حديث الافتراق رواية ودراية [الجزء الثالث]
#مركز_سلف_للبحوث_والدراسات
كان الإشكال في متن حديث الافتراق حاضراً في أذهان أغلب من ضعف الحديث، حيث رأوا: أن الحديث تضمن نَكَارَةً في متنه ، يقول الدكتور يوسف القرضاوي – وفقه الله – ” وهنا إشكال ، في الحكم بافتراق الأمة أكثر من افتراق اليهود والنصارى من ناحية، وبأن هذه الفرق كلها هالكة وفي النار إلا واحدة منها ، وهو يفتح بابا لأن تدعي كل فرقة أنها الناجية ، وأن غيرها هو الهالك ، وفي هذا ما فيه من تمزيق للأمة ، وطعن بعضها في بعض ، مما يضعفها جميعاً ، ويقوي عدوها عليها ، ويغريه بها .
ولهذا طعن العلامة ابن الوزير في الحديث عامة، وفي هذه الزيادة خاصة، لما تؤدي إليه من تضليل الأمة بعضَها لبعض، بل تكفيرِها بعضَها لبعض …”
ثم ساق كلامه وكلام ابن حزم في السياق نفسه، ورَأْيُ الدكتور القرضاوي، وافقه عليه جملة من المعاصرين، كالدكتور محمد عمارة، والدكتور العوا، والشيخ محمد الددو الشنقيطي.
– وقبل أن نناقش هذه الدلالات المتوهمة، نذكر مسألة هامة، وهي أن آيات القرآن وأحاديث النبي صلي الله عليه وسلم ، قد تضافرت على معنى الحديث بكل أجزائه، فليس صحيحاً أن حديث الافتراق واحدٌ في الباب لا شبيه له، فقد جاءت آيات القرآن تحذرنا من الاختلاف والافتراق في الدين كما حدث في الأمم الماضية، فقال تعالى {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)} الروم ، وقال تعالي { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)} آل عمران ، وقال تعالى { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)} البقرة .
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية السابقة: “ينهى الله تبارك وتعالى هذه الأمة أن يكونوا كالأمم الماضين في افتراقهم واختلافهم وتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع قيام الحجة عليهم “ثم ساق الإمام ابن كثير رحمه الله حديث الافتراق الذي رواه الإمام أحمد رحمه الله ثم قال: “وقد ورد هذا الحديث من طرق ” وذلك إشارة إلى توثيقه وتقويته. ٢
– وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، أن هذه الأمة سوف تقع فيما وقعت فيه الأمم الماضية، فروى البخاري ومسلم وغيرهما ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” لتتبعن سَنَنَ من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا حجر ضب خرب لدخلتموه ” وعند البخاري وأحمد وغيرهما ” قلنا يا رسول الله : اليهود والنصارى؟ قال : “فمن ” ، ولذا أورد عدد من الأئمة هذا الحديث عقب حديث الافتراق، كابن ماجه في سننه ، وابن أبي عاصم في السنة، والمروزي في السنة ، والآجري في الشريعة.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، أن الخلاف سيقع في الأمة كما في سنن أبي داود وأحمد وغيرهما من حديث العرباض بن سارية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ” من يعش منكم بعدي فسيري اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ” ٣
والآيات والأحاديث السابقة، تدل كذلك على ذم هذا الاختلاف الواقع، وليس مجرد إخبار عن وقوعه، والأدلة على ذم التفرق والاختلاف مشهورة، قال القرطبي رحمه الله في تفسير آية البقرة السابقة: “فمن بَدَّل أو غَيَّر أو ابتدع في دين الله ما لا يرضاه الله ولم يأذن به الله فهو من المطرودين عن الحوض المبتعدين منه المُسَوَّدِي الوجوه، وأشدهم طرداً وإبعاداً من خالف جماعة المسلمين وفارق سبيلهم، كالخوارج على اختلاف فرقها، والروافض على تباين ضلالها، والمعتزلة على أصناف أهوائها، فهؤلاء كلهم مبدلون ومبتدعون، وكذلك الظلمة المسرفون في الجور والظلم وطمس الحق وقتل أهله وإذلالهم، والمعلنون بالكبائر المستخفون بالمعاصي، وجماعة أهل الزيغ والأهواء والبدع، كل يخاف عليهم أن يكونوا عُنُوا بالآية، والخبر كما بينا، ولا يخلد في النار إلا كافر جاحد ليس في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان. وقد قال ابن القاسم: وقد يكون من غير أهل الأهواء من هو شر من أهل الأهواء. وكان يقول: تمام الإخلاص تجنب المعاصي”٤
فالقرطبيُ رحمه الله تعالى في هذا النص، يؤكد على دخول أهل البدع المنصرفين عن السنة فيما ابتدعوه، في مدلول هذا الوعيد الوارد في الحديث، بأن معنى في النار الواردة فيه على ظاهره، وهذه الجزئية سوف نتناولها وحدها بشيء من الحديث إن شاء الله.
والآيات الدالة علي وحدة الحق، وكثرة طرق الباطل متعددة أيضا ، فمنها قوله تعالى { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) } الأنعام ، وروى أحمد وغيره من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًّا ، ثم قال ” هذا سبيل الله ” ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله ، ثم قال : ” هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ” ثم قرأ { وأن هذا صراطي مستقيما …. }الآية ٥ .
– وهكذا جاء حديث الافتراق موافقا لما جاءت به الآيات والأحاديث، وأما ما تصوره البعض من نكارة المتن، وأنه يفضي إلى تفرق الأمة، وتكفير بعضها بعض، فغير صحيح لما يلي:
– جملة (كلها في النار) لا تعني الخلود في النار.
فإن الوعيد بالنار لا يلزم منه الخلود فيها، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم هذه الفرق ضمن فرق الأمة، والمقصود بذلك أمة الإجابة، قال أبو سليمان الخطابي – رحمه الله – : ” قوله ( ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة) فيه دلالة على أن هذه الفرق كلها غير خارجين من الدين؛ إذ النبي صلى الله عليه وسلم جعلهم كلهم من أمته ، وفيه : أن المتأول لا يخرج من الملة وإن أخطأ في تأوله ” ٦
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – : ” وكذلك سائر الثنتين وسبعين فرقة ، من كان منهم منافقاً: فهو كافر في الباطن، ومن لم يكن منافقاً، بل كان مؤمناً بالله ورسوله في الباطن: لم يكن كافراً في الباطن، وإن أخطأ في التأويل، كائناً ما كان خطؤه … .
ومن قال: إن الثنتين والسبعين فرقة كل واحد منهم يكفر كفراً ينقل عن الملة: فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، بل وإجماع الأئمة الأربعة وغير الأربعة؛ فليس فيهم من كفَّر كل واحد من الثنتين وسبعين فرقة، وإنما يكفِّر بعضهم بعضا ببعض المقالات ” ٧
و قال الإمام البيهقي – رحمه الله – :” والذي روينا عن الشافعي وغيره من الأئمة من تكفير هؤلاء المبتدعة فإنما أرادوا به كفراً دون كفر ” ٨
وقوله صلى الله عليه وسلم (كلها في النار) ، كسائر نصوص الوعيد ، قد يتخلف الوعيد في الشخص المعين، لحسنات ماحية، أو جهل، وتأويل، وغيرها من موانع تحقق الوعيد، فيكون مغفوراً له عند الله تعالى، فالحديث ليس فيه تكفير الفرق المخالفة، كما ادعى البعض .
– كثرة الفرق الضالة لا يعني ضلال أكثر الأمة:
فإن أكثر الأمة، وسوادها الأعظم على السنة، ولو كان فيهم قصور، والفرقة من أهل البدع، قد يكونوا أفراداً قلائل، وقد يظهرون في وقت ويختفون بعد ذلك، فوجود الفرق، لا يعني وجودها في كل زمان ومكان، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – ” ولهذا وصف الفرقة الناجية بأنها أهل السنة والجماعة و أما الفرق الباقية فإنهم أهل الشذوذ والتفرق و البدع و الأهواء. و لا تبلغ الفرقة من هؤلاء قريبا من مبلغ الفرقة الناجية فضلا عن أن تكون بقدرها.”٩
وقال الصنعاني – رحمه الله – “هذه الفرق المحكوم عليها بالهلاك قليلة العدد، لا يكون مجموعها أكثر من الفرقة الناجية. فلا يتم أكثرية الهلاك، فلا يَرِدُ الإشكال. وإن قيل يمنع عن هذا أنه خلاف الظاهر من ذكر كثرة عدد فرق الهلاك، فإن الظاهر أنهم أكثر عدداً. قلت: ليس ذكر العدد في الحديث لبيان كثرة الهالكين، وإنما هو لبيان اتساع طرق الضلال وشعبها ووحدة طريق الحق نظير ذلك. ذلك ما ذكره أئمة التفسير في قوله {ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}أنه جمع السبل المنهي عن اتباعها، لبيان شعب طرق الضلال وكثرتها وسعتها وأفرد سبيل الهدى والحق لوحدته وعدم تعدده.” ، والواقع يؤكد ما ذكره هؤلاء العلماء ، فالأصل في المسلمين على مر العصور، هو اتباع السنة، والبدعة استثناء طارئ .
وقد يُعْتَرَضُ على هذا بأنه خلافُ الواقع، فإننا نرى أكثر الناس هم أتباع علماء البدعة، فأتباع المتصوفة والأشاعرة والماتريدية أكثر من المنتسبين إلى منهج السلف، فكيف يُقَال إن الفرقة الناجية هم أكثر الأمة ؟!
والجواب : أن عوام المسلمين هم أكثر الناس بلا منازع، وهؤلاء في كل زمان ومكان أتباع فطرة الله التي فطر الناس عليها{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)} الروم، فهم في عباداتهم ودعائهم لا يطلبون غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وما هم واقعون فيه من البِدَع التي نراهم عليها، ليس بمَلْكِهم، وإنما يظنون ذلك هو اتباع السنة لَمَّا أضلهم بذلك علماؤهم وكُبَرَاؤهم، فهم في جهل، والأصل في المسلمين إذا وقعوا في البدعة جهلاً ولو كانت مُكَفِّرة أنهم معذورون ، ولا تخرج بهم بدعتهم عن أن يكونوا إن شاء الله من أهل النجاة ماداموا إنما يقعون فيها جهلاً.
ألا ترى أن الناس إذا دُعُوا إلى نبذ البدعة وعُرِّفوا الحق ينتشر بينهم ينتشر بينهم اتِّباع السُّنَّة ونبذ مخالفتها؟!
وهذا ما نراه اليوم يَغِيض علماء أهل البدع ، ونراهم مما بهم من غيض يستقوون على أهل السنة بكل من يستطيعون من ضروب الكيد .
وبهذا التقرير يتأكد لنا أن الفرقة الناجية هم أكثر المسلمين بفضل الله وعزته.
– الحديث تحذير من الافتراق ودعوة للجماعة، وليس سبباً للتمزق والتفرق:
فإنه إخبار بما سيكون، وهو الأمر القدري الكوني، وهو لا يتعارض مع الأمر الشرعي بالاعتصام بحبل الله وعدم التفرق، فنحن نؤمن بالقدر ونعمل بالشرع، ولذا ورد في الحديث تفسير الفرقة الناجية بالجماعة، وتفسير أهل العلم للجماعة، يعود إلى أمرين، لزوم الحق الذي أجمع عليه العلماء، وفي مقدمتهم الصحابة رضوان الله عليهم، فإجماعهم حجة معتبرة بلا خلاف، وهذه هي الجماعة بالمعنى العلمي، وتطلق الجماعة بالمعني العملي، على لزوم جماعة المسلمين، الذين لهم إمام مُبَايَع وحاكم شرعي، ويكون لزوم الجماعة في هذه الحالة بعدم الخروج عليه، وإثارة الفتن والفساد ، فلزوم الجماعة يكون بالتزام ما أجمع عليه العلماء ، وفي مقدمتهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو ما عليه السواد الأعظم من أمة الإسلام ، وبهذا تتفق روايات الحديث في تفسير الفرقة الناجية .
ويكون ( لزوم الجماعة ) كذلك ، بعدم الخروج على إمام المسلمين ، وولي أمرهم الشرعي ، وهذا مطابق لحديث العرباض بن سارية المشهور ( اسمعوا وأطيعوا وإن عبدا حبشياً ، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، استمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة ) ، فعلاج الافتراق هو الدعوة للتمسك بالسنة ، وتعليمها للناس ، حتى يكثر أنصارها ، والتحذير من البدع حتى يقل أنصارها ، ولا يتحمل إثم الفرقة أهل السنة ، وإنما يتحملها أهل البدع والانحراف ، وليس سبيل الوحدة ، كما يتصوره البعض ، في السكوت على البدع ، والدعوة للتقريب بين السنة والشيعة ، وتذويب الخلاف بين أهل السنة والمعتزلة وغيرهم من أهل البدع ، فإن هذا المسلك يزيد الأمة فرقة وانحرافا وتمزقاً .
– ضابط الحكم على تجمع معين بأنه من أهل الفرق :
قال الشاطبي رحمه الله :
” هَذِهِ الْفِرَقَ إِنَّمَا تَصِيرُ فِرَقًا بِخِلَافِهَا لِلْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ فِي مَعْنًى كُلِّيٍّ فِي الدِّينِ وَقَاعِدَةٍ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ، لَا فِي جُزْئِيٍّ مِنَ الْجُزْئِيَّاتِ، إِذِ الْجُزْئِيُّ وَالْفَرْعُ الشَّاذُّ لَا يَنْشَأُ عَنْهُ مُخَالَفَةٌ يَقَعُ بِسَبَبِهَا التَّفَرُّقُ شِيَعًا، وَإِنَّمَا يَنْشَأُ التَّفَرُّقُ عِنْدَ وُقُوعِ الْمُخَالَفَةِ فِي الْأُمُورِ الْكُلِّيَّةِ ” ١١ وذكر كذلك، أن كثرة المخالفة في الجزئيات تجري مجرى القاعدة الكلية.
فهذا الضابط الهام في كيفية الحكم على تجمع معين بأنه من الفرق النارية ، لابد من استحضاره ، لردع المغالين في التبديع ، والحكم على سائر الجماعات والتجمعات المعاصرة ، بأنها من الفرق الهالكة ، دون تفريق بين أنواعها وأحوالها المختلفة ، ومقصده بالأصل الكلي ، هو كتأصيل نفي الصفات ، أو نفي القدر ، أو سب الصحابة ، أو تقديم العقل على النقل ، أو رفض تحكيم الشريعة ، وكلها أصول تستلزم رد نصوص الكتاب والسنة والإجماع القديم الثابت ، بخلاف من تقع منه هذه البدع مرة ونحو ذلك ، وما من أحدٍ من العلماء إلا وقع منه شيء من ذلك ، فأنكر شريح قراءة من قرأ { بل عجبتُ} بالضم ، وقال : إن الله لا يعجب ، وجاء عن ابن عباس القول بإباحة المتعة ، وعن ابن القيم القول بفناء النار ، ونسبه لشيخ الإسلام ، ووقع الإمامان الكبيران ابن حجر والنووي في تأويل بعض الصفات ، موافقة للأشعرية في هذا ، ولو جعلنا نتتبع مثل هذا لطال بنا المقام ، ولم يجرؤ أحد أن يصف هؤلاء الأعلام بأنهم مبتدعة ، مع جزمنا بخطأ هذه الأقوال وتبديعها ، لأن القول في تبديع المعين كالقول في تكفير المعين ، يتوقف على استيفاء الشروط وانتفاء الموانع ، ومن الموانع ، الجهل ، والتأويل ، والنسيان ، والخطأ وغيرها ، وفي مثل هذا يقول العلماء ، إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث ،فهم لا يتبعون في زلاتهم ، ولا يشنع عليهم بها .
– وعند التأمل في هذه الزلات نجد أنها فردية ، وليست أصلا عاما ، وليست في الأصول الكبرى غالبا ، ولم يوالوا ويعادوا عليها ، بخلاف ما وقع من أهل البدع.
قال شيخ الإسلام – رحمه الله – “ومما ينبغي أيضا أن يُعْرف أن الطوائف المنتسبة إلى متبوعين في أصول الدين والكلام على درجات: منهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة. ومنهم من يكون إنما خالف السنة في أمور دقيقة.
ومثل هؤلاء إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولا يفارقون به جماعة المسلمين، يوالون عليه ويعادون كان من نوع الخطأ. والله سبحانه وتعالى يغفر للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك. ولهذا وقع في مثل هذا كثير من سلف الأمة وأئمتها: لهم مقالات قالوها باجتهاد، وهي تخالف ما ثبت في الكتاب والسنة. بخلاف من والى موافقه، وعادى مخالفه، وفرق بين جماعة المسلمين، وكفر وفسق مخالفه دون موافقه في مسائل الآراء والاجتهادات، واستحل قتال مخالفه دون موافقه، فهؤلاء من أهل التفرق والاختلافات. ” ١٢
– هل الجماعات الإسلامية المعاصرة تعد من الفرق النارية ؟
يمكننا تقسيم الجماعات الإسلامية المعاصرة إلى ثلاثة أقسام :
فالجماعات التي تلتزم بالكتاب والسنة ولا تخرج عن إجماع المسلمين ولا جماعتهم ، فهي من جماعات أهل السنة والجماعة ، واجتماعهم من التعاون على البر والتقوى ، شريطة عدم التعصب وعقد الولاء والبراء على جماعتهم ورئيسهم ، وتعدد الجماعات يمكن أن يكون من خلاف التنوع ، الذي يمكن استثماره ، ولا يتحقق ذلك إلا بضوابط هامة ، منها : التزام كل جماعة بالحد الأدنى من الواجب العيني الذي عليها ، في العقيدة والعمل والسلوك ، فلا يصح لجماعة أن تترك الواجب العيني في طلب العلم مثلا بحجة انشغالها في الدعوة ، أو ترك العبادة الواجبة بحجة الانشغال بطلب العلم .
– وعدم تحقير بعضهم لبعض ، فبعض الجماعات لا تجد وسيلة لتحفيز أبنائها للعمل الذي يقومون به إلا بتحقير الأعمال والعلوم الأخرى التي لا تهتم بها جماعته ، وهو مرض تربوي خطير ، يكفينا في علاجه لو امتثلنا قوله صلى الله عليه وسلم ( بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ) رواه مسلم .
– وأن يكون الولاء والبراء معقودا على معاني الإيمان دون الأسماء والرايات، فهذه هي عصبية الجاهلية.
– وللأسف، فإن أغلب هذه الضوابط مفقودة في العمل الإسلامي المعاصر، وهو ما سبب التناحر والتمزق، وعلاجه بعلاج هذه الآفات والأمراض.
– وأما اختلافهم في الفروع، ومسائل الاجتهاد التي لا نص فيها، ولا إجماع، ولا قياسا جليا، فلا يوجب افتراقا، ولا انقساما، والتفرق الناشئ عن مسائل الاجتهاد، سببه البغي ، والجهل ، وحب الدنيا والرئاسة ، وغيرها من أمراض القلوب ، كما أخبر القرآن العظيم .
– والجماعات التي تقوم على أصول مخالفة لأصول أهل السنة، كجماعات التكفير والخوارج المعاصرين، وجماعات الرافضة، والقبورية، هي بلا شك من هذه الفرق النارية
– والجماعات التي لا تجعل مسائل الاعتقاد ، أصلا يجتمعون إليه ، فيضمون في صفوفهم السلفي ، والصوفي القبوري ، والأشعري ، والمعتزلي ، والشيعي ، لا يمكن الحكم عليهم جميعاً بحكم واحد ، بل يحكم على كل شخص فيهم بحسب حاله ، وإن كان اجتماعهم على غير العقيدة بدعةً في ذاته ، ولكن قدمنا أن المخالفات الجزئية ، لا تصيّر أصحابها من الفرق الضالة ، فإن أضافوا إلى ذلك تعصبهم لمن يدخل في حزبهم بالباطل ، فهو من التفرق والتحزب المذموم المنهي عنه .
– السلفية والفرقة الناجية :
الفرقة الناجية هي من كانت على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وهم الجماعة ، وهم السواد الأعظم من الأمة بفضل الله ، ولكي يكون المرء منها ، عليه ألا يخرج عن الجماعة ، وهي إجماع المسلمين ، والمقصود بذلك علماؤهم ، فلا عبرة بالعوام بالإجماع ، ولا بأهل البدع الذين خالفوا الإجماع القديم من الصحابة ، لأن ما خالف الإجماع فهو باطل .
وكل جماعة التزمت بهذا المنهج في العقيدة ، والعمل ، والسلوك ، فهي من الفرقة الناجية ، وإن لم تتسمي بالسلفية ، أو حتى أهل السنة ، فإن التسمي بالأسماء الطيبة جائز وليس بواجب ، وكل جماعة خالفت هذا المنهج ، فهي ليست منه ، بقدر ما خالفت فيه ، ولو تسمت بالسلفية ، فالعبرة ليست بالتسمي .
وعليه فالجماعات السلفية المعاصرة ، لا يمكن أن تدعي لنفسها العصمة ، أو احتكار الحقيقة المطلقة في كل المسائل ، بمجرد التسمي ، ولا رمي مخالفها بالابتداع بمجرد مخالفتها ، ما لم تثبت صحة نسبتها بمنهج الصحابة ، وما أجمعوا عليه ، في مسائل النزاع الحادثة .
ولعل ما قدمنا ، نكون قد قدمنا رؤية وسطاً ، تحافظ على الثوابت ، وتدعو لعلاقات أفضل ، وتبين أن الحديث ، يحذر من الافتراق ، بمعالجة أسبابه الحقيقية ، وليس بغض الطرف عن هذه الأسباب ، ظنا ممن يفعل ذلك أنه يجمع الأمة ولا يفرقها .
———————————–
١- الفتاوي المعاصرة للشيخ يوسف القرضاوي
٢- تفسير ابن كثير ( ٣٩٠/١)
٣- صححه الترمذي و ابن رجب الحنبلي وقال : هو حديث جيد ، من صحيح حديث الشاميين .
٤- تفسير القرطبي (١٦٨/٤)
٥- صححه الحاكم وأقره الذهبي ووافقه الألباني .
٦- ” معالم السنن ” الخطابي ٢٩٥/٤)
٧-مجموع الفتاوى (٢١٨/٧)
٨-سنن البيهقي الكبرى (٢٠٧/١٠)
٩- مجموع الفتاوي ( ٣٤٥/٣)
١٠-افتراق الأمة إلى نيِّفٍ وسبعين فِرقة ص (٦٦)
١١-الإعتصام ص(٧١٢)
١٢- مجموع الفتاوي ( ٣/٣٤٥)
إعداد اللجنة العلمية بمركز سلف للبحوث والدراسات [تحت التأسيس]
[…] إصدارات مركز سلف, المقالات « حديث الافتراق رواية ودراية [الجزء الثالث] النصوص الشرعية بين تحريف الغالين وتأويل الجاهلين [ […]