قواعد عامة للتعامل مع تاريخ الوهابية والشبهات عنها
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
مقدمة:
يفتقِر كثيرٌ من المخالفين لمنهجية الحكم على المناهج والأشخاص بسبب انطلاقهم من تصوراتٍ مجتزأة، لا سيما المسائل التاريخية التي يكثر فيها الأقاويل وصعوبة تمييز القول الصحيح من بين ركام الباطل، ولما كانت الشبهات حول تاريخ دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب كثيرة ومُتشعبة رأيت أن أضع قواعد عامة في كيفية تناول هذه المسائل، وأُبيِّن كيف تعامل العلماء وزعماء الإصلاح مع هذه الأحداث التاريخية.
وانطلاقًا من هذا الأصل، يأتي هذا الطرح في مركز سلف مؤسَّسًا على منهجٍ علميٍّ راسخ، يقوم على جمع الروايات، وردِّ المتشابه إلى المحكم، ووزن الأقوال بميزان العدل والإنصاف، بعيدًا عن الانتقاء أو الاستجابة للضغوط الفكرية المعاصرة. كما يحرص المركز على استحضار فهوم أهل العلم الراسخين، وتتبع مناهج المصلحين في قراءة التاريخ والدعوات الإصلاحية، تحقيقًا للحق، ودفعًا للالتباس، وإسهامًا في بناء وعيٍ علميٍّ يحصِّن من الشبهات ويهدي إلى سواء السبيل.
مركز سلف للبحوث والدراسات
القاعدة الأولى: تلك أمةٌ قد خلت:
أول شيء يجب أن نؤصِّل له في القضايا التاريخية التي تكثر فيها الأقاويل هو العمل بقوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 134]، فدع عنك قيل وقال، وخذ العلم النافع الذي تلقته الأمة بالقبول وشرحه أهل العلم المشهود لهم، وليس من شرط العالم أن توافقه في كل شيء، فأهل السنة يشرحون بعض كتب الجويني كـ(الورقات) في أصول الفقه مع أنه مؤسّس المذهب الأشعري بشكله الأخير، ويشرحون كتب ابن قدامة مع كونه شديدًا على الأشاعرة، ويشرحون كتب ابن حزم مع أنه تعصَّب على معاصريه وأحرقوا كتبه، بل قد نستفيد من كتب الزمخشري مع اعتزاليته. فإن كنت ترى خطأ الشيخ في مسألة فلا مشكلة، استفد مما أحسن فيه الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودع ما تراه خطأ.
وفي هذا المقام أيضًا لا بد من توضيح أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ليس بداخل في البناء العقدي عند أهل السنة، بمعنى أنهم لا يستدلون به استقلالًا لإثبات عقيدة، لا هو ولا غيره من المتأخرين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصًا يدعو إلى طريقته، ويوالي ويعادي عليها غير النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينصب لهم كلامًا يوالي عليه ويعادي غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأمة، بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصًا أو كلامًا يفرقون به بين الأمة، يوالون به على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون”([1]).
فالعقيدة أسبق من الأشخاص، ونصيب الأسد من الاستدلال في الكتب العلمية والرسائل الجامعية عند المعاصرين مُستقى من الكتاب والسُنة وكتب الأئمة والسلف ثم كتب ابن تيمية وابن القيم بشكلٍ رئيس، فالأمر يسبق الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وما كان دوره رحمه الله إلا إرشاديًّا بأن نبَّه الناس إلى خطورة الممارسات الشركية، ولم يزد عند أهل العلم تأصيلًا جديدًا بحيث يمكن اعتباره مذهبًا مُنفردًا.
ودونك كتاب الإمام البركوي الحنفي: “الحد بين الزيارة الشرعية والشركية”، وكذلك كتاب المقريزي: “تجريد التوحيد” أطنب فيه في بيان توحيد الألوهية والفرق بينه وبين الربوبية، وأن دعاء الأولياء من الشرك الأكبر، وهما يسبقان ابن عبد الوهاب ببضعة قرون من الزمان.
القاعدة الثانية: أهل السنة لا يبنون اعتقاداتهم على الأحداث التاريخية:
أولًا: من الأمور المهمة التي ينبغي أن ينتبه إليها طالب العلم الرشيد أن أهل السُنة لا يتخذون الأحداث التاريخية منطلقًا لتصوراتهم المنهجية والعقدية، وإنما هذا صنيع أهل البدع والأهواء، كالشيعة الذين يتخذون حادثة مقتل الحسين عقيدةً ويبنون عليها موقفًا عدائيًّا من بعض الصحابة، وكحادثة السقيفة والوقوف عندها وعقد الولاء والبراء عليها وذم الصحابة لأجلها، وكقتال صفين واتخاذ موقف عقديٍّ تجاه أحد الطرفين، وكذلك بعض طوائف الشيعة الذين بنوا عقيدتهم على خروج محمد بن الحسن المُلقب بالنفس الزكية، وذلك في زمان الدولة العباسية.
وكذلك ما روي من زلات لبعض الفاتحين مثل قتيبة بن مسلم الباهلي القائد المغوار الذي فتح معظم آسيا، مع ما له من زلات معلومة، وطارق بن زياد في المغرب، وما أشيع عنه من إحراق السُفن، وخلافه مع قائده موسى بن نصير، فهذا وأمثاله حتى وإن صح فإن أهل السُنة يُهملون هذا كله ويغضون الطرف عنه.
فالأحداث التاريخية يكثر فيها الأقاويل والقيل والقال، والله قد أكمل الإسلام، والرسول صلى الله عليه وسلم قد توفي وقد أتم هذا الدين، فلا يتم بناء اعتقاد جديد بناءً على مُستجداتٍ حادثة. وقد يكون الحدث التاريخي صحيحًا في أصله لكنه مُجتزأ في حقيقته، أو لصاحبه تأويل لا نعلمه، أو يكون لصاحبه من الحسنات ما يجبر به الخطأ الذي وقع منه.
وهذا المنهج وإن كان يتأكد في حق الصحابة، إلا أنه منهج لسائر من جاء بعدهم ممن اشتهر فضلهم وكان لهم صيت ذائع عند أهل السنة، فقد سكت أهل السنة عن سعيد بن جبير وعن التابعين الذين خرجوا مع ابن الأشعث وتسببوا في فتنة عظيمة جدًّا وإزهاق أرواح المسلمين، وذلك لعظم فضلهم، وعذروهم بالتأويل لعظم فضلهم وأثرهم في الديانة.
وكذلك -وسواءً بسواء- ما حصل من أحداث تاريخية متضاربة ومنزوعة من سياقها تخص الحقبة التي عاش فيها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، لا سيما مع ما ثبت لهم من فضل تاريخي في نفي مظاهر الشرك والإصلاح الذي جاء بعده.
ولنضرب لذلك مثالًا: وهو قتال علماء الأزهر في بعض الأزمنة، فقد جاء في أحداث عام ١١٢٠هـ: “لما توفي ثاني شيخ للأزهر وهو الشيخ النشرتي وقعت فتنة بالأزهر بسبب المشيخة، فرقة تريد الشيخ أحمد النفراوي، والأخرى تريد الشيخ عبد الباقي القليني، حضر جماعة النفراوي إلى الجامع ليلًا ومعهم بنادق وأسلحة، وضربوا بالبنادق باب الجامع، وأخرجوا جماعة القليني وكسروا باب الأقبغاوية وأجلسوا النفراوي مكان النشرتي، فاجتمعت جماعة القليني يومها بعد العصر، وكبسوا الجامع وأقفلوا أبوابه وتضاربوا مع جماعة النفراوي، فقتلوا منهم نحو العشرة أنفار وانجرح بينهم جرحى كثيرة، وانتهبت الخزائن وكسرت القناديل، وحضر الوالي فأخرج القتلى ولم يبق بالجامع أحد، ولم يصل فيه ذلك اليوم، وأمر النفراوي بلزوم بيته، واستقر القليني مكانه”([2]).
وهذا الاقتتال والنزاع الذي حصل في تاريخ الأزهر الشريف لا يخوِّل للعاقل أن يُغيِّر معتقداته الدينية بناءً على أخطاء تاريخية، بمعنى أوضح: لا يصح أن يقول الأشعري: سوف أنتقل إلى مذهب المعتزلة لأن شيوخ الأشاعرة حصل منهم قتال في زمن من الأزمنة، فإنه -والحال كذلك- قد جعل معتقداته تتغيَّر بتغيُّر الزمان والمكان.
ولذلك هذا القتال وهذه الأحداث التي صاحبت الدعوة الوهابية لم تؤثر في العقلاء والمُصلحين، رغم علمهم ببعض الأخطاء التي لا يخلو منها إلا المعصوم؛ وذلك لأنهم حاكموا الدعوة بما غلب عليها من خير وصيانة للديانة، عملًا بقاعدة: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث.
فقد رد مُفتي بغداد السيد النعمان الآلوسي على ابن جرجيس في كتابه (شقائق النعمان في رد شقاشق داود بن سليمان)، ورد عليه أيضًا محمود شكري الآلوسي في كتابه (فتح المنان) وغيره من الكتب، ومعلوم أن النعمان الآلوسي كان متصوفًا متأثرًا بابن تيمية وابن القيم، ولم يكن مُقلدًا للوهابية.
ورغم ذلك: قد لاحظ النعمان الخلل العقدي عند مناوئي الدعوة، لذلك وافق الوهابية في الرد على ابن جرجيس الحنبلي الذي كان يؤصِّل للاستغاثة بالأولياء وينسب ذلك كذبًا إلى ابن تيمية.
والحاصل أن العلماء الربانيين وزعماء الإصلاح في القرن الماضي رغم تحفظهم على مسألة القتال، إلا أن هذا لم يمنعهم من أن يوافقوا النجديين من حيث التقرير العقدي، بل ردوا على خصومهم أيضًا صيانةً لجناب التوحيد، وسكتوا عن أخطاء الوهابية بسبب حسناتهم، وعظيم فضلهم، وذيوع الخير على أيديهم.
وهذا الموقف النبيل من المُصلحين يُعطي درسًا تربويًّا لما يجب أن يكون عليه الباحث المنصف تجاه هذه المسائل التاريخية من التحلي بالعلم والعقل والعدل.
ثانيًا: لا بدّ أن نعرف أن الوقائع التاريخية ينبغي أن تستقرأ كاملة غير مجتزأة، وفي كل الحروب التي يُستدل بها لذم دعوة الشيخ كان للوهابيين مبرر قويّ لذلك، مثل ما يذكره الخصوم من إغارة الوهابية على مناطق كانت توافقه على التوحيد، ولم تكن تعبد القبور، مستدلين بذلك على أن حروبهم كانت وحشية مثل صنيع غلاة التكفير في زماننا.
فينبغي لطالب العلم والباحث أن يعلم أنهم لم يكونوا بتلك السطحية التي يصورها الخصوم، وأن يستحضر أن جميع حروبهم كانت لأسباب منطقية ولأسباب قوية.
ولنأخذ من ذلك نموذجًا، ومن خلاله يمكن القياس على غيره:
إغارتهم على أهل القصيم رغم عدم وجود أضرحة لديهم، فإن ذلك كان بسبب أن أهل القصيم كانوا في معاهدة مع الأمير محمد بن سعود، وأرسل لهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب علماء وشيوخًا يعلمون الناس التوحيد والعقيدة، ثم عزم أهل القصيم على نقض العهد، وكاتبوا أمير الإحساء سعدون بن عريعر للقدوم عليهم، وقتلوا الشيوخ العُزل الذين أرسلهم الشيخ لهم في وقعة شنيعة تُسمى (مذبحة المطاوعة).
قال المؤرخ ابنُ لعبون رحمه الله: “وفي سنة 1196هـ أقبل بنو خالد على القصيم، وانقلبوا عن الدين، وقتلوا من عندهم ممن ينتسب إلى الدين([3])“، ثم سمّى ابن لعبون رجالًا من أئمة المساجد والمعلمين([4]).
وقال ابن بشر رحمه الله في أحداث سنة 1196هـ: “وفيها أجمع أهل القصيم على نقض البيعة والحرب، سوى أهل بريدة والرس وتنومة، وقَتَلوا كلَّ من ينتسب إلى الدين عندهم، خصوصًا المعلّمين الذين يعلّمونهم أحكام الشريعة… فحين قَرُبَ -أي: سعدون بن عريعر- من القصيم قام كل أهل بلد فقَتَلوا مَنْ عندهم من العلماء”([5]).
فقِس على هذه الحادثة بقيةَ حروبهم لمن وافقوهم في التوحيد لكنهم نقضوا العهد وساعدوا القبوريين لأسباب سياسية، كأهل الدلم حيث نقضوا العهد وطردوا دعاة التوحيد، وأهل حرمة الذين أخذوا دعاة التوحيد رهائن، وعلى هذا فقِس.
وقد قال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في رسالته لأهل مكة: “ولا نُكفّر إلا من بلغته دعوتنا للحق، وَوَضَحَتْ له المحجّة، وقامت عليه الحجّة، وأصرّ مستكبرًا معاندًا، كغالبِ من نقاتلهم اليوم، يُصرّون على ذلك الإشراك، ويمتنعون من فعل الواجبات، ويتظاهرون بأفعال الكبائر والمحرمات، وغير الغالب إنما نقاتله لمناصرته من هذه حاله، ورضاه به، ولتكثير سواد من ذُكِر، والتأليب معه، فله حينئذ حكمه في قتاله“([6]).
فذكر الشيخ عبد الله -في النقل السابق- صنفين ممن قاتلوهم:
الأول: القبورية الصرفة الذين يصرون على عبادة الأضرحة ممن راسلوهم وأقاموا عليهم الحجة، وهم القسم الأكبر من حروب الوهابية.
والثاني: من ناصروا الصنف الأول، لكن ذبّوا عنهم وأعانوهم، وإن لم يباشروا عبادة الأضرحة.
والموضوع نراه عقليًّا ومنطقيًّا فضلًا عن كونه شرعيًّا، فالذي ينكر تعاطي المخدرات ويعترف بأنها ذنب كبير من الذنوب، ثم نراه يُعين تجار المخدرات ويُسهل لهم الطرق لدخوله إلى البلاد، فهو يأخذ حكمهم أيضًا، وإن لم يباشر تعاطي المخدرات بنفسه، وكذلك وسواءً بسواء من لا يعبد الأضرحة، لكنه يُعينهم بالمال والعتاد والسلاح، بل ويُسوِّغ مذهبهم، فهو يأخذ حكمهم أيضًا، هذا من الجانب الديني، فضلًا عن الجانب السياسي المتعلق بنقض العهود.
فلا ندري كيف يستشكل بعض المعاصرين هذا الأمر ويرونه شبهةً على الوهابية أصلًا؟!
القاعدة الثالثة: الله عز وجل لا يُقيم للخوارج دولة، ولا يجعل نفعهم عامًّا للأمة:
من سُنن الله الكونية ألا يُقيم للخوارج دولة، فلو مكَّن الله لهم لفسدت الأرض، وانقطعت السبل، وانتُهكت الأعراض، وضاع الدين، فسنن الله الكونية تأبى ذلك؛ إذ الخوارج كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «كلما ظهر لهم قرن قُطع»([7])، ويقول وهب بن مُنبه: “إني قد أدركت صدرَ الإسلام، فوالله ما كانت الخوارج جماعة قطّ إلا فرقها الله على شرّ حالاتهم، وما أظهر أحد منهم قوله إلا ضرب الله عنقَه، ولو مكّن الله لهم من رأيهم لفسدت الأرض وقطعت السبل والحج”([8]).
فمِن حكمة الله أنه لا يُمكّن للخوارج، ولا يُقيم لهم دولةً مُستقرّة، ولا يُنشر مذهبهم بين العامة فضلًا من أن يجعل نفعهم عامّا في المسلمين ومُستلهمًا لزعماء الإصلاح، بل إن المعارضين للدعوة قد زالوا وزالت آثارهم، فلا يكاد يعرف أحدُ خصومهم، وبقيت الدعوة وآثارُها ونفعها للمسلمين، فكيف يُظنّ بالله تعالى أن ينصر مذهب الخوارج ويُمكِّن لهم، ويجعل على أيديهم نهضةً علميةً تربويةً وتراثيةً يمدحها العامّ والخاصّ، بل ويعتنقها خُلَّص المؤمنين من الفقهاء والمُفكرين والأدباء والشعراء، وممن لهم قدمٌ صالحة في الأمة، ويجعلها الله مُستلهمًا لكل دعاة الإصلاح شرقًا وغربًا -كما يقول الزركلي وغيره-؟!
يقول الزركلي عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب: «وكانت دعوته الشعلة الأولى للنهضة الحديثة في العالم الإسلامي كله، تأثر بها رجالُ الإصلاح في الهند ومصر والعراق والشام وغيرها»([9]).
فمن ظنّ أن الله يُمكِّن للخوارج ويجعل نفعهم عامًّا وينبثق منهم نهضة إصلاحية يستنير بها العلماء فقد أساء الظنَّ غاية الإساءةِ بالله عز وجل وبسُننه الكونية، وكان ظنّه هذا يُضادّ العقل الصريح والنقل الصحيح.
فإذا علمت ذلك فاعلم أن المنصفين من معارضي الدعوة شهدوا بفضائلها من حيث استقرار أمر المسلمين وتأمين السُبل وتآخي العرب فيما بينهم، وهو ما يُعارض ما قيل عن الخوارج.
ومن ذلك ما يقوله المؤرخ المعاصر للوهابية عثمان بن سند البصري -وكان من معارضي الدعوة-: “ومن محاسن الوهابيين أنهم أماتوا البدع ومحوها، ومن محاسنهم أنهم أمَّنوا البلاد التي ملكوها، وصار كل ما كان تحت حكمهم من هذا البراري والقفار يسلكها الرجل وحده على حمارٍ بلا خفر، خصوصًا بين الحرمين الشريفين، ومنعوا غزو الأعراب بعضهم على بعض، وصار جميع العرب على اختلاف قبائلهم من حضرموت إلى الشام كأنهم إخوان أولاد رجل واحد، وهذا بسبب قسوتهم في تأديب القاتل والسارق والناهب، إلى أن عُدِم هذا الشرّ في زمان ابن سعود، وانتقلت أخلاق العرب من التوحش إلى الإنسانية.
فنجد في بعض الأراضي المخصبة هذا بيت عَنَزِي وبجنبه بيت عُتبي، وبقربهِ بيت حربي، وكلهم يرتعون كأنهم إخوان، وبهاتين الدسيستين خدعوا جميع العوام، يعني بمحو البدعة وتأمين الطرقات والسبل خصوصًا بين الحرمين، وأحبهم سائر الأمم… -إلى أن قال:- ولولا ما في الوهابيين من هذه النزعة -أعني تكفير مَن عداهم- لملكوا جميع بلاد الإسلام، وأدخلوهم تحت حكمهم بطَوْعهم واختيارهم، ولكن بسبب هذه النزعة أبغضَتْهم الأمم، وتسلطت عليهم الدول، وغزاهم أسد الديار المصرية إبراهيم باشا بن محمد علي باشا بأمر السلطان محمود سنة 1228، وملكَ بلادهم، ومحا آثارهم”([10]).
القاعدة الرابعة: الخوارج لم يتلقَّوا العلم من مظانه الصحيحة:
من المعلوم عند أهل العلم أنَّ الخوارجَ قوم حُدثاء الأسنان سُفهاء الأحلام، لم يتلقَّوا العلم من مظانه، ولا أخذوا عن المشايخ.
والشيخ محمد بن عبد الوهاب قد عُرف عنه في تراجمه برحلاته العلمية إلى مكة والمدينة والبصرة والكوفة، حيث تلقَّى العلم عن أكابر زمانه، وطالت ملازمته للعلامة محمد حياة السندي في مكة، وأخذ عن العجلوني إمام الحديث، والعلامة محمد المجموعي، وعبد الله الفرضي الحنبلي، وغيرهم من الأعلام. وله أسانيد عديدة في كتب الحديث والفقه والتفسير، حتى إنه طرقه صارت من أشهر الطرق التي يروي عنها المعاصرون.
كما كان له رحمه الله اعتناء بالفقه الحنبلي، وتتبع مشايخَه حتى أنّ مخالفيه لم يُنازعوا في كونه طلب العلم من مظانه الصحيحة، وله كتاب «مختصر الإنصاف والشرح الكبير» في عدة مجلدات، اختصر فيه موسوعتين عظيمتين في الفقه الحنبلي.
كذلك أبنائه وأحفاده من بعده، درسوا بالأزهر الشريف علومَ الآلة، فقد درس عبد الرحمن بن حسن صاحب (فتح المجيد) بالجامع الأزهر، وكذلك عبد اللطيف آل الشيخ وغيرهما، ولهم ثبت رواية ومشيخة من الأزهر وغيره([11])، حتى إن عبد الرحمن بن عبد الله قد تولى كرسي الحنابلة بالجامع الأزهر.
القاعدة الخامسة: لا تجعل الدعوة قالبًا واحدًا لا يتجزأ:
المنتقدون لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب يجعلون تاريخ الدعوة قالبًا واحدًا لا يتجزأ، لا يمكن تجزئتها إلى فترات، بل يُحمِّلون الشيخ تبعات كل ما حصل من بعده، فما يقوله الشيخ حمد بن عتيق -الذي جاء بعد الشيخ بقرن من الزمان- لا بد وأن الشيخ وهو في قبره يقول به أيضًا، وما يفعله حفيد ابن سعود لا بد وأن الشيخ يرتضي به أيضًا، حتى ولو مات منذ زمن سحيق!
وهذا الظلم الذي يقع على الشيخ منشؤه الجهل بتفاصيل تاريخ الدعوة.
ومثال ذلك: الصدام بينهم وبين الدولة العثمانية -والذي يعتبره المنتقدون خروجًا على الدولة العثمانية- لم يكن أساسًا في عصر الشيخ محمد بن عبد الوهاب ولا في عصر محمد بن سعود؛ وإنما كان في عهد الأمير عبد الله الملقب بعبد الله الكبير بن عبد العزيز بن محمد بن سعود، وكانت أول حملة بقيادة طوسون بن محمد علي باشا عام 1228هـ، أي: بعد موت الشيخ بـاثنين وعشرين عامًا، وهزم طوسون هزيمة منكرة، والحملة الثانية بقيادة إبراهيم باشا عام 1233ه، أي: بعد موت الشيخ بسبعة وعشرين عامًا.
الشاهد من الأمر: أن الحملتين وقعتا بعد حوالي ربع قرن من الزمان من وفاة الشيخ، فتأمل هذا جيدًا؛ فإنه مهم.
فلا يمكن -والحال كذلك- محاسبة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -وهو المؤسس الروحي للدعوة إن صح التعبير- بحجة أن من جاؤوا بعده من الأمراء على نفس منهجه، وهذا الخطأ وقع فيه الأستاذ ياسين بن علي في كتابه: (خروج الوهابية على الدولة العثمانية)، حيث يقول بأنه لا يمكن الفصل بين تصرفات الأتباع وبين محمد بن عبد الوهاب؛ لأننا في مقام تقييم الوهابية كفكر، وهذه الإجمالية في الحكم على الناس تجعل المنتقدين يقعون في محاذير علمية.
وإلا فهل نحمل الإمام أحمد بن حنبل تبعة فتن الحنابلة من بعده؛ فقد حصل قتال بينهم وبين الأشاعرة، بل وبعد الإمام أحمد بمدة يسيرة قام ابن أبي داود شيخ الحنابلة، وقاد حركة تأليب الناس على الإمام الطبري.
وهل نحمّل الإمام مالكًا ما فعله بعض فقهاء المالكية بعد وفاته بمدة يسيرة لما قاموا على الإمام الشافعي بمصر وضربوه؟! وهل يقال: إن مذهب أهل المدينة الذي يمثله مالك كان مذهبًا متشددًا؟! لا أظن أن منصفًا يقول ذلك.
هذا الأمر من الأخطاء الجسيمة التي يقع فيها المنتقدون للدعوة السلفية، حيث يفترضون -بلسان الحال لا بلسان المقال- أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب -الذي مات في مهد الدعوة- لو كان موجودًا بين أظهرهم لوافقهم على قتال العثمانيين؛ فهذا نوع من التخرُّص وتغليب الظن أو الرجم بالغيب، يقول تعالى: ﴿وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغنِي مِنَ الحَقِّ شَيئًا﴾ [النجم: 28]، وهو أمر بعيد عن الإنصاف أو النقد العلمي البناء.
ونحن إذ نقول ذلك: لا يعني أن ما فعلته الدولة السعودية الأولى كان خروجًا على الدولة العثمانية بالضرورة، ولا أن ما قاله بعض أئمة الدعوة كان تشددًا أو تكفيرًا بالضرورة -وإن كان الخطأ واردًا بالطبع-، إنما كلامنا السابق من باب الجدل الفكري، أو من باب: «ثبِّت العرش ثم انقش».
فعند تناول أي موضوع بحثي لا بد وأن يكون الباحث يسير وفق منهجية علمية للنقد، تتحلى بقيم الإنصاف والحكم على كل فعل بمفرده، وعلى كل حقبة بمفردها، لا مجرد آراء وتخرصات وظنون لا يبنى عليها يقين.
وعلى هذا نقول: لم يُنقل عن الشيخ أي عداء للدولة العثمانية، بل الثابت عنه توقير ولاتها، وهذه رسالة الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى شريف مكة ووالي العثمانيين، يقول فيها:
“بسم الله الرحمن الرحيم.
المعروض لديك، أدام الله أفضل نعمه عليك، حضرة الشريف أحمد بن الشريف سعيد، أعزه الله في الدارين، وأعز به دين جده سيد الثقلين.
إن الكتاب لما وصل إلى الخادم -يقصد نفسه-، وتأمَّلَ ما فيه من الكلام الحسن، رفع يديه بالدعاء إلى الله بتأييد الشريف لما كان قصده نصر الشريعة المحمدية ومن تبعها وعداوة من خرج عنها؛ وهذا هو الواجب على ولاة الأمور. ولما طلبتم من ناحيتنا طالب علم امتثلنا الأمر، وهو واصل إليكم، ويجلس في مجلس الشريف، أعزه الله هو وعلماء مكة. فإن اجتمعوا، فالحمد لله على ذلك، وإن اختلفوا أحضر الشريف كتبهم وكتب الحنابلة؛ والواجب على الكل منا ومنكم أنه يقصد بعلمه وجه الله ونصر رسوله…”([12]).
فتأمل كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب ووصفه نفسه بالخادم، وتسميته لوالي العثمانيين بأنه من ولاة الأمر، بل ويدعو الله له، تعرف أن الشيخ لم يكن يعادي الدولة العثمانية، فضلًا عن أن يكفرها.
وإنما النفرة وقعت بعد وفاة الشيخ بحوالي ربع القرن في زمن عبد الله بن عبد العزيز، لما أرسل محمد علي باشا حملة بقيادة طوسون، ثم حملة ثانية بقيادة إبراهيم باشا.
وأما الإفتاء بتكفير الدولة التركية فقد حصل في زمن الدولة السعودية الثانية في زمن العلماء حمد بن عتيق وسليمان بن سحمان وغيرهما، لما دخلت القوات التركية للقتال دون الأضرحة، وتحقق النجديون منهم، فوجدوا كثيًرا منهم زنادقة، فاجتهد النجديون آنذاك، وأفتوا بكفر الدولة العثمانية (من حيث البناء المؤسسي كجنود وقواد، لا شعبها، ولا الدول التابعة لها)، وهو اجتهاد خاص بعلماء تلك الفترة، لا يُنسب إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب ولا تلاميذه المباشرين.
ومن الجدير بالذكر أن هذه الرؤية لم تكن خاصة بالنجدية، بل كان الجبرتي المصري أيضًا يرى ذلك، فمما قاله رحمه الله: “ولقد قال لي بعض أكابرهم من الذين يدعون الصلاح والتورع: أين لنا بالنصر وأكثر عساكرنا على غير الملة، وفيهم من لا يتدين بدين ولا ينتحل مذهبًا، وصحبتنا صناديق المكسرات، ولا يسمع في عرضينا أذان، ولا تقام به فريضة، ولا يخطر في بالهم ولا خاطرهم شعائر الدين؟! والقوم (أي: الوهابيون) إذا دخل الوقت أذن المؤذنون، وينتظمون صفوفًا خلف إمام واحد بخشوع وخضوع، وإذا حان وقت الصلاة والحرب قائمة أذن المؤذن وصلوا صلاة الخوف، فتتقدم طائفة للحرب وتتأخر الأخرى للصلاة، وعسكرنا يتعجبون… -إلى أن قال:- وكشفوا عن كثير من قتلى العسكر فوجدوهم غلفًا غير مختونين. ولما وصلوا بدرًا واستولوا عليها وعلى القرى والخيوف -وبها خيار الناس وبها أهل العلم والصلحاء- نهبوهم وأخذوا نساءهم وبناتهم وأولادهم وكتبهم، فكانوا يفعلون فيهم، ويبيعونهم من بعضهم لبعض، ويقولون: هؤلاء الكفار الخوارج. حتى اتفق أن بعض أهل بدر الصلحاء طلب من بعض العسكر زوجته فقال له: حتى تبيت معي هذه الليلة وأعطيها لك في الغد”([13]).
القاعدة السادسة: ينبغي دراسة الظروف الاجتماعية والدينية:
للحكم على اجتهاد عالم تجاه طوائف معينة لا بد من دراسة متأنية لأحوال تلك الفترة التاريخية التي يعيشها هذا العالم وظروفها لمعرفة أسبابه ودوافعه، وعلى هذا نقول: لمعرفة مناط التكفير والقتال عند محمد بن عبد الوهاب يجب دراسة الأوضاع الدينية والاجتماعية في تلك الفترة القديمة، فالبعض يظنّ أن الخلاف كان ينحصر في بعض البدع والمعاصي الخفيفة أو في التوسل والتبرك فقط، وهذا وَهم غير صحيح، بل كان مِن القبائل مَن يُسيّرها شيوخ الاتحادية الغلاة، وفي كل قبيلة يوجد منهم من يدّعي علم الغيب وينكر البعث ويخاطب الملائكة والجنّ ويدعوهم من دون الله، مثل الشيخين: تاج وشمسان.
وبعض الكُتّاب المعاصرين يستبعد وجود هذه الأحوال الغالية، ويراها مبالغات من مؤرّخي الوهابية لتبرير القتال، وحجته في ذلك: أن وجود فقهاء شريعة من الحنابلة وغيرهم دليل على وجود جنس العلم؛ فكيف يوجد شركيات وخرافات؟!
وهذه مغالطة واضحة؛ وذلك لأن فقهاء الشريعة الكلاسيكيين لهم وجود في كل مكان، فكان ماذا؟! ففي مصر مثلًا كان لعلماء الأزهر الشريف حضور قوي، ومع ذلك كان ينتشر في حواري القاهرة وأزقتها شيوخ المجاذيب الذين يدورون في الأسواق، ويكشفون عن عوراتهم، ويعتقِد الناس فيهم، كما حكى الجبرتي رحمه الله([14]).
فإذا كان حضور أهل العلم في المدن مثل القاهرة لم يمنع من انتشار الأحوال الغالية، فكيف بالبدو حيث انتشار الجهل؟!
يقول الشوكاني (ت: 1250هـ) وهو يحكي الحالة العلمية في زمانه: (وكم قد سرى عن تشييد أبنية القبور وتحسينها من مفاسد يبكي لها الإسلام، منها اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد الكفار للأصنام، وعظم ذلك، فظنوا أنها قادرة على جلب النفع ودفع الضرر، فجعلوها مقصدا لطلب قضاء الحوائج، وملجأ لنجاح المطالب… وقد توارد إلينا من الأخبار ما لا يشك معه أن كثيرا من هؤلاء القبوريين أو أكثرهم إذا توجهت عليه يمين من جهة خصمه حلف بالله فاجرا، فإذا قيل له بعد ذلك: احلف بشيخك ومعتقدك الولي الفلاني؛ تلعثم وتلكأ وأبى، واعترف بالحق، وهذا من أبين الأدلة الدالة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال: إنه تعالى ثاني اثنين أو ثالث ثلاثة“([15]).
وقال ضياء الدين صالح بن مهدي المَقبلي الكوكباني (1047هـ-1108هـ) -قبل الوهابية بقرن من الزمان-: “جاءني شريف من أشراف مكة، وكان يعتقد متصوفًا وأنا أنهاه عنه، فجاءني مذعورًا يقول: ذكرتُ الله ورسوله فغضب فلان وقال: لا أعرفُ الله ولا رسوله، إنما أعرف شيخي. وزار بعضُ العقلاء ابنَ عباس فرأى غلو الناس فيه، فقال لرجل من عمد مكة ومدرسيهم ومتصوفتهم: أهلُ الطائف لا يعرفون الله، قد اتخذوا ابن عباس إلهًا من دون الله، فسقط من عين ذلك المدرس، وقال: ما كنت أظنك بهذه المنزلة من الجهل والغفلة، هم لا يعرفون الله، ولكن تكفيهم معرفة ابن عباس، وهو يعرف الله. ثم قد صوَّروا كذبات قالوا: مشى الجنيد في البحر وهو يقول: يا الله يا الله، وقال لتلميذه: قل أنت: يا جنيد يا جنيد. قال: مشيا ثم قال تلميذه: يا الله، فغرق، فنهره الشيخ، فتاب وقال: يا جنيد، فمشى فوق الماء. وقالوا: جاء منكر ونكير لميت فقالا: من ربك؟ فقال: شيخي فلان، وكرروا سؤاله وهو يكرر قول: شيخي فلان، فقالوا: صدق، وذهبوا عنه راضين. ومن أنكر هذا قالوا: جلمود مخذول، ولا يحب الأولياء، أو نحو ذلك من عبارات لهم، فهؤلاء زادوا على من قال: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، وليس لهؤلاء من علاج غير السيف، ولكن أهل السيف الآن أجهل خلق الله وأشدهم اغترارًا بتلك الأساليب، حيوانات مختلفة الطباع من ثعالب وسباع يعمها سلب الفلَاح. والله المستعان”([16]).
وقال العلامة محمد السنوسيّ في ذكر ما عليه البادية: “وبعض اعتقاداتهم أجمع العلماء على كفر معتقدها، وبعضها اختلفوا فيه، وكثير من أهل البادية يُنكر البعث”([17]).
وقال الشيخ البيجوري الأزهري رحمه الله عن البادية في سياق ذكره العقائد الفاسدة: “ومثل ذلك كثير في الناس، فمنهم من يعتقد أن الصحابة أنبياء، وهذا كفر، ومنهم من ينكر البعث”([18]).
وجاء في فتاوى الخليلي الأشعري (ت: ١١٤٧هـ) -أي: قبل ذيوع الوهابية- أنه سُئل في نحو عرب السعادنة وبني عطية وغيرهم من عرب الشام ومصر والحجاز وغيرهم من عرب البوادي.. وذكر السائل شيئًا من ضلالاتهم ثم قال: “ويصدّقون ببعثته صلى الله عليه وسلم، ولكنهم ينكرون البعث والنشور، وإذا قيل لأحدهم: إن ربنا سبحانه يحيي الخلقَ بعد موتهم، ويحاسبهم على أعمالهم، فيقولون: لا ندري ذلك، ولا يقيمون الصلاة، ولا يؤتون الزكاة.. وقال في جوابٍ آخر: قد سئل عن مثل هذه المسألة شيخ مشايخنا الزاهد الورع العالم الشيخ أمين الدين محمد بن عبد العال الحنفي رحمه الله (فأجاب) بما حاصله المرقوم في فتواه: من استحلَّ حكمًا علم أمره وحرمته في دين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر، وحيث نهوا ووعظوا مرارا حلّ قتلهم وقتالهم وأخذ أموالهم، ثم ينظر في حال نسائهم إن كن مؤمنات مكرَهات معهنّ لا ذنب لهن فيعلَّمن الأحكام، وإن لم يكنّ كذلك حلّ سبيهنّ وبيعهنّ كالحربيات انتهى… هذا حكمهم مع كونهم كفّارا، وبه يعلم حلّ قتلهم مطلقًا والحالة هذه، ويثاب قاتلهم، وأجر المقاتل لهم كأجر المقاتل لأهل الحرب مع خلوص النية؛ لأنه مجاهد في سبيل الله. والله أعلم”([19]).
القاعدة السابعة: ينبغي قراءة كتب الخصوم، لا الانبهار بالأسماء:
من أهم الشُّبه التي تُعرض على طبلة العلم: الاغترار بأسماء العلماء الذين خالفوا الشيخ محمد بن عبد الوهاب، مثل ابن فيروز وابن عفالق وابن جرجيس، أو رجوع الصنعاني عن مدحه للشيخ، وغير ذلك، دون النظر في كتبهم أو المحاكمة العادلة بين الطرفين، فقط يكتفي المخالف بإيراد تلك الأسماء كدليل مستقل على فساد الشيخ وتلامذته رأسًا. فنقول للمُتشكك: قد علمتَ شيئًا وغابت عنك أشياء.
وجواب ذلك: أنه من معلوم أن أشهر من حمل لواء ابن فيروز وجماعته فيما بعد هو داود بن سليمان بن جرجيس العراقي الذي كان تلميذًا للعلامة أبا بطين النجدي، وتمرد على شيخه، وادعى أن دعاء المقبورين ليس من الشرك الأكبر عند ابن تيمية وابن القيم، وأنهما بريئان من الوهابية الخوارج!
وصنف في ذلك كتابًا أسماه: (صلح الإخوان من أهل الإيمان وبيان الدين القيم في تبرئة ابن تيمية وابن القيم)، وممن رد عليه العالم الكبير مفتي بغداد السيد نعمان الآلوسي الحنفي -وهو ابن أبي الثناء المُفسر صاحب (روح المعاني)- في كتابه (شقائق النعمان في رد شقاشق داود بن سليمان) ومعلوم أن النعمان الآلوسي كان متصوفًا متأثرًا بابن تيمية، ولم يكن وهابيًّا أو مُقلدًا لهم.
ثم إن ابن أخيه محمود شكري الآلوسي رد على ابن جرجيس في (فتح المنان تتمة منهاج التأسيس رد صلح الإخوان)، وهو تتمة لكتاب الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ (منهاج التأسيس في الرد على داود بن جرجيس) الذي رد فيه على ابن جرجيس ومات قبل أن يُتمه، فأتمه الشيخ محمود الآلوسي بعد موته.
فانظر كيف يتتابع العلماء والمصلحون بشتى مشاربهم في رد ابن جرجيس الحنبلي، ومعلوم أن ابن جرجيس هو امتداد لمذهب الحنابلة الذين خالفوا الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
ثم كيف يدعي عاقلٌ موافقة خصوم الدعوة لابن تيمية وابن القيم وأكثرهم من الأشاعرة ومن تابعهم من الحنابلة ممن يقررون نفس التقريرات، سواء في مسائل الأسماء والصفات ودليل حدوث العالم، وغيرها من المسائل كشأن متأخري الحنابلة، والتي لعلهم نسبوها لابن تيمية نفسه دون خبرة ودراية منهم، فإذا جاز خطؤهم في فهم ابن تيمية تجاه هذه المسائل الواضحة لعدم خبرتهم بمصنفات الشيخ في تلك العصور، فما الذي يمنع عقلًا عدم فهمهم للشيخ في تقرير توحيد العبادة أيضًا؟!
ومما يدل على مفارقة مذهبهم لمذهب ابن تيمية: قول الشيخ ابن عفالق في رسالته لعثمان بن معمر: (والحاصل في كلام هذا الجاهل -يعني محمد بن عبد الوهاب- أن الشرك في الألوهية هو الشرك الأكبر، وهو الذي قاتل عليه الرسول المشركين، وهذا خطأ وجهل وزندقة، بل الشرك في الألوهية هو الشرك الأصغر)([20]).
ولما بيّن له الشيخ محمد بن عبد الوهاب بطلان قوله راح يدعي أن هذا اجتهاد من ابن تيمية! يقول الشيخ ابن عبد الوهاب: “وكذلك لما أتاهم كتاب ابن عفالق الذي أرسله المويس لابن إسماعيل، وقدم به عليكم العام، وقرأه على جماعتكم يزعم فيه أن التوحيد دين ابن تيمية وأنه لما أفتى به كفره العلماء وقامت عليه القيامة”([21]).
فلما حاصره الشيخ بالحجج استكبر عن الرجوع عن قوله، وراح يرسل إليه أسئلة في مُلح العلوم ليُبين عجزه عن الإجابة، فعلم الشيخ من ذلك أنه مجادل ولا يريد الحق، وإنما أخذته العزة بالإثم.
وإثبات أجنبية هؤلاء عن كتب ابن تيمية لا يحتاج كبير جهد، فانظر مثلًا ابن داود الزبيري في كتابه (الصواعق والرعود) كيف نسب لابن تيمية القول بجواز التوسل وطلب الشفاعة منه!
نقل ابن داود نصًّا عن الشيخ في جواز الاستغاثة بالرسول في حياته، فقال: “وقال الشيخ أيضا -أي ابن تيمية-: والاستغاثة بمعنى أن يطلب من الرسول ما هو اللائق به لا ينازع فيه مسلم، ومن نازع في هذا المعنى فهو إما كافر إن أنكر ما يكفر به، وإما مخطئًا”([22]).
ثم عقب بقوله: “فانظر هذا الكلام النفيس… فهذا حال من ينكر التوسل -أي: عند ابن تيمية-، فكيف بحال من ينكر الشفاعة منه صلى الله عليه وسلم ويقول لمن طلبها منه: يا كافر، ومن لم يكفر من يقول: يا رسول الله اشفع لي فهو أكفر من فرعون؟!…”([23]).
فنسب إلى ابن تيمية جواز التوسل وطلب الشفاعة بعد موته، مخالفًا بذلك ما عرف بالضرورة من مذهبه، مُتجاهلًا رد السبكي عليه، ولكن خصوم محمد بن عبد الوهاب خالفوا الضروريات التاريخية جهلًا منهم بتراث الشيخ رحمه الله.
مع أن شيخ الإسلام ابن تيمية ينفي هذا قطعًا، فيقول: “أما دعاء الرسول وطلب شفاعته عند قبره أو بعد موته فلم ينقل عن أحد من الصحابة… إذ كان أحد منهم لم يستقبل القبر للدعاء لنفسه فضلًا عن أن يستقبله ويستشفع به؛ يقول له: يا رسول الله، اشفع لي، أو ادع لي، أو يشتكي إليه مصائب الدين والدنيا، أو يطلب منه أو من غيره من الموتى من الأنبياء والصالحين، أو من الملائكة الذين لا يراهم أن يشفعوا له، أو يشتكى إليهم المصائب، فإن هذا كله من فعل النصارى والمشركين”([24]).
فانظر كيف جعل ابن تيمية من يقول: (يا رسول الله، اشفع لي) يوافق صنيع النصارى والمشركين، وهذا ابن داود الجاهل بتراث ابن تيمية ينسب إليه هذا القول. فسبحان الملك!
أما بالنسبة إلى رجوع الصنعاني فنقول:
لما تزلف بعض أعداء الشيخ من الحنابلة إلى الصنعاني -مثل مربد والمويس- ونقلوا له أخبارًا كاذبة عن الشيخ أقنعوه أن دعاء الأولياء ليس كفرًا أكبر، وإنما هو من جملة المعاصي والشرك الأصغر.
إلا أن الشوكاني رد على الصنعاني فقال رحمه الله: (ومن جملة الشُّبه التي عَرضت لبعض أهل العلم ما جزم به السيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير في شرحه لأبياته، التي يقول في أولها: رجعت عن النظم الذي قلتُ في النجدي!…)([25]).
فالصنعاني كتب حاشية على هذه القصيدة -بعد رجوعه عن مدح الشيخ- صرح فيها بموافقته لمناوئي الدعوة في أن شرك القبور من الشرك الأصغر أو الكفر العملي، مثل: ترك الصلاة، والنياحة، والقتل، ونحو ذلك.. ثم قال الصنعاني بعد كلام طويل: (وهذا تحقيق بالغ). فقال الشوكاني رادًّا عليه وعلى مربد والمويس: (هذا الكلام في التحقيق ليس بتحقيق بالغ، بل كلام متناقض متدافع، وبيانه: أنه لا شك أن الكفر ينقسم إلى كفر اعتقاد وكفر عمل، لكن دعوى أن ما يفعله المعتقدون في الأموات من كفر العمل = في غاية الفساد؛ فإنه -أي الصنعاني- قد ذكر في هذا البحث أن كفرَ من يعتقد في الأولياء كفرُ عمل، وهذا عجيب! كيف يقول: كفر من «يعتقد» في الأولياء، ويسمي ذلك اعتقادًا، ثم يقول: هو «عملي»؟! وهل هذا إلا التناقض البحت والتدافع الخالص؟!..)([26]).
ثم بدأ الشوكاني بتفنيد كلام الصنعاني، وأتى بنقولات عن ابن القيم وابن تيمية وغيرهما أن كفر دعاة القبور من كفر الاعتقاد لا العمل، وبيَّن خطأ شيخه الصنعاني، رحم الله الجميع.
القاعدة الثامنة: ينبغي فهم إطلاقات علماء الدعوة ومصطلحاتهم:
ينبغي معرفة الإطلاق العام الذي يُراد به الخاص، أو إطلاق الكل الذي يراد به البعض، وذلك عن طريق القرائن وجمع كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الباب الواحد، فعندما يقول الشيخ: انتشر الشرك في بلاد المسلمين، وعند تأسفه عن غربة الإسلام، لا يعني بالضرورة تكفيره لكل المسلمين -كما فهم أعداؤه-، وإنما يريد وصف الأحوال العامة، لا تحقيق وقوع الشرك أو إقامة الحجة على كل واحدٍ منهم، وهذا ظاهر ومتداول عند أهل الشريعة، وقد سبق من كلام الشوكاني نفس الإطلاقات ولم يتهمه أحد بالتكفير.
يقول الشيخ رحمه الله في رسالته لعبد الله بن سحيم: “فإن عرفت أن الصواب معي، وأن دين الإسلام اليوم من أغرب الأشياء؛ أعني دين الإسلام الصِرف الذي لا يُمزج بالشرك والبدع، وأمَّا الإسلام الذي هو ضد الكفر، فلا شك أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم آخر الأمم، وعليها تقوم الساعة”([27]).
وهذا يدل على أن الإسلام الذي يقصده هو الإسلام الخالي من البدع والشركيات، أما مطلق الإسلام فالأمة عليه، بمنطوق كلامه رحمه الله.
كذلك وصف ابن غنام وابن بشر لبعض النواحي أنها بلاد شرك، أو وصفهم إياها بالردة ونحو ذلك، فهذا وصف متعلق بأهل الحل والعقد في تلك النواحي الذين يديرون زمام الأمور، وليس وصفًا لأفرادها بالضرورة.
وقد نبَّه الشيخان حسن وعبد الله ابنا الشيخ محمد بن عبد الوهاب على هذا الأمر، فقالا: “وقد يُحكم بأن أهل هذه القرية كفار، حكمهم حكم الكفار، ولا يحكم بأن كل فرد منهم كافر بعينه؛ لأنه يحتمل أن يكون منهم من هو على الإسلام معذور في ترك الهجرة، أو يظهر دينه ولا يعلمه المسلمون”([28]).
يقول الشيخ فيصل بن قزار الجاسم -وفقه الله-: “التعبير عن جيش الدولة بالمسلمين، كقول: (غزا المسلمون)، (قُتل من المسلمين كذا وكذا)، ونحو هذه العبارات، فإن هذا التعبير لا يلزم منه الحُكْمُ على الفريق الآخر بالكفر، فإنّ وصف جيش الإمام وجماعته وأهل العدل بالمسلمين في مقابل البغاة أو الخوارج قد جرى عليه كثير من المؤرّخين، وله شواهد لا يسع المجال لذكرها، منها على سبيل المثال: ما ذكره ابن كثير عن يعقوب بن سفيان، عن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، عن عمران بن حدير، عن لاحق قال: (كان الذين خرجوا على عليٍّ بالنهروان أربعة آلاف في الحديد، فركبهم المسلمون فقتلوهم، ولم يقتلوا من المسلمين إلا تسعة رهط)([29]).
وفي رسالة أرسلها الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن إلى أمير الكويت أحمد الجابر يخبره بما جرى في معركة «السبلة» والتي جرت بين الملك عبد العزيز والثائرين عليه من حركة الإخوان، قال فيها رحمه الله: (ولذلك قام المسلمون في التاسع عشر من الشهر الماضي بالهجوم عليهم، وقتلوهم، ولقّنوهم درسًا مخيفًا)([30])“([31]).
قلتُ: وقد وصف الشوكاني حروبهم بالفتوحات أيضًا، ولم يدل ذلك على كون الشوكاني خارجيًّا أو يُكفّر مخالفي الوهابية بالضرورة، فقال ممتدحًا لهم: “وكانت تلك البلاد قد غلبت عليها أمور الجاهلية، وصار الإسلام فيها غريبًا، ثم مات محمد بن سعود، وقد دخل في الدين بعض البلاد النجدية، وقام ولده العزيز مقامه، فافتتح جميع الديار النجدية والبلاد العارضية والأحساء والقطيف، وجاوزها إلى فتح كثير من البلاد الحجازية..”([32]).
القاعدة التاسعة: قد يحصل من أهل السنة الجور في بعض الأزمنة:
قد يحدث من أهل السنة بعضُ الجَور على أهل البدَع، وهذا ما يقرره شيخ الإسلام ابن تيمية حيث يقول: (فالراد على أهل البدع مجاهد… -إلى أن قال:- والمجاهد قد يكون عدلًا في سياسته وقد لا يكون، وقد يكون فيه فجور)([33]).
ولا أدل على أنَّ صاحب الحقّ قد يصدر منه الجَور تأوُّلًا مما حدث من أسامةَ من قتل رجلٍ نطق الشهادتين، وما حصل من جَور بعض مجاهدي التابعين، مثل قتيبة بن مسلم الباهلي وغيره.
ومثال ذلك أيضًا ما حصل من شيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي، لما كفَّر الأشعرية واستحلَّ دماءَهم، وقال: “عُرضت على السيف خمس مرات، لا يقال لي: اترك مذهبك، ولكن يقال لي: اسكُت عمَّن خالفَك، وأقول: لا أسكُت”([34]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “ويبالغ -أي: الهروي- في ذم الأشعرية مع أنهم من أقرب هذه الطوائف إلى السنة”([35]).
ويقول أيضًا: “وليس من شرط وليّ الله أن يكون معصومًا لا يغلط ولا يخطئ، بل يجوز أن يخفى عليه بعضُ علم الشريعة، ويجوز أن يشتبه عليه بعض أمور الدّين حتى يحسب بعض الأمور مما أمر الله به ومما نهى الله عنه”([36]).
والواجبُ مدح أقربِ الطائفتين إلى الصواب، واغتفار قليل الخطأ بكثير الصّواب، وذلك بالنظر إلى أصول كلا الفريقين ومنطلقاتهما، لا التأوّل لفاعلي المنكرات وإلقاء اللوم على المُنكر عليهم! وأما إعذار فاعل المُكفِّرات من عدمه، فهذا وإن كان واقعًا فهو مانع من إسقاط الحكم عليه، وليس تسويغًا لفعله، أو مبررًا لعدم نهيه، أو حتى قتاله من ذوي الشأن والسلطة إذا لم ينته.
القاعدة العاشرة: التكفير بمسألة مختلف فيها ليس من قول الخوارج:
وبيان ذلك أن العالم الذي يُكفِّر بمكّفر، ولا يراه آخرون كذلك، أو قد يختلفون في تنزيل الحكم، فلا يكون العالم خارجيًّا بذلك، بل غايته هو اجتهاد سائغ ومقبول، وقد اختلف علماء الأشاعرة في تنزيل الحكم على طائفة ابن عربي، فمنهم من كفرهم عينًا لمخالفاتهم من الأمور الظاهرة عندهم، ومنهم من اكتفى بتكفير مقالاتهم والتشنيع عليهم، ومنهم من اعتذر لهم وجعلهم من الأولياء!
ولم يكن الذين كفَّروهم من الخوارج البتّة عند من لم يكفروهم، أو عند من عذَروهم؛ وذلك لأن المكفِّرين لهم أدلة ومناطات صحيحة، أما تنزيل الحكم على المُعين فلا يُلام فيه العالم ما دام مناط التكفير صحيحًا.
ومن أمثلة ذلك أيضًا ما ذكره المؤرّخون أن الأمير يوسف بن تاشفين استفتى الفقهاء في المعتمد بن عباد لما استعان بالنصارى، فأكثرهم جعلوها ردّة وكفَّروه عينًا، وبعضهم لم يجعلوه مرتدًّا لاحتمال تأويله، فأخذ ابن تاشفين بالقول الثاني وعفا عنه([37]).
والحاصل أن العلماء قد يختلفون في بعض المُكفّرات، أو تنزيل الحكم على الأعيان، ولا يكون من رأَى التكفير من الخوارج، وإنما يكون من الخوارج إذا كانت أصوله أصول الخوارج بأن يُكفِّر بما ليس بُمكفّر إجماعًا، مثل التكفير بالمعاصي والكبائر.
يقول العلامة عبد الرحمن المعلمي اليماني: “وقد جرى العلماء في الحكم بالردّة على أمور، منها ما هو قطعيّ، ومنها ما هو ظنيّ، ولذلك اختلفوا في بعضها، ولا وجه لما يتوهَّمه بعضهم أنه لا يُكفَّر إلا بأمرٍ مُجمع عليه”([38]).
القاعدة الحادية عشرة: ينبغي احترام قاعدة (ما استقر عليه العمل):
قد يحصل خلاف متقدّم على عالم من العلماء، ثم يستقر عمل المسلمين على التلقي بالقبول، وعمل المسلمين هو دليل صحة لا دليل فساد، فانتشار الأربعين النووية للإمام النووي مثلًا وشروحاته الفقهية -تشرحها الألسنة الزكية من الفقهاء والربانيين- دليل قبول هذا العمل ولو في الجملة.
وكذلك انتشر كتاب التوحيد ورسائل الشيخ، وعمل بها الفقهاء والمفكّرون، وتأثر بها المصلحون: كالشيخ جمال الدين القاسمي والآلوسي والزركلي والبيطار ورشيد رضا وأحمد شاكر ومحمود شاكر وعبد الحميد بن باديس والبشير الإبراهيمي، والأدباء: كالرافعي والعقاد والمنفلوطي، وعلماء الاجتماع: كمالك بن نبي وشكيب أرسلان، وحصر ذلك يطول جدًّا.
حتى إنه لا يُعرف فاضلٌ قطّ في القرن الماضي إلا وهو يثني على الشيخ محمد بن عبد الوهاب خيرًا؛ لما له من جهود في يقظة الأمة([39]).
وقد احتج ابن تيمية على قاعدة القبول والذيوع بين الناس على قبول علم العالم، وأن عدم قبوله دليل على فساده، فيقول ابن تيمية: “إن المخالفين للحق البيِّن من الكتاب والسنة هم عند جمهور الأمة معروفون بالبدعة مشهود عليهم بالضلالة، ليس لهم في الأمة لسان صدق ولا قبول عام”([40]).
فقد بالغ كثير من السلف في ذم قراءة حمزة الزيات -وهي قراءة سبعية-، ونقل ذلك عن يزيد بن هارون وعبد الرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل وعبد الله بن إدريس الأودي وأبي بكر بن عياش وحماد بن زيد والساجي وغيرهم الكثير، حتى إن بعضهم قال: من صلى خلف من يقرأ بحمزة فليعد صلاته.
ومع هذا: استقر عمل المسلمين على تلقيها بالقبول وإهدار قول من تكلم فيه مع عظم قدرهم، وقد ذكر الذهبي رحمه الله أن الإجماع قد انعقد بأخره على تلقي قراءة حمزة بالقبول، والإنكار على من تكلم فيها([41]).
واستقرار عمل المسلمين أو التلقي بالقبول من الأمور المعتبرة التي يحتج بها؛ وذلك من وجوه:
أولا: لأن الأمة لا تجتمع على ضلالة، وقد أجمعت الأمة أن الفاسد لا يكون له قدم صدق، ولا ينتشر علمه أو يذيع صيته بين الناس، إذ الله لا يصلح عمل المفسدين.
ثانيا: قد يكون الرجل مخطئا إلا أنه في نفسه مُخلص ومتأول، فيبارك الله في بقية علمه الصالح لإخلاصــه؛ إذ الله لا يُضيع العمل الصالح وإن كان مشوبًا بالخطأ، وفي ذلك يقول الله عز وجل: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد: 17].
وأخيرًا.. إن الطّعن في علماء الأمّة الذين لهم قدَم صدقٍ وقبول عامّ ليس من شأن طالب الحقّ، وإنما هذا شأن الدعوات الهدّامة من غلاة المتصوفة والشيعة ونحوهم من دعاة الفُرقة الذين غاظهم اتحاد الكلمة وعموم الخير وانتفاع الناس به، وإطباق المصلحين على ذلك، فبعد أن كانوا منبوذين من الأمة بكافة طوائفها وجدوا مدخلًا من جديد لبثّ الفرقة بصراعاتٍ ونزاعاتٍ لا طائل تحتها، وليس هذا مما يفيد المسلم، ولا تحته عمل، ولا فيه علم نافع ولا عمل صالح، فعلى طالب العلم وطالب الحقّ أن يحذر من تلك المسالك.
وصلِّ اللهم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
ـــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) مجموع الفتاوى (20/ 164).
([2]) كنز الجوهر في تاريخ الأزهر، سليمان رصد الحنفي، ١٣٢٠هـ، (ص: ١٧٦-١٧٧).
([3]) يقصد بالدين: دعوة التوحيد التي دعا إليها الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
([4]) تاريخ ابن لعبون (ص: 194).
([5]) عنوان المجد (1/ 145-146).
([7]) أخرجه الإمام أحمد -ط. أحمد شاكر- (11/ 88)، وإسناده صحيح.
([8]) ينظر: سير أعلام النبلاء (4/ 554).
([10]) نقله عبد الرحمن بن قاسم من تاريخه في الدرر السنية (16/ 353).
([11]) انظر ترجمتهما في كتاب: أعلام نجد وغيرها، للبسَّام (ص: 60-75)، وقد ذكر العلامة عبد الرحمن بن حسن مشايخه في الأزهر وقراءته عليهم في كتابه: الإيمان والرد على أهل البدع (ص: 21)، ضمن مجموع الرسائل النجدية.
([12]) ينظر: عنوان المجد لابن بشر (1/ 177).
([13]) تاريخ الجبرتي (3/ 240).
([14]) تاريخ الجبرتي (2/ 405)، أحداث شعبان سنة 1215هـ.
([16]) الأبحاث المسددة في فنون متعددة، للعلامة المقبلي (ص: ١٥٨، ١٦٥).
([17]) شرح عقيدة أهل التوحيد الكبرى (ص: ٣٧).
([18]) حاشية البيجوري على جوهرة التوحيد (ص: ٧٨).
([19]) فتاوى الخليلي (٢/ ٢٨٢).
([20]) جواب ابن عفالق على عثمان بن معمر نقلًا من كتاب (الوهابية دين سعودي جديد) (ص: 463).
([21]) مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الرسائل الشخصية (ص: 20).
([22]) الصواعق والرعود (ص: 127).
([23]) الصواعق والرعود (ص: 127).
([24]) مجموع الفتاوى (1/ 168).
([27]) الرسائل الشخصية (ص: ٦٦).
([28]) الدرر السنية (10/ 145).
([29]) البداية والنهاية (9/ 204).
([30]) الإخوان السعوديون في عقدين (ص: 305).
([31]) حقيقة الصراع في تاريخ دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب (ص: 354-364).
([33]) مجموع الفتاوى (4/ 13، 14).
([34]) ينظر: سير أعلام النبلاء (18/ 503).
([35]) مجموع الفتاوى (5/ 119).
([36]) الفرقان بين أولياء الله وأولياء الشيطان (ص: 62).
([37]) النوازل الصغرى (1/ 415).
([38]) رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله (ص: 941).
([39]) حتى إن الشيخ محمود شاكر وضعه أحد الخمسة الذين تولّوا يقظة ديار الإسلام. انظر رسالة: في الطريق إلى ثقافتنا (ص: 117).
([40]) مجموع الفتاوى (4/ 201). وانظر: كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص: 307).














