مقالة الإمام البوشَنْجِي في نقد الكلام
للتحميل كملف pdf اضغط هنا
تقديــم
أنزل الله سبحانه وتعالى كتابه القرآن الكريم موعظةً وشفاءً وهدًى ورحمةً وبرهانًا وبصائرَ وروحًا ونورًا وتبيانًا وتفصيلًا لكلِّ شيء.
وقد بلَّغ المصطفى الأمين صلى الله عليه وسلم حروفه ومبانيه، كما بلَّغ وشرح حدوده ومعانيه، وترجمه الجيل الذهبي الصحابة الكرام رضي الله عنهم واقعًا عمليًّا وأنموذجًا حياتيًّا فريدًا، ثم سار أهل السنة والجماعة على نهجهم، يصدرون من كتاب الله تعالى وإليه يرجعون، وبه يحكمون وإليه يتحاكمون، يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ويصدّقون بأخباره، ويذعنون لأوامره، ويسلِّمون لأحكامه، حتى نبتت في الإسلام نوابت ضعف إيمانها، وقل يقينها واستحكمت شبهاتها، فأعرضت عن كتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، وابتغت الحق والعلم والمعرفة في غير ما أنزل الله تعالى، وكان من هؤلاء من افتعل أزماتٍ حادّةً بين العقل والوحي، رُفع العقل فيها إلى منصب القاضي، وأنزل الوحي منزلة المتَّهم، فانبرى العلماء لردِّ هذا الانصراف، وتقويم هذا الانحراف، وكان منهم الإمام الفقيه المحدِّث أبو عبد الله البوشنجيّ.
وقد اختار مركز سلف للبحوث والدراسات هذه الكلمة من هذا الإمام في ذمِّ علم الكلام؛ ليقدمها للقراء الكرام بيانًا من إمام فاضل من أهل القرون الفضَّلة حول علم الكلام الذي ظهر في عصر هذا الإمام وقبله بقليل، ليشكِّل إحدى حواجز العزل بين الأمة وبين وحي ربِّها ومنهج سلفها رضي الله عنهم.
وقد قام الأستاذ الدكتور لطف الله خوجه مشكورًا بالتعليق على هذا النص بما يجلِّي فرائده ويكشف غوامضه، نفع الله به وبما قدّم.
ترجمة موجزة للإمام البوشنجي:
هو الإمام العلامة، الحافظ، ذو الفنون، شيخ الإسلام، أبو عبد الله، محمد بن إبراهيم بن سعيد بن عبد الرحمن بن موسى العبدي، الفقيه المالكي، البوشنجي، شيخ أهل الحديث في عصره بنيسابور.
ولد سنة 204هـ، وارتحل شرقًا وغربًا، سمع الإمام أحمد وسعيد بن منصور وغيرهما من الكبار، وجمع وصنّف، وسار ذكره، وبعُد صيته. وتوفي في غرة المحرم سنة 291هـ، فدفن من الغد، وصلى عليه ابن خزيمة(1).
نصّ المقالة(1)
قال رحمه الله:
(الواجب على جميع أهل العلم والإسلام:
- أن يلزموا القصد للاتباع(1).
- وأن يجعلوا الأصول التي نزل بها القرآن وأتت بها السنن من الرسول غايات للعقول، ولا يجعلوا العقول غايات للأصول(2).
- فإن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم قد يفرق بين المشتبهين، ويباين بين المجتمعين في المعقول؛ تعبدًا وبلوى ومحنة(3).
- ومتى ورد على المرء وارد من وجوه العلم، لا يبلغه عقله، أو تنفر منه نفسه، وينأى عنه فهمه، وتبعد عنه معرفته: وقف عنده، واعترف بالتقصير عن إدراك علمه، وبالحسور عن كنه معرفته(4).
- ويعلم: أن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم لو كشف عن علة ذلك الحادث، وأبان وأوضح عن سببه، وعن المراد من مخرجه: لأدركته عقولنا(5).
- ولو كان كل ما أتى به الحكم من الله عز وجل والأمر بتعبده أتانا مكشوفا بيانه، موضحة علته، لم يكن للعباد بلوى ولا محنة(6).
- وإنما المحن الغلاظ والبلوى الشديدة للأمور والفروض التي لا تكشف عللها؛ ليسلّم العباد لها تسليما، ويقفوا عندها إيمانا(7).
- ولولا ما وصفناه(8) كان الذي سبق إليه فكر العقول منا: أن واجبا في كل ما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل أن يجيبه، وأن ينزل عليه فيه شفاء؛ ليزداد الناس به علما، ولملكوته فهما(9).
- ولسنا نرى الأمر كذلك(10)؛ فقد سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل عن الروح، فما أجابه، قال الله عز وجل: {ويسألونك عن الروح قل الروح أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا}.
وعلى ذلك خالف ربنا بين ما أنزل من شرائعه، وإعلام دينه، ومعالم فروضه وعباداته في الأمم الخوالي، فأحل لطائفة ما حرمه على أمة، وحرم على أمة ما أطلقه لغيرها من أمة، وحظر على آخرين ما أباحه لمن سواهم.
وكذلك الأمر فيما أنزل من كتبه، وخالف بينها في أحكامه، كالتوراة والإنجيل والزبور والفرقان وصحف من مضى من الرسل؛ ليسلم الموفق منهم لأمره ونهيه، وينكص المخذول فيهم على عقبيه، نفارا من التفريق بين المجتمعين، ومن الجمع بين المتفرقين(11).
- وعلموا أن السلامة فيما أنزل عليهم: في الاتباع والتقليد لما أمروا به، والإعراض عن طلب التكييف فيما أجمل لهم، وعن الغلو والإيغال في التماس بنهاياتها، للوقوع على أقصى مداخلها؛ إذ كان ذلك لا يبلغ أبدا(12).
- فإن دون كل بيان بيانا، وفوق كل متعلق غامض متعلق أغمض منه، وإذ كان الأمر كذلك، فالواجب الوقوف عند المستبهم منه، ومن أجل ذلك أثنى الله عز وجل على الراسخين في العلم: بأنهم إذا أفضى ببعضهم الأمر إلى ما جهلوه آمنوا به، ووكلوه إلى الله عز وجل، ومن أجل ذلك ذم الله عز وجل الغالين في طلب ما زوى عنهم علمه، وطوى عنهم خبره، فقال: {وأما الذين في قلوبهم زيغ}، إلى قوله: {وما يذكر إلا أولوا الألباب}(13).
- ومن أجل بعض ما ذكرنا(14) اشتدت الخلفاء المهديون على ذوي الجدل والكلام في الدين، وعلى ذوي المنازعات والخصومات في الإسلام والإيمان، ومتى نجم منهم ناجم في دهره أطفؤوه وأخمدوا ذكره، وأنعموا عقوبته:
فمنهم من سيره إلى طرف، ومنهم من ألزمه قعر محبس، إشفاقا على الدين من فتنته، وحذارا على المسلمين من خدعات شبهته، كما فعله الإمام الموفق عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين سأله صبيغ عن {الذاريات ذروا} وأشباهه، فسيره إلى الشام، وزجر الناس عن مجالسته.
وفعله علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعبد الله بن سبأ؛ فسيره إلى المدائن. ولقد أتى محمد بن سيرين رجل من أهل الكلام، فقال: ائذن لي أن أحدثك بحديث، قال: لا أفعل، قال: فأتلو عليك آية من كتاب الله؟ قال: ولا هذا، فقيل له في ذلك، فقال ابن سيرين: لم آمن أن يذكر لي ذكرا يقدح به قلبي(15).
- وقد بين الله ما بالعباد إليه حاجة في عاجلهم ومعادهم، وأوضح لهم سبيل النجاة والهلكة، وأمر ونهى، وأحل وحرم، وفرض وسن، فما أمر العباد من أمر سلموا بائتماره والعمل عليه، وما نهوا عنه من شيء سلموا بترك ركوبه(16).
- ومتى عتوا عن ظاهر ما أمروا به ونهوا عنه؛ ليبلغوا القصوى من غاية علم أمره ونهيه؛ لم يؤمن عليه الحيرة، ولا غلبة الشهوة على قلبه وفهمه(17).
- ومن أجل ذلك قال ابن مسعود: وما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة. ولقد سأل سائل ابن عباس رضي الله عنهما عن آية من كتاب الله، فقال: ما يؤمنك أن أخبرك بها فتكفر؟!
وقال أيوب السختياني: لا تحدثوا الناس بما يجهلون فتضروهم(18).
- وما منع الله تعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم البيان عن بعض ما سأله، إلا وقد علم أن ذلك المنع إعطاء، وأن المنع أجدى على الأمة وأسلم لهم في بديهم وعاقبتهم(19).
- ولولا ذلك لكان من سأل من المشركين والأمم الكافرين رسلهم وأنبياءهم الآيات وصنوف العجائب والبينات معذورين، ولكانت الرسل في ترك إسعاف أممهم مذمومين(20).
- ولكان كل ما سألوا من آية دونها آية، وفوقها أخرى، حتى أفضى ببعضهم إلى أن سألوا أن يروا ربهم جهرة.
- وسأل بعضهم رسولنا من الدليل على أمره: تفجير الأنهار والينابيع، فقالوا: {لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا}، وما ضمت الآيات به، ولو كان الأمر في ذلك على عقول البشر، لقد كانوا يرون منعهم الدليل على صدق ما أتت به أنبياؤهم ورسلهم غير نظر لهم؛ لأن زيادة البيان إلى البيان تسكين النفوس عن نفارها، وطمأنينة القلوب، وطيب طباع الإيمان، غير أن الله منعهم ما سألوا؛ إذ فوق ما سألوا آيات لا يوقف على منتهاها(21).
فلم يكن يجب أن لو كان ذلك كذلك إيمان على أحد، حتى يبلغ من غاية معرفة بأمور الله عز وجل ما أحاط به علم الله، ثم كذلك الأمر الذي لا يعذر به عبد أن يسأله(22).
بل الأمر فيه إلى الله عز وجل فيما يوفق ويخذل، وفيما يبين ويبهم، وفيما يشرح ويمنع، حتى يكون العباد في كل وقت مسلمين لأحكامه، لا يتعقبونها بتكييف، ولا مسألة عن غاية مراده فيها(23).
- ولقد ذكر يونس بن عبد الأعلى عن الشافعي -رحمه الله- أنه قال: ما من ذنب يلقى الله به عبد بعد الشرك بالله أعظم من أن يلقاه بهذا الكلام، قال: فقلت له: فإن صاحبنا الليث بن سعد كان يقول: لو رأيت رجلا من أهل الكلام يمشي على الماء فلا تركن إليه. فقال الشافعي: لقد قصر، إن رأيته يمشي في الهواء فلا تركن إليه.
- وذكر يونس -هو ابن عبد الأعلى- عن الشافعي قال: مذهبي في أهل الكلام مذهب عمر في صبيغ؛ تقنع رؤوسهم بالسياط، ويسيرون من البلاد(23)).
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
(1) ينظر: سير أعلام النبلاء (13/ 581) وما بعدها.
(1) ساقها أبو إسماعيل الهروي في كتابه ذم الكلام وأهله 4/ 347-356 – طبعة مكتبة الغرباء الأثرية.
(1) القصد هو: التوسط والاعتدال. والاتباع هو: تقلّد السنة وطريقة السلف الصالح أهل القرون المفضلة. وهذا أصل في الدين. يُطلب إلى العامة والخاصة من أهل الإسلام. روى البخاري بسنده: قال صلى الله عليه وسلم: ((والقصد القصد تبلغوا)).
(2) تقديم النصوص والكليات الشرعية على العقل عند توهم المعارضة: أصل في الدين. وليس العكس كما يفعله أهل الكلام والفلسفة؛ لأن التعبد والطاعة جاء للنص لا للعقل، قال تعالى: {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون}. {والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا}.
(3) خلاف ما يبدو؛ لكن ذلك على جهة الاستثناء لا الأصل، فالأصل الجمع بين المشتبهات والتفريق بين المفترقات، وربما خالف للبلوى وامتحان العباد؛ لينظر هل يسلمون لله أمره وقدره ولو لم يدركوا المعنى، أم يجادلون طلبا لجواب معقول؟ ففرّقَ بين المشتبهيْن، وجمع بين المفترقيْن في أحوال، ولذلك أمثلة، منها: تخصيصه بالحكم أفرادا دون غيرهم، كـتخصيص النبي صلى الله عليه وسلم بالوصال، والتزوج بأكثر من أربعة، ومنع نكاح زوجاته من بعده. فالأصل في الأحكام الشرعية: التسوية بين المكلفين، لكن ههنا باين وفارق لحكمة تتعلق بالنبوة، بما أبدى به تميز النبي صلى الله عليه وسلم. وفي الفرق: تحريمه على قوم ما أحله لآخرين، والعكس. كما في التماثيل حرمت على الأمة المحمدية، وأحلت في شريعة سليمان عليه السلام، فافترقا في الحكم مع اجتماعهما في المعنى. وفي هذا امتحان واختبار للتسليم والإيمان مع ترك الاعتراض والجدل، وهذا بناء على القول بـ: “أن شرع من قبلنا شرع لنا”. وعلى القول الآخر كذلك؛ إذ يبقى التشابه في المعنى مقتضيا لاختلاف الحكم.
(4) فيه توكيد: أن مسائل الدين فيها ما لا يدركه العقل، خلاف قول أهل الكلام، وأن أهل الإيمان لهم التسليم المطلق، مع اعتقاد عدم التناقض أو التعارض ما بين العقل والنقل، قال: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}، فالشريعة كما قيل: تأتي بما تحار فيه العقول، لا بما تحيله. فالعقل مخلوق، والمخلوق محدود، وحدّه مانع من إدراكه كل شيء؛ إذ جبل على النقص لا الكمال.
(5) وذلك ينافي الحكمة؛ لأن في إدراك العقل لحقائق ما في الأخبار والأوامر نفيًا لحقيقة الإيمان بالغيب، الذي معناه: التسليم لما لا يبلغ العقل معرفة حقيقته. فهذا التسليم يعبر عن يقين وتصديق تام بخبره وأمره، فهو الإيمان بالغيب الذي عليه مدح المؤمنون: {يؤمنون بالغيب}.
(6) البلوى تكون في تعذر انكشاف حقيقة الأمر للعقل؛ فيداخل النفس شكوك ووساوس، فالمؤمن يلجأ إلى إيمانه، ويستند إليه في نفي الوساوس، فيعود بالكلية على الجزئية، فينجح في الاختبار، والمفتون يظل يتطير بوساوسه، وينسى الكلية الكبرى: التسليم إيمانا بالله. فهذا التمحيص منتف، لو كان كل ما في الدين مدركا، فلا يتميز المؤمن من المنافق والمستريب.
(7) فالعلل منها المعلومة، ومنها غير المعلومة، هذا في الأحكام، فالمسلك فيها السمع والطاعة في كل حال: {سمعنا وأطعنا}. أما الأخبار المتعلقة بالله تعالى واليوم الآخر والقدر ونحوها، فهي غيب لا يدرك كنهها، فالمسلك فيها: التفويض في الكيفية مع إثبات المعنى: {آمنا به كل من عند ربنا}.
(8) من أن الأصل: وجوب التسليم لله تعالى فيما أخبر وحكم، مما لم يعرف كنهه وعلته.
(9) والله تعالى قادر أن يعطي لكل مبهم تساءل عنه العقل جوابا، لو كان في ذلك زيادة إيمان وفهم واعتبار، لكن وجه الأمر ليس على هذا؛ فلا يصلح للعباد ولا يصلحهم إلا التسليم أصالة، ثم يعطون من الفهم ما يكمل إيمانهم ويزيدهم منه، فهو سبحانه أعلم بحال الإنسان: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}.
(10) أن يلقوا جوابا على كل مبهم.
(11) تلك أمثلة على ما تقدم؛ من أنه ربما فرق بين المتشابهين، وجمع بين المفترقين. وهذا حال مستثنى، وإنما الأصل: الجمع بين المتشابهين، والتفريق بين المفترقين: {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير}، {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني}. فقد خالف بين شرائع الأنبياء في المسألة الواحدة، فأحل وحرَّم، كمسألة: السجود للمخلوق، أذن به للملائكة في حق آدم عليه السلام، وأباحه في شريعة يوسف عليه السلام، وحرمه في الشرعة المحمدية. ومسألة: صنع التماثيل: أبيح في شريعة داود وسليمان عليهما السلام، وحرم علينا. ومثل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لي الغنائم، وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى الناس عامة) متفق عليه.
كذلك التخصيص بالحكم لأناس دون غيرهم، وهم أبناء شريعة واحدة: فأذن لأبي بكر رضي الله عنه: إبقاء بابه إلى المسجد، وقال: (لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر). البخاري. كذلك رضاع الكبير، وفيه عند البخاري ومسلم: (جاءت سهلة بنت سهيل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم وهو حليفه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أرضعيه. قالت: وكيف أرضعه وهو رجل كبير؟! فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: قد علمت أنه رجل كبير). وجمهور العلماء على أن خاص بسالم، إلا ما كانت من عائشة رضي الله عنها. والأمثلة كثيرة.
(12) هذا توكيد أن الأصل: التسليم. عبر عنه بقوله: السلامة في الاتباع والتقليد للنبي صلى الله عليه وسلم ولمن سلف. وذلك يستلزم: قطع الطمع في التكييف، والتماس العلل البعيدة، بطلب العلة من ورائها العلة؛ لتعذر تحصيل المطلوب من ذلك لما تقدم: من أن الدين فيه المبهم والظاهر، ولا مناص منهما.
(13) الحكمة في قطع الطمع من معرفة الإجابة على كل مبهم: أن تسلسل المبهمات لا ينقطع، فما من مبهم إلا وراءه مبهم أكبر، فهذا يزيد من طمع الإنسان في المعرفة دون أن يصل إلى منتهى؛ لأنه علم الله، وهو بحر لا ساحل له، وليس لمخلوق أن يحويه: {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله}، فيشتغل بما لا ينفع عما ينفع، من الإيمان والعمل، فيدخله الزيغ والريب، فلا يسلم إلا الراسخون في العلم الذين يقولون: آمنا به كل من عند ربنا.
(14) من أن الأصل: وجوب التسليم لله تعالى فيما أخبر وحكم، مما لم يعرف كنهه وعلته.
(15) حَذَرُ السلف من الشبه لا لضعف في إيمانهم، إنما لعلمٍ بأن القلوب تتقلب.
(16) الله تعالى أعلم بحاجة العباد وما يصلحهم؛ يصلحهم فعل الأمر وترك النهي، والتسليم في ذلك، أما طلب العلة والكيفية فلا يفيد في صلاحهم ومعادهم، بل يزدادون عتوًّا وعنادًا، كذا علم فطرة وشرعا وعقلا، وتجربة المتكلمين الحيارى تفيد ذلك، وإقرارهم كذلك.
(17) فالحيرة جراء تتبع العقليات بالإيغال الذي التبس عليهم بسببه وجه الصواب في المسائل، فلم يهتدوا لجواب يزيل حيرتهم في أصول الدين: وقعت على أئمة الكلام بشهادتهم؛ فالغزالي حكاه عن نفسه في “المنقذ”، والجويني في وصيته كما الرازي، والشهرستاني في أول “غاية المرام”، وابن أبي الحديد المعتزلي والخونجي ونقله عنهم ابن تيمية في الدرء. فهذا نوع من الأثر، وآخر هو: انصرافهم إلى شهوات البطن والفرج، ورعونة الدين، والاستخفاف بالمحرمات، بعد اليأس من التوصل إلى الحقائق، وقد حكى هذا الحال عن طائفة منهم الهروي في “ذم الكلام وأهله” في آخره.
(18) لا يدل هذا على تقسيم الدين إلى: ظاهر وباطن، شريعة وحقيقة، كما يدعيه الباطنية والفلاسفة والصوفية. بل بمعنى: التدرج في مخاطبة الناس ليفهموا، كما يتدرج في تعليم الصبي، لا أن الدين منه ما للخاصة، ومنه ما للعامة. فالدين واحد، مسطور مبثوث لكل أحد، لكن على المتعلم والمعلم مراعاة المقدمات منعا من التشويش، ولم يرد في نص تقسيم الدين إلى قسمين إلا في كلام الزنادقة والمبتدعة، حيث إنهم وجدوه سبيلا لتغيير الملة، فعامة الناس لهم ظاهر الشريعة، والخاصة لهم باطنها، والباطن شيء آخر غير ما جاء به الرسول.
(19) الله أعلم بعباده؛ فمنهم من لا يصلحه إلا الفقر، وآخر الغنى، ومن العلوم ما لا تحتمله عقول البشر، فخير لهم الجهل به، والقضية الكلية في هذا: اليقين بأن الله تعالى لا يقدر إلا ما هو خير للعباد، وأن الخير كله بين يديه، والشر ليس إليه. فمن وثق بهذا كان منه التسليم، وجهله بعد ذلك بالعلة أو الكيفية لا يضر؛ إذ قام أصل بناء الإيمان بالدلائل الكبرى.
(20) لولا أن الخير والسلامة في الجهل بطائفة من العلل والحقائق، لكان للأمم سؤال الأنبياء ما شاؤوا من معجزات وغيرها، وحينئذ تجب إجابتهم ليستكملوا إيمانهم، فإذا ما منعوا من الجواب عذروا، فيكون التقصير في البيان والبلاغ من الأنبياء، حاشاهم.
(21) فالعقل قد يقضي بأن الجواب عن كل مسألة يورث اليقين ويزيل الشك، لكن الأمر خلاف ذلك؛ فالأسئلة إذا أجيب عنها لم تنته عند حدّ، فإنها تتوالد، وليس آفة المعرضين عدم الجواب لما سألوا عنه، بل الريب والشك في نفوسهم، وسؤالاتهم إنما للمعاندة والتعجيز، فهم يسألون ولا ينتهون عند حدّ، حتى وصلوا إلى طلب رؤية الله تعالى، كما في بني إسرائيل: {أرنا الله جهرة}، وأكثر من ذلك.
(22) لو كان جواب سؤالاتهم مشروعا، فإن الإيمان لا يجب إلا بعد نفاد السؤالات كلها، وهكذا تتوارد الأسئلة، لتطلب بلوغ الغاية من المعرفة، حتى بلوغ ما أحاط به علم الله تعالى، أو يصلوا إلى سؤال ما لا يحل، كطلب خلق آلهة أخرى. فكانت الحكمة التسليم، لا السؤال الذي لا يقف عند حد.
(23) كما أنه سبحانه قضى بأن يضل ويهدي، ويمنع ويعطي، ويقبض ويبسط، فكذلك قضى بأن يبين ويبهم، يكشف ويخفي، ويشرح ويجمل. فهذه المتقابلات سنة الحياة الدنيا.
(24) هذا هو المعروف عن الشافعي؛ كرهه لعلم الكلام ونهيه عنه، وهو من أشد السلف تحذيرًا منه، وحطًّا عليه. فكيف استساغ المشتغلون بعلم الكلام من بعدُ أن ينتسبوا إليه فقها، دون أن يقتدوا به عقيدة ومنهجا، مع وضوح سبيله في هذا، ولو تأول المتأولون؟!