الاثنين - 20 رجب 1446 هـ - 20 يناير 2025 م

الحالة السلفية في فكر الإمام أبي المعالي الجويني إمام الحرمين -أصول ومعالم-

A A

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة 

مقدمة:

من الأمور المحقَّقة عند الباحثين صحةُ حصول مراجعات فكرية حقيقية عند كبار المتكلمين المنسوبين إلى الأشعرية وغيرها، وقد وثِّقت تلك المراجعات في كتب التراجم والتاريخ، ونُقِلت عنهم في ذلك عبارات صريحة، بل قامت شواهد الواقع على ذلك عند ملاحظة ما ألَّفوه من مصنفات ومقارنتها، وتحقيق المتأخر منها والمتقدم، وبان بهذا أن ما كان يروِّجه هؤلاء الحذاق من المتكلمين باعتباره حقّا يقينيًّا ومنتوجًا عقليًّا محضًا لم يكن سوى ظنونا وتخبطا، بل انقلب عليها أصحابها بالتضليل والتبديع، وحذّروا مما كانوا عليه، والمثير في الأمر أيضا أن المراجعات كانت سببا في الانتقال من كل هذه الظنون الكلامية إلى يقينيات سلفية، مرجوع فيها إلى الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة، وقد كان ذلك بشهادة كل من تابع هذه المراجعات، وخبر أصحابها بسبب صدقهم في النظر وتحررهم، فكان جزاؤهم أن وفقهم الله تعالى للأوبة إلى مذهب السلف جملة أو تفصيلا، وكل على حسب ما ظهر له، ومع كل هذا فقد استمر الأتباع على ما تركه المتبوعون، وأصروا على الجمود على المهمل من المذاهب مع ثبوت تراجع أصحابها عنها، وهذا ذهاب في الغي بعيد، وهوى متمكّن في النفوس والعياذ بالله، ومن الأمثلة على ذلك الأستاذ الإمام أبو المعالي الجويني رحمه الله، وقد رأى مركز سلف للدراسات والأبحاث أن يكشف عن حقيقة هذه الحالة السلفية في فكر أبي المعالي الجويني، والتي كان لها الفضل -بإذن الله تعالى- في رجوعه عن كثير من اختياراته الكلامية على طريقة الأشاعرة بل والمعتزلة، والله الهادي إلى سواء السبيل.

عُقدت في قطر ندوة علمية عن الجويني عام 2000م بمناسبة مرور ألف عام على ولادته، وطبعت أعمال الندوة في أكثر من ألف صفحة، بعنوان: “الندوة الألفية لإمام الحرمين الجويني“، بإشراف الدكتور عبد العظيم الديب، وهو أحد المتخصّصين في إمام الحرمين الجويني، وصاحب أحسن تحقيق لكتاب “البرهان“، وله فيه “فقه إمام الحرمين“، وهو كتاب ممتاز ومليء، وقد ترجم له عدد من العلماء، وتتبع أغلبها محقق كتاب “سير أعلام النبلاء“([1])، وعرضها في هامش ترجمة الجويني فيه، وقد فاقت ثلاثين مرجعا، وألّفت في ترجمته الدكتور فوقية حسين: “الجويني إمام الحرمين“، وفيه فوائد مهمّة جدّا، وللدكتور محمد الزحيلي: “الإمام الجويني إمام الحرمين” ومثل هذا عدد من المؤلفات والمقالات في ترجمة الجويني ودراسة تراثه، منها: “منهج إمام الحرمين في دراسة العقيدة” للدكتور عبد اللطيف آل عبد اللطيف.

كل هذا دال على مكانة مهمّة لفكر إمام الحرمين الجويني وتراثه، ويشهد على ذلك ما تركه من أثر على الحركة العلمية في علم الكلام والفقه وأصوله، وصار له أتباع ومذهب متبع، ولا يزال الجويني حديثَ المقالات والمجامع العلمية والندوات، بل صار اسمه علما على “المذهب الأشعري“، إذ يعد أحد كبار رجالاته ومحققيه ونُظاره.

فهل كان الجويني أشعريًّا حقًّا؟

هذا ما سنلقي الضوء عليه في هذه الورقة إن شاء الله تعالى.

مركز سلف للبحوث والدراسات

 

 

 

  • هل كان الجويني أشعريًّا؟

تكاد الكتابات المتعلقة بالجويني تتطابق على نعته بالأشعري في عقيدته، ويعدّونه واحدا من طبقات الأشاعرة الكبار، ومع ذلك فهناك تشكّك في أن يكون الجويني أشعريًّا، وقد يكون هذا التشكّك غريبا، لكن الشاهد حجة، ومثل الجويني عدد كبير ممن نسبوا إلى مذاهب ثبت بالدليل عدم صحة ذلك عنهم، أو تشكّك في ذلك، مثل الباقلاني الذي نسب إلى المذهب المالكي، مع أنه عند التحقيق يخالف مالكا في أكثر أصوله كما تراه في كتابه “التقريب والإرشاد”، بل إن ثمّ شكّا في صحة نسبة الأشعري إلى المذهب الشافعي أو المالكي.

    أول ما يثير انتباه القارئ لتراث الجويني أنه يصف أبا الحسن الأشعري بشيخنا، وقد يفهم من هذا أنه يثبت انتسابه له، لكنه ما يلبث أن يقف على ما يناقض ذلك، فالجويني ينسب الواقفية في مسائل متعلّقة بالأصول في أبواب دلالات الألفاظ للأشعري ويخالفه، بل إن مما يؤكد أنه لا ينتسب للأشعري -وإن وافقه أحيانا- أنه كان يصف الحارث المحاسبي بقوله: “من علمائنا“([2])، أي: المتكلمين، فقد كان الحارث كلابيا([3])، وهذا يعني أن الدائرة التي ينتمي إليها الجويني أوسع من الأشعرية، ومثله وصفه القلانسي الكلابي([4]) الذي كان معاصرا للأشعري بأنه “من قدماء الأصحاب“([5])، وقد يفهم من هذا انتسابه للكلابية، لكن قوله: “ابن كلاب من أصحابنا“([6]) يوسع الدائرة أكثر، فالجويني إذن منتسب للمتكلمين الصفاتية المثبتة، أي: المثبتة للصفات العقلية، وبهذا يقع الشكّ في صحة نسبة الناس له إلى العقيدة الأشعرية، ولا تغتر بظاهر صنيع ابن عساكر في “تبيين كذب المفتري”، إذ جعله في الطبقة الرابعة من طبقات الشافعية أصحاب أبي الحسن، ولا بقول الدكتور علي سامي النشار: “السيد الأشعري الكبير“([7])، وإلا فتصرفات الجويني نفسه دالة على أنه كان متحرّرا غير مقلّد، وناظرا متّبعا غير مقيّد باختيارات جهة معينة، ولا كانت أصوله أصول الأشعري على جهة المطابقة، بل كان أول أمره أقرب إلى أصول الاعتزال في الصفات، ولذلك فقد أبعد جدًّا من جعله المؤسس الحقيقي للمذهب الأشعري، وعلى قول الدكتور عبد الرحمن المحمود: “يعتبر الجويني إمام الحرمين من أعظم أعلام الأشاعرة، ولا يكاد يذكر المذهب الأشعري إلا ويسبق إلى الذهن هذا الإمام المشهور كأحد من يتمثل هذا المذهب في أقواله وكتبه، ولذلك فاستعراض عقيدته وأقواله تدلّ على أشعريته وموافقته لشيوخه الأشاعرة مما لا داعي لبسطه هنا“([8]) كثير من أوجه الانتقاد ليس هذا محلّ بسطها، ومثل العقيدة كان الجويني متحررًا في الفقه رغم ظاهر انتسابه للمذهب الشافعي، وكذلك تجده في الأصول يختار من الشافعي ويترك.

والخلاصة: إن دعوى كونه أشعريا فيها نظر على أقل تقدير، وإلا فإن هذه الشواهد ومثلها كافية في توسيع دائرة انتسابه الكلامي.

  • صِدق الجويني وتحررُه:

تأمّلت كثيرا في أسباب هذه المراجعات الجوينية، وخلصت إلى أمر جامع لها، وهو توفيق الله تعالى له، ثم صدقه وإخلاصه في بحثه وتحرره من كل قيد مذهب أو نسبة، إلا من قيد الدليل العقلي والشرعي، وكان هذا جزءا من “الحالة السلفية” في فكر الإمام الجويني، فالعاكف على تراثه يجد شواهد الصدق في أقوله بادية، وأمارات التحرر في اختياراته ظاهرة، فتجده يقول: “مستعينين بالله“([9])، و”مما نستخير الله فيه“([10])، والدليل على هذا رجوعه نفسه، أما نقده ومخالفته لغيره فقد كان في ذلك على نهج بيّن واضح، وهو أن “الحق أحق أن يتَّبع“([11])، وقد قالها إظهارا لمخالفة القاضي الباقلاني في بعض الاختيارات، فقد كانت طريقته أن “أكثر العمايات في العلوم إنما جاءت من أخذ الحجج مسلَّمة، من غير امتحان الفكر وتدقيق النظر في تصحيح مقدماتها“([12])، ولذلك كان لا يرى جواز الذب عن المذهب([13])، فإن كان لا بد من الأخذ به في مسألة فلأجل ما يصدر عنه المذهب من دليل وحجة، وآل به ذلك إلى انتقاد كبراء المتكلمين، بدءا بأبي الحسن الأشعري ثم الباقلاني وغيرهما، بل كان يشتد أحيانا([14])، وكان يظهر مخالفته لوالده إمام الشافعية أبي محمد، وقال مرة: “هذه زلة من الشيخ رحمه الله“([15])، ومن ألطف ما رأيته له في هذا أنه كان يحتج عليهم بالرد إلى ما كان قبلهم، فقال مرة: “النظر السديد يتخطى كلام القاضي وعصره، ويترقى إلى العصر المتقدم، ويفضي إلى مدرك الحق قبل ظهور هذا الخلاف“([16])، وهذا نص يدفع العاقل إلى الحَجْل أمام الناس.

أما تحرره فوصفَه الدكتور عبد العظيم الديب بأنه “كان حر الرأي والضمير، لا يقلد أحدا“([17])، ووصفت الدكتورة فوقية حاله فيه بالنزعة النفسية أي: “نزعته إلى عدم التقيد بالمذاهب، والأخذ بما يهديه إليه عقله واجتهاده المعتمد على المذاهب الشرعية من الكتاب والسنة، دون النقل عن المجتهدين السابقين عليه، وهذا يعني أن إمام الحرمين قد لمس منذ نعومة أظفاره نزعات من الرغبة نحو التحرر“([18])، فوافق هذا -مع الصدق– “نزعته الإسلامية إلى مذهب السلف“، فأنتج ذلك كله ما يمكن تسميته “الحالة السلفية” عند إمام الحرمين، وهذا كل قصدي من هذه الورقة العلمية، وعليه مدارها، والحمد لله رب العالمين.

  • مراجعات الجويني الكلامية:

لصدق الجويني في طلب الحق آل أمره إلى ما يعرفه من وافقه وخالفه، فقد كان الجويني يعيش حالة مراجعة مستمرة، قاصدا تنقيح فكره وتصحيح نظره، والتراجع عن خطئه وزلته، والناظر في كتبه واقع لا محالة على شواهد ذلك، فقد كتب الجويني “الشامل” و”الإرشاد“، وجعل فيهما ما خلص إليه نظره في العقائد، ثم راجع بعضها مثل القول بالأحوال في “البرهان“([19])، ثم كر على جملة ذلك بالنقض في كتابه “النظامية“، أو كما قال محمد الزحيلي: “إن آراءه في العقيدة النظامية نسخ ما ورد في كتابيه الآخرين الشامل والإرشاد“([20])، “ورأى أن مذهب السلف أولى”([21])، فانتقل كما تقول الدكتورة فوقية: “من طريقة الجوهر والعرض إلى طريقة الجواز“([22])، وتبرأ من تأويل نصوص الصفات، وذمه وحذر منه، ورجع عن نفي تأثير قدرة العبد في فعله، فشدد في ذلك وأثبتها فيه، وحذر تحذير شديدا من نفيه، ولم يبعد في مسألة الإيمان فقال: “ذهب أئمة السلف إلى أن الإيمان معرفة بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان، فهؤلاء أدرجوا الطاعات كلها تحت اسم الإيمان، وهذا غير بعيد في التسمية“([23])، وهذا إجماع من سلف الأمة قبل ظهور الآراء واختلاف الأهواء كما يقول الجويني في مثل هذه المباحث، وقد أوقع هذا من كان على طريقته في الإرشاد والشامل في حرج كبير، فصاروا إلى محاولة ترقيع ما انفتق، فزعموا أن ذلك دال على جواز التأويل والتفويض، وأنهما اختياران في المذهب، ولم يلحظوا أو غفلوا عن أن الجويني ذم التأويل وأهله، بل لم ينتبهوا إلى أنه ذم “علم الكلام” الذي كان عليه بشوائبه الاعتزالية والكلابية، وحذر منه، وقال: “يا أصحابنا، لا تشتغلوا بالكلام، فلو علمت أن الكلام يبلغ إلى ما بلغ ما شاغلت به“([24])، وأشدّ عبارات فيه: “من ضري بالكلام صدي جنانه”، وعدها الدكتور عبد العظيم الديب دليلا على أنه في آخر عمره كاد لا يلتفت إلى علم الكلام([25]).

كانت عبارة الجويني شديدة وهو يعلن انخلاعه عن القول بتأويل الصفات، وعبارته في ذلك: “والذي نرتضيه رأيا وندين الله به عقلا اتباع سلف الأمة، فالأولى الاتباع، وترك الابتداع، والدليل السمعي القاطع في ذلك أن إجماع الأمة حجة متبعة، وهو مستند معظم الشريعة، وقد جرد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم على ترك التعرض لمعانيها ودرك ما فيها، وهم صفوة الإسلام، والمستقلون بأعباء الشريعة، وكانوا لا يألون جهدا في ضبط قواعد الملة والتواصي بحفظها، وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها، فلو كان تأويل هذه الآي والظواهر مسوغا ومحتوما، لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، وإذا انصرم عصرهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل، كان ذلك قاطعا بأنه الوجه المتبع، فحق على ذي دين أن يعتقد تنزه الباري عن صفات المحدثين، ولا يخوض في تأويل المشكلات، ويكل معناها إلى الرب تبارك وتعالى“([26]).

واضحة من هذا النص مقاصد صاحبه، فالأولى اتباع القرآن والسنة والصحابة في عدم تأويل نصوص الصفات، والكف عن الخوض فيها بالظنون القاصرات، وأن من خاض فقد وضع الأصبع على حدقة عينه، يوشك أن يفسدها، والابتداع مخالفة الاتباع، ومثل هذا قوله في تأثير القدرة في الفعل، فقد كان ينفيها في “الإرشاد”، ثم ها هو يثبتها في “النظامية” ويشتد على من ينفيها، ويحتج بتواتر الآي القرآنية في الدلالة على ذلك، فقال: “ولو ذهبت أتلو الآي المتضمنة لهذه المعاني لطال المرام“([27])، وقال محذِّرا: “ففي المصير إلى أنه لا أثر لقدرة العبد في فعله قطع طلبات الشرائع، والتكذيب بما جاء به المرسلون“([28])، وهذا الذي اختاره الجويني لنفسه آخرا، هو عين ما كان عليه السلف من الصحابة ومن يليهم.

لا أنفك عن هذا إلا بعد التنبيه على أن الجويني رحمه الله راجع فرجع، وتاب وأصلح وبين، وحسبه أنّ أصله في ذلك قصد ما كان عليه الصحابة والسلف، لكن قوله بالتفويض في المعنى محتمِل، فإن كان يقصد عدم ظهور دلالة اللفظ على المعنى بإطلاقه فمردود عليه بخلافه للسلف، وإن كان يقصد بالمعنى مقيَّده وهو التكييف، فقد سدد فأصاب، وسبب هذا التشكك قول الجويني: “وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل، وإجراء الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرب تعالى“([29])، ومع هذا فقد استحسن قول مالك في الاستواء فقال: “ومما استحسن من كلام إمام دار الهجرة رضي الله عنه -وهو مالك بن أنس رضي الله عنه- أنه سئل عن قوله تبارك وتعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، فقال: الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والسؤال عنه بدعة“([30])، ولم ينكر ذلك، بل زاد، فرأى وجوب هذا في كل الصفات الأخرى مثل النزول والمجيء واليدين والأعين والوجه مما ورد في الكتاب والأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أعلى من الإقرار، ووجه التعارض أن يقال: ما المقصود الذي أقره الجويني بل صححه وجعله أصلا في الباب في قول مالك: “معلوم“؟ ما المعلوم في الاستواء؟ لا بد أن يكون معنى، بدليل أن بعض الأشاعرة حمله على “المعلوم بالتأويل“، وهذا يعني أن الذي فوضه الجويني ليس هو الذي أثبته، وبيان هذا له محله.

يقول ابن السبكي: “وذكر ابن السمعاني أبو سعد في الذيل أنه قرأ بخط أبي جعفر محمد بن أبي علي بن محمد الهمذاني الحافظ: سمعت أبا المعالي الجويني يقول: لقد قرأت خمسين ألفا في خمسين ألفا، ثم خليت أهل الإسلام بإسلامهم فيها وعلومهم الظاهرة، وركبت البحر الخضم، وغصت في الذي نهى أهل الإسلام عنها([31])، كل ذلك في طلب الحق، وكنت أهرب في سالف الدهر من التقليد، والآن قد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق، عليكم بدين العجائز، فإن لم يدركني الحق بلطفِ بِرِّه، فأموتَ على دين العجائز، وتُختمَ عاقبة أمري عند الرحيل على نزهة أهل الحق، وكلمة الإخلاص: لا إله إلا الله، فالويل لابن الجويني“([32]).

  • مقام الصحابة في العقل والعلم والعمل:

اتفق المسلمون على تعظيم شأن الصحابة رضي الله عنهم، فأنزلوهم منازلهم اللائقة بهم، وأقروا بفضلهم، وبينوا وجه ذلك كله، والتزموا مقتضياته في إثبات عدالتهم، ولاحظوا أنهم نقلة الوحي والشريعة، فحموا حماهم، وذبوا عنهم، وأبان الجويني عن كل ذلك في كتبه بطريقته، فعرض بعض أدلة فضلهم وعلو قدرهم، من ذلك آية بيعة الرضوان [الفتح: 18]، وقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، ونقل اتفاق المفسرين على أنها واردة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: “فإذا هم معدَّلون بنصوص الكتاب، مزكَّون بتزكية الله تعالى لهم“([33])، وأبطل دعوى وجود النفاق فيهم بدليل اعتماد رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم في نقل آثاره وأخباره، وقال: “وكانوا عنه ناقلين ومخبرين، واشتهر ذلك من سيرته صلى الله عليه وسلم فيهم، فكان ذلك مسلكا قاطعا في ثبوت عدالتهم، بتعديل الرسول عليه السلام إياهم عملا وقولا“([34])، وهذا استدلال عقلي([35]) لطيف حسن جدّا من الجويني يليق بقدره وعلمه، ومثله قوله: “الصحابة هم نقلة الشريعة، ولو ثبت توقّف في رواياتهم انحصرت الشريعة على عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما استرسلت على سائر الأعصار“([36])، ومن هنا كان مدخل الطاعنين فيهم من أهل الأهواء، إنما أرادوا إسقاط الشريعة.

ومن جميل صنعه تخصيصه أبا هريرة بالدفاع عنه في وجه ما زعمه أهل البدع فيه من الشك في إكثاره من رواية الحديث، واحتج باعتماد عمر بن الخطاب عليه واعتماده، وتوليته الكوفة، وصاغ ذلك على طريقة القياس الشرطي الاستثنائي فقال: “فلو لم يكن من أهل الرواية لما كان يقرره عمر رضي الله عنهما مع العلم بإكثاره“([37])، وكذلك فعل مع ابن عمر، وقال: “وأما ابن عمر فلا يتعرض للقدح فيه إلا جَسور“([38])، ثم ختم على ذلك بنقل الإجماع على الرواية عنهم وتعديلهم، وكما خص لبيان عدالتهم فقرات من البرهان، فقد عقد لذلك فصلا مختصرا في “الإرشاد”([39]) أيضا، فإنه من الأصول الكبرى المقطوع بها عنده.

وجريا على عقيدة المسلمين في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتقد الجويني عدم العصمة في آحادهم، وعدم استقلال كل واحد منهم بنفسه، وقال: “ولا يعصم واحد من الصحابة عن زلل، والله وليّ التجاوز بمنّه وفضله“([40])، وزاد ذلك بيانا بقوله: “فإنا لا نظن بأئمة الصحابة استقلالهم بأنفسهم في تأسيس أصول“([41])، وعلى ذلك انبى عدم اعتباره حجية قول الصحابي([42])، ومع ذلك فإنه كان يرجح بمذاهب الصحابة رضي الله عنه، هذا فيما كان من مذاهب الآحاد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أما ما كان من جري عادتهم، والمتفق من نهجهم وطريقتهم، فإنه كان يراه أصلا يقينيا، استعمله في كثير من أبواب مسائل الأصول.

جعل الجويني منهج الصحابة أصلا في أن الأمة مشاركة للنبي صلى الله عليه وسلم في التكاليف وأن ذلك مستمر([43])، وفي العمل بأخبار الآحاد والسنة النبوية([44])، ونقل الإجماع على تبرئتهم من ترك العمل بالخبر استهانة وإضرابا وترك مبالاة([45])، إلا أن يكون معارضا، وجعل منهجهم أيضا أصلا في الأخذ بظواهر الكتاب والسنة([46])، وفي القول بالنسخ([47])، وفي مشروعية الاجتهاد والقياس([48])، والاستنباط من أصول الشريعة([49])، والقول بالمصالح([50])، وفي ذم الرأي العاري عن الأصل([51])، وعدم التأصيل في أقضيتهم بشرائع الكتب المنزلة قبل القرآن الكريم([52]).

ظاهر من كل هذا أنه كان للصحابة محل عظيم في فكر الجويني تأصيلا وتفريعا، وليس يستغرب منه ذلك إن علمت علته فيه، فعليها مدار الأمر، وهي أصل الأصول، وما كان الجويني ليتردد في البوح بها، فمنها يصدر وإليها مرجعه، ومن غيره أولى باعتمادها، والاعتراف بها، فبها يقع شرفه في العلم والعمل، وقد عرضها أحسن عرض، وكشف عن حسنها كل الكشف، فقال: “هم صفوة الإسلام، والمستقلون بأعباء الشريعة، وكانوا لا يألون جهدا في ضبط قواعد الملة“([53])، وهذا نص يحتاج إلى دقيق نظر، وإلى تحليل وتركيب، فقد جمع لهم فيه صفات ثلاثة، الأولى: أنهم “صفوة“، أي: صفوة في العقل والعلم والعمل، و”مستقلون بأعباء الشريعة“، فهم الناقلون لأصولها، المستنبطون لفروعها، الذابون عنها بالسيف واللسان، وهم “ضابطو قواعد الملة“، فإليهم المرجع في الأصلين: الاعتقاد، وأصل الاستنباط، فالمنهج الحجة منهجهم، ومن خرج عنه فقد خالفهم، بل عارضهم وعاندهم وشاقّهم، ومشاققتُهم مُشاقّة لله ورسوله، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]، فسبيلهم من سبيل النبي صلى الله عليه وسلم، والله تعالى قال: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108]، وأول المؤمنين هم، وأول المتبعين هم.

جعل الجويني “مئة سنة” التي هي عصر الصحابة محلّ نظرهم([54])، ومجتمع منهجهم وسبيلهم، فهو عنده العصر الطافح بذوي الذكاء والفطن([55])، عصر الشهادة وعين اليقين، فلا غرابة في أن يجعلهم الجويني مستنَدَه، من قبل ومن بعد، وظاهر جدا أن تطور فكر الجويني كان لائحا فيه أثر هذا الأصل في قلبه، فآل أمره إلى الركون إليهم، والتزم ما كان يحاجج به ويفاوض في جل كتبه ومجالسه.

  • إجماع الأمة:

من الملاحظات على “خطاب الجويني الأصولي” بشقيه العقدي والفقهي أنه كثير الاعتماد على “دليل الإجماع“، خاصة إجماع السلف، والذي يعتبر أصل إجماع الأمة، فـ”هو مرجوع إليه في مواضع من الشريعة“([56])، بل يعكس ذلك، فيجعل خلاف السلف موجبا للتردد في قبول دعوى الخلف بعدهم، فـ”تقدير الإجماع بعد ظهور خلاف السلف عسير“([57])، ومثل هذا قوله في سياق مفاوضة: “فأما متمسكنا فإجماع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من أئمة التابعين، إلى أن نبغت الأهواء، واختلفت الآراء -على ما سنقرره الآن- فخلافكم مسبوق بالإجماع، ولا مبالاة به“([58])، وقد بلغ الجويني بدليل الإجماع إلى أن جعله سيفا مسلطا على رقاب المخالفين، فإن المخالف عنده لإجماع الأمة خارق له، خارج عن إجماع السلف من الصحابة والأئمة والأمة، بل قد تكون مفارقة للدين، وله تقريرات حسنة جدا في “البرهان” عنه، يحسن مراجعتها، ففيها دقة وتحرير جيد للمفاهيم، وحسن عرض للأدلة.

تعددت أنواع الإجماعات التي وظفها الجويني إمام الحرمين في مفاوضاته، بدءا بإجماع علماء الأمم([59])، مرورا بالإجماع النطقي، ثم الإجماع السكوتي، وقريب منه الإجماع الفعلي([60]) للصحابة رضي الله عنهم، بل منه الإجماع التقريري والتركي أيضا، وأقصد بالتقريري أن يفعل الفعل أمامهم فلا ينكرونه، ويستمر ذلك، فيدل على جوازه، وإلا لأنكروه([61])، وأما “التركي“، فأن يجتمعوا على ترك الفعل مع وجود دواعيه، فيدل على عدم جوازه. ومن ذلك احتجاجه بتركهم التأويل في بعض الأمور، لا عن غفلتهم، بل لضعف تلك التأويلات([62])، ومثله في الفروع تركهم تجديد الغسل([63])، فـ”سير السلف” و”عاداتهم” في الفعل والترك عنده حجة جدلية معتبرة، ومن أخطر المواضع التي احتج فيها بهذا النوع مسألة تأويل صفات الله تعالى، وله في هذا نص قوي، ولفظه: “والذي عليه التعويل في الجملة والتفصيل أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شهدوا وغبنا، واستيقنوا عن عيان واستربنا، وكانوا قدوة الأنام وأسوة الإسلام، لا يأخذهم في الله عذل وملام… ولم يرهق وجوههم الكريمة وهج البدع والأهواء، ولم يقتحموا جراثيم اختلاف الآراء… كيف لم يفهموا على ذكاء القرائح النصوص الصرائح، وتفطن لها الرعاع الهمج المتضمخون بالمخازي والفضائح؟!“([64]). وهذا نص فاخر، جمع فيه الجويني عصارة عقيدته في منهج الصحابة، وبين فيه علل حجيته وفخامته، وهي: “شهود الرسالة“، و”اليقين في الإيمان“، و”الثبات عند العذل والملامة“، و”السلامة من البدع والأهواء“، و”ذكاء القرائح“، وتحتاج لكشف طبيعة علة منها إلى صفحات لكشف بواطنها، والوقوف على عللها الأولى وأدلتها، وشاهدها ومعالمها في العلم والعمل عند هؤلاء الجِلة من السلف رضي الله عنهم، والخطير في هذا أنه جعل مخالفيهم في اقتحام “جراثيم تأويل الصفات” موصوفين بالهمج الرعاع المتضمّخين بالمخازي والفضائح، وقد كان هو من قريبٍ على هذه الشاكلة، بل عنده أن الأولين لم يكلّفوا “تتبع الأدلة“([65]) على طريقة المتكلمين، ومع ذلك وصف الجويني أهل العقيدة الصحيحة ممن بنوها على الكتاب والسنة بأجمل حلية وأحسن صفة، فقال: “هذه العلوم يختص بدركها ذوو العقول السليمة، وأولو الفطنة المستقيمة“([66])، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم زمردة تاج، وأسوة كل ناج، فانظر كيف كانت نجاته من تلك المهالك، والحظ مآله بعد ذلك، ويستمر هذا عنده نزولا إلى الفروع، فيقول في حكم تجديد الغسل: “لم يؤثر عن السلف الصالحين“([67])، وقال في مسألة من مسائل الحلف: “ويعضده ترك السلف التحليف“([68]).

يمكن تلخيص محلّ “السلف” عنده في كلمة جامعة مانعة على لسانه، فإنه قال: “اتباع السلف حسَن في كل شيء“([69])، وكمال هذا أن الجويني كان يرى أن مذاهب الصحابة “كان مستندها ما فهموه من الرسول صلى الله عليه وسلم“([70])، وأصل كل هذا أن “مدرك الشرائع التلقي من الرسل والأنبياء عليهم السلام“([71])، لا “قرمطة فيلسوف“، ولا “خيال متصوف“، فهذه هي “الحالة السلفية” عند الجويني، حالة اتباع واعتصام. كيف لا يكون منهج الصحابة معقد العصمة وصفاء المعتقد وهم الذين كانوا “لا يحتملوا الإخلال برعاية الكمال في الصلاة“([72])؟! وعلى صلاتهم قس عقيدتهم وكل عباداتهم، وإن كان لا بد من عنوان على “منهج الصحابة” و”مسالك السلف الصالحين“([73]) و”طريقة الماضين” فـ”رعاية الكمال“، وأكرم به من عنوان شريف، فكيف لا يكون ذلك حالة الجويني؟!

  • الأوائل والأواخر:

أصاب الجويني المحزَّ حينما انتبه إلى أحد أفضل الضوابط للتمييز بين المذاهب، وهو النظر إلى “التأخر” و”التقدم“، أو قل: “مذهب الأوائل ومذهب الأواخر“، من ذلك أنه حينما أراد الميزان لبعض الفنون من الكلام قال: “واعلم لرشدك أن هذه الفنون من الكلام ما كانت تجري في عصر العلماء الأولين، وإنما أقدم عليها المتأخرون“([74])، وقال في بعض ذلك: “لم يشتغل الأوائل المقدمون بما أنشأه ناشئة الزمان“([75])، فميزة الأوائل عندهم عصمة جملتهم، وغيرهم من التأخرين مظنة الابتداع والإحداث، مما يؤول بصاحبه أحيانا إلى مفارقة الدين لعدم العصمة، ومن ذلك قوله: “وأبدع بعض المتأخرين ما فارق به ربقة الدين“([76])، ولم يكن هؤلاء الأولون المتقدمون سوى “السلف الصالح” رضي الله عنه، وكانوا عنده “السلف المتعمق في التقوى“([77]وبعاداتهم([78]) وشيمهم([79]) احتج الجويني، واعترض على مخالفتهم([80]).

كان الصحابة هم الأوائل وغيرهم تابع، وهم السلف السابق، ومن بعدهم الخلف اللاحق، فهم أهل الحق والموافقة، وبإجماعهم يحتج، ثم “تجرأ المتأخرون“([81]) من بعدهم، خاصة في قواعد العقائد، “فإنها منوطة بدقائق النظر، ولا يتوصل إلى إدراكها إلا الأكياس من طبقات الناس“([82])، وكان المقدم في ذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فهم كانوا أهل العقل والكياسة، بل كانوا عند الجويني أحق بها وأهلها.

كان الجويني يرى أن عصر الصحابة والسلف الصالح([83]) عصر الإجماع على الحق، قبل بزوغ قرون الباطل وأهله، فكان يحتج على المخالف بـ”إجماع السلف الصالحين قبل ظهور الأهواء واضطراب الآراء“([84])، ولذلك كان شديدا على أهل البدع والأهواء([85]) الزائغين([86])، لا يتردّد في رميهم بالخروج عن الدين والانسلال عن ربقة المسلمين([87])، وعن ضبط شريعة([88]) رب العالمين، ومذهب المسلمين([89])، أو أنه راغم إجماع المسلمين وفارق الدين([90]).

  • التأويل:

يعدّ بعض الباحثين الجوينيَّ المؤسس الحقيقي للمذهب الأشعري، ويقصدون بذلك أنه أصل للفكر الأشعري في الأزمنة المتأخرة، وقد تميزت طريقته بالأثر الاعتزالي في باب التأويل، فقد نهج مسلك المعتزلة في تأويل الصفات الخبرية كما يسمونها، والغريب أنه جرى على اختياراتهم في ذلك كأنه منهم، والتزم متأخرو الأشاعرة طريقته في الجملة، والأصل عنده في هذا أن الآيات والأخبار الواردة في ذلك معارضة ليقينيات العقل في التنزيه، لكن كرَّ الجويني على هذه الطريقة بالنسف والإبطال، وشنع على أصحابها، وأبدى رجوعه إلى ما كان عليه السلف من ترك التأويل، فلئن كان في “الإرشاد” على طريقة المعتزلة في ذلك، فإنه ألمح في “البرهان” إلى أن في خوض التأويل مخاطرة ومخالفة لما كان عليه الأوائل، وقال: “لم يشتغل الأوائل المتقدمون بما أنشأه ناشئة الزمان”([91])، ثم أفصح عن تحريم التأويل في “النظامية” وشنع على المؤولة، بل رأى أن بعض التأويل تعطيل([92]) في الحقيقة، وهذا مصطلح صار مستعمَلا عند كثير من علماء الأمة في مثل قولهم: “نثبت الصفات من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تمثيل ولا تكييف“، ويبدو أنه كان من الأوائل في توظيفه في هذا الباب، وقد حرر الجويني مباحث في ضوابط التأويل، وكشف عن طرق التأويل الباطلة في باب خاص في البرهان([93])، وتابعه عليه ابن العربي في “المحصول”([94])، وأكثر طريقة في التأويل ردَّها الجويني أثارت انتباهي التأويل بالاحتمال، وهو المناسب لما جرى عليه المتكلمة من تأويل صفات الله تعالى بالاحتمال، دون تعيين جهة التأويل، ولا قرينة صارفة معينة، فمع تجويز الجوني للتأويل لأن السلف كانوا يؤولون في كثير من مسائل الشرع بالدليل، فإنه نبّه على بطلان هذا النوع من التأويل، فقال: “ليس الاحتمال مقتضيًا قبول التأويل، ولكنا رأينا الأولين على الجملة يتمسكون بالتأويلات، وكما رأيناهم متفقين على التأويل مع التعويل على دليل يعضده، رأيناهم غير مكتفين بهذه الإمكانات، وهذا بمثابة دعوى النسخ من غير ثبت، فإن من ادعى نسخا فقد ادعى ممكنا، ولكن لا يقبل منه بالإجماع إلا بثبت يعول عليه“([95])، فكذلك تأويل الصفات الإلهية، بل لا بد أن يكون الثبت مفيدا للعلم في ذلك، وليس هذا الذي نجده عند المتكلمة المؤولين المتأخرين.

  • حيرني الهمذاني:

من عجيب ما وقع للجويني رحمه الله قصته مع الشيخ الهمذاني، وخلاصتها أن هذا الشيخ دخل عليه يستشكل رفع الناس أيديَهم إلى السماء عند الدعاء، وأن الجويني لم يجد لذلك مدفعا ولا موجبا للتوقف ولا مخرج تأويل، فقال: “حيرني الهمذاني“. وقد رويت هذه القصة بإسناد صحيح([96])، ولم يستسغها جمهور متأخري الأشاعرة، بل كذبها بعضهم مثل ابن السبكي([97])، مستبعدا أن يكون ذلك من الجويني، لكن القصة دالة على صدق الجويني وعدم تكلفه، وفطرية نظره، فإن كان قال: “حيرني الهمذاني” فقد حيّره حقّا، ورفع الأيدي عند الدعاء من الأدلة الفطرية على علو الله تعالى، استعملها طائفة من أهل العلم، فيهم من كبار المتكلمين مثل عبد الله بن سعيد ابن كلاب([98]) وأبي الحسن الأشعري([99])، وهذا رد على ابن السبكي الذي استهان بهذا الدليل([100]).

هذه هي الحالة السلفية عند الإمام الجويني، والتي كانت سببا في مراجعاته ورجوعه، ولو كان طال به العمر لرأينا منه أكثر من ذلك والله أعلم، ومثل الجويني عدد من المتكلمين والمتصوفة، يحسن جدا تخريج الحالة السلفية من حياتهم وتراثهم كما فعلتُ مع الجويني في هذه الورقة، والله الموفق للحق، والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

[1] سير أعلام النبلاء (18/ 468).

[2] البرهان (1/ 219).

[3] آراء الكلابية العقدية وأثرها في الأشعرية، لهدى الشلالي (ص: 61).

[4] آراء الكلابية العقدية وأثرها في الأشعرية (ص: 73).

[5] البرهان (1/ 91).

[6] الإرشاد (ص: 115).

[7] مقدمة تحقيق “الشامل في أصول الدين” للجويني (ص: 7).

[8] موقف ابن تيمية من الأشاعرة (2/ 602).

[9] الإرشاد (ص: 78).

[10] الإرشاد (ص: 407).

[11] الإرشاد (ص: 315).

[12] شفاء الغليل في بيان ما وقع في التوراة والإنجيل من التبديل -مكتبة الكليات الأزهرية بمصر- (ص: 30).

[13] البرهان (1/ 226).

[14] البرهان (2/ 65، 66).

[15] شذرات الذهب (5/ 340).

[16] البرهان (1/ 265).

[17] فقه إمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله الجويني: خصائصه، أثره، منزلته -دار الوفاء- (ص: 75).

[18] الجويني إمام الحرمين -سلسلة أعلام العرب، الدار القومية للطباعة والنشر- (ص: 18).

[19] البرهان (2/ 154).

[20] الإمام الجويني إمام الحرمين (ص: 96).

[21] المنتظم -دار الكتب العلمية- (16/ 24).

[22] الجويني إمام الحرمين (ص: 19).

[23] النظامية (ص: 39).

[24] ينظر: المنتظم لابن الجوزي (16/ 245).

[25] مقدمة عبد العظيم الديب لكتاب “غياث الأمم” (ص: 11).

[26] النظامية (ص: 32-33).

[27] النظامية (ص: 43).

[28] النظامية (ص: 44).

[29] النظامية (ص: 32).

[30] النظامية (ص: 33-34).

[31] كذا في المطبوع، ولعل الصواب: عنه.

[32] طبقات الشافعية الكبرى -دار إحياء الكتب العربية- (5/ 185).

[33] البرهان (1/ 239).

[34] البرهان (1/ 240).

[35] ينظر ورقة علمية بعنوان: (الأصول العقلية على حجية فهم الصحابة) للدكتور إبراهيم محمد صديق، من منشورات مركز سلف للبحوث والدراسات، تحت رقم: 295، وهي على الرابط: https://salafcenter.org/7499/

[36] البرهان (1/ 242).

[37] البرهان (1/ 240).

[38] البرهان (1/ 240).

[39] الإرشاد -مكتبة الخانجي- (ص: 43).

[40] الإرشاد (ص: 433).

[41] البرهان (2/ 206).

[42] البرهان (1/ 271، 2/ 190).

[43] البرهان (1/ 132، 133، 186).

[44] البرهان (1/ 229-234).

[45] البرهان (2/ 190).

[46] البرهان (1/ 194).

[47] البرهان (1/ 187).

[48] البرهان (1/ 29-33، 189، 202، 205، 2/ 13، 45).

[49] البرهان (2/ 205).

[50] البرهان (1/ 11).

[51] البرهان (2/ 15).

[52] البرهان (1/ 189).

[53] النظامية -المكتبة الأزهرية للتراث- (ص: 32، 33).

[54] البرهان (2/ 13، 170).

[55] نهاية المطلب (19/ 184).

[56] نهاية المطلب (4/ 270).

[57] البرهان (1/ 98).

[58] البرهان (2/ 13).

[59] الإرشاد (ص: 418).

[60] البرهان (1/ 277).

[61] البرهان (1/ 277).

[62] البرهان (1/ 202).

[63] نهاية المطلب (1/ 155).

[64] غياث الأمم -دار الدعوة- (ص: 33).

[65] النظامية (ص: 90).

[66] النظامية (ص: 13).

[67] نهاية المطلب (1/ 155).

[68] نهاية المطلب (11/ 565).

[69] نهاية المطلب (1/ 48).

[70] نهاية المطلب (15/ 253).

[71] النظامية (ص: 60).

[72] نهاية المطلب (2/ 587).

[73] البرهان (1/ 44).

[74] البرهان (1/ 200).

[75] البرهان (18/ 202).

[76] الإرشاد (ص: 188).

[77] البرهان (1/ 98).

[78] البرهان (1/ 102، 213).

[79] البرهان (1/ 213).

[80] البرهان (1/ 213).

[81] الإرشاد (ص: 187).

[82] البرهان (2/ 10).

[83] البرهان (1/ 102).

[84] الإرشاد (ص: 242، 196)، والبرهان (2/ 138).

[85] الإرشاد (ص: 72).

[86] الإرشاد (ص: 100).

[87] الإرشاد (ص: 43).

[88] البرهان (2/ 178).

[89] الإرشاد (ص: 232).

[90] الإرشاد (ص: 197).

[91] البرهان (1/ 202).

[92] البرهان (1/ 201).

[93] البرهان (1/ 193 وما بعدها).

[94] نكت المحصول -دار البيارق- (ص: 86).

[95] البرهان (1/ 203).

[96] حكاها محمد بن طاهر المقدسي عن أبي جعفر الهمذاني كما في بيان تلبيس الجهمية لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 518)، ورواها أبو منصور بن الوليد الحافظ كما في العلو للذهبي -دار الوطن- (2/ 1347) رقم: (538).

[97] طبقات الشافعية الكبرى (5/ 190، 191).

[98] بيان تلبيس الجهمية لابن تيمية -مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف- (1/ 92)، نقل ذلك عن كتاب الصفات لابن فورك، عن كتاب التوحيد لابن كلاب رحم الله الجميع.

[99] الإبانة عن أصول الديانة -دار ابن حزم- (ص: 50).

[100] ينظر ورقة علمية بعنوان: (حيرني الهمذاني وفطرية الاستدلال على علو الله) للدكتور السعيد العيسوي، من منشورات مركز سلف للبحوث والدراسات، تحت رقم: 289، وهي على الرابط: https://salafcenter.org/7461/

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جديد سلف

الحالة السلفية في فكر الإمام أبي المعالي الجويني إمام الحرمين -أصول ومعالم-

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: من الأمور المحقَّقة عند الباحثين صحةُ حصول مراجعات فكرية حقيقية عند كبار المتكلمين المنسوبين إلى الأشعرية وغيرها، وقد وثِّقت تلك المراجعات في كتب التراجم والتاريخ، ونُقِلت عنهم في ذلك عبارات صريحة، بل قامت شواهد الواقع على ذلك عند ملاحظة ما ألَّفوه من مصنفات ومقارنتها، وتحقيق المتأخر منها والمتقدم، […]

أحوال السلف في شهر رجب

 مقدمة: إن الله تعالى خَلَقَ الخلق، واصطفى من خلقه ما يشاء، ففضّله على غيره، قال تعالى: ﴿وَرَبُّكَ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُ ‌وَيَخۡتَارُ﴾ [القصص: 68]. والمقصود بالاختيار: الاصطفاء بعد الخلق، فالخلق عامّ، والاصطفاء خاصّ[1]. ومن هذا تفضيله تعالى بعض الأزمان على بعض، كالأشهر الحرم، ورمضان، ويوم الجمعة، والعشر الأواخر من رمضان، وعشر ذي الحجة، وغير ذلك مما […]

هل يُمكِن الاستغناءُ عن النُّبوات ببدائلَ أُخرى كالعقل والضمير؟

مقدمة: هذه شبهة من الشبهات المثارة على النبوّات، وهي مَبنيَّة على سوء فَهمٍ لطبيعة النُّبوة، ولوظيفتها الأساسية، وكشف هذه الشُّبهة يحتاج إلى تَجْلية أوجه الاحتياج إلى النُّبوة والوحي. وحاصل هذه الشبهة: أنَّ البَشَر ليسوا في حاجة إلى النُّبوة في إصلاح حالهم وعَلاقتهم مع الله، ويُمكِن تحقيقُ أعلى مراتب الصلاح والاستقامة من غير أنْ يَنزِل إليهم […]

الصوفية وعجز الإفصاح ..الغموض والكتمان نموذجا

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  توطئة: تتجلى ظاهرة الغموض والكتمان في الفكر الصوفي من خلال مفهوم الظاهر والباطن، ويرى الصوفية أن علم الباطن هو أرقى مراتب المعرفة، إذ يستند إلى تأويلات عميقة -فيما يزعمون- للنصوص الدينية، مما يتيح لهم تفسير القرآن والحديث بطرق تتناغم مع معتقداتهم الفاسدة، حيث يدّعون أن الأئمة والأولياء هم الوحيدون […]

القيادة والتنمية عند أتباع السلف الصالح الأمير عبد الله بن طاهر أمير خراسان وما وراء النهر أنموذجا (182-230ه/ 798-845م)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  المقدمة: كنتُ أقرأ قصةَ الإمام إسحاق بن راهويه -رحمه الله- عندما عرض كتاب (التاريخ الكبير) للإمام البخاري -رحمه الله- على الأمير عبد الله بن طاهر، وقال له: (ألا أريك سحرًا؟!)، وكنت أتساءل: لماذا يعرض كتابًا متخصِّصًا في علم الرجال على الأمير؟ وهل عند الأمير من الوقت للاطّلاع على الكتب، […]

دعوى غلو النجديين وخروجهم عن سنن العلماء

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: تكثر الدعاوى حول الدعوة النجدية، وتكثر الأوهام حول طريقتهم سواء من المخالفين أو حتى من بعض الموافقين الذين دخلت عليهم بعض شُبه الخصوم، وزاد الطين بلة انتسابُ كثير من الجهال والغلاة إلى طريقة الدعوة النجدية، ووظفوا بعض عباراتهم -والتي لا يحفظون غيرها- فشطوا في التكفير بغير حق، وأساؤوا […]

التحقيق في موقف ابن الزَّمْلَكَاني من ابن تيّمِيَّة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: يُعتَبَر ابن الزَّمْلَكَاني الذي ولد سنة 667هـ مُتقاربًا في السنِّ مع شيخ الإسلام الذي ولد سنة 661هـ، ويكبره شيخ الإسلام بنحو ست سنوات فقط، وكلاهما نشأ في مدينة دمشق في العصر المملوكي، فمعرفة كلٍّ منهما بالآخر قديمة جِدًّا من فترة شبابهما، وكلاهما من كبار علماء مذهبِه وعلماء المسلمين. […]

الشَّبَهُ بين شرك أهل الأوثان وشرك أهل القبور

مقدمة: نزل القرآنُ بلسان عربيٍّ مبين، وكان لبيان الشرك من هذا البيان حظٌّ عظيم، فقد بيَّن القرآن الشرك، وقطع حجّةَ أهله، وأنذر فاعلَه، وبين عقوبته وخطرَه عليه. وقد جرت سنة العلماء على اعتبار عموم الألفاظ، واتباع الاشتقاق للأوصاف في الأفعال، فمن فعل الشرك فقد استوجب هذا الاسمَ، لا يرفعه عنه شرعًا إلا فقدانُ شرط أو […]

هل مُجرد الإقرار بالربوبية يُنجِي صاحبه من النار؟

مقدمة: كثيرٌ ممن يحبّون العاجلة ويذرون الآخرة يكتفون بالإقرار بالربوبية إقرارًا نظريًّا؛ تفاديًا منهم لسؤال البدهيات العقلية، وتجنُّبا للصّدام مع الضروريات الفطرية، لكنهم لا يستنتجون من ذلك استحقاق الخالق للعبودية، وإذا رجعوا إلى الشرع لم يقبَلوا منه التفصيلَ؛ حتى لا ينتقض غزلهم مِن بعدِ قوة، وقد كان هذا حالَ كثير من الأمم قبل الإسلام، وحين […]

هل كان شيخ الإسلام أبو عثمان الصابوني أشعريًّا؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: مِن مسالك أهل الباطل في الترويج لباطلهم نِسبةُ أهل الفضل والعلم ومن لهم لسان صدق في الآخرين إلى مذاهبهم وطرقهم. وقديمًا ادَّعى اليهود والنصارى والمشركون انتساب خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام إلى دينهم وملَّتهم، فقال تعالى ردًّا عليهم في ذلك: ﴿‌مَا ‌كَانَ ‌إِبۡرَٰهِيمُ يَهُودِيّا وَلَا نَصۡرَانِيّا وَلَٰكِن كَانَ […]

هل علاقة الوهابية بالصوفية المُتسنِّنة علاقة تصادم؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: تعتبر الصوفيةُ أحدَ المظاهر الفكرية في تاريخ التراث والفكر الإسلامي، وقد بدأت بالزهد والعبادة وغير ذلك من المعاني الطيِّبة التي يشتمل عليها الإسلام، ثم أصبحت فيما بعد عِلمًا مُستقلًّا يصنّف فيه المصنفات وتكتب فيه الكتب، وارتبطت بجهود عدد من العلماء الذين أسهموا في نشر مبادئها السلوكية وتعدَّدت مذاهبهم […]

مناقشة دعوى بِدعية تقسيم التوحيد

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة    مقدّمة: إن معرفة التوحيد الذي جاء به الأنبياء من أهم المهمّات التي يجب على المسلم معرفتها، ولقد جاءت آيات الكتاب العزيز بتوحيد الله سبحانه في ربوبيته وأنه الخالق الرازق المدبر، قال تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]، كما أمر الله تبارك وتعالى عباده […]

اتفاق علماء المسلمين على عدم شرط الربوبية في مفهوم العبادة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدّمة: كنّا قد ردَدنا في (مركز سلف) على أطروحة أحد المخالفين الذي راح يتحدّى فيها السلفيين في تحديد ضابط مستقيم للعبادة، وقد رد ردًّا مختصرًا وزعم أنا نوافقه على رأيه في اشتراط اعتقاد الربوبية؛ لما ذكرناه من تلازم الظاهر والباطن، وتلازم الألوهية والربوبية، وقد زعم أيضًا أن بعض العلماء […]

هل اختار السلفيون آراءً تخالف الإجماع؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: كثير من المزاعم المعاصرة حول السلفية لا تنبني على علمٍ منهجيٍّ صحيح، وإنما تُبنى على اجتزاءٍ للحقيقة دونما عرضٍ للحقيقة بصورة كاملة، ومن تلك المزاعم: الزعمُ بأنَّ السلفية المعاصرة لهم اختيارات فقهية تخالف الإجماع وتوافق الظاهرية أو آراء ابن تيمية، ثم افترض المخالف أنهم خالفوا الإجماع لأجل ذلك. […]

الألوهية والمقاصد ..إفراد العبادة لله مقصد مقاصد العقيدة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: مما يكاد يغيب عن أذهان بعض المسلمين اليوم أن العبودية التي هي أهمّ مقاصد الدين ليست مجرد شعائر وقتيّة يؤدّيها الإنسان؛ فكثير من المسلمين لسان حالهم يقول: أنا أعبدُ الله سبحانه وتعالى وقتَ العبادة ووقتَ الشعائر التعبُّدية كالصلاة والصيام وغيرها، أعبد الله بها في حينها كما أمر الله […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017