الخميس - 24 ربيع الآخر 1447 هـ - 16 أكتوبر 2025 م

قواعد علمية للتعامل مع قضية الإمام أبي حنيفة رحمه الله

A A

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

مقدمة:

من القضايا التي عملت على إثراء التراث الفقهي الإسلامي: قضية الخلاف بين مدرسة أهل الرأي وأهل الحديث، وهذا وإن كان يُرى من جانبه الإيجابي، إلا أنه تمخَّض عن جوانب سلبية أيضًا، فاحتدام الصراع بين الفريقين مع ما كان يرجّحه أبو حنيفة من مذهب الإرجاء نتج عنه روايات كثيرة تتضمّن قدح أهل الحديث في أبي حنيفة النعمان، وأصبحت تلك الروايات منثورة في بعض كتب التراث؛ ككتاب السنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل، والضعفاء للعقيلي، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي، مما شكَّل إشكالية حادّة في التكوين العلمي المعاصر-لا سيما عند الناشئة- ولا يُغنيهم ثناء المتأخرين على أبي حنيفة، حتى ثناء شيخ الإسلام ابن تيمية نفسه؛ لأن القضية تحوي مفاضلة بين المتقدمين في مواجهة كلام المتأخرين. ولا شك أن طالب العلم -لا سيما وإن كان شابًّا صغيرًا ليس لديه أدوات علمية- إذا ما خُيّر بين متقدم ومتأخر، سيختار المتقدم؛ بدعوى اتباع السلف الصالح.

أما إذا كان طالب العلم يمتك الأدوات العلمية، ويعرف تاريخ نشأة المذاهب الفقهية، وفهم المباني والأصول التي نشأت عنها مقالة القدح في أبي حنيفة، وقرأها في سياقها التاريخي الصحيح؛ عرف سبب تنكّب المتأخرين أقوال النقاد الأوائل في أبي حنيفة وعلى رأسهم: ابن عبد البر، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن رجب، والذهبي، وابن حجر، وغيرهم كثير.

ومن هنا تأتي أهمية هذه الدراسة التي يسعى مركز سلف للبحوث والدراسات من خلالها إلى إلقاء الضوء على جذور المسألة.

مركز سلف للبحوث والدراسات

 

 

وقد ضلَّت في أبي حنيفة ثلاث طوائف:

1- طائفة جمدت على ظواهر أقوال النقاد من غير فقهٍ ولا أهلية ولا معرفةٍ لِكُنه الخلاف، وتخيّلت مجتمع أهلِ الحديث مجتمعًا مجرّدًا من الانفعالات النفسية والأمزجة البشرية، وجعلوا نصوصهم من جنس نصوص الوحي الذي يُحتجّ به. وهؤلاء هم المستهدفون من هذه الورقة العلمية.

2- وطائفة ثانية: انساقت مع العواطف وكذّبت الروايات، أو استبعدت صدور كثيرٍ مما قيل في أبي حنيفة عن نقاد أهل الحديث، أو تعسّفت في تأويله، وجعلت أبا حنيفة من أعظم حفاظ الحديث، وعاشت في طوباوية وهمية.

3- وطائفة ثالثة: تورطت في القراءات المذهبية البغيضة، فنسبوا أهل الحديث إلى الحسد، وشكّوا بنزاهة النقاد، وقدحوا في عدالتهم، وأهدروا مواضع الصواب في أقوالهم، كمتعصِّبي الحنفية أمثال الكوثري ومن لفّ لفيفه.

وبسبب الخلط في هذه المسألة كتبت قواعد عامة ينضبط بها هذا الباب، وتنحلّ بها عرى إشكالاته إن شاء الله:

القاعدة الأولى: الذم قد يُراد به المبالغة والزجر لا مطلق الذم:

طريقة أهل الحديث غالبًا هي المبالغة في الزجر من أجل الحفاظ على بيضة الإسلام والشريعة، ولا يريدون من ذلك الذم المطلق بحيث يُجرِّدون المنتقد من أي فضيلة.

يقول العلامة المعلمي مُبيِّنا طريقة أهل الحديث في المبالغة: “كان مِن أهل العلم والفَضل مَن إذا رأى جَماعةً اتَّبَعوا بَعض الأفاضل في أمر يَرى أنَّه لَيس لهم اتِّباعه فيه -إمّا لأنّ حالَهم غير حاله، وإمَّا لأنه يَراه أخطأ- أَطلَق كلماتٍ يَظهر مِنها الغَضُّ مِن ذاك الفاضل، لكَي يَكُفَّ الناسُ عن الغُلوِّ فيه الحاملِ لَهم على اتِّبَاعه فيما لَيس لَهم أَن يَتَّبِعوه فيه… -إلى أن قال:- ومنه ما يقع في كلام الشافعي في بعض المسائل التي يخالف فيها مالكا من إطلاق كلمات فيها غضّ من مالك، مع ما عرف عن الشافعي من تبجيل أستاذه مالك، وقد روى حرملة عن الشافعي أنه قال: «مالك حجة الله على خلقه بعد التابعين».. ومنه ما نراه في كلام مسلم في مقدمة صحيحه مما يظهر منه الغض الشديد من مخالفه في مسألة اشتراط العلم باللقاء، والمخالف هو البخاري، وقد عرف عن مسلم تبجيله للبخاري. وأنت إذا تدبرت تلك الكلمات وجدت لها مخارج مقبولة، وإن كان ظاهرها التشنيع الشديد”([1]).

ومن القرائن التي تدل على أن ذم أهل الحديث يُراد به أحيانًا الزجر والشدة لا التجريح الكامل، ما يلي:

أولًا: أقوال بعض النقاد:

من ذلك: قول يحيى بن سعيد القطان: “لا نكذب الله، ربما رأينا الشيء من رأي أبي حنيفة فاستحسنَّاه فقلنا به”([2]).

وهو أثرٌ صحيح، ويدل على أنهم قد يأخذون برأي أبي حنيفة فيما استحسنوه من رأيه وقياسه، أو فيما استُغلق عليهم من مسائل الفقه، وبعيدٌ جدًّا أن تُقال هذه الكلمة فيمن هو مثل بشر المريسي وابن الثلجي وأضرابهما، فأهل الحديث يعتبرونهم ممن لا يؤخذ منهم شيء من العلم.

وقال محمد بن سعد العَوْفي سمعت ابنَ معين يقول: “كان أبو حنيفة ثقةً، لا يُحدِّث بالحديث إلا بما يحفظه، ولا يُحدِّث بما لا يحفظ”([3]).

وقال صالح بن محمد الأسدي عن ابن معين: “كان أبو حنيفة ثقةً في الحديث”([4]).

وقال ابن عبد البر: قال عبد الله بن أحمد الدَّورقي: سئل يحيى بن مَعين -وأنا أسمع- عن أبي حنيفة، فقال ابنُ مَعين: “هو ثقةٌ، ما سمعتُ أحدًا ضعَّفه. هذا شعبةُ بن الحجاج يكتب إليه أن يُحدِّث، ويأمُرُه. وشعبةُ شعبة”([5]).

وقال الإمام علي ابن المديني: “أبو حنيفة روى عنه الثوري وابن المبارك، وهو ثقة لا بأس به”([6]). وابن المديني معروف عنه أنه لا يحابي أحدًا. كيف وهو الذي قال عن أبيه: ضعيف؟!

ثانيًا: طريقة الدارمي فيما ينقله المعارض عن أبي حنيفة:

فالمعارض الجهمي أكثر من النقل عن أبي حنيفة وبشر المريسي وابن الثلجي، فكتب عثمان بن سعيد الدارمي كتابه المشهور (رد عثمان بن سعيد على بشر المريسي العنيد)، ولم يتعرض لأبي حنيفة بالتجريح والثلب بقدر ما تعرض للمريسي وابن الثلجي، بل كان يُشكِّك كثيرًا فيما ينقله المعارض عن أبي حنيفة، ويُنزِّهه عن هذه الترهات، مما يدل أن أبا حنيفة عند الدارمي ليس بمنزلة المريسي وابن الثلجي.

ومن ذلك: قول الدارمي في الرد على المريسي: “ويحك! إن الناس لم يرضوا من أبي حنيفة إذ أفتى بخلاف روايات رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم في البيعين بالخيار ما لم يتفرقا، وفي الوضوء من لحوم الإبل، وإشعار البدن، وفي إسهام الفارس والراجل، وفي لبس المحرم الخفين إذا لم يجد النعلين، وما أشبهها من الأحاديث حتى نسبوا أبا حنيفة فيها إلى رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وناقضوه فيها، ووضعوا عليه فيها الكتب. فكيف بمن ناصب الله في صفاته التي ينطق بنصها كتابه، فينقضها على الله صفة بعد صفة، وشيئا بعد شيء، بعمايات من الحجج وخرافات من الكلام خلاف ما عنى الله، ولم يأت بشيء منها الروايات، ولم يوجد شيء منها عن العلماء الثقات، بل كلها ضحك وخرافات؟! فإن كان أبو حنيفة استحق بما أفتى من خلاف تلك الروايات أن ينسب إلى رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ استحققتم أنتم أن تنسبوا إلى رد ما أنزل الله عز وجل، بل أنتم أولى بالرد من أبي حنيفة؛ لأن أبا حنيفة قد وافقه على بعض فتياه بعض الفقهاء، ولم يتابعكم على مذاهبكم إلا السفهاء وأهل البدع والأهواء، ومن لا يعرف له إلها في السماء، فشتان ما بينكم وبين أبي حنيفة فيما أفتى؛ لأنه ليس من كفر كمن أخطأ، ولا هما في الإثم والعار سواء([7]).

ومن أمثلة تشكيك الدارمي فيما ينقله الجهمي عن أبي حنيفة: قوله: “وأعجب من ذلك ما رويت عن أبي حنيفة -إن صدقت عنه روايتك- أنه ذهب في الرؤية إلى أن يروا لآياته وأفعاله وأموره، فيجوز أن يقال: رآه، وهذا أيضا من حجج الصبيان، لما أن آياته وأموره وأفعاله مرئية منظور إليها في الدنيا كل يوم وساعة، فما معنى توقيتها وتحديدها وتفسيرها يوم القيامة؟! من أنكر هذا فقد جهل، إن كان كما ادعيت، ورويتُ عن أبي حنيفة ما خص النبي صلى الله عليه وسلم بها يوم القيامة دون الأيام”([8]).

فشكّك الدارمي في النقل عن أبي حنيفة بقوله: (إن صدقت عنه روايتك)، وقوله: (إن كان كما ادعيت)، ثم روى عن أبي حنيفة ما يخالف ما رواه المعارض.

وقال الدارمي أيضًا: “العجب من جاهل فسر له رسول الله صلى الله عليه وسلم تفسير الرؤية مشروحا مخلصا ثم يقول: إن كان كما فسر أبو حنيفة فقد آمنا بالله، ولو قلت أيها المعارض: آمنا بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وفسره كان أولى بك من أن تقول: آمنا بما فسر أبو حنيفة ولا تدري قال ذلك أبو حنيفة أو لم يقله([9]).

وفي الجملة، فالكتاب على كثرة احتجاج المعارض بأبي حنيفة، إلا أن الدارمي كان يُشكِّك دائمًا في المنقول عنه، ويتجنب التجريح الصريح، بل كان يتجنب ذكره بسوءٍ، على العكس من المريسي الذي لا يترك له الدارمي شاردة ولا واردة إلا وحط عليه.

ثالثًا: رجوع أهل الحديث إلى فقه أبي حنيفة:

كان أهل الحديث يحكمون بالأثر، ومعلوم أن الحديث والأثر وحده لا يفي بمسائل الفقه، فكانت قضايا الفقه العالي والأقضية التي تتطلب القياس وإعمال قواعد أصول الفقه في أيدي أبي حنيفة وأصحابه، ويُرجع إليها في قضاء الدولة، فإذا استغلقت مسائل على أهل الحديث اضطروا إلى الرجوع إلى كتب أبي حنيفة وأصحابه وأفتوا بها؛ ولذلك قال أحمد بن حنبل: “كانت أقضيتنا -أصحابَ الحديث- في أيدي أصحاب أبي حنيفة ما تُنزع، حتى رأينا الشافعي”([10]).

وتقدّم قول يحيى بن سعيد القطان: “لا نكذب الله، ربما رأينا الشيء من رأي أبي حنيفة فاستحسنَّاه فقلنا به”([11]).

وظل يحيى بن معين يحمل هذا الجميل لأبي حنيفة بنسبة معينة، ولذلك لم ينجرف مع من انجرف من أهل الحديث في التجريح المطلق له، بل كان يرى أن له حسنات وعليه مؤاخذات، ولهذا كان يقول يحيى بن معين: “أصحابنا -أي: أهل الحديث- يُفْرِطون في أبي حنيفة وأصحابه”([12]).

قال ابن الجنيد في سؤالاته: قلت ليحيى بن معين: ترى أن ينظر الرجل في شيء من الرأي؟ فقال: أي رأي؟ قلت: رأي الشافعي وأبي حنيفة؟ فقال: ما أرى لمسلم أن ينظر في رأي الشافعي، ينظر في رأي أبي حنيفة أحب إلي من أن ينظر في رأي الشافعي([13]).

وقد فهم بعض المعاصرين من ذلك أن يحيى بن معين كان حنفيًّا، ولذلك فضَّل فقه أبي حنيفة على فقه الشافعي، وهذا فيه نظر، فلم يكن ابن معين مقلِّدًا لأحد من الأئمة، فضلًا عن أن ابن معين كان يذمّ أصحاب الرأي عمومًا.

وإنما كان يرى ابن معين أن الشافعي أدخل الرأي على أصحاب الحديث، وهو ما يراه أمرًا مذمومًا، ومن جهةٍ أخرى ما صنعه الشافعي في أصول الفقه والقياس، فإنما هو مستفادٌ أصالةً من أبي حنيفة وأصحابه، وقام الشافعي بتهذيبه بما يوافق منهج أهل الحديث.

ولذلك فضَّل ابن معين كتب أبي حنيفة على كتب الشافعي؛ لأنه هو الأصل الذي بنى عليه الشافعي، لا لكون ابن معين حنفيًّا، فرأى أن المُحدِّث إن كان ولا بد أن يرجع إلى شيءٍ من الرأي عند الضرورة فليصنع صنيع المحدثين الأوائل كيحيى بن سعيد القطان وغيره من الرجوع إلى أبي حنيفة عند الضرورة؛ لأنه صنعة أبي حنيفة لا صنعة المحدثين، ثم ليجتهد كما اجتهد الشافعي، ولا يرجع إلى الشافعي نفسه الذي قد استفاد من أبي حنيفة.

وهو اجتهاد من يحيى بن معين بسبب حجاب المُعاصرة، ولا يقلل من قيمة الإمام الشافعي في شيء.

القاعدة الثانية: مراعاة الخلاف بين المدارس الفقهية:

إن استحضار طبيعة الخلاف القائم بين أهل الرأي وأهل الحديث من العوامل الرئيسة التي توفر لطالب العلم كثيرًا في فهم المسألة وتخطيها بشكلٍ مُرض، وقد كان هناك خلاف بين مدارس أهل الحديث في تلك الأعصار كما بين مدرسة أهل الشام ومدرسة مكة، وكان بينهم كلام شديد، مثل قول ابن شهاب الزهري: “ما رأيت قوما أنقض لعرى الإسلام من أهل مكة”([14])، وقال حماد: “لقيت عطاء وطاوسا ومجاهدًا فصبيانكم أعلم منهم، لا بل صبيان صبيانكم”([15]).

وكذلك الخلاف بين أهل الرأي في العراق وبين أهل الحديث في الحجاز والشام، وذلك أن أهل الرأي يذهبون إلى أن أحكام الشرع مُعللة ومعقولة المعنى، تشتمل على مصالح ترجع إلى العباد، كما أنها بنيت على أصول محكمة وعلل ضابطة لتلك الحكم، فكانوا يبحثون عن تلك العلل والحكم، ثم يربطون الحكم بها وجودًا وعدمًا في حالة عدم وجود النص الصحيح لديهم؛ لذلك اشتغلوا بوضع المبادئ الأصولية والتفريع عليها، وهي طريقة تخالف طريقة أهل الحديث الذين يقفون على النصوص والآثار، ويتمسكون بظواهرها، دون بحث عن علة الحكم، وطريقة أهل الرأي في التفريع على المسائل وإعمال أصول الفقه هي طريقة استقر عليها أمر المدونة الفقهية من المذاهب الأربعة -فيما بعد- حتى من الحنابلة.

فإذا فهمنا طبيعة نشأة هذه المدارس سهل علينا فهم طبيعة الخلاف، فقد كان أبو حنيفة أول من تكلم في الفقه وتقاسيمه وطرق الاستنباط والقياس، وهذه الأمور لم يعهدها أهل الحديث؛ لأن كثرة الكلام من غير الاستدلال بالحديث عندهم لا شيء؛ فالعلم عندهم هو الآثار. لكن تطلب ذلك من أبي حنفية لكثرة المسائل التي يُحتاج إلى معرفة أحكامها في القضاء الشرعي؛ فدولة الفُرس قد خلَّفت في العراق أنواعًا من المعاملات والعادات والنظُم المالية والاجتماعية مما لا يُعهد مثله في الحجاز.

فظهر الفقه من حيث التقاسيم والضوابط العلمية، وأما أهل الحديث فما كانوا يحسنون ذلك، بل كان إذا سألهم سائل أفتوه بالآثار، وأحيانا كثيرة توقفوا عن الجواب لعدم معرفتهم بطرق استخراج الأحكام.

قال الربيع بن سليمان: “إن أصحاب الرأي كانوا يهزؤون بأصحاب الحديث حتى علَّمهم الشافعي وأقام الحجة عليهم”([16]). ويعني بذلك أن الإمام الشافعي علّمهم طرق الاستنباط.

وقال الإمام أحمد: “كانت أقضيتنا -أصحابَ الحديث- في أيدي أصحاب أبي حنيفة ما تُنزع، حتى رأينا الشافعي”([17]).

والشافعي إنما تعلم هذه الأصول والقواعد من الأحناف مثل محمد بن الحسن الشيباني، واستخلص منها ما لا يتعارض مع السنة، ثم علَّمها أصحاب الحديث.

القاعدة الثالثة: دراسة سبب الجرح:

من الأمور التي ينبغي أن ينتبه إليها طالب العلم أن قِسمًا كبيرًا من المنتقد على أبي حنيفة يحتاج إلى نظر، ودراسة سبب الجرح، لا سيما إذا جاء مُفسرًا، فأحيانًا يذكر أحد المتقدمين سببًا للقدح في أبي حنيفة، ولا يكون مصيبًا في قدحه، مثل قول يزيد بن زريع: «كان أبو حنيفة نبطيًّا»، وهذا ليس بجرح؛ لأن نسب الرجل لا يضره في شيء. وكجرحهم على بعض مسائل الفقه بسبب الخلاف بين المدرستين -كما سيأتي-، ففي هذه الحالة فإن التسليم للقدح دون النظر في السبب الذي دعا القادح إلى هذا القدح يُعتبر تقصيرًا من الباحث.

والمنتقَد على أبي حنيفة أقسام: فمنه نقد كان الحق فيه مع أبي حنيفة لا مع أصحاب الحديث، ونقد كان خطأً عليه، أو نُقِل عنه خطأ، أو روِي عنه مُحرَّفًا، أو فُهم عنه خطَأ، ونقد بما تراجع عنه أبو حنيفة، ونقد صحيح بسبب ما صح عنه من الإرجاء.

وكل قسم من هذه الأقسام يحتاج إلى سبر وتتبع، لكن المقام لا يحتمل إلا التمثيل:

1- المثال الأول: من الأدلة على ذلك:

جاء في كتاب (السُنة) لعبد الله بن أحمد قال: حدّثنِي مُحمّدُ بنُ علِيٍّ، ثنا إِبراهِيمُ بنُ بشّارٍ، قال: سمِعتُ سُفيان بن عُيينة يقُولُ: “كان أبُو حنِيفة يضرِبُ بِحدِيثِ رسُولِ اللّهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم الأمثال فيرُدّها. بلغهُ أنِّي أُحدِّثُ بِحدِيثٍ عن رسُولِ اللّهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم أنّهُ قال: «البيِّعانِ بِالخِيارِ ما لم يتفرّقا»، فقال أبُو حنِيفة: أرأيتُم إِن كانا فِي سفِينةٍ كيف يتفرّقانِ؟!”. فقال سُفيانُ: “فهل سمِعتُم بِأشرّ مِن هذا؟!”.

ففي هذا الأثر أن سفيان فهم أبا حنيفة خطأ، فليس مراد أبي حنيفة رد الحديث بعقله، وإنما اختار أن التفرق المقصود في الحديث هو تفرق كلمة لا تفرق أبدان، وهو قول إبراهيم النخعي أيضًا، ولذلك قال له: (أرأيتم إن كانا في سفينة فكيف يتفرقا؟!). يُريد من ذلك أن الصفقة تنتهي بمجرد انتهائها بالكلمة لا مغادرة الطرفين بالضرورة.

فهو يُفرّع على المسألة ويجمع بين الأدلة كشأن كتب الفقه المعاصرة، وهو ما لم يكن يقبله أهل الحديث الأوائل الذين يذمّون التفريع على المسائل وذكر القيودات والتحرّزات، ولا يستخدمون “أصول الفقه” كعلم مستقلّ، وهم معذورون في ذلك، بل ممدوحون لحرصهم على الحديث أيضا، رحم الله الجميع.

ومن الجدير بالذكر أن موقف أبي حنيفة أفضل من موقف الإمام مالك في هذه المسألة؛ لأن مالكًا ردَّ حديث «البيعان بالخيار»، على العكس من أبي حنيفة فإنه يقبل هذا الحديث. قال أحمد بن حنبل: بلغ ابن أبي ذئب أن مالكا لم يأخذ بحديث «البيعان بالخيار» فقال: يُستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه. ثم قال أحمد: هو أورع وأقوَل بالحق من مالك([18]). فإذا كان هذا زجرهم للإمام مالك فكيف بأبي حنيفة؟!

والقصد مما سبق أن جملة من المنتقَد على أبي حنيفة لم يكن جرحًا عند التحقيق، بل هي أمور تتعلق بفقه الحديث، وليس ردًّا للحديث بعقله -كما فهموا-، وهو مسبوق ببعض الفقهاء الذين قالوا بقوله، ويُصدِّق ذلك قول الدارمي ردًّا على الجهمي: “لأن أبا حنيفة قد وافقه على بعض فتياه بعض الفقهاء، ولم يتابعكم على مذاهبكم إلا السفهاء وأهل البدع وأهل الأهواء”([19]).

فالخلاف كان يتخلله ما يُعرف اليوم بـ”سوء التفاهم”، فجاءت عباراتهم شديدة من أجل حجاب المعاصرة؛ فينبغي لطالب العلم المعاصر أن يتأمل سبب الجرح في كل قضية، لا أن يُقلد الذم دون تدبر.

2- المثال الثاني:

من الأمور التي ينقلونها في ذم أبي حنيفة -وعند التأمل تجد أنه لا ذم فيها بل هي مدح- ما أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه عن سُفْيَان بْن عيينة قال: “ما رأيتُ أحدا أجرأ على الله من أبي حنيفة. ولقد أتاه يومًا رجل من أهل خراسان فقال: يا أبا حنيفة، قد أتيتك بمائة ألف مسألة، أريد أن أسألك عنها، قال: هاتها. فهل سمعتم أحدا أجرأ من هذا؟!”([20]). وروي مثلها عن ابن أبي ليلى([21]).

ويُجاب عن هذا بأن القدرة على حل المسائل والجواب عنها من مثل أبي حنيفة هو دلالة على العلم وسعته، يقول ابن القيم: “الجرأة على الفُتيا تكون من قلة العلم ومن غَزَارته وسَعَته، فإذا قلَّ علمه أفتى عن كل ما يسأل عنه بغير علم، وإذا اتسع علمه اتَّسَعت فُتْياه ولهذا كان ابن عباس من أوسع الصحابة فُتيا”([22]). ثم ذكر أن سعيد بن المسيب كان واسع الفتيا، وكانوا يدعونه بسعيد بن المسيب الجريء([23]).

ويقول العلامة المُعلمي مصوِّبًا أبا حنيفة: “فأما ابن عيينة فكان من الفريق الذين يكرهون أن يُفتُوا (وقد بين الأستاذ ذلك في التأنيب -يعني: الكوثري-) فكأنه كره قول أبي حنيفة: هاتها؛ لما يشعر به من الاستعداد لما يكرهه ابن عيينة، وكان أبو حنيفة من الفريق الذين يرون أن على العالم إذا سئل عما يتبين له وجه الفتوى فيه أن يفتي؛ للأمر بالتبليغ والنهي عن كتمان العلم، ولئلا يبقى الناس حيارى لا يدرون ما حكم الشرع في قضاياهم، فيضطرهم ذلك إلى ما فيه فساد العلم والدين، ولا ريب أن الصواب مع الفريق الثاني وإن حمدنا الفريق الأول حيث يكفّ أحدهم عن الفتوى مبالغة في التورع واتكالًا على غيره حيث يوجد، فأما الجرأة فمعناها الإقدام، والمقصود هنا -كما يوضحه السياق وغيره- الإقدام على الفتوى، فمعنى الجرأة على الله هنا هو الإقدام على الإفتاء في دين الله، وهذا إذا كان عن معرفة موثوق بها فهو محمود، وإن كرهه المبالغون في التورع كابن عيينة، وقد جاء عن ابن عمر أنه قال: لقد كنت أقول: ما يعجبني جرأة ابن عباس على تفسير القرآن، فالآن قد علمت أنه أوتي علمًا. وعنه أيضًا أنه قال: أكثر أبو هريرة! فقيل له: هل تنكر شيئًا مما يقول؟ قال: لا، ولكنه اجترأ وجبُنّا، فبلغ ذلك أبا هريرة فقال: فما ذنبي إن كنت حفظت ونسوا؟!”([24]).

والقصد من ذلك تأمل الآثار التي وردت في القدح في أبي حنيفة كما فعل المعلمي مع الأثر السابق، لا تقليد الآثار دون تدبر.

3- المثال الثالث: قضية السيف والخروج على ولاة الجور:

قال الأوزاعي: “احتملنا عن أبي حنيفة كذا وعقد بأصبعه، واحتملنا عنه كذا وعقد بأصبعه الثانية، واحتملنا عنه كذا وعقد بأصبعه الثالثة؛ العيوب حتى جاء السيف على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فلما جاء السيف على أمة محمد صلى الله عليه وسلم لم نقدر أن نحتمل”([25]).

والأوزاعي رحمه الله تكلم بما يعلمه من مذهبه القديم، إذ كان أبو حنيفة في أول أمره -وفي شبابه- يرى جواز الخروج على الحاكم الجائر، وقد ناصر ثورة زيد بن علي رحمه الله، لكن تراجع عن ذلك كما في كتابه “الفقه الأكبر”، وقال أبو حنيفة رحمه الله: (إنهم يفسدون أكثر مما يصلحون)([26])، وذكر هذا عنه شيخ الإسلام ابن تيمية([27]).

وذكر ذلك الطحاوي في عقيدته المشهورة بالعقيدة الطحاوية، وذكر أن هذه عقيدة أبي حنيفة وصاحبيه، ثم بيَّن فيها حرمة الخروج على الحاكم الظالم، إذ يقول: “ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يدًا من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة”([28]).

وكبار أصحاب أبي حنيفة وكذلك فقهاء المذهب الحنفي على حرمة الخروج على ولاة الجور، وهذا يدل على أن أبا حنيفة رحمه الله قد تراجع عن ذلك، ومعلوم أن عقيدة أبي حنيفة تؤخذ من كتبه وكتب أصحابه، لا من قصص التاريخ.

ومما سبق يتبيَّن أن جرح أهل الحديث بسبب الخروج لا وجه له عند التأمل؛ إذ لا يجوز جرح العالم لرأيٍ قديمٍ له.

وهذا يجرُّنا إلى سؤالٍ مهم هو:

هل يخطئ أهل الحديث في الحكم على شخص أو يختارون ما هو خلاف الأولى؟

والجواب: نعم قد يُخطئ جمهور أهل الحديث في جزئيات المسائل، فهم بشر، ويظل كلامهم اجتهاديًّا، إذ كان جمهور أهل الحديث يقول بأن القرآن ليس بحادث ولا محدث من غير تفصيل([29])، أو لم يُظهروا التفصيل، مع أن الصواب -لغةً وشرعًا- هو التفصيل الذي هو مذهب البخاري وداود([30])، واحتمله ابن قتيبة([31])، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله([32]).

وبيان ذلك: أن الحدث في اللغة هو التجدّد لا الخلق بالضرورة، والنصوص الشرعية جاءت بذلك، قال تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِن ذِكْرٍ مِن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ} [الأنبياء: 2] فسمى القرآن مُحدثا، فكيف يُقال: إن من قال لفظة قرآنية -أي: بظاهر القرآن- كافر دون التحقق من قصده؟!

قال البخاري: “قوله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِن ذِكْرٍ مِن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ} [الأنبياء: 2]، وقوله: {لِعَلَّ اللهَ يُحدِثُ بَعدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] وأن حدثه لا يشبه حدث المخلوقين لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وقال ابن مسعود: (إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أُحدث ألا تكلموا في الصلاة)”([33]).

وإنما قال أهل الحديث بتجهيم من قال: القرآن محدث؛ لأن الجهمية اصطلحوا على أن الحدث هو الخلق، فأراد أهل الحديث حسم المادة، ولا شكّ أن مجاراة المعتزلة في اصطلاحهم بهذا الإجمال لم يكن موفَّقًا، وفتَح بابًا للاحتمال لمن جاء بعدهم، وكان سببًا في أن تنازعتهم الفرق والمذاهب فيما بعد، والصواب كان مع البخاري وغيره.

ومسألة اللفظ بالقرآن وتبديع البخاري أظهر من ذلك في بيان أن أهل الحديث قد يخطئون، والصواب الكامل كان مع البخاري رحمه الله، لا مع جمهور المحدثين، مع أن البخاري فردٌ واحد، وكان أمام جماهير غفيرة من مشاهير أهل الحديث الذين هم في رتبة مشايخه. وقد ذكر ابن أبي حاتم الرازي الإمامَ البخاريَّ في كتابه (الضعفاء والمتروكين) ونقل كلام أهل الحديث فيه.

والقصد من ذلك: أن جمهور أهل الحديث قد يقول قولًا هو خلاف الأولى، أو يُخطئ في فرعيات المسائل، والعصمة لمن عصم الله تعالى.

القاعدة الرابعة: مراعاة الظروف المحيطة:

ينبغي مراعاة أن بيئة العراق كان قد انتشر فيها الكذب من أهل البدع مثل الشيعة والخوارج والمعتزلة، وكلٌّ يروي الأحاديث بهواه ويكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لذلك فإن أبا حنيفة كان يشترط لصحة الأخبار شروطًا زائدة على شروط الصحة عند المحدثين، فعدم أخذه بتلك الأخبار كان لعدم اكتمال شروط الصحة لديه، لا لكونه يرد الحديث النبوي قصدًا.

وهنا ملحظ مهم، وهو مراعاة أن أبا حنيفة كان في الزمن الأول الذي لم تُجمع فيه السنة النبوية، ولم يستقر فيها علم الرجال والجرح والتعديل، فمعلوم أن أول من تكلم في الرجال جرحًا وتعديلًا هو شعبة بن الحجاج، ثم استوى هذا العلم بشكل معروف في زمن يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وعبد الرحمن بن مهدي، ولم يكن العلماء الأوائل من التابعين وتابعيهم يلتزمون بنفس تلك العلوم المُقننة، ولم يكن قد عنوا بالجمع بين الروايات والمتون، وكذا تتبع الرجال وأحوالهم([34]).

فمراعاة تفاوت الأزمنة من الأهمية بمكان، فإذا لم يأخذ أبو حنيفة ببعض الأحاديث، فلقد أنكر ابن مسعود المعوّذتين وحكهما من المصحف([35]) -وقيل: أنه رجع-([36])، لكن كان عذره أنه كان في زمن لم يستقر فيه جمع القرآن بعد، وكذلك -وسواء بسواء- عدم أخذ أبي حنيفة ببعض الأحاديث الصحيحة، فذلك بسبب أن علم الحديث لم يكن قد استقر بعدُ في زمنه، بل كان يرجع إلى كل عالمٍ واجتهاده.

ولذا فإن بعض هذه الأحاديث التي يرويها الأوزاعي ومالك من أهل الحديث لم تصح عند أبي حنيفة من طرقه هو، أو لم يكن يتحقق من رجالها بنفسه، فكان يُقدم المقطوع به عنده والذي عليه العمل عند الفقهاء على ما يسمعه من حديث لم يتحقق منه، أو قد يكون منسوخًا.

وطريقة الإمام مالك قريبة منه، فقد كان يُقدِّم المقطوع به من عمل أهل المدينة على حديث الآحاد أحيانًا لاحتمالية أن يكون منسوخًا([37]).

فإذا بلغ الأوزاعي أن أبا حنيفة يقدم رأيه، تكلم فيه بكلام شديد. وهذا يفسر تحامل الكثير من أهل الحديث عليه، وقد تقدّم نقل قول يحيى بن معين: “أصحابنا -أي: أهل الحديث- يُفْرِطون في أبي حنيفة وأصحابه”([38]). ويتضح من قوله: (يفرطون) أنه غير راض عن الإفراط في ذلك.

فلا ينبغي الظن بأن أبا حنيفة يرد الحديث إذا صح عنده، أو أنه يتعمد رد الحديث، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “قال أبو يوسف رحمه الله وهو أجل أصحاب أبي حنيفة، وأول من لقب: قاضي القضاة، لما اجتمع بمالك وسأله عن هذه المسائل، وأجابه مالك بنقل أهل المدينة المتواتر؛ رجع أبو يوسف إلى قوله، وقال: لو رأى صاحبي مثل ما رأيت لرجع مثل ما رجعت. فقد نقل أبو يوسف أن مثل هذا النقل حجة عند صاحبه أبي حنيفة كما هو حجة عند غيره، لكن أبو حنيفة لم يبلغه هذا النقل، كما لم يبلغه ولم يبلغ غيره من الأئمة كثير من الحديث؛ فلا لوم عليهم في ترك ما لم يبلغهم علمه. وكان رجوع أبي يوسف إلى هذا النقل كرجوعه إلى أحاديث كثيرة اتبعها هو وصاحبه محمد، وتركا قول شيخهما؛ لعلمهما بأن شيخهما كان يقول: إن هذه الأحاديث أيضا حجة إن صحت، لكن لم تبلغه. ومن ظن بأبي حنيفة أو غيره من أئمة المسلمين أنهم يتعمدون مخالفة الحديث الصحيح لقياس أو غيره فقد أخطأ عليهم، وتكلم إما بظن وإما بهوى”([39]).

وقال ابن القيم: “أصحاب أبي حنيفة مجمعون على أن مذهب أبي حنيفة أن ضعيف الحديث عنده أولى من القياس والرأي، وعلى ذلك بنى مذهبه، كما قدَّم حديث القهقهة مع ضعفه على القياس والرأي، وقدم حديث الوضوء بنبيذ التمر في السفر مع ضعفه على الرأي والقياس، ومنع قطع السارق بأقل من عشرة دراهم، والحديث فيه ضعيف، وجعل أكثر الحيض عشرة أيام والحديث فيه ضعيف، وشرط في إقامة الجمعة المصر والحديث فيه كذلك، وترك القياس المحض في مسائل الآبار لآثار فيها غير مرفوعة، فتقديم الحديث الضعيف وآثار الصحابة على القياس والرأي قوله وقول أحمد بن حنبل، وليس المراد بالضعيف في اصطلاح السلف هو الضعيف في اصطلاح المتأخرين، بل ما يسميه المتأخرون حسنًا قد يسميه المتقدمون ضعيفًا”([40]).

ثم كيف يظن هذا بأبي حنيفة وهو أول من قال: (إذا صح الحديث فهو مذهبي)، و(لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه)([41])؟!

القاعدة الخامسة: مراعاة شدة السلف على من خالف ولو مخالفة يسيرة:

من الأمور المهمة التي ينبغي أن يتنبه إليها طالب العلم أن السلف قد يشتدّون على أيسر مخالفة أو في خلافٍ سائغ؛ لأجل أن الكلمة مجتمعة على قولٍ معين مشهور معروف فيما بينهم، فإذا ظهر عالم وقال خلاف ما يعرفون فقد يشتدون عليه؛ حتى لا يجر قوله إلى ما هو أشد منه من قِبل العامة، مع أنه قد يكون استقر الأمر-فيما بعد- أنه قول معتبر لا إنكار فيه.

وفي ذلك يقول العلامة المُعلمي: “كان مِن أهل العلم والفَضل مَن إذا رأى جَماعةً اتَّبَعوا بَعض الأفاضل في أمر يَرى أنَّه لَيس لهم اتِّباعه فيه -إمّا لأنّ حالَهم غير حاله، وإمَّا لأنه يَراه أخطأ- أَطلَق كلماتٍ يَظهر مِنها الغَضُّ مِن ذاك الفاضل، لكَي يَكُفَّ الناسُ عن الغُلوِّ فيه الحاملِ لَهم على اتِّبَاعه فيما لَيس لَهم أَن يَتَّبِعوه فيه”([42]).

ويقول أيضًا: “ومما يخرج مَخرج الذم لا مَخرج الحكم: ما يُقصَد به الموعظة والنصيحة، وذلك كأن يبلغ العالِمَ عن صاحبه ما يكرهه له، فيذمه في وجهه أو بحضرة مَن يُبَلِّغُه، رجاء أن يكفَّ عما كرهه له، وربما يأتي بعبارة ليست بكذب، ولكنها خشِنة موحشة، يقصد الإبلاغ في النصيحة، ككلمات سفيان الثوري في الحسن بن صالح، وربما يكون الأمر الذي أنكره أمرًا لا بأس به، بل قد يكون خيرًا، ولكن يخشى أن يجرَّ إلى ما يكره، كالدخول على السلطان، وولاية أموال اليتامى، وولاية القضاء، والإكثار مِن الفتوى. وقد يكون أمرًا مذمومًا وصاحبه معذور، ولكنَّ الناصح يحب لصاحبه أن يعاود النظر أو يحتال أو يُخفِي ذاك الأمر. وقد يكون المقصود نصيحة الناس لئلا يقعوا في ذلك الأمر؛ إذ قد يكون لمن وقع مِنه أولًا عذر، ولَكن يُخشى أن يتبعه الناس فيه غَير معذورين”([43]).

من ذلك قول الزهري: “ما رأيت قوما أنقض لعرى الإسلام من أهل مكة، ولا رأيت قوما أشبه بالنصارى من السبائية”([44]).

يقول ابن عبد البر مُعلقًا: “وهذا ابن شهاب قد أطلق على أهل مكة في زمانه أنهم ينقضون عرى الإسلام، ما استثنى منهم أحدًا، وفيهم من جلة العماء من لا خفاء بجلالته في الدين، وأظن ذلك -والله أعلم- لما روي عنهم في الصرف ومتعة النساء”([45]).

القاعدة السادسة: مراعاة وجود ما هو كذبٌ على أبي حنيفة:

إن أهل البدع كالمعتزلة انتسبوا إلى أبي حنيفة، ونقلوا عنه أكاذيب في خلق القرآن، ونقلوها لأهل الحديث أيام المحنة، مثل أن أبا حنيفة استتيب من الكفر مرتين، واستتيب بسبب خلق القرآن ونحو ذلك، فهذه وأمثالها من الخطأ عليه، ولم تكن المسألة مطروحة عند الأمراء في زمن أبي حنيفة أساسًا حتى يستتيبوه منها.

روى النخعي عن أبي بكر المروزي أن أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: “لم يصح عندنا أن أبا حنيفة كان يقول: القرآن مخلوق”([46]).

كما كُذب عليه في الغلو في الإرجاء، فروى ابن عدي أن حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ قالَ: قُلتُ لأبي حنيفة: إن جابرا روى عنك أنك تقول: “إيماني كإيمان جبريل وميكائيل”! قَال: “مَا قلت هذا، ومَنْ قَالَ هذا فهو مبتدع”. قَالَ: فذكرت ذلك لمحمد بْن الحسن صاحب الرأي قول حَمَّاد بْن زيد، فَقَالَ: “صدق حَمَّاد، إن أَبَا حنيفة كَانَ يكره أن يَقُول ذلك”([47]).

وعن أَبِي يُوسُف قَالَ: “ناظرت أَبَا حنيفة ستة أشهر، حَتَّى قَالَ: من قَالَ: القُرْآن مخلوق، فَهُوَ كافر”([48]).

وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “وقد نقلوا عنه -أي عن أبي حنيفة- أشياء يقصدون بها الشناعة عليه، وهي كذب عليه قطعًا”([49]).

وقال أيضًا: “إن الأئمة المشهورين كلهم يثبتون الصفات لله تعالى، ويقولون: إن القرآن كلام الله ليس بمخلوق، ويقولون: إن الله يُرى في الآخرة. هذا مذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان من أهل البيت وغيرهم، وهذا مذهب الأئمة المتبوعين مثل مالك بن أنس والثوري والليث بن سعد والأوزاعي وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق…”([50]).

فإن قيل: فلماذا يروي أئمة الحديث -ككتاب السنة لعبد الله بن أحمد وغيره- هذه الأكاذيب عن أبي حنيفة في كتبهم؟ والجواب: أن شرط هذه الكتب جمع كل ما قيل في الباب، من جنس ما رووه في أبواب الصفات، فإنهم غير قائلين بكل شاردة وواردة فيما ذكروه في الصفات بالضرورة، ففيه الضعيف والمنكر، والآثار التي قيلت اجتهادًا، ولكنهم يروون أشهر ما روي في الباب اعتمادًا على الإسناد، ومن أسند فقد أحال.

القاعدة السابعة: منزلة ما صح من النقد (بدعة الإرجاء):

ينبغي مراعاة أن ما صح من النقد على أبي حنيفة هي في بدع هو مسبوق بها، كبدعة الإرجاء، فقد وقع جماعة من السلف في الإرجاء مثله -وإن أخطؤوا في ذلك- كعطاء بن رباح وابن جريج وحماد بن أبي سليمان، وهم من العدول عند أهل الحديث، وقد عذروهم في ذلك؛ لاشتباه المسألة عليهم، وشبهتهم في ذلك أن الإيمان لغةً هو: التصديق، وأما شرعًا فقد ذكره المعصوم في حديث جبريل المشهور، ولم يذكر فيه الأعمال، وهم مخطئون لا شك؛ لأن بقية النصوص تضمنت إدخال الأعمال في مسمى الإيمان.

وهؤلاء يسمَّون بمرجئة الفقهاء؛ للتمييز بينهم وبين غلاة المرجئة من الجهمية، ولذلك ذهب غير واحد من أهل العلم أن الخلاف بينهم وبين أهل الحديث هو خلاف قريب.

وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “ومما ينبغي أن يعرف أن أكثر التنازع بين أهل السنَّة في هذه المسألة هو نزاع لفظي، وإلا فالقائلون بأن الإيمان قول من فقهاء -كحماد بن أبي سليمان وهو أول من قال ذلك، ومن اتبعه من أهل الكوفة وغيرهم- متفقون مع جميع علماء السنَّة أن أصحاب الذنوب داخلون تحت الذم والوعيد وإن قالوا: إن إيمانهم كإيمان جبريل، فهم يقولون: إن الإيمان بدون العمل المفروض ومع فعل المحرمات يكون صاحبه مستحقًّا للذم والعقاب كما تقوله الجماعة. ويقولون أيضًا: إن من أهل الكبائر من يدخل النار كما تقوله الجماعة”([51]).

وقال ابن أبي العز في شرح الطحاوية: “والاختلاف الذي بين أبي حنيفة والأئمة الباقين من أهل السنة اختلاف صوري؛ فإن كون أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب أو جزءا من الإيمان مع الاتفاق على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان بل هو في مشيئة الله -إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه- نزاع لفظي، لا يترتب عليه فساد اعتقاد… -إلى أن قال:- فَالْإِمَامُ أَبُو حنيفة رضي الله عنه نَظَرَ إلى حَقِيقَة الْإِيمَانِ لُغَة مَعَ أَدِلَّة مِنْ كَلَامِ الشَّارِعِ، وَبَقِيَّة الْأَئِمَّة رَحِمَهُمُ الله نَظَرُوا إلى حَقِيقَتِه في عُرْفِ الشَّارِعِ، فَإِنَّ الشَّارِعَ ضَمَّ إلى التَّصْدِيقِ أَوْصَافًا وَشَرَائِطَ، كَمَا في الصلاة وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ”([52]).

القاعدة الثامنة: احترام ما استقر عليه عمل المسلمين:

إن لزوم “ما استقر عليه العمل” هي قاعدة جليلة عند أهل السُنة، وهو أنه إذا استقر عمل المسلمين على تلقي علمٍ أو إمامٍ بالقبول فهو دليلٌ على أنه مقبول إن شاء الله، وقد تكلم السلف في قراءة (حمزة الزيات) وهي قراءة سبعية، وجمهورهم كان يأمر أن يُعيد المصلي صلاته إذا صلى خلف إمام يقرأ بحمزة، لكن استقر العمل على أنها قراءة معتبرة مقروء بها.

قال ابن هانئ في مسائله: سألت أبا عبد الله -يعني الإمام أحمد- قلت: نصلي خلف من يقرأ قراءة حمزة؟ قال: إن كان رجلًا يقبل منك فانهه، قال أبو عبد الله: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: لو صليت خلف من يقرأ قراءة حمزة أعدت الصلاة([53]).

قال أحمد بن سنان القطان: كان يزيد بن هارون ينهى عن قراءة حمزة، يكرهها كراهية شديدة([54]). وقال عبد الرحمن بن مهدي: لو كان لي سلطان على من يقرأ قراءة حمزة لأوجعت ظهره([55]). وقال سفيان بن عيينة: لا تصلوا خلف من يقرأ بقراءة حمزة([56]). وقال أبو بكر بن عيَّاش: قراءة حمزة بدعة، يزيد ما فيها من المدِّ المفرط والسكت، وتغيير الهمز في الوقف، والإمالة وغير ذلك([57]). ورُوِيَ عن عبد الله بن إدريس أنَّه لعن من قرأ قراءة حمزة([58]).

ولكن استقر عمل المسلمين على اعتبارها قراءة سبعية متواترة، قال الإمام الذهبي: “انعقد الإجماع بأخرة على تلقي قراءة حمزة بالقبول، والإنكار على من تكلَّم فيها”([59]).

فلا يُقبَل فيمن اتَّخَذه جُمهورٌ مِن جماهير المسلمين إِمامًا في الدين قَولُ أَحد مِن الطاعنين، يقول ابن عبد البر رحمه الله: “والسلفُ قَد سَبَق مِن بَعضهم في بَعض كلام، كثير مِنه في حال الغضب، ومِنه ما حَمَل عليه الحسد، ومِنه ما هو على جِهة التأويل مِمَّا لا يَلزم المَقُولَ فيه ما قاله القائلُ فيه، وقَد حمَل بَعضهم على بَعض بالسيف تأويلا واجتهادا، ولا يَلزم تقليدهم في شيء مِن ذلك دون برهان وحُجَّة تُوجِبُه، وهذا باب قَد غَلط فيه كَثير مِن الناس، وضَلَّت فيه نابِتة جاهلة لا تَدري ما عليها في ذلك([60]).

فينبغي الإذعان لما استقر عليه رأي أهل السنة، فالذم لأبي حنيفة كان رأيا قديما، ثم استقر رأي أهل السنة على إمامته، فالحنابلة نقلوا آراءه واحتجوا بخلافه، كالشريف أبي جعفر الحنبلي وابن قدامة في المغني وغيرهما، وعلى هذا سار المسلمون جميعهم.

بل إن أبا إسماعيل الهروي -مع شدته على أهل البدع- كان يحتجّ بأقواله في ذم المتكلمين والفلاسفة، وإثبات العلو وتكفير الجهمية([61]).

وكان ابن القيم يثني عليه ثناء عاطرا في النونية مثل قوله([62]):

وكذلك النعمان قال وبعده •• يعقوبُ والألفاظ للنعمان

من لم يقر بعرشه سبحانه •• فوق السماء وفوق كل مكان

ويقر أن الله فوق العرش لا •• يخفى عليه هواجس الأذهان

فهو الذي لا شك في تكفيره •• لله درك من إمام زمان

وقد وُفِّق أبو حنيفة إلى مسائل لم يوفَّق إليها بقية المذاهب، مثل تحريم التوسل بذوات الصالحين، وميراث الجد مع الأبناء، وعدم نقض وضوء من لمس امرأة، وكثير من المسائل التي رجحها شيخ الإسلام ابن تيمية وأقام عليها الأدلة، وأبان أن الحقَّ فيها مع أبي حنيفة وأصحابه دون الباقين.

وخلاصة ما سبق: أن الكلام في أبي حنيفة بعد استقرار إجماع الأمة على إمامته هو خروج عن سبيل المؤمنين، وإحداثُ بلبلة وشقٌّ للصفوف، بما لا داعي له، ولا تحته عمل.

ــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) التنكيل (1/ 190-192).

([2]) ينظر: تاريخ ابن معين -رواية الدوري- (3/ 517).

([3]) ينظر: تهذيب التهذيب (1/ 401).

([4]) ينظر: تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (13/ 450).

([5]) الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء (ص: 127).

([6]) ينظر: جامع بيان العلم وفضله (2/ 149).

([7]) نقض عثمان بن سعيد على بشر المريسي العنيد (ص: 48).

([8]) نقض عثمان بن سعيد على بشر المريسي العنيد (ص: 52).

([9]) نقض عثمان بن سعيد على بشر المريسي العنيد (ص: 60).

([10]) ينظر: آداب الشافعي ومناقبه (ص: 42).

([11]) ينظر: تاريخ ابن معين -رواية الدوري- (3/ 517).

([12]) ينظر: جامع بيان العلم وفضله (2/ 149).

([13]) سؤالات ابن الجنيد لأبي زكريا يحيى بن معين (ص: 81).

([14]) ينظر: جامع بيان العلم وفضله (2/ 154).

([15]) ينظر: تاريخ ابن معين -رواية الدوري- (4/ 67).

([16]) ينظر: الانتقاء (ص: 129).

([17]) ينظر: آداب الشافعي ومناقبه (ص: 42).

([18]) مسائل حرب الكرماني (ص:481)، سير أعلام النبلاء (7/ 142-143) عند ترجمة ابن أبي ذئب.

([19]) نقض عثمان بن سعيد على بشر المريسي العنيد (ص: 48).

([20]) ينظر: تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي (15/ 542).

([21]) المرجع السابق.

([22]) إعلام الموقعين (1/ 28).

([23]) المرجع السابق.

([24]) يُنظر: التنكيل لما في تأنيب الكوثري من الأباطيل (1/ 11).

([25]) يُنظر: كتاب السُنة لعبد الله بن أحمد (1/ 185).

([26]) الفقه الأكبر (ص: 62).

([27]) الفتوى الحموية (ص: 37).

([28]) العقيدة الطحاوية (ص: 55).

([29]) مع أن إسحاق ابن راهويه فصَّل وقال: “من قال: القرآن محدث على معنى مخلوق، فهو كافر بالله العظيم”. مسائل حرب الكرماني لإسحاق (417-418). لكنَّ تفصيل إسحاق كان على التكفير، لا يلزم منه أنه لا يراه مبتدعًا، فإن داود بدعه أحمد ولم يُكفره، فتنبه.

([30]) قال البخاري: (وأن حدثه تعالى لا يُشبه حدث المخلوقين). صحيح البخاري -مع الفتح- (13/ 505). ويقول ابن تَيميَّة: «وكانوا لا يعرفون للمحدث معنى إلا المخلوق المنفصل، فعلى هذا الاصطلاح لا يجوز عند أهل السنة أن يقال: القرآن محدث، بل من قال: إنه محدث، فقد قال: إنه مخلوق. ولهذا أنكر الإمام أحمد هذا الإطلاق على داود لما كتب إليه أنه تكلم بذلك، فظن الذين يتكلمون بهذا الاصطلاح أنه أراد هذا فأنكره أئمة السنة، وداود نفسه لم يكن هذا قصده، بل هو وأئمة أصحابه متفقون على أن كلام الله غير مخلوق، وإنما كان مقصوده أنه قائم بنفسه؛ وهو قول غير واحد من أئمة السلف، وهو قول البخاري وغيره. والنزاع في ذلك بين أهل السنة لفظي». مجموع الفتاوى (3/ 262).

([31]) قال ابن قتيبة: «وكذلك المُحدث ليس هو في موضع بمعنى مخلوق، فإن أنكروا ذلك فليقولوا في قول الله: {لَعَلَّ اللهَ يُحدِثُ بَعدَ ذَلِكَ أَمرًا} [الطلاق: 1]: إنه يخلق». الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية (ص: 26).

([32]) قال ابن تيمية: “الله يتكلم بمشيئته وقدرته، وكلامه هو حديث، وهو أحسن الحديث، وليس بمخلوق باتفاقهم، ويُسمى حديثًا وحادثًا، وهل يسمى محدثًا؟ على قولين لهم”. ثم ذكر أنه يتوقف على مراد القائل من المُحدث. «مجموع الفتاوى» (3/ 261).

([33]) صحيح البخاري -مع الفتح- (13/ 505).

([34]) لا شكَّ أن الصحابة والتابعين قد تكلموا في الرجال، لكن بشكلٍ فردي، وليس بشكلٍ مُقنن كعلمٍ مستقل كما استقر بعدهم، وكذا الجمع بين الألفاظ كعناية أهل الحديث ممن جاء بعدهم،
 قال بن الصّلاح رحمه الله في مقدّمته: “روِّينا عنْ صالحِ بنِ محمدٍ الحافظِ جَزَرَةَ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ تكَلَّمَ فِي الرِّجَال: شُعبةُ بنُ الحَجَّاجِ، ثُمَّ تَبِعَهُ يَحْيَى بنُ سعيدٍ القَطَّانُ، ثُمَّ بَعْدَهُ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ، ويَحْيَى بنُ مَعِينٍ”. قال السيوطي: “وقد تكلّم في الرجال جمع من الصّحابة والتابعين فمن بعدهم، وأمّا قول صالح جزرة: أوّل من تكلّم في الرّجال شعبة، ثم تبعه يحيى بن سعيد القطان، ثمّ أحمد، وابن معين؛ فيعني أنّه أوّل من تصدّى لذلك”.

([35]) انظر: فتح الباري (8/ 742).

([36]) قال الزرقاني في مناهل العرفان في علوم القرآن (1/ 153): “يحتمل أن إنكار ابن مسعود لقرآنية المعوذتين والفاتحة على فرض صحته كان قبل علمه بذلك، فلما تبين له قرآنيتهما بعد تم التواتر وانعقد الإجماع على قرآنيتهما”.

([37]) من الجدير ذكره والتنبيه عليه: أن هذه مسألة أصولية تختلف عن مسألة رد المتكلمين لحديث الآحاد في العقائد إذا خالف ما يسمونه “القواطع العقلية”، فالمبنى مختلف عند كليهما، والتفصيل له مقام آخر.

([38]) ينظر: جامع بيان العلم وفضله (2/ 149).

([39]) مجموع الفتاوى (20/ 304).

([40]) إعلام الموقعين (1/ 77).

([41]) ينظر: حاشية ابن عابدين على البحر الرائق (6/ 293).

([42]) التنكيل لما في تأنيب الكوثري من الأباطيل (1/ 12).

([43]) التنكيل لما في تأنيب الكوثري من الأباطيل (1/ 55).

([44]) ينظر: جامع بيان العلم وفضله (2/ 154).

([45]) جامع بيان العلم وفضله (2/ 154).

([46]) ينظر: تاريخ بغداد (13/ 378). وإسناده صحيح.

([47]) انظر: الكامل في الضعفاء لابن عدي (8/ 240).

([48]) ينظر: تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (15/ 517).

([49]) منهاج السنة (2/ 619).

([50]) منهاج السنة النبوية (2/ 54).

([51]) مجموع الفتاوى (7/ 297).

([52]) شرح العقيدة الطحاوية (ص: 362).

([53]) مسائل ابن هانئ (1953-1954).

([54]) مسائل ابن هانئ برقم (1953-1954).

([55]) ميزان الاعتدال (1/ 606).

([56]) جمال القراء (2/ 472).

([57]) ميزان الاعتدال (1/ 606).

([58]) جمال القراء (2/ 472).

([59]) ميزان الاعتدال (1/ 605).

([60]) جامع بيان العلم وفضله (2/ 152).

([61]) احتج أبو إسماعيل الهروي بأبي حنيفة في مواضع كثيرة، منها ما عزاه ابن تيمية إلى كتاب الهروي (الفاروق) عن أبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي، قال: سألت أبا حنيفة عمن يقول: لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض، فقال: قد كفر… مجموع الفتاوى (3/ 34). ومنه ما رواه في ذم الكلام (1/ 122) عن نوح الجامع قال: سألتَ أبا حنيفة عما أحدثه الناس من الكلام في الأعراض والأجسام، فقال: مقالات الفلاسفة، عليك بالأثر وطريقة السلف، وإياك وكل محدثة؛ فإنها بدعة. وروى في ذم الكلام (1/ 122) عن أبي يوسف قال: سمعت أبا حنيفة يقول: من طلب الدين بالكلام تزندق.

([62]) القصيدة النونية لابن القيم (ص: 74).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جديد سلف

قواعد علمية للتعامل مع قضية الإمام أبي حنيفة رحمه الله

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: من القضايا التي عملت على إثراء التراث الفقهي الإسلامي: قضية الخلاف بين مدرسة أهل الرأي وأهل الحديث، وهذا وإن كان يُرى من جانبه الإيجابي، إلا أنه تمخَّض عن جوانب سلبية أيضًا، فاحتدام الصراع بين الفريقين مع ما كان يرجّحه أبو حنيفة من مذهب الإرجاء نتج عنه روايات كثيرة […]

كيف نُؤمِن بعذاب القبر مع عدم إدراكنا له بحواسِّنا؟

مقدمة: إن الإيمان بعذاب القبر من أصول أهل السنة والجماعة، وقد خالفهم في ذلك من خالفهم من الخوارج والقدرية، ومن ينكر الشرائع والمعاد من الفلاسفة والملاحدة. وجاءت في الدلالة على ذلك آيات من كتاب الله، كقوله تعالى: {ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدْخِلُواْ ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ} [غافر: 46]. وقد تواترت الأحاديث […]

موقف الحنابلةِ من الفكر الأشعريِّ من خلال “طبقات الحنابلة” و”ذيله”

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: تحتوي كتبُ التراجم العامّة والخاصّة على مضمَرَاتٍ ودفائنَ من العلم، فهي مظنَّةٌ لمسائلَ من فنون من المعرفة مختلفة، تتجاوز ما يتعلَّق بالمترجم له، خاصَّة ما تعلَّق بطبقات فقهاء مذهب ما، والتي تعدُّ جزءًا من مصادر تاريخ المذهب، يُذكر فيها ظهوره وتطوُّره، وأعلامه ومؤلفاته، وأفكاره ومواقفه، ومن المواقف التي […]

مسألة التحسين والتقبيح العقليين بين أهل السنة والمتكلمين -الجزء الثالث- (أخطاء المخالفين في محل الإجماع)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة الفصل الثالث: أخطاء المخالفين في محل الإجماع: ذكر الرازي ومن تبعه أن إطلاق الحسن والقبح بمعنى الملاءمة والمنافرة وبمعنى الكمال والنقصان محلّ إجماع بينهم وبين المعتزلة، كما تقدّم كلامه. فأما الإطلاق الأول وهو كون الشيء ملائمًا للطبع أو منافرًا: فقد مثَّلُوا لذلك بإنقاذِ الغَرقى واتهامِ الأبرياء، وبحسن الشيء الحلو […]

مسألة التحسين والتقبيح العقليين بين أهل السنة والمتكلمين -الجزء الثاني- (أخطاء المخالفين في محل النزاع)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة الفصل الثاني: أخطاء المخالفين في محل النزاع: ابتكر الفخر الرازيُّ تحريرًا لمحل الخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة في المسألة فقال في (المحصل): “مسألة: الحُسنُ والقبح‌ قد يُراد بهما ملاءمةُ الطبع ومنافرَتُه، وكون‌ُ الشي‌ء صفةَ كمال أو نقصان، وهما بهذين المعنيين عقليان. وقد يُراد بهما كونُ الفعل موجبًا للثوابِ والعقابِ والمدحِ […]

ترجمة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ (1362  – 1447هـ)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة اسمه ونسبه([1]): هو سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب. مولده ونشأته: وُلِد سماحة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ رحمه الله بمدينة مكة المكرمة في الثالث من شهر ذي الحجة عام 1362هـ. وقد […]

مسألة التحسين والتقبيح العقليين بين أهل السنة والمتكلمين -الجزء الأول- (تحرير القول في مسألة)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ مسألةَ التحسين والتقبيح العقليين من المسائل الجليلة التي اختلفت فيها الأنظار، وتنازعت فيها الفرق على ممرّ الأعصار، وكان لكل طائفةٍ من الصواب والزلل بقدر ما كُتب لها. ولهذه المسألة تعلّق كبير بمسائلَ وأصولٍ عقدية، فهي فرع عن مسألة التعليل والحكمة، ومسألة التعليل والحكمة فرع عن إثبات الصفات […]

جُهود الشيخ صالح بن أحمد الْمُصَوَّعي في نشر الدعوة السلفية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الشيخ صالح بن أحمد الْمُصَوَّعي من العلماء البارزين في القرن الرابع عشر الهجري، وقد برزت جهوده في خدمة الإسلام والمسلمين. وقد تأثر رحمه الله بالمنهج السلفي، وبذل جهودًا كبيرة في نشر هذا المنهج وتوعية الناس بأهميته، كما عمل على نبذ البدع وتصحيح المفاهيم الخاطئة التي قد تنشأ في […]

وصفُ القرآنِ بالقدم عند الحنابلة.. قراءة تحليلية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يُعدّ مصطلح (القِدَم) من أكثر الألفاظ التي أثارت جدلًا بين المتكلمين والفلاسفة من جهة، وبين طوائف من أهل الحديث والحنابلة من جهة أخرى، لا سيما عند الحديث عن كلام الله تعالى، وكون القرآن غير مخلوق. وقد أطلق بعض متأخري الحنابلة -في سياق الرد على المعتزلة والجهمية- وصف (القديم) […]

التطبيقات الخاطئة لنصوص الشريعة وأثرها على قضايا الاعتقاد

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: من الأمور المقرَّرة عند أهل العلم أنه ليس كل ما يُعلم يقال، والعامة إنما يُدعون للأمور الواضحة من الكتاب والسنة، بخلاف دقائق المسائل، سواء أكانت من المسائل الخبرية، أم من المسائل العملية، وما يسع الناس جهله ولا يكلفون بعلمه أمر نسبيٌّ يختلف باختلاف الناس، وهو في دائرة العامة […]

الصحابة في كتاب (الروض الأنف) لأبي القاسم السهيلي الأندلسي (581هـ) -وصف وتحليل-

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يحرص مركز سلف للبحوث والدراسات على توفية “السلف” من الصحابة ومنِ اتبعهم بإحسان في القرون الأولى حقَّهم من الدراسات والأبحاث الجادة والعميقة الهادفة، وينال الصحابةَ من ذلك حظٌّ يناسب مقامهم وقدرهم، ومن ذلك هذه الورقة العلمية المتعلقة بالصحابة في (الروض الأنف) لأبي القاسم السهيلي الأندلسي رحمه الله، ولهذه […]

معنى الكرسي ورد الشبهات حوله

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يُعَدُّ كرسيُّ الله تعالى من القضايا العقدية العظيمة التي ورد ذكرُها في القرآن الكريم وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد نال اهتمام العلماء والمفسرين نظرًا لما يترتب عليه من دلالات تتعلّق بجلال الله سبحانه وكمال صفاته. فقد جاء ذكره في قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} […]

لماذا لا يُبيح الإسلامُ تعدُّد الأزواج كما يُبيح تعدُّد الزوجات؟

فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (إنَّ النِّكَاحَ فِي الجاهلية كان على أربع أَنْحَاءٍ: فَنِكَاحٌ مِنْهَا نِكَاحُ النَّاسِ الْيَوْمَ: يَخْطُبُ الرجل إلى الرجل وليته أوابنته، فَيُصْدِقُهَا ثُمَّ يَنْكِحُهَا. وَنِكَاحٌ آخَرُ: كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ إِذَا طَهُرَتْ مِنْ طَمْثِهَا أَرْسِلِي إِلَى فُلَانٍ ‌فَاسْتَبْضِعِي ‌مِنْهُ، وَيَعْتَزِلُهَا زَوْجُهَا وَلَا يَمَسُّهَا أَبَدًا، حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي […]

مركزية السنة النبوية في دعوة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ الدعوةَ الإصلاحية السلفيَّة الحديثة ترتكِز على عدّة أسُس بُنيت عليها، ومن أبرز هذه الأسُس السنةُ النبوية التي كانت هدفًا ووسيلة في آنٍ واحد، حيث إن دعوةَ الإصلاح تهدف إلى الرجوع إلى ما كان عليه السلف من التزام الهدي النبوي من جهة، وإلى تقرير أن السنة النبوية الصحيحة […]

الحكم على عقيدة الأشاعرة بالفساد هل يلزم منه التكفير؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: لا شك أن الحكم على الناس فيما اختلفوا فيه يُعَدّ من الأمور العظيمة التي يتهيَّبها أهل الديانة ويحذرها أهل المروءة؛ لما في ذلك من تتبع الزلات، والخوض أحيانا في أمور لا تعني الإنسانَ، وويل ثم ويل لمن خاض في ذلك وهو لا يقصد صيانة دين، ولا تعليم شرع، […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017