلق ما يستحقه وإن عظم، وإن كنت متهورا فسيكفي الله أمير المؤمنين مؤنتك، ويعجل ذلك كما عجل كفايته مؤن قوم سلكوا مثل طريقك كانوا أقوى يدًا، وأكثف جندًا، وأكثر جمعًا وعددًا ونصرًا منك فيما أصارهم إليه من مصارع الخاسرين، وأنزل بهم من جوائح الظالمين، وأمير المؤمنين يختم كتابه بشهادة أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وضمانه لك في دينه، وذمته الصفح عن سوالف جرائمك، ومتقدمات جرائرك، وإنزالك ما تستأهل من منازل العز والرفعة إن أتيت وراجعت إن شاء الله، والسلام)([87]).
– قتاله ابن السري في مصر:
ذكر الطبري في أحداث سنة عشر ومائتين الخبر عن سبب شخوص عبد الله بْن طاهر من الرقة إلى مصر وسبب خروج ابن السري إليه في الأمان، وذكر أن عبد الله بْن طاهر لما فرغ من نصر بْن شبث العقيلي ووجهه إلى المأمون فوصل إليه ببغداد كتاب المأمون يأمره بالمصير إلى مصر، فروى عن أحمد بْن محمد بْن مخلد أنه كان يومئذ بمصر، وأن عبد الله بْن طاهر لما قرب منها وصار منها على مرحلة قدَّم قائدًا من قواده إليها ليرتاد لمعسكره موضعًا يعسكر فيه، وقد خندق ابن السري عليها خندقًا، فاتصل الخبر بابن السري عن مصير القائد إلى ما قرب منها، فخرج بمن استجاب له من أصحابه إلى القائد الذي كان عبد الله بْن طاهر وجهه لطلب موضع معسكره، فالتقى جيش ابن السري وقائد عبد الله وأصحابه وهم في قلة، فجال القائد وأصحابه جولة، وأبرد القائد إلى عبد الله بريدًا يخبره بخبره وخبر ابن السري، فحمل رجاله على البغال، على كل بغل رجلين بآلتهما وأدواتهما، وجنبوا الخيل، وأسرعوا السير حتى لحقوا القائد وابن السري، فلم تكن من عند الله وأصحابه إلا حملة واحدة، حتى انهزم ابن السري وأصحابه، وتساقطت عامة أصحابه -يعني ابن السري- في الخندق، فمن هلك منهم بسقوط بعضهم على بعض في الخندق كان أكثر ممن قتله الجند بالسيف، وانهزم ابن السري، فدخل الفسطاط، وأغلق على نفسه وأصحابه ومن فيها الباب، وحاصره عبد الله بْن طاهر، فلم يعاوده ابن السري الحرب بعد ذلك حتى خرج إليه في الأمان([88]).
– فتح الإسكندرية:
فتح عبد الله بْن طاهر الإسكندرية -وقيل: كان فتحه إياها في سنة إحدى عشرة ومائتين- وأجلى من كان تغلب عليها من أهل الأندلس عنها، وذلك أن مراكب أقبلت من بحر الروم من قبل الأندلس، فيها جماعة كبيرة أيام شغل الناس قبلهم بفتنة الجروي وابن السري، حتى أرسوا مراكبهم بالإسكندرية، ورئيسهم يومئذ رجل يدعى أبا حفص، فلما دخل عبد الله بْن طاهر بْن الحسين مصر أرسل إلى من كان بها من الأندلسيين، وإلى من كان انضوى إليهم، يؤذنهم بالحرب إن هم لم يدخلوا في الطاعة، فأجابوه إلى الطاعة، وسألوه الأمان، على أن يرتحلوا من الإسكندرية إلى بعض أطراف الروم التي ليست من بلاد الإسلام، فأعطاهم الأمان على ذلك، وأنهم رحلوا عنها، فنزلوا جزيرة من جزائر البحر يقال لها: إقريطش، فاستوطنوها وأقاموا بها، وفيها بقايا أولادهم إلى اليوم([89]).
وعندما تولى الأمير عبد الله بن طاهر إمارة خراسان توالت معاركه مع الخارجين عن الدولة لترسيخ الأمن، يقول ابن كثير في أحداث سَنَة أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ: فِي يَوْمِ السَّبْتِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا الْتَقَى مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ -الذي أرسله المأمون لقتال بابك- وَبَابَكُ الْخُرَّمِيُّ لَعَنَهُ اللَّهُ، فَقَتَلَ الْخُرَّمِيُّ خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ جَيْشِهِ، وَقَتَلَهُ أَيْضًا وَانْهَزَمَ بَقِيَّةُ أَصْحَابِ ابْنِ حميد، فَبَعَثَ الْمَأْمُونُ إِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ وَيَحْيَى بْنَ أَكْثَمَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ يُخَيِّرَانِهِ بين خراسان ونيابة الجبال وأذربيجان وأرمينية ومحاربة بَابَكَ، فَاخْتَارَ الْمُقَامَ بِخُرَاسَانَ لِكَثْرَةِ احْتِيَاجِهَا إِلَى الضبط، وللخوف من ظهور الخوارج([90]).
– قتاله للخوارج:
وذلك أن عَبْدُ اللَّهِ بن طاهر كان بِالدِّينَوَرِ يُجَهِّزُ الْعَسَاكِرَ إِلَى بَابَكَ، وَأَوْقَعَ الْخَوَارِجُ بِخُرَاسَانَ بِأَهْلِ قَرْيَةِ الْحَمْرَاءِ مِنْ نَيْسَابُورَ، فَأَكْثَرُوا فِيهِمُ الْقَتْلَ، وَاتَّصَلَ ذَلِكَ بِالْمَأْمُونِ، فَأَمَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ طَاهِرٍ بِالْمَسِيرِ إِلَى خُرَاسَانَ، فَسَارَ إِلَيْهَا([91]).
وقدم عبد الله بن طاهر نيسابور في رجب عام خمسة عشر ومائتين، وكانت خراسان تملؤها فتنة الخوارج، فأرسل عبد الله بن عزيز بن نوح على رأس عشرة آلاف رجل حتى طهَّر خراسان من الخوارج وقتل كثيرًا منهم([92]).
– إخماده لفتنة محمد بن القاسم العلوي:
وفي سَنَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ ظَهَرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طالب بالطالقان من خراسان، يدعو إلى الرضا مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ، وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَقَاتَلَهُ قُوَّادُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً، ثُمَّ ظَهَرُوا عَلَيْهِ وَهَرَبَ فَأُخِذَ، ثُمَّ بُعِثَ بِهِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ، فبعث به إلى المعتصم، فدخل عليه للنصف من ربيع الآخر فَأَمَرَ بِهِ فَحُبِسَ([93]).
وفي قصة القبض على محمد بن القاسم ما يدل على حنكة عبد الله بن طاهر، نقل أبو فرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين عن إبراهيم بن غسان بن الفرج العودي صاحب عبد الله بن طاهر، قال: (دعاني الأمير عبد الله بن طاهر يومًا فدخلت عليه، فوجدته قاعدًا وإلى جانبه كرسي عليه كتاب مختوم غير معنوّن، ويده في لحيته يخللها، وكان ذلك من فعله دليلًا على غضبه، فتعوذت بالله من شره، ودنوت إليه فقال لي: يا إبراهيم، احذر أن تخالف أمري فتسلطني على نفسك فلا أُبقِي لك باقية. قلت: أعوذ بالله أن أحتاج في طاعتك إلى هذا الوعيد، وأن أتعرض لسخطك. قال: قد جرّدتُ لك ألف فارس من نخبة عسكري، وأمرت أن يحمل معك مائة ألف درهم تصرفها فيما تحتاج إلى صرفها فيه من أمورك، فاضرب الساعة بالطبل والبوق فإنهم يتبعونك، فاخرج واركض، تجنب معك تنتقل عليها، وخذ بين يديك دليلًا قد رسمته لصحبتك، فادفع إليه من المال ألف درهم، واحمله على فرس من الثلاثة فليركض بين يديك، فإذا صرت على فرسخ واحد من نسا فافضض الكتاب واقرأه، واعمل بما فيه، ولا تغادر منه حرفًا، ولا تخالف مما رسمته شيئًا، واعلم أن لي عينًا في جملة من صحبك يخبرني بأنفاسك، فاحذر ثم احذر ثم احذر، وأنت أعلم.
قال إبراهيم بن غسان: فخرجت وضربت بالطبل، ووافاني الفرسان جميعًا بشاذياخ وهو موضع قصور آل طاهر، وعبد الله يشرف من شرف علينا، فعبأت أصحابي ودفعت فرسي أركضه، ويتبعوني نسير خببًا حينا وتقريبًا حينا حتى صرنا في اليوم الثالث إلى نسا، على فرسخ منها، ففضضت الكتاب فقرأته فإذا فيه: سر على بركة الله وعونه، فإذا كنت على فرسخ فعبئ أصحابك تعبئة الحرب، وادخل نسا، وأنفذ قائدًا من قوادك في ثلاثمائة يأخذ على أصحاب البريد داره، فيحدق بها هو وأصحابه، وأنفذ قائدًا في خمسمائة فارس إلى باب عاملها تحرزًا من وقوع حيلة ببيعة وقعت في أعناقهم لمحمد بن القاسم، وسر في باقي أصحابك إلى محلة كذا وكذا، ودرب كذا وكذا، دار فلان بن فلان، وادخل الدار الأولى، ثم أنفذ فيها إلى دار ثانية، فإذا دخلتها فأنفذ منها إلى دار ثالثة، فإذا دخلتها فارق على درجة فيها على يمينك، فإنك تصير إلى غرفة فيها محمد بن القاسم العلوي الصوفي، ومعه رجل من أصحابه يقال له: أبو تراب، فاستوثق منهما بالحديد استيثاقًا شديدًا، وأنفذ إليّ خاتمك مع خاتم محمد بن القاسم، لأعلم ظَفَرك به قبل كتابك، وأنفذ الخاتمين مع الرسول، ومره فليركض بهما ركضًا حتى يصير إليّ في اليوم الثالث إن شاء الله، ثم اكتب إليّ بعد ذلك بشرح خبرك، وكن على غاية التحرز والتحفظ والتيقظ في أمره حتى تصير به وصاحبه إلى حضرتي.
قال إبراهيم: فما رأيت خبرا كان كأنه وحي مثله، فصرت إلى الموضع فامتثلت أمره، فوجدت محمدا على رأس الدرجة متلثمًا بعمامة وقد شدّ له على بغل أسفل الدرجة، وهو يريد الرحيل إلى خوارزم، فقبضت عليه، فقال: ما شأنك؟ ومن تريد؟ قلت: محمد بن القاسم، قال: فأنا محمد بن القاسم، قلت: هات خاتمك، فأعطاني خاتمه، فأنفذته مع خاتمي إلى عبد الله بن طاهر مع رجل دفعت إليه فرسًا من تلك الخيل يركبه، وجنيبة يجنبها مخافة أن يعثر فرسه، وأمرت بعض أصحابي بدخول الغرفة، فقال لي: ما تريد من دخول الغرفة وقد أخذتَني وليس هناك أحد؟ فلَم ألتفت إليه، وأمرت أصحابي فدخلوا الغرفة، ففتشوها فوجدوا أبا تراب تحت نقير -والنقير شبيه بالحوض من خشب يعجن فيه الدقيق ويعصر فيه العنب-، فأخذتهما واستوثقت منهما بالقيود الثقال، وكتبت إلى عبد الله بن طاهر بخبرهما، وسرت إلى نيسابور ستة أيام، فصيرت محمد بن القاسم في بيت في داري، ووكلت به من أثق به من أصحابي، ووكلت بأبي تراب عبد الشعراني، فوضع محمد كساءه وقام يصلي، وعبد الله يشرف من غرفة في الشاذياخ -قصر الأمير- علينا، فلما فرغت من الاحتياط صرت إلى عبد الله بن طاهر فأخبرته الخبر وقصصته عليه شِفاها، فقال لي: لا بد من أن أنظر إليه، فصار إليّ مع المغرب وعليه قميص وسراويل ونعل ورداء، وهو متنكر، فلما نظر إلى محمد بن القاسم وثقل الحديد عليه قال لي: ويلك يا إبراهيم، أما خفت الله في فعلك؟ أتقيد هذا الرجل الصالح بمثل هذا القيد الثقيل؟! فقلت: أيها الأمير، خوفك أنساني خوف الله، ووعدك الذي قدّمته إليّ أذهل عقلي عمّا سواه، فقال لي: خفف هذا الحديد كلّه عنه، وقيده بقيد خفيف في حلقته رطل بالنيسابوري -ووزن الرطل النيسابوري مائتا درهم- وليكن عموده طويلًا، وحلقتاه واسعتين ليخطو فيه، ومضى وتركه.
فأقام بنيسابور ثلاثة أشهر يريد بذلك أن يعمّي خبره على الناس كيلا يغلب عليه لكثرة من بايعه بكور خراسان.
وكان عبد الله يُخرج من إصطبله بغالًا عليها القباب ليوهم الناس أنه قد أخرجه، ثم يردها، حتى استتر بنيسابور سلّه في جوف الليل وخرج به مع إبراهيم بن غسان الذي أسره من نسا ووافى به الرّي، وقد أمره عبد الله بن طاهر أن يفعل به كما فعل هو، يخرج في كل ثلاث ليال ومعه بغل عليه قبّة ومعه جيش حتى يجوز الري بفراسخ، ثم يعود، إلى أن يمكنه سلّه في ليلة مظلمة، ففعل ذلك خوفًا من أن يغلب عليه لكثرة من أجابه، حتى أخرجه من الري، ولم يعلم به أحد، ثم اتبعه حتى أورده بغداد على المعتصم.
قال إبراهيم بن غسان: فعرضوا على محمد بن القاسم كل شيء نفيس من مال وجوهر وغير ذلك، فلم يقبل إلّا مصحفًا جامعًا [كان] لعبد الله بن طاهر، فلما قبله سر عبد الله بذلك، وإنما قبله لأنه كان يدرس فيه)([94]).
– قتاله للمازيار:
ودخلت سنة أربع وعشرين ومائتين: ذكر الخبر عن مخالفه مازيار بطبرستان، فمما كان فيها من ذلك إظهار مازيار بن قارن بن وندا هرمز بطبرستان الخلاف على المعتصم، ومحاربته أهل السفح والأمصار منه.
وذكر أن السبب في ذلك كان أن مازيار بن قارن كان منافرًا لآل طاهر، لا يحمل إليهم الخراج، وكان المعتصم يكتب إليه يأمره بحمله إلى عبد الله بن طاهر، فيقول: لا أحمله إليه، ولكني أحمله إلى أمير المؤمنين، فكان المعتصم إذا حمل المازيار إليه الخراج يأمر: إذا بلغ المال همذان رجلا من قبله أن يستوفيه ويسلّمه إلى صاحب عبد الله بن طاهر ليردّه إلى خراسان، فكانت هذه حالة في السنين كلها ونافر آل طاهر حتى تفاقم الأمر بينهم.
وكان الأفشين يسمع من المعتصم أحيانًا كلاما يدل على أنه يريد عزل آل طاهر عن خراسان، فلما ظفر الأفشين ببابك، ونزل من المعتصم المنزلة التي لم يتقدمه فيها أحد، طمع في ولاية خراسان، وبلغته منافرة مازيار آل طاهر، فرجَا أن يكون ذلك سببًا لعزل عبد الله بن طاهر، فدسّ الأفشين الكتب إلى المازيار يستميله بالدهقنة، ويعلمه ما هو عليه من المودّة له، وأنه قد وعد ولاية خراسان، فدعا ذلك المازيار إلى ترك حمل خراجه إلى عبد الله بن طاهر، وواتر عبد الله بن طاهر الكتب فيه إلى المعتصم، حتى أوحش المعتصم منه وأغضبه عليه، وحمل ذلك المازيار إلى أن وثب وخالف، ومنع الخراج، وضبط جبال طبرستان وأطرافه.
وكان ذلك مما يسرّ الأفشين ويُطمِعه في الولاية، فكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر يأمره بمحاربة مازيار، وكتب الأفشين إلى المازيار يأمره بمحاربة عبد الله بن طاهر، ويعلِمه أنه يقوم له عند المعتصم بما يحبّ، وكاتبه المازيار أيضًا، فلا يشكّ الأفشين أن المازيار سيواقف عبد الله بن طاهر ويقاومه، حتى يحتاج المعتصم إلى أن يوجّهه وغيره إليه.
وكان حيّان بن جبلة مولى عبد الله بن طاهر كاتب قارن بن شهريار، ورغّبه في الطاعة، وضمن له أن يملّكه على جبال أبيه وجدّه، وكان قارن من قواد مازيار وهو ابن أخيه، وكان مازيار صيّره مع أخيه عبد الله بن قارن، وضمّ إليهما عدّة من ثقات قواده وقراباته، فلما استماله حيان كان قارن قد ضمن له أن يسلّم له الجبال، ومدينة سارية إلى حدّ جرجان، على أن يملّكه على جبال أبيه وجدّه إذا وفى له بالضمان، وكتب بذلك حيان إلى عبد الله بن طاهر، سجل له عبد الله بن طاهر بكل ما سأل، وكتب إلى حيّان بأن يتوقف ولا يدخل الجبل ولا يوغل حتى يكون من قارن ما يستدلّ به على الوفاء، لئلا يكون منه مكر، فكتب حيان إلى قارن بذلك، فدعا قارن بعبد الله بن قارن وهو أخو مازيار، ودعا جميع قواده إلى طعامه، فلما أكلوا ووضعوا سلاحهم واطمأنوا أحدق بهم أصحابه في السلاح الشاك، كتَّفَهم ووجّه بهم إلى حيّان بن جبلة، فلما صاروا إليه استوثق منهم، وركب حيان في جمعه حتى دخل جبال قارن، وبلغ مازيار الخبر فاغتمّ لذلك.
ولما بلغ أهلَ مدينة سارية أخذُ سرخاستان واستباحةُ عسكره ودخولُ حيّان بن جبلة جبل شروين وثبوا على عامل مازيار بسارية -وكان يقال له: مهريستاني بن شهريز-، فهرب منهم، ونجا بنفسه، وفتح الناس باب السجن، وأخرجوا من فيه، ووافى حيّان بعد ذلك مدينة سارية، وبلغ قوهيار أخا مازيار موافاة حيان سارية، فأطلق محمد بن موسى بن حفص الذي كان عامل طبرستان من حبسه، وحمله على بغل بسرج، ووجّه به إلى حيان ليأخذ له الأمان، ويجعل له جبال أبيه وجدّه على أن يسلّم إليه مازيار ويوثق.
وكان ابن عم المازيار أعلم عبد الله بن طاهر أن الجبل الذي هو عليه كان له ولأبيه ولآبائه من قبل المازيار، وأن المازيار عند تولية الفضل بن سهل إياه طبرستان انتزع الجبل من يديه، وألزمه بابه، واستخفّ به، فشرط له عبد الله بن طاهر إن هو وثب بالمازيار واحتال له أن يصير الجبل في يديه على حسب ما لم يزل، ولا يعرض له فيه، ولا يحارب، فرضي بذلك ابن عم المازيار، فكتب له عبد الله بن طاهر بذلك كتابًا، وتوثق له فيه، فوعد ابن عم المازيار الحسن بن الحسين -أحد قادة المسلمين ورجالهم- أن يدخلهم الجبل، فلما كان وقت الميعاد أمر عبد الله بن طاهر الحسن بن الحسين أن يزحف إليهم، ووجّه عسكرًا ضخمًا عليه قائد من قواده في جوف الليل، فوافوا ابن عم المازيار في الجبل، فسلّم الجبال إليهم، وأدخلهم إليها، فلم يشعر المازيار وهو في قصره حتى وقفت الرجالة والخيل على باب قصره، فحصروا المازيار، وأنزلوه على حكم أمير المؤمنين المعتصم، وقد صار المازيار في يد عبد الله بن طاهر، فوعده إن هو أظهره على كتب الأفشين أن يسأل أمير المؤمنين الصفح عنه، وأعلمه عبد الله أنه قد علم أن الكتب عنده، فأقر المازيار بذلك، فطلبت الكتب فوجدت، وهي عدة كتب، فأخذها عبد الله بن طاهر، فوجه بها مع المازيار إلى إسحاق بن إبراهيم والي بغداد، وأمره ألا يخرج الكتب من يده ولا المازيار إلا إلى يد أمير المؤمنين؛ لئلا يحتال للكتب والمازيار، ففعل إسحاق ذلك، فأوصلها من يده إلى يد المعتصم، فسأل المعتصم المازيار عن الكتب، فلم يقرّ بها، فأمر بضرب المازيار حتى مات، وصلب إلى جانب بابك الخرّمي([95]).
والمتتبع لسيرة عبد الله بن طاهر العسكرية والقيادية يظهر له حسن تدبيره ومتابعته لأدق التفاصيل، وتخطيطه الإستراتيجي، ومعرفته بقواده وبأعدائه، واستثماره للفرص لتحقيق أهدافه.
– العدالة الطاهرية:
وأما العدالة فهو فارس من فرسانها، كما كان فارسًا في القيادة والعسكرية، فيذكر أنه سأل والده يومًا: كم تبقى هذه الدولة فينا وتبقى في بيتنا؟ قال: (ما دام بساط العدل والإنصاف مبسوطًا في هذه الإيوان)([96]).
فكان العدل من سجاياه وطريقة حكمه، وهذا ما شهد به المؤرخون والعلماء، فأورد ابن الأثير في ترجمته لعبد الله بن طاهر: لما وَلِيَ عَبْدُ اللَّهِ خُرَاسَانَ اسْتَنَابَ بِنَيْسَابُورَ مُحَمَّدَ بْنَ حُمَيْدٍ الطَّاهِرِيَّ، فَبَنَى دَارًا، وَخَرَجَ بِحَائِطِهَا فِي الطَّرِيقِ، فَلَمَّا قَدِمَهَا عَبْدُ اللَّهِ جَمَعَ النَّاسَ، وَسَأَلَهُمْ عَنْ سِيرَةِ مُحَمَّدٍ، فَسَكَتُوا، فَقَالَ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ: سُكُوتُهُمْ يَدُلُّ عَلَى سُوءِ سِيرَتِهِ، فَعَزَلَهُ عَنْهُمْ، وَأَمَرَهُ بِهَدْمِ مَا بَنَى فِي الطَّرِيقِ([97]).
وكان قريبًا من الشعب، يحبّه عامّة الناس، فهذه عجوز كانت في جوار عبد الله بن طاهر ولها أربع بنات، فقيل لها: أنت فقيرة فلو بعت دارك وتوسّعت بها على نفسك وعيالك، فقالت: نعم، غير أني لا أبيع جوار عبد الله بن طاهر بالدنانير. فانتهى إليه الخبر، فدعا عبد الله دلّالة النساء وقال: إنّ لي أربع بنات -يعني بنات جارته العجوز- فاطلبي أزواجًا كرامًا، فجهَّزهن كل واحدة بمائة ألف من خزانته([98]).
وعن سهل بن ميسرة قال: لما رجع أبو العباس عبد الله بن طاهر من الشام ارتفع فوق سطح قصره، فنظر إلى دخان يرتفع في جواره، فقال لعمرويه -أحد مساعديه-: ما هذا الدخان؟ قال: أظن القوم يخبزون، فقال: ويحتاج جيراننا أن يتكلفوا ذلك؟! ثم دعا حاجبه فقال: امضِ ومعك كاتب، فأحص جيراننا ممن لا يقطعهم عنا شارع، فمضى فأحصاهم فبلغ عدد صغيرهم وكبيرهم أربعة آلاف نفس، فأمر لكل واحد منهم في كل يوم خبزًا ولحمًا، ومن التوابل في كل شهر عشرة دراهم، والكسوة في الشتاء مائة وخمسون درهمًا، وفي الصيف مئة درهم، وكان ذلك دأبه مقامَه ببغداد، فلما خرج انقطعت الوظائف إلا الكسوة ما عاش أبو العباس([99]).
لذلك كان يراقب عمّاله ليطمئنّ على رعيته، فلما بلغه ما فعله بعض الفسَقة من قطع الطريق أرسل إلى عامله الحسن بن عمرو الثّعلبي يتهدده: (أما بعد، فقد بلغنى من قطع الفسقة الطريق ما بلغ، فلا الطريق تحمى، ولا اللصوص تكفى، ولا الرعيّة ترضى، وتطمع بعد هذا في الزيادة! إنك لمنفسح الأمل. وايم الله، لتكفينّ من قبلك أو لأوجّهنّ إليك رجالًا، لا تعرف مرّة من جهم، ولا عدي من رهم، ولا حول ولا قوّة إلا بالله)([100]).
ومِن عدله جلوسُه أمام القضاء مع خصومه وإنفاذُه العدالة، روى ابن عساكر عن أبي حامد أحمد بن محمد المقرئ الواعظ يقول: سمعت غير واحد من مشايخنا يذكر أن رجلًا ورد من هراة فرفع قصة إلى عبد الله بن طاهر، فلما قدم بين يديه قال: من خصمك؟ قال: الأمير أيده الله، قال: ما الذي تدَّعي عليّ؟ قال: ضيعة لي بهراة غصبنيها والد الأمير وهي اليوم في يده، قال: ألك بيِّنة؟ قال: إنما تقام البينة بعد الحكومة إلى القاضي، فإن رأى الأمير -أيّده الله- أن يحملني وإياه على حكم الإسلام. قال: فدعا عبد الله بن طاهر بالقاضي نصر بن زياد، ثم قال للرجل: ادَّع، قال: فادَّعى الرجل مرة بعد أخرى، فلم يلتفت إليه نصر بن زياد ولم يسمع دعواه. فعلم الأمير أنه قد امتنع عن استماع الدعوى حتى جلس الخصم مع المدّعي، فقام عبد الله بن طاهر من مجلسه حتى جلس مع خصمه بين يديه. فقال نصر للمدَّعي: ادَّع، فقال: أدَّعي -أيد الله الأمير- أنّ ضيعةً لي بهراة -وذكرها بحدودها وحقوقها- هي لي في يدَي الأمير -أيده الله-. فقال له الأمير عبد الله بن طاهر: أيها الرجل، قد غيرتَ الدعوى، إنما ادعيتَ أولًا على أبي، فقال له الرجل: لم أشتهِ أن أفضحَ والد الأمير في مجلسِ الحكم، أدَّعي أن والد الأمير قد كان غصبني عليها وأنها اليوم في يد الأمير. فسأل نصر بن زياد عبد الله بن طاهر عن دعواه فأنكره، فالتفت إلى الرجل فقال: ألك بيّنة؟ قال: لا، قال: فما الذي تريد؟ قال: يمين الأمير بالله الذي لا إله إلا هو. قال: فقام الأمير إلى مكانه وأمر الكاتب ليكتب إلى هراة، فردّ الضيعة عليه([101]).
– التنمية الطاهرية:
وبهذا سار ركب التنمية الطاهرية على أسس من العدل والأمن، فكانت تنمية شاملة لجوانب الحياة الفكرية والأدبية والاجتماعية والاقتصادية، فأظهر التوبة وكسر آلات الملاهي، وعمر رباطات خراسان، ووقف لها الوقوف وأظهر الصدقات، ووجّه أموالًا عظيمة إلى الحرمين، وافتدى أسرى المسلمين من الترك، وبلغ ما أنفقه على الأسارى ألفي ألف درهم([102]).
وقد سبق بيان عنايته بالعلماء ولا سيما علماء الحديث. ومن الناحية الأدبية كان عبد الله بن طاهر شاعرًا أديبًا يحب الشعر ويجزي عليه، وتخرّج على يد عيينة بن عبد الرحمن أبي المنهال اللغوي المهلّبي صاحب العربية تلميذ الخليل بن أحمد، فهو مؤدب الأمير أبي العباس عبد الله بن طاهر بن الحسين، ورد معه نيسابور وتوفي بها([103]).
وكان بليغًا عجز الكتّاب عن مجاراته، ففي ترجمة أَحْمَد بنِ عَمَّارِ بنِ شَاذِي البَصْرِيُ -كاتب المعتصم- عَرَضَ الكُتُبَ عَلَيْهِ أَشْهُرًا، فَوَرَدَ كِتَابٌ بَلِيغٌ مِنَ الأَمِيرِ عَبْدِ اللهِ بنِ طَاهِرٍ، فَقَالَ المُعْتَصِمُ: أَجِبْهُ عَنْهُ سِرًّا، لا تُعْلِمْ بِهِ أَحَدًا، فَعَجِزَ، وَاحْتَاجَ إِلَى كَاتِبٍ، وَعَرَفَ بِذَلِكَ المُعْتَصِمُ، فَصَرَفَهُ، وَاسْتَكتَبَ ابْنَ الزَّيَّاتِ([104]).
ووضع خطة تنموية لنشر فصيح اللغة في المشرق، وذلك باستقدام أدباء الأعراب معه، نقل ياقوت عن أبي العباس محمد بن أحمد الغضاري قال: حدثني عمي محمد بن الفضل -كان قد بلغ مائة وعشرين سنة- قال: لما قدم عبد الله بن طاهر نيسابور وأقدم معه جماعة من فرسان طرسوس وملطية وجماعة من أدباء الأعراب منهم عرّام وأبو العميثل وأبو العيسجور وأبو العجنّس وعوسجة وأبو العذافر وغيرهم، فتفرّس أولاد قواده وغيرهم بأولئك الفرسان، وتأدبوا بأولئك الأعراب، وبهم تخرّج أبو سعيد الضرير واسمه أحمد بن خالد، وكان وافى نيسابور مع عبد الله بن طاهر، فصار بهم إمامًا في الأدب، وقد كان صحب بالعراق أبا عبد الله محمد بن زياد الأعرابي وأخذ عنه([105]).
ومما يدل على الذوق الأدبي لعبد الله بن طاهر ومعرفته بالشعر والشعراء ما ذكره ياقوت في ترجمة الشاعر عوف بن محلم الخزاعي أبو المنهال أحد العلماء الأدباء والرواة الفهماء والندامى الظرفاء والشعراء الفصحاء، وكان صاحب أخبار ونوادر، وله معرفة بأيام الناس. وكان طاهر بن الحسين بن مصعب قد اختصه لمنادمته، واختاره لمسامرته، وكان لا يخرج في سفر إلا أخرجه معه، وجعله زميله وأنيسه وعديله، وكان يعجب به، وأصله من حران، فبقي مع طاهر ثلاثين سنة لا يفارقه، وكان يستأذنه في الانصراف إلى أهله ووطنه فلا يأذن له ولا يسمح به، فلما مات طاهر ظن أنه قد تخلص وأنه يلحق به ويرجع إلى وطنه، فقرّبه عبد الله بن طاهر من نفسه وأنزله منزلته من أبيه، وكان عبد الله أديبًا فاضلًا عالما بأخبار الناس، فلما وقف على أدب عوف وفضله تمسك به، وأفضل عليه حتى كثر ماله وحسن حاله، وتلطف بجهده أن يأذن له عبد الله في العود إلى وطنه، فلم يكن إلى ذلك سبيل، وحفزه الشوق إلى أهله وأهمه أمرهم، فاتفق أن خرج عبد الله من بغداد يريد خراسان، فصيّر عوفًا عديله يستمتع بمسامرته ويرتاح إلى محادثته إلى أن دنا من الري، فلما شارفها سمع صوت عندليب يغرّد بأحسن تغريد وأشجى صوت، فأعجب عبد الله بصوته والتفت إلى عوف بن محلم فقال له: يا ابن محلم، هل سمعت قطّ أشجى من هذا الصوت وأطرب منه؟ فقال: لا والله أيها الأمير، وإنه لحسن الصوت، شجيّ النغمة، مطرب التغريد، فقال عبد الله: قاتل الله أبا كبير -يعني الهذلي- حيث يقول:
ألا يا حمام الأيك إلفك حاضر … وغصنك ميّاد ففيم تنوح
أفق لا تنح من غير شيء فإنني … بكيت زمانا والفؤاد صحيح
ولوعا فشطت غربة دار زينب … فها أنا أبكي والفؤاد قريح
فقال عوف: أحسنَ والله أبو كبير وأجاد. ثم قال: أصلح الله الأمير، إنه كان في الهذليين مائة وثلاثون شاعرا ما فيهم إلا مفلق، وما كان فيهم مثل أبي كبير، فإنه كان يبدع في شعره ويفهم آخر قوله أوله، وما شيء أبلغ في الشعر من الإبداع فيه. قال عبد الله: أقسمت عليك إلا أجزت شعر أبي كبير. قال عوف: أصلح الله الأمير، قد كبر سني وفني ذهني وأنكرت كل ما كنت أعرفه. قال عبد الله: سألتك بحقّ طاهر -والد الأمير- إلا فعلت، وكان لا يسأل بحقّ طاهر شيئًا إلا ابتدر إليه لما كان يوجبه له، فلما سمع عوف ذلك أنشأ يقول:
أفي كلّ عام غربة ونزوح … أما للنوى من ونية فتريح
لقد طلّح البين المشت ركائبي … فهل أرينّ البين وهو طليح
وأرقني بالريّ نوح حمامة … فنحت وذو البثّ الغريب ينوح
على أنها ناحت ولم تذر دمعة … ونحت وأسراب الدموع سفوح
وناحت وفرخاها بحيث تراهما … ومن دون أفراخي مهامه فيح
ألا يا حمام الأيك إلفك حاضر … وغصنك ميّاد ففيم تنوح
عسى جود عبد الله أن يعكس النوى … فتلقى عصا التطواف وهي طريح
فإن الغنى يدني الفتى من صديقه … وعدم الغنى بالمقترين طروح
فاستعبر عبد الله، ورقّ له، وجرت دموعه، وقال له: والله، إني لضنين بمفارقتك، شحيح على الفائت من محاضرتك، ولكن والله لا أعملت معي خفًّا ولا حافرًا إلا راجعًا إلى أهلك. ثم أمر له بثلاثين ألف درهم([106]).
وذكر ابن المعتز أبياتًا لعوف الخزاعي في مدح آل طاهر، وفيها ذكر قصورهم:
سقى قصور الشادياخ الحيا … من بعد عهدي وقصور الميان
فكم وكم من دعوة لي بها … أن تتخطاها صروف الزمان
وهذه القصور التي ذكرها في شعره كلها بمرو ونيسابور، وهي مساكن آل طاهر، وكان عوف قد ألِفها لكثرة غشيانه إياها، ومقامه معهم فيها، ولذلك يدعو لها. ثم ودع عبد الله وخرج من عنده على أيسر حال، فلما كان في بعض الطريق عاجلته منيته فلم يصل إلى أهله، واتصل الخبر بعبد الله فاشتد ذلك عليه وجزع له([107]).
وكان يعتني بأدق التفاصيل كأدوات الكتابة، فكتب من خراسان رسالة لنائبه في بغداد إسحاق بن إبراهيم، يسأله أن يوجّه إليه بأقلام قصبيّة: (أما بعد، فإنّا على طول الممارسة لهذه الصناعة التى غلبت على الاسم، ولزمت لزوم الوسم، فحلّت محلّ الأنساب، وجرت مجرى الألقاب، وجدنا الأقلام القصبية أسرع في الكواغد([108])، وأمرّ في الجلود، كما أن البحرية منها أسلس في القراطيس، وألين في المعاطف، وأكلّ عن تمزيقها، والتعلّق بما ينبو من شظاياها، ونحن في بلاد قليلة القصب، رديء ما يوجد بها منه، وقد أحببت أن تتقدّم في اختيار أقلام قصبية، وتتأنّق في انتقائها قبلك)([109]).
ومن مظاهر التنمية الطاهرية عنايته بالعمران، جاء في “تاريخ بيهق” أن عمارة نيسابور ونواحيها كانت على يد عبد الله بن طاهر([110]).
وقال اليعقوبي: (نزل عبد الله بن طاهر مدينة نيسابور ولم يتعدّها إلى مرو على حسب ما كانت الولاة تفعل، وبنى بها بناء عجيبًا -الشاذياخ- ثم بنى المنار)([111]).
وقال ياقوت: (الشّاذِياخُ، بعد الذال المكسورة ياء مثناة من تحت، وآخره خاء معجمة: مدينة نيسابور أمّ بلاد خراسان في عصرنا، وكانت قديما بستانًا لعبد الله بن طاهر بن الحسين ملاصق مدينة نيسابور)([112]).
وكانت مرو منازل ولاة خراسان، فكان أول من نزلها المأمون، ثم من ولي خراسان بعد، حتى نزل عبد الله بن طاهر نيسابور)([113]).
وقيل لعبد الله بن طاهر: لم اخترت نيسابور على مرو؟ قال لثلاثة أشياء: (لأنّي رأيت هواءها أقوى، وأهلها أوطأ، والمعمّرين فيها كثيرًا)([114]).
وسبب بناء قصر الشاذياخ أن عبد الله بن طاهر لما قدم نيسابور واليًا على خراسان ونزل بها ضاقت مساكنها من جنده، فنزلوا على الناس في دورهم غصبًا، فلقي الناس منهم شدة، فاتفق أن بعض أجناده نزل في دار رجل، ولصاحب الدار زوجة حسنة وكان غيورًا، فلزم البيت لا يفارقه غيرة على زوجته، فقال له الجندي يومًا: اذهب واسق فرسي ماء، فلم يجسر على خلافه، ولا استطاع مفارقة أهله، فقال لزوجته: اذهبي أنت واسقي فرسه لأحفظ أنا أمتعتنا في المنزل، فمضت المرأة وكانت وضيئة حسنة، واتفق ركوب عبد الله بن طاهر فرأى المرأة فاستحسنها وعجب من تبذلها، فاستدعى بها وقال لها: صورتك وهيئتك لا يليق بهما أن تقودي فرسًا وتسقيه، فما خبرك؟ فقالت: هذا فعل عبد الله بن طاهر بنا قاتله الله! ثمّ أخبرته الخبر، فغضب وحوقل وقال: لقد لقي منكَ -يا عبد الله- أهلُ نيسابور شرًّا، ثمّ أمر العُرَفاء أن ينادوا في عسكره: من بات بنيسابور حلّ ماله ودمه، وسار إلى الشاذياخ وبنى فيه دارًا له، وأمر الجند ببناء الدور حوله، فعمرت وصارت محلّة كبيرة، واتصلت بالمدينة فصارت من جملة محالّها، ثمّ بنى أهلها بها دورًا وقصورًا([115]).
وأثناء دخوله مصر قام بتوسعة مسجد عمرو بن العاص رضي الله عنه، فزاد في عرضه بكتاب المأمون بالإذن له في ذلك في سنة ثلاث عشرة ومائتين، وأدخل فيه دار الرمل كلها إلا ما بقي منها من دار الضرب، ودخلت فيه دار ابن رمّانة وغيرها([116]).
وذكر المقدسي في بناء بيت المقدس أن عبد الله بن طاهر أحدث فيه أعمدة من رخام([117]).
وكذلك اعتنى بالشؤون الزراعية، فكان أهل نيسابور وخراسان يفدون على الأمير عبد الله دائمًا ويختصمون في القُنى([118])، فجمع عبد الله جميع فقهاء خراسان وبعض فقهاء العراق، ووضعوا كتابًا في أحكام القنى أسموه كتاب “القنى”، وهم يعملون على حسب الأحكام التي وردت فيه، يقول الكرديزي (ت: 443هـ): (وهذا الكتاب موجود حتى الآن، وأحكام القنى والقنيات التي تدور حول هذا المعنى تسير بموجب هذا الكتاب)([119]). وذكر الكرديزي عناية الأمير عبد الله بن طاهر بالفلاحين، ووصايته لعماله بهم.
وذكر الجغرافي ابن رسته في ذكر قرية أسد أباد أن هناك قنطرة على ماء مالح، وهي من وقف عبد الله بن طاهر للرباط([120]).
واعتنى بالشؤون الصحية، فلما ولاه المأمون خراسان طلب منه أن يرسل معه العلماء، ثم طلب أحد الأطباء، فقال: وطبيب يا أمير المؤمنين! فليس في خراسان طبيب حاذق، قال: من؟ قال: أيوب الرهاوي، فقال: يا أبا العباس، لقد أسعفناك بما التمسته، وقد أخليت العراق من الأفراد([121]).
وذكر ابن أبي أصيبعة أن الطبيب يوحنا بن ماسويه له كتاب فِي الصداع وَعلله وأوجاعه وَجَمِيع أدويته، والسدد والعلل المولدة لكل نوع مِنْهُ، وَجَمِيع علاجه، أَلفه لعبد الله بن طَاهِر([122]).
ومثل هذه الجهود المباركة ليست بغريبة على رجل أجمع المؤرخون والعلماء على ذكر محاسنه ووصفه بأجمل الصفات.
في أوصاف الأمير:
وكَانَ مَلِكًا مُطَاعًا، سَائِسًا، مَهِيبًا، جَوَادًا، مُمَدَّحًا، مِنْ رِجَالِ الكَمَالِ. الإمام الذهبي.
نعم إنه من رجال الكمال، فقد اجتمع فيه من الصفات ما لم يجتمع في غيره، وسبق الحديث عن عدله وقيادته وعسكريته وأدبه وشاعريته، وغيرها من الصفات، ودونك المزيد.
نقل الطبري عن عبد الله بْن أحمد بْن يوسف أن أباه كتب إلى عبد الله بْن طاهر عند خروج عبيد الله بْن السري إليه يهنّئه بذلك الفتح: (بلغني -أعز الله الأمير- ما فتح الله عليك، وخروج ابن السري إليك، فالحمد لله الناصر لدينه، المعز لدولة خليفته على عباده، المذلّ لمن عَنَدَ عنه وعن حقه، ورغب عن طاعته، ونسأل الله أن يظاهر له النعم، ويفتح له بلدان الشرك، والحمد لله على ما وليك به مذ ظعنت لوجهك، فإنا ومن قِبَلنا نتذاكر سيرتك في حربك وسلمك، ونكثر التعجّب لما وفقت له من الشدّة والليان في مواضعهما، ولا نعلم سائسَ جند ورعية عدل بينهم عدلك، ولا عفا بعد القدرة عمن آسفه وأضغنه عفوك، ولقلّ ما رأينا ابن شرف لم يلق بيده متّكلًا على ما قدمت له أبوته، ومن أوتي حظًّا وكفاية وسلطانًا وولاية لم يخلد إلى ما عفا حتى يخلّ بمساماة ما أمامه، ثم لا نعلم سائسًا استحقّ النُّجح لحسن السيرة وكف معرة الأتباع استحقاقك، وما يستجيز أحد ممن قبلنا أن يقدم عليك أحدًا يهوى عند الحاقة والنازلة المعضلة، فليهنك منة الله ومزيده، ويسوغك الله هذه النعمة التي حواها لك بالمحافظة على ما به تمت لك، من التمسك بحبل إمامك ومولاك ومولى جميع المسلمين، وملاك وإيانا العيش ببقائه، وأنت تعلم أنك لم تزل عندنا وعند من قبلنا مكرمًا مقدمًا معظمًا، وقد زادك الله في أعين الخاصة والعامة جلاله وبجالة، فأصبحوا يرجونك لأنفسهم، ويعدونك لأحداثهم ونوائبهم، وأرجو أن يوفقك الله لمحابه كما وفق لك صنعه وتوفيقه، فقد أحسنت جوار النعمة فلم تطغك، ولم تزدد إلا تذللًا وتواضعًا، فالحمد لله على ما أنالك وأبلاك، وأودع فيك. والسلام)([123]).
وقال الإمام الطبري: قالَ لي يونس بْن عبد الأعلى: (قدم علينا من قبل المشرق فتى حدث -يعني عبد الله بْن طاهر- والدنيا عندنا مفتونة، قد غلب على كل ناحية من بلادنا غالب، والناس منهم في بلاء، فأصلح الدنيا، وأمّن البريء، وأخاف السقيمَ، واستوسقت له الرعية بالطاعة)([124]).
وكان زكريا بن دلويه يزور كل جمعة قبر عبد الله بن طاهر، فيخرق الأسواق وطريقه على قبر أستاذه أحمد بن حرب، فلا يقف على قبره، فعوتب على ذلك فقال: (إن أحمد بن حرب وغيره من العلماء والصالحين لم يعدهم زهدهم، وآثار عبد الله بن طاهر باقية ما بقيت السموات والأرض)([125]).
وقال نظام الملك: (يُقَال: إن عبد الله بن طَاهِر كَانَ أَمِيرًا عادلًا، قَبره بنيسابور رأيناه وزرناه). ثم بين نهجه في الحكم، فكان لا يسند الْأَعْمَال الديوانية إِلَّا إِلَى الْمُتَّقِينَ والزهاد وَإِلَى من هم فِي غنى عَن مَال الدُّنْيَا، وَالَّذين لَا يشغلون أنفسهم بأعراضها الزائلة كَيْمَا تحصل الْأَمْوَال الْمُسْتَحقَّة على النَّاس فَقَط بِالْحَقِّ، وَحَتَّى لَا يثقل كاهلهم ويساموا الشَّقَاء، وكيلا يشقى هُوَ نَفسه أَيْضا([126]).
ويصف اليعقوبي حكم عبد الله بن طاهر لخراسان بقوله: (وضبط خراسان ضبطًا ما ضبطه أحد مثله، ودانت له البلاد، واستقامت عليه الكلمة)([127]).
وقال الخطيب البغدادي: (وكان أحد الأجواد الممدحين، والسمحاء المذكورين)([128]).
وقال ابن الجوزي: (وَكَانَ يوصف بالإنصاف)([129]).
وقال ابن الأثير: (وَكَانَ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ بَذْلًا لِلْمَالِ مَعَ عِلْمٍ وَمَعْرِفَةٍ وَتَجْرِبَةٍ)([130]).
وقال ابن خَلِّكان في وصفه: (سيدًا نبيلًا عالي الهمة شهمًا)([131]).
وقال ابن تغري بردي: (ولما دخل عبد الله بن طاهر إلى مصر قمع المفسدين بها، ومهد البلاد ورتب أحوالها، وأقام على إمرة مصر سنة واحدة وخمسة أشهر وعشرة أيام، وخرج منها لخمس بقين من شهر رجب سنة اثنتي عشرة ومائتين)([132]).
وقال ابن العماد الحنبلي: (وكان شجاعًا، مهيبًا، عاقلًا، جوادًا، كريمًا)([133]).
– أخلاق الأمراء:
ذكر ابن المعتز في ترجمة أبي الأصبغ الحصني الأموي -وهو محمد بن يزيد، من أهل حصن مسلمة، وهو من ولد مسلمة بن عبد الملك بن مروان- قال: حدثني عبد القدوس بن إبراهيم الشامي قال: حدثني ابن أبي فنن قال: لما قال عبد الله بن طاهر قصيدته التي يفتخر فيها بأبيه طاهر ويذكر شجاعته ويفتخر بأجداده مصعب ورزيق وغيرهما وهي التي يقول فيها:
وأبي من لا كفاء له … من يسامي مجده؟ قولوا
طحن المخلوع كلكله … وحواليه المقاويل
قطعت عنه تمائمه … وهو مرهوب ومأمول
قال أبو الأصبغ الحصني:
لا يرعك القال والقيل … كل ما بلغت تحميل
وفيها:
يا ابن بنت النار يوقدها … ما لحاذيه سراويل
من حسين من أبوه ومن … طاهر غالتهم غول
من رزيق إذ تعدده … نسب في الخلق مجهول
تلك دعوى لا يناسبها … لك آباء أراذيل
فبلغت القصيدة عبد الله بن طاهر، فلما خرج إلى الشام جعل طريقه على حصن مسلمة عمدًا، ثم مضى مع نفر من إخوانه إلى أبي الأصبغ متنكرًا من حيث لا يعرفه، فلما رآه قال له: أنت أبو الأصبغ؟ قال: نعم، قال: ما حملك على ما قلت في جواب عبد الله؟ قال: وما قلت؟ قال عبد الله: قولك:
من حسين من أبوه ومن … طاهر غالتهم غول
من زريق إذ تعدده … نسب والله مجهول
ففطن له الحصني وعلم أنه عبد الله، فقال: أنت حملتني على ذلك؛ تقول:
وأبي من لا كفاء له … من يسامي مجده؟ قولوا
فلما قلت: قولوا لم نجد بدا من أن نقول. فتبسم عبد الله وقال: صدقت، وقد عذرناك، وأمرنا لك بألف دينار، ولكن لا يغرّك حلمي فتعاود هجو الأمراء، فإنك لا تدري كيف يقع، لعله يتفق لك من لا يحلم عليك، فأفرغ بعد ذلك الحصني شعره في مدح آل طاهر([134]).
وجاء تفصيل القصة في “مسالك الأبصار في ممالك الأمصار”([135])، قال محمد بن الفضل الخراساني أحد قواد عبد الله بن طاهر: لما قال عبد الله بن طاهر قصيدته التي يفخر فيها بمآثر أبيه وأهله، ويفخر بفضلهم وقتلهم المخلوع -يعني الأمين-، عارضه محمد بن زياد الأموي الحصني من ولد مسلمة بن عبد الملك، فأفرط في السب وتجاوز قبح الرد، وتوسط بين القوم وبين بني هاشم فأربى في التوسط، كان فيما قال فيه:
يا ابن بيت النار يوقدها … ما لحاذيه سراويل
من حسين من أبوك ومن … مصعب غالتكم غول
نسب في الفخر مؤتشب … وأبوّات أراذيل
وهي قصيدة طويلة، فلما ولي عبد الله بن طاهر وردّ إليه أمر الشام علم الحصني أنه لا يفلت منه إن هرب، ولا ينجو من يده، فثبت في موضعه، وأحرز حرمه، وترك أمواله ودوابه، كل ما يملك في موضعه، وفتح باب حصنه وجلس عليه يتوقع من عبد الله بن طاهر أن يوقع به، فلما شارفنا بلده وكنا على أن نصبحه دعاني عبد الله في الليل فقال: أنت عندي الليلة، ولتكن فرسك عندك لا تردّ، فلما كان في السحر أمر غلمانه وأصحابه أن لا يرحلوا حتى تطلع الشمس، وركب في السحر وأنا وخمسة من خواص غلمانه معه، وسار حتى صبّح الحصني، فرأى بابه مفتوحًا، ورآه جالسًا مسترسلًا، فقصده وسلم عليه، ونزل عنده، وقال: ما أحلّك هاهنا وحملك على أن فتحت بابك ولم تتحصن من هذا الجيش المقبل، ولم تتنحّ عن عبد الله بن طاهر مع ما في نفسه عليك وما بلغه عنك؟ فقال: إن الذي قلت لم يذهب عليّ، وإنما تأملت أمري وعلمت أني قد أخطأت خطيئة حملني عليها نزق الشباب وغرة الحداثة، وإني إن هربت لم آمنه، فباعدت البنات والحرم، واستسلمت بنفسي وكل ما أملك، فإني من أهل بيت قد أسرع القتل فينا، ولي فيمن مضى أسوة، فإن الرجل إذا قتلني وأخذ مالي وشفى غيظه لم يجاوز ذلك إلى الحرم، ولا له فيهن أرب، ولا يوجب جرمي إليه أكثر مما بذلته، قال: فوالله، ما اتقاه عبد الله إلا بدموعه تجري على لحيته، ثم قال: أتعرفني؟ قال: لا والله، قال: أنا عبد الله بن طاهر، وقد أمّن الله خوفك، وحقن دمك، وصان حريمك، وحرس نعمتك، وعفا عن ذنبك، وما تعجلت إليك وحدي إلا لتأمن، وأن لا يخالط عفوي عنك روعة، فبكى الحصني وقام فقبل رأسه، وضمّه إليه عبد الله وأدناه، ثم قال: أما الآن فلا بد من عتاب، يا أخي جعلت فداك، قلت شعرًا في قومي أفخر بهم، لم أطعن فيه على حسبك، ولا ادعيت فضلا عليك، وفخرت بقتل رجل، هو وإن كان من قومك، فهم القوم الذين ثأرك عندهم -يقصد العباسيين-، كان يسعك السكوت، وإن لم تقترف لم تسرف، فقال: أيها الأمير، فإن عفوت فاجعله العفو الذي لا يخالطه تثريب، ولا يكدر صفوه تأنيب، قال: قد فعلت، فقم بنا ندخل منزلك حتى نوجب عليك حقا بالضيافة. فقام مسرورًا، فدخلنا منزله، ودعا بالطعام الذي كان أعده لنفسه، فأكلنا وجلسنا نشرب في مستشرف له، وأقبل الجيش، وأمرني عبد الله أن أتلقاهم فأرحّلهم، ولا يترك أحد منهم في البلدة، ثم دعا بدواة، فكتب له يسوغه خراجه سبع سنين، وقال: إن نشطت لنا فالحق بنا، وإلا فأقم مكانك، فقال: أنا أتجهز وألحق الأمير، ففعل ولحق بمصر، ولم يزل مع عبد الله بن طاهر لا يفارقه حتى دخل العراق، فودعه وأقام ببلده.
– نزاهة الأمير:
لما قدم طاهر بن عبد الله بن طاهر من خراسان وهو حدث في حياة أبيه يريد الحج، فنزل في دار إسحاق بن إبراهيم -والي بغداد-، فوجّه إسحاق إلى العلماء فأحضرهم ليراهم طاهر ويقرأ عليهم، فحضر أصحاب الحديث والفقه، وأحضر ابن الأعرابي وأبو نصر صاحب الأصمعي، ووجه إلى أبي عبيد القاسم بن سلام في الحضور فأبى أن يحضر وقال: العلم يُقصَد، فغضب إسحاق من قوله، وكان عبد الله بن طاهر يجري له في الشهر ألفي درهم، فقطع إسحاق عنه الرزق وكتب إلى عبد الله بالخبر، فكتب إليه عبد الله: (قد صدق أبو عبيد في قوله، وقد أضعفت له الرزق من أجل فعله، فأعطه فائته وأدرّ عليه بعد ذلك ما يستحقه)([136]).
– جوده وكرمه:
كَانَ لَهُ جُلَسَاءُ مِنْهُمُ الْفَضْلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ، فَاسْتَحْضَرَهُمْ يَوْمًا، فَحَضَرُوا، وَتَأَخَّرَ الْفَضْلُ، ثُمَّ حَضَرَ، فَقَالَ لَهُ: أَبْطَأْتَ عَنِّي، فَقَالَ: كَانَ عِنْدِي أَصْحَابُ حَوَائِجَ، وَأَرَدْتُ دُخُولَ الْحَمَّامِ، (فَأَمَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بِدُخُولِ حَمَّامِهِ)، وَأَحْضَرَ عَبْدُ اللَّهِ الرِّقَاعَ الَّتِي فِي حَقِّهِ، فَوَقَّعَ فِيهَا كُلِّهَا بِالْإِجَابَةِ، وَأَعَادَهَا، وَلَمْ يَعْلَمِ الْفَضْلُ، وَخَرَجَ مِنَ الْحَمَّامِ، وَاشْتَغَلُوا يَوْمَهُمْ، وَبَكَّرَ أَصْحَابُ الرِّقَاعِ إِلَيْهِ، فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُرِيدُ رُقْعَتِي، فَأَخْرَجَهَا وَنَظَرَ فِيهَا، فَرَأَى خَطَّ عَبْدِ اللَّهِ فِيهَا، فَنَظَرَ فِي الْجَمِيعِ، فَرَأَى خَطَّهُ فِيهَا، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: (خُذُوا رِقَاعَكُمْ، فَقَدْ قُضِيَتْ حَاجَاتُكُمْ، وَاشْكُرُوا الْأَمِيرَ دُونِي، فَمَا كَانَ لِي فِيهَا سَبَبٌ)([137]).
– من طرائف الأمير:
روى المعافى بن زكريا عن عَلِيّ بْن إِسْحَاق قَالَ: اشْترى عَبْد اللَّه بْن طَاهِر جَارِيَة بخمسةٍ وَعشْرين ألفا عَلَى ابْنة عَمِّه، فوجِدَتْ عَلَيْه، وقعدتْ فِي بعض المقاصير([138])، فمكثتْ شَهْرَيْن لَا تُكَلِّمه، فَعمل هذَيْن الْبَيْتَيْنِ:
إِلَى كَمْ يكونُ العَتْبُ فِي كل ساعةٍ … وَكم لَا تملّين القطيعة والهَجْرَا
رُويدَكِ إنّ الدَّهْر فِيهِ كفايةٌ … لِتَفْرِيقِ ذاتِ البَيْنِ فانتظري الدهرا
قَالَ: وقَالَ لِلْجَارِيَةِ: اجلسي عَلَى بَاب المقصَورة فَغَنِّي بِهِ، قَالَ: فَلَمَّا غنت الْبَيْت الأوّل لَمْ تَرَ شَيْئًا، فَلَمَّا غَنَّت الثَّانِي فَإِذا هِيَ قَدْ خرجتْ مشقوقة الثَّوْب حَتَّى أكبَّتْ عَلى رِجْلِهِ فقَبَّلَتْها)([139]).
– من حِكم الأمير:
قال عبد الله بن طاهر: (من دخل إلى الملوك فليدخل أعمى وليخرج أخرس)([140]).
وَقَالَ: (إِن لكل شَيْء حَيَاةً وموتًا، فمما يحيي اللب محادثة الألباء، ويحيي الود محادثة الأوداء، ويحيي الْعِزّ مضافرة الأعزاء، ويحيي الذل مُظَاهرَة الأذلاء، ويحيي الشجَاعَة مصاحبة الشجعاء، ويحيي الْكَرم مُوَاصلَة الكرماء، ويحيي الْحيَاء مكاثرة أهل الْحيَاء، ويحيي اللؤم معاشرة اللئام)([141]).
وقال عبد الله بن طاهر: (المال غاد ورائح، والسلطان ظلّ زائل، والإخوان كنوز وافرة)([142]).
وَكَانَ يَقُولُ: (يَنْبَغِي أَنْ يُبْذَلَ الْعِلْمُ لِأَهْلِهِ وَغَيْرِ أَهْلِهِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ أَمْنَعُ لِنَفْسِهِ مِنْ أَنْ يَصِيرَ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ)([143]).
وقال: (لا تمنعوا العلم طالبه؛ فإنه أوحش جانبًا من أن يستقر إلا عند أهله)([144]).
وَكَانَ يَقُولُ: (سِمَنُ الْكَيِّسِ وَنُبْلُ الذِّكْرِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا)([145]).
ونقل ابن الجوزي عن الحسين بْن فهم قال: (كَانَ عبد الله بْن طاهر لا يُدخل خصيًّا داره ويقول: هم مَعَ النساء رجال، ومع الرجال نساء)([146]).
وقال أبو بكر الصولي -الشاعر المعروف-: حدثنا محمد بن إسحاق النحوي قال: حدثنا أبو العيناء عن علي بن محمد الجرجاني قال: اجتمعنا بباب عبد الله بن طاهر من بين شاعر وزائرٍ، ومعنا أبو تمام، فحجبنا أيامًا، فكتب إليه أبو تمام:
أَيَّهذا العزيزُ قد مَسَّنَا الضُّرُّ … جميعًا وَأهْلُنا أشْتَاتُ
ولنَا في الرِّحَال شيخٌ كبيرٌ … وَلَدَيْنا بِضَاعَةٌ مُزْجَاةُ
قلَّ طُلابُهَا فأَضْحَتْ خَسَارًا … فَتِجَارَاتُنا بهَا تُرَّهَاتُ
فاحْتَسِبْ أَجْرَنَا وَأَوْفِ لنَا الكَيْلَ … وَصَدِّقْ فإِنَّنا أَمْوَاتُ
فضحك عبد الله لما قرأ الشعر، وقال: قولوا لأبي تمام لا تعاود مثل هذا الشعر، فإن القرآن أجل من أن يستعار شيء من ألفاظه للشعر، قال: ووجد عليه([147]).
ورُفع إِلَى عبد الله بْن طَاهِر قصَّة مضمونها أَن جمَاعَة خَرجُوا إِلَى ظَاهر الْبَلَد للتفرج وَمَعَهُمْ صبيّ، فَكتب على رَأسهَا: مَا السَّبِيل إِلَى فتية خَرجُوا لمتنزههم يقضون أوطارهم على قدر أخطارهم، وَلَعَلَّ الْغُلَام ابْن أحدهم أَو قرَابَة بَعضهم([148]).
– وفاة الأمير:
روى ابن عساكر عن أحمد بن منصور البغدادي قال: دخلت على عبد الله بن طاهر وهو في سكرات الموت، فقلت: السلام عليك أيها الأمير، فقال: لا تسمِّني أميرًا وسمّني أسيرًا، ولكن اكتب عني بيتين عرضا بقلبي ما أراهما إلا آخر بيتين أقولهما، ثم أنشأ يقول:
بادر فقد أسمعك الصوت … إن لم تبادر فهو الفوت
من لم تزل نعمته قبله … زال عن الموت بالموت([149])
وذكر الخطيب البغدادي أن عبد الله بن طاهر توفي بنيسابور ليلة الجمعة لأيام خلت من شهر ربيع الأول سنة ثلاثين ومائتين، ونقل عن الحارث بن محمد قال: مات عبد الله بن طاهر بن الحسين بنيسابور سنة ثلاثين ومائتين وهو والي خراسان، كان لعبد الله بن طاهر حين توفي ثمان وأربعون سنة، وتسعة وأربعون يوما. ويقال: إنه توفي بمرو، في شهر ربيع الأول لإحدى عشرة ليلة خلت منه، وكان مرضه يوم الاثنين لثمان خلون، فمرض ثلاثة أيام من وجع أصابه في حلقه([150]).
وقال الذهبي: (وَمَاتَ بِالخَانُوْقِ([151]) سَنَةَ ثَلاَثِينَ وَمائَتَيْنِ، وَلَهُ ثَمَانٍ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً)([152]).
وقال عبد الله بن منصور لما بلغه موت عبد الله بن طاهر:
هيهات لا يأتي الزمان بمثله … إن الزمان بمثله لبخيل([153])
رحمه الله رحمة واسعة، وغفر له، وجزاه خير الجزاء على عدله وحسن قيادته ومكارم أخلاقه.
تمّ بحمد الله ولطفه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) انظر: سير أعلام النبلاء (10/ 108).
([2]) انظر: سير أعلام النبلاء (10/ 285).
([4]) البداية والنهاية (14/ 162).
([5]) انظر: تاريخ الإسلام، للذهبي (16/ 230-231).
([6]) انظر: البلدان، لليعقوبي.
([8]) انظر: تعريف بالأماكن الواردة في البداية والنهاية -كتاب إلكتروني منشور على موقع المكتبة الشاملة- (2/ 191).
([9]) انظر: المصدر نفسه (2/ 403).
([10]) انظر: الديارات، للشابشتي (ص: 132).
([11]) انظر: المصدر نفسه (ص: 133).
([12]) انظر: تاريخ بغداد (11/ 162).
([15]) انظر: كتاب بغداد لابن طيفور (ص: 25)، وتاريخ الطبري (8/ 515)، والنجوم الزاهرة (2/ 181).
([16]) النجوم الزاهرة (2/ 182).
([17]) انظر: كتاب بغداد لابن طيفور (ص: 83)، وتاريخ الطبري (8/ 515).
([18]) انظر: كتاب بغداد لابن طيفور (ص: 93).
([19]) كتاب بغداد لابن طيفور (ص: 81).
([21]) الجليس الصالح (ص: 279-280).
([23]) انظر: البداية والنهاية (10/ 280).
([24]) سير أعلام النبلاء (10/ 512).
([26]) تاريخ الإسلام (16/ 416).
([28]) ينظر: سير أعلام النبلاء (10/ 516).
([29]) المصدر السابق (10/ 517).
([31]) انظر: أسامي من روى عنهم البخاري، لابن عدي (ص: 227).
([32]) طبقات الشافعية الكبرى (2/ 85).
([33]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (3/ 501).
([34]) الأسماء والصفات (2/ 376).
([38]) انظر: تاريخ بغداد (7/ 373).
([39]) نبات طبي من فصيلة البُطْميّات، انظر: معجم اللغة العربية المعاصرة (1/ 237).
([40]) الكندر هو اللبان، قال ابن القيم: (وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ شُرْبَهُ مَعَ السُّكَّرِ عَلَى الرِّيقِ جَيِّدٌ لِلْبَوْلِ وَالنِّسْيَانِ). الطب النبوي (ص: 294).
([41]) انظر: سير أعلام النبلاء (11/ 368).
([42]) قال عنه الإمام مسلم: جهمي لا يكتب حديثه، وهو إبراهيم بن هاشم. انظر: لسان الميزان (1/ 299).
([43]) تاريخ دمشق (8/ 137-138).
([44]) انظر: سير أعلام النبلاء (11/ 367-368).
([46]) سير أعلام النبلاء (10/ 585).
([47]) انظر: تاريخ دمشق (29/ 219).
([50]) انظر: تاريخ الإسلام (16/ 182).
([51]) انظر: تاريخ الإسلام (18/ 411)، وسير أعلام النبلاء (12/ 202-204).
([52]) ينظر: تهذيب الكمال (2/ 379).
([54]) سير أعلام النبلاء (13/ 414).
([55]) الإرشاد في معرفة علماء الحديث (2/ 811).
([56]) انظر: معجم الأدباء، لياقوت الحموي (1/ 254).
([57]) انظر: سير أعلام النبلاء (11/ 479-481).
([58]) انظر: تاريخ الإسلام (17/ 123).
([60]) انظر: سير أعلام النبلاء (12/ 233-234).
([61]) انظر: تاريخ بغداد (4/ 166)، وسير أعلام النبلاء (12/ 208).
([62]) انظر: تذهيب تهذيب الكمال (7/ 27).
([63]) انظر: سير أعلام النبلاء (12/ 195).
([64]) ينظر: تاريخ الإسلام (18/ 411)، وسير أعلام النبلاء (12/ 202-204).
([65]) ينظر: تاريخ الإسلام (19/ 192).
([67]) انظر: المنتظم في تاريخ الأمم والملوك، لابن الجوزي (10/ 260).
([68]) ترجم له ابن حبّان في الثقات (8/ 209) وقال: (كان متقنًا).
([73]) تهذيب الكمال في أسماء الرجال (2/ 373).
([74]) انظر: تهذيب الكمال (32/ 34).
([75]) تاريخ الإسلام (16/ 234).
([77]) البداية والنهاية (10/ 275).
([79]) انظر: تاريخ دمشق (5/ 310-311).
([81]) تاريخ الطبري (10/ 258).
([82]) بدائع السلك في طبائع الملك (2/ 183).
([83]) انظر: جمهرة رسائل العرب، لأحمد زكي صفوت (3/ 406)، وكتَب د. عباس أرحيلة كتابًا عن الرسالة، من إصدار دار الحديث الكتانية.
([84]) مقدمة ابن خلدون (1/ 378).
([85]) ينظر: تاريخ دمشق (29/ 238).
([86]) انظر: خطط الشام (1/ 158-159).
([87]) ينظر: تاريخ الطبري -سنة تسع ومائتين- (8/ 599-600).
([89]) انظر: تاريخ الطبري (8/ 612-613).
([90]) البداية والنهاية (10/ 268).
([91]) انظر: الكامل في التاريخ (5/ 562).
([92]) انظر: زين الأخبار، لعبد الحي بن الضحاك الكرديزي (ص: 19).
([93]) انظر: البداية والنهاية (10/ 282).
([94]) مقاتل الطالبيين (ص: 467) وما بعدها.
([95]) انظر في تفاصيل فتنة ومقتل المازيار: تاريخ الطبري (9/ 80-100).
([96]) انظر: التبر المسبوك في نصيحة الملوك، للغزالي (ص: 7).
([97]) الكامل لابن الأثير (6/ 91).
([98]) انظر: مفيد العلوم، للخوارزمي (ص: 35).
([99]) انظر: تاريخ دمشق (29/ 235).
([100]) انظر: جمهرة رسائل العرب، لأحمد زكي صفوت (3/ 425)، وعزاه للعقد الفريد (1/ 17).
([101]) انظر: تاريخ دمشق (29/ 220-221).
([102]) انظر: المصدر نفسه (29/ 241).
([103]) انظر: معجم الأدباء، لياقوت الحموي (5/ 151).
([104]) انظر: سير أعلام النبلاء (11/ 165).
([105]) معجم الأدباء (2/ 254).
([106]) انظر: معجم الأدباء (5/ 137-139).
([107]) طبقات الشعراء (ص: 18).
([108]) جمع كاغد وهي نوع من الورق.
([109]) انظر: جمهرة رسائل العرب، لأحمد زكي صفوت (3/ 449).
([112]) معجم البلدان (3/ 305).
([113]) انظر: المصدر نفسه (ص: 9).
([114]) انظر: أحسن التقاسيم (ص: 33).
([115]) انظر: معجم البلدان (3/ 305).
([116]) انظر: فتوح مصر والمغرب، لابن عبد الحكم (ص: 15).
([117]) انظر: أحسن التقاسيم، للمقدسي (ص: 16).
([118]) أي: قنوات الري (ص: 16).
([119]) زين الأخبار، للكرديزي (ص: 20).
([120]) الأعلاق النفيسة (7/ 176).
([121]) انظر: معجم الأدباء (1/ 256-257)، وسير أعلام النبلاء (13/ 415).
([122]) عيون الأنباء في طبقات الأطباء (ص: 25).
([123]) تاريخ الطبري (8/ 617-618).
([124]) تاريخ الطبري (8/ 613).
([125]) انظر: تاريخ دمشق (29/ 241).
([126]) سياست نامة (سير الملوك)، نظام الملك، الحسن بن علي الطوسي (ص: 8).
([127]) تاريخ اليعقوبي (2/ 480).
([128]) تاريخ بغداد (11/ 162).
([130]) الكامل في التاريخ (6/ 92).
([131]) وفيات الأعيان (3/ 83).
([132]) النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة (2/ 200).
([134]) طبقات الشعراء (ص: 299-301).
([135]) مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، لأحمد بن يحيى العمري (10/ 186-187).
([136]) انظر: المصدر نفسه (5/ 201).
([137]) انظر: الكامل في التاريخ (6/ 92).
([138]) جمع مقصورة، وهي غرفة خاصة.
([139]) الجليس الصالح (ص: 23).
([140]) انظر: بذل النصائح الشرعية، لأبي حامد المقدسي الشافعي (2/ 479-480).
([141]) انظر: تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك، للماوردي (ص: 3).
([142]) انظر: سراج الملوك، للطرطوشي (ص: 7).
([143]) انظر: الكامل في التاريخ (6/ 91).
([144]) انظر: تاريخ دمشق (29/ 219).
([147]) أخبار أبي تمام (ص: 21).
([148]) انظر: بدائع السلك في طبائع الملك، لابن الأزرق (2/ 165-166).
([149]) تاريخ دمشق (29/ 239-240).
([150]) تاريخ بغداد (11/ 167-168).
([151]) مرض يصيب الجهاز التنفسي.