قاعدة: «مبنى العبادات على الشرع والاتباع» تدليل وتطبيق
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
تصرفات العباد من الأقوال والأفعال -على كثرتها- لا تخرج عن أمرين: عبادات، شرعها الله تعالى تحقيقًا لصلاح دينهم، وعادات، أقرت تحقيقًا لصلاح معاشهم. ولكل أمرٍ منهما -أعني: العبادات والعادات- أصلٌ يناسبه؛ فالعبادات مبناها على توقيف الشارع؛ فلا تشرع عبادة إلا بنص، والعادات مبناها على العفو والإباحة، فلا تمنع عادة إلا بنص.
إذا تبين هذا: فإن من أبرز خصائص الذين أنعم الله تعالى عليهم إفرادهم الله سبحانه بالعبادة والاستعانة؛ امتثالًا لقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، ومنازل السائرين إلى الله تعالى بينهما -أعني: العبادة والاستعانة-.
وقد زلَّت أقدام طوائف وفرق، فاتبعوا شبهات الغي وشهوات الضلالة؛ مما يستوجب على العبد المؤمن المريد للنجاة الحذر ومراعاة عباداته إخلاصًا وسدادًا؛ لذا واهتمامًا بالجانب الأهم -وهو جانب العبادات- نعرض في هذه الورقة العلمية لقاعدة كبرى من قواعد الشريعة وهي: “مبنى العبادات على الشرع والاتباع” بالشرح والتحليل، والتدليل والتعليل، مع ذكر مجالات إعمالها وبعض تطبيقاتها.
أهمية القاعدة:
ترجع أهمية هذه القاعدة إلى أمور عدة، نجملها فيما يلي:
- هذه القاعدة بمثابة السياج الحافظ والحصن المتين المانع من الإحداث في الدين ما ليس منه.
- كما أنها المعيار الكاشف لمدى موافقة ما يفعله الناس ويطرأ عليهم من أمور لما شرعه الله تعالى وبيَّنه رسوله صلى الله عليه وسلم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ): “وإنما اشتغلت قلوب طوائف من الناس بأنواع من العبادات المبتدعة: إما من الأدعية، وإما من الأشعار، وإما من السماعات، ونحو ذلك؛ لإعراضهم عن المشروع، أو بعضه -أعني: لإعراض قلوبهم- وإن قاموا بصورة المشروع”([1]) .
شرح القاعدة ومجالات إعمالها:
قبل الشروع في الشرح يحسن أن أذكر نص القاعدة بتمامها؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “العبادات مبناها على الشرع والاتباع، لا على الهوى والابتداع“([2]).
وهذه القاعدة من القواعد الفقهية الأصولية الكلية التي يندرج تحتها ما لا يحصر من التطبيقات في العقائد والشرائع والأخلاق، ولا يبعد القول بأنها تشمل الدين كله، وتبرز كماله وتمامه؛ وإذا تدبَّرنا قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، وتأمَّلنا قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»([3])، وفي لفظ لمسلم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»([4])؛ علمنا أن القاعدة مستنبطة ومستفادة من الآية والحديث، ويمكن شرحها في النقاط التالية:
أولًا: معاني مفردات القاعدة:
مبنى الشيء: أي: أصله وأساسه الذي يقوم عليه.
والأصل: هو ما يبنى عليه غيره([5]). يقول أبو البقاء الكفوي الحنفي (ت 1094هـ): “والأصول من حيث إنها مبنى وأساس لفرعها سميت قواعد”([6]).
العبادات جمع عبادة: وله عدة تعريفات، ومن أجمعها -وهو المراد هنا-: “هي كل ما كان طاعة لله، أو قربة إليه، أو امتثالًا لأمره، ولا فرق بين أن يكون فعلًا أو تركًا؛ فالفعل: كالوضوء والغسل والزكاة وقضاء الدين، والترك: كترك الزنى، وترك أكل المحرم وشربه، وترك الربا وإزالة النجاسة”([7]).
والشرع: هو ما جاء به الكتاب العزيز، والسنة النبوية المطهرة.
والاتباع أي: اتباع الأوامر التي جاء بها القرآن الكريم، أو وردت بها السنة النبوية القولية أو الفعلية أو التقريرية.
ثانيًا: المعنى الإجمالي للقاعدة:
معنى القاعدة: أن الأساس الذي يبنى عليه ما أمر به الشارع الحكيم -سواء كان هذا الأمر على سبيل الإيجاب أو الاستحباب- من الأقوال والأفعال والاعتقادات: هو ما جاء في الكتاب والسنة، فلا يوصف عمل بأنه عبادة إلا ما شرعه الله تعالى، بخلاف العادات فإن مبناها على الإباحة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ): “الأصل في العبادات التوقيف، فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله تعالى، وإلا دخلنا في معنى قوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]. والعادات الأصل فيها العفو، فلا يحظر منها إلا ما حرَّمه الله، وإلا دخلنا في معنى قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا} [يونس: 59]”([8]).
وباستقراء الشريعة الغراء نعلم أن جميع ما أوجبه الله تعالى أو أحبه، فإنه لا يثبت الأمر به إلا من طريق الشرع([9])؛ لذا اتفق علماء الأمة قاطبة على أن ما لم يستحب أو يجب من الشرع فليس بواجب ولا مستحب، وأن من اتخذ عملًا من الأعمال عبادة ودينا يتقرب به إلى الله تعالى، وليس هو في الشريعة واجبا ولا مستحبا، فهو ضال مبتدع باتفاق المسلمين([10]).
ذلك أن الإسلام مبني على أصلين لا ثالث لهما:
- أن يعبد الله تعالى وحده لا شريك له.
- أن يعبد بما شرعه سبحانه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
وإذا وفق الله تعالى العبد واجتهد في العمل الصالح؛ وفِّق للإجابة عمَّا يسأل عنه الأولون والآخرون، “فلا تزول قدما العبد بين يدي الله حتى يسأل عن مسألتين: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ فجواب الأولى بتحقيق (لا إله إلا الله) معرفة وإقرارًا وعملًا. وجواب الثانية بتحقيق (أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم) معرفة وإقرارًا، وانقيادًا وطاعة”([11]).
فليحذر المؤمن أن يكون ممن خالف أو أحدث وابتدع، فيكون من المخذولين الخاسرين يوم القيامة؛ يقول الحافظ ابن عبد البر (ت 463هـ): “وكل من أحدث في الدين ما لا يرضاه الله ولم يأذن به، فهو من المطرودين عن الحوض والمبعدين -والله أعلم-، وأشدهم طردًا من خالف جماعة المسلمين، وفارق سبيلهم: مثل الخوارج على اختلاف فرقها، والروافض على تباين ضلالها، والمعتزلة على أصناف أهوائها، وجميع أهل الزيغ والبدع، فهؤلاء كلهم مبدِّلون، وكذلك الظلمة المسرفون في الجور والظلم، وتطميس الحق، وقتل أهله وإذلالهم، كلهم مبدل يظهر على يديه من تغيير سنن الإسلام أمر عظيم، فالناس على دين الملوك…”([12]).
ثالثًا: آثار السلف في تأييد القاعدة:
نظرًا لقوة أدلة هذه القاعدة وأهميتها فقد تكرر معناها في كلام السلف الكرام -رضي الله عنهم- وهاكم بعض أقوالهم:
– يقول ابن مسعود -رضي الله عنه-: (اتبعوا ولا تبتدعوا؛ فقد كفيتم، وكل بدعة ضلالة)([13]).
– ويقول حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما-: (اتبعوا ولا تبتدعوا؛ فقد كفيتم، اتبعوا آثارنا، فقد سبقتم سبقًا بعيدًا، وإن أخطأتم فقد ضللتم ضلالًا بعيدًا)([14]).
– وعن يزيد بن عميرة -وكان من أصحاب معاذ بن جبل- قال: كان لا يجلس مجلسًا للذكر حين يجلس إلا قال: الله حكم قسط، هلك المرتابون، فقال معاذ بن جبل يومًا: إن من ورائكم فتنًا يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن حتى يأخذه المؤمن والمنافق، والرجل والمرأة، والصغير والكبير، والعبد والحر، فيوشك قائل أن يقول: ما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن؟! ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره، فإياكم وما ابتدع، فإن ما ابتدع ضلالة، وأحذركم زيغة الحكيم؛ فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق. قال: قلت لمعاذ: ما يدريني -رحمك الله- أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة، وأن المنافق قد يقول كلمة الحق؟! قال: بلى، اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات التي يقال لها: ما هذه؟! ولا يثنينك ذلك عنه، فإنه لعله أن يراجع، وتلق الحق إذا سمعته؛ فإن على الحق نورًا([15]).
– وكتب رجل إلى عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- يسأله عن القدر، فكتب: (أما بعد، أوصيك بتقوى الله، والاقتصاد في أمره، واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وترك ما أحدث المحدثون بعدما جرت به سنته، وكفوا مؤنته، فعليك بلزوم السنة؛ فإنها لك -بإذن الله- عصمة. ثم اعلم أنه لم يبتدع الناس بدعة إلا قد مضى قبلها ما هو دليل عليها أو عبرة فيها؛ فإن السنة إنما سنها من قد علم ما في خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعمق. فارض لنفسك ما رضي به القوم لأنفسهم؛ فإنهم على علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، وهم على كشف الأمور كانوا أقوى، وبفضل ما كانوا فيه أولى…”([16]).
– ويقول الفضيل بن عياض -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7]: “أخلصه وأصوبه؛ فإنه إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يُقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقبل، حتى يكون خالصًا، والخالص إذا كان لله، والصواب إذا كان على السنة”([17]).
يقول الشيخ عطية محمد سالم (ت 1420هـ): “والقاعدة الأصولية الفقهية: أن العبادات مبناها على التوقيف، وما لم يكن دينًا ولا عبادة عند السلف الصالح فلا حاجة إليه اليوم، كما قال مالك -رحمه الله-: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها”([18]) .
رابعًا: صيغ أخرى للقاعدة:
قد يعبر بعضهم عن ذات المعنى بألفاظ وصيغ مختلفة، والمعنى متحد، وفيما يلي بعض ذلك مما يبين انتشار القاعدة واستعمال العلماء لها على اختلاف أزمانهم ومذاهبهم:
- العبادات محمولة على التوقيف
يقول القاضي أبو الحسن الماوردي الشافعي (ت 450هـ): “ما دليله التوقيف الذي لا مدخل فيه لبدائه العقول -كالعبادات- فمحمول على التوقيف من الله تعالى إلى ملائكته، ومن الملائكة إلى الرسول، ومن الرسول إلى أمته”([19]).
- ما طريقه القربة تقف على التوقيف
يقول القاضي أبو يعلى الفراء الحنبلي (ت 458هـ): “واختلفت [يعني: الروايات عن الإمام أحمد] في وضع اليد على القبر على روايتين: … ووجه الثانية [يعني: الرواية بالمنع]: أن ما طريقه القربة تقف على التوقيف“([20]).
- لا مدخل للرأي في معرفة العبادة([21])
يقول السرخسي الحنفي (ت 483هـ): “ولا مدخل للرأي في معرفة ما هو طاعة لله، ولهذا لا يجوز إثبات أصل العبادة بالرأي؛ وهذا لأن الطاعة في إظهار العبودية والانقياد، وما كان التعبد مبنيًّا على قضية الرأي، بل طريقه طريق الابتلاء”([22]).
- مأخذ العبادات التوقيف
يقول ابن دقيق العيد (ت 702هـ): “قد منعنا إحداث ما هو شعار في الدين، ومثاله: ما أحدثته الروافض من عيد ثالث، سموه عيد الغدير، وكذلك الاجتماع وإقامة شعاره في وقت مخصوص على شيء مخصوص لم يثبت شرعًا، وقريب من ذلك: أن تكون العبادة من جهة الشرع مرتبة على وجه مخصوص، فيريد بعض الناس: أن يحدث فيها أمرًا آخر لم يرد به الشرع، زاعمًا أنه يدرجه تحت عموم، فهذا لا يستقيم؛ لأن الغالب على العبادات التعبد، ومأخذها التوقيف“([23]).
- الأصل في العبادة التوقيف
يقول الحافظ ابن حجر الشافعي (ت 852هـ): “ووجه بأن الأصل في العبادة التوقيف“([24]).
ويقول الشيخ زكريا الأنصاري الشافعي (ت 926هـ): “والأكثرون كما في المجموع([25]) على أن أكثرها [يعني: صلاة الضحى] ثمان، وصححه [يعني: النووي] في التحقيق؛ لخبر الصحيحين عن أم هانئ: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها ثماني ركعات([26]). وعنها أيضًا: أنه صلى الله عليه وسلم يوم الفتح صلى سبحة الضحى ثماني ركعات، يسلم من كل ركعتين. رواه أبو داود بإسناد صحيح([27]). وما قيل من أن هذا لا يدل على أن ذلك أكثرها، رُدَّ بأن الأصل في العبادات التوقيف، ولم تصح الزيادة على ذلك”([28]).
كما نص على القاعدة غيره من فقهاء الشافعية: كشهاب الدين الرملي (ت 957هـ)([29])، وشمس الدين الرملي (ت 1004هـ)([30])، وغيرهما، ومن فقهاء المالكية: كمحمد عبد الباقي الزرقاني المالكي (ت 1122هـ)([31]).
- الأصلُ في العبادات أن لا يُشرع منها إلا ما شرعه الله
يقول محمد أنور شاه الكشميري الحنفي (ت 1353هـ): “واعلم أنه لم يثب الأذان والإقامة للعيدين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما تفرد به ابن الزبير -رضي الله عنه- وكم له مثل هذه التفردات!! كما مر من قبل، نعم كان بلال ينادي بالصلاة جامعة؛ ولذا أجيز بنحوه في الكسوف أيضًا، ونِعم ما قال أحمد -رحمه الله تعالى-: الأصلُ في العبادات أن لا يُشْرِع منها إلا ما شرعه الله…“([32]) .
ولو ذهبنا نستقصي أقوال العلماء لطال بنا المقام، واللبيب تكفيه الإشارة، وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية إلى كثرة استعمال الفقهاء للقاعدة بقوله: “ولهذا كان أصل أحمد وغيره من فقهاء الحديث: أن الأصل في العبادات التوقيف”([33]).
أدلة القاعدة:
تكاثرت الأدلة من الكتاب والسنة والأثر والإجماع على القاعدة، وفيما يلي بعضها:
أولًا: الأدلة من الكتاب:
- يقول عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
- ويقول الله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 18، 19].
- ويقول سبحانه: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21].
وجه الدلالة من الآيات:
دلت الآيات على أن الله تعالى أكمل الدين بما لا مزيد عليه، فليس لأحد أن يعبد الله إلا بما شرعه رسوله صلى الله عليه وسلم من واجب ومستحب، لا يعبده بالأمور المبتدعة التي لم يشرعها الله تعالى([34]).
ثانيًا: الأدلة من السنة:
- عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»([35])، وفي لفظ لمسلم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»([36]).
وجه الدلالة:
يقول الإمام النووي (ت 676هـ): “هذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم؛ فإنه صريح في رد كل البدع والمخترعات، وفي الرواية الثانية زيادة: وهي أنه قد يعاند بعض الفاعلين في بدعة سبق إليها، فإذا احتج عليه بالرواية الأولى يقول: أنا ما أحدثت شيئًا، فيحتج عليه بالثانية التي فيها التصريح برد كل المحدثات، سواء أحدثها الفاعل أو سبق بإحداثها”([37]) .
- وعن أبي ذر -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما بقي شيء يُقرِّب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بُيِّن لكم»([38]).
- وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»([39]) .
- وعن العرباض بن سارية -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن عبدًا حبشيًّا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة»([40]).
ثالثًا: الأدلة من الأثر:
عن عمر -رضي الله عنه-: أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبله، فقال: (إني أعلم أنك حجر، لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك)([41]).
رابعًا: الإجماع:
اتفق أهل السنة والجماعة قاطبة على العمل بهذه القاعدة، وبعضهم حكى الإجماع عليها؛ يقول الشيخ عبد الرحمن بن قاسم النجدي الحنبلي (ت 1392هـ): “وأجمع أهل العلم أن الأصل في العبادات التشريع”([42]).
تطبيقات القاعدة ومجالات إعمالها:
لا يمكن حصر تطبيقات القاعدة؛ نظرًا لشمولها لجميع تصرفات العبد من الاعتقادات والأقوال والأفعال، وحسبنا أن نذكر طرفًا منها يستدل به على ما لم يذكر:
- الغائب والميت لا يستغاث به، ولا يطلب منه ما لا يقدر عليه قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران: 154] إنما غايته طلب الدعاء من الحي، وقبول شفاعته عند الله -عز وجل- وهو صلى الله عليه وسلم انتقل من هذه الدار إلى دار القرار بنص الكتاب والسنة وإجماع الأمة، ولهذا استسقى أصحابه بعمه العباس بن عبد المطلب، وطلبوا منه أن يدعوا لهم في الاستسقاء عام القحط كما في البخاري عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-، ولم يأتوا إلى قبره، ولا وقفوا عنده مع أن حياته صلى الله عليه وسلم في قبره برزخية، والدعاء عنده مبناه على التوقيف والاتباع، ولو كان هذا من العبادات لسنه الرسول، ولكان أصحابه أعلم بذلك وأتبع، ولهذا لم يفعله أحد من الصحابة ولا التابعين مع شدة احتياجهم وكثرة مدلهماتهم([43]).
- قصد القبور لأجل الدعاء عندها رجاء الإجابة ليس من الشريعة، لا واجبًا ولا مستحبًا؛ فلا يكون دينًا، ولا حسنًا، ولا طاعة لله، ولا مما يحبه الله ويرضاه، ولا يكون عملًا صالحًا، ولا قربة، ومن جعله من هذا الباب فهو ضال باتفاق المسلمين([44]).
- سائر ما استحدث من الأعياد والمواسم منكر مستكره، حتى وإن لم تكن فيه مشابهة لأهل الكتاب والأعاجم؛ لدخوله في مسمى البدع والمحدثات، حتى ولو كانت إقامتها لذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ذلك لأن الأصل في العبادات أن لا يشرع منها إلا ما شرعه الله تعالى([45]).
- لم يتخذ الصحابة شيئًا من آثار النبي صلى الله عليه وسلم مسجدًا، ولا يُزار غير ما بناه من المساجد، ولم يكونوا يزورون غار حراء الذي نزل عليه فيه الوحي، ولا غار ثور المذكور في قوله تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة: 40]، ولا مكان ولادته، ولا الشِّعب الذي حُوصر فيه، وأمثال ذلك([46]).
- صلاة الأنس، وهي صلاة تصلى يوم دفن الميت بعد صلاة المغرب، وهي من الصلوات المحدثة، فهي بدعة لا تجوز؛ لأن العبادات مبناها على التوقيف بالنص، فلا يعبد الله إلا بما شرع…([47]).
- لا يجزئ الرمي بغير الحصى، فلو رمى بذهب لم يجزئه؛ لأن العبادات مبناها على التوقيف والاتباع([48]) .
ويحسن بنا أن نختم بما قاله أبو سليمان الداراني (ت 215هـ) -رحمه الله-: “ليس لمن ألهم شيئًا من الخير أن يعمل به حتى يسمعه من الأثر، فإذا سمعه من الأثر عمل به، وحمد الله تعالى حين وافق ما في قلبه”([49])، وقال أيضًا: “ربما يقع في قلبي النكتة من نكت القوم أيامًا، فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين: الكتاب والسنة”([50]).
اللهم ألهمنا رشدنا، ووفقنا لما فيه رضاك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
ـــــــــــــــــــــــــــ
المراجع
([1]) اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم (2/ 269).
([2]) الفتاوى الكبرى (2/ 242).
تنبيه: قد أكثر شيخ الإسلام من ذكر هذه القاعدة بألفاظ مختلفة، ومنها: “العبادات مبناها على التوقيف“. ينظر: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (1/ 294)، ومجموع الفتاوى (1/ 334)، ونقلها عنه الشيخ أبو سليمان عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في كتابه: “الكلمات النافعة في المكفرات الواقعة” (ص: 353)، والشوكاني في الفتح الرباني (1/ 92)، وغيرهم.
([3]) أخرجه البخاري (2697)، ومسلم (1718/ 17)، من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
([5]) ينظر: شرح الورقات في أصول الفقه للمحلي (ص: 66)، والكليات (ص: 122).
([7]) المسودة في أصول الفقه (ص: 43).
([8]) الفتاوى الكبرى (4/ 13)، والقواعد النورانية (ص: 164)، ومجموع الفتاوى (29/ 17).
([9]) ينظر: مجموع الفتاوى (29/ 16).
([10]) ينظر: مجموع الفتاوى (27/ 152).
([11]) ينظر: زاد المعاد في هدي خير العباد (1/ 36).
([13]) أخرجه وكيع في الزهد (315)، وأحمد في الزهد (ص202)، وابن وضاح في البدع والنهي عنها (14).
([14]) أخرجه ابن بطة في الإبانة الكبرى (1/ 336).
([17]) ينظر: حلية الأولياء لأبي نعيم (8/ 95).
([18]) تكملة أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (8/ 155).
([20]) المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين (1/ 214- 215)، ونقله عنه ابن مفلح في الآداب الشرعية (3/ 231).
([21]) ينظر: أصول السرخسي (1/ 45).
([23]) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (1/ 200).
([25]) المجموع شرح المهذب للإمام النووي (4/ 36).
([26]) أخرجه البخاري (1103)، ومسلم (336).
([28]) الغرر البهية في شرح البهجة الوردية (1/ 393)، وقرره أيضا في منحة الباري بشرح صحيح البخاري (3/ 243- 244)، وغيرها من كتبه.
([29]) فتح الرحمن بشرح زبد ابن رسلان (ص: 258).
([30]) غاية البيان شرح زبد ابن رسلان (ص: 79).
([31]) شرح الزرقاني على الموطأ (1/ 526).
([32]) فيض الباري على صحيح البخاري (2/ 468).
([33]) الفتاوى الكبرى (2/ 215).
([34]) ينظر: مجموع الفتاوى (1/ 80).
([37]) شرح النووي على صحيح مسلم (12/ 16).
([38]) أخرجه الطبراني في الكبير (1647)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1803).
([40]) أخرجه أبو داود (4607)، والترمذي (2678)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (2455).
([41]) أخرجه البخاري (1597)، ومسلم (1270).
([42]) حاشية الروض المربع لابن قاسم (2/ 523).
([43]) ينظر: رسالة مهمة للإمام المجاهد العلامة عبد العزيز بن محمد بن سعود (ص: 48- 49).
([44]) ينظر: مجموع الفتاوى (27/ 152).
([45]) ينظر: فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ (3/ 49).
([46]) ينظر: جامع المسائل لابن تيمية ط: عالم الفوائد (1/ 423).
([47]) ينظر: فتاوى اللجنة الدائمة (2/ 200).
([48]) ينظر: مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (24/ 546).
([49]) ينظر: حلية الأولياء (9/ 269)، وتاريخ بغداد (10/ 249).