طعنُ ابن تيميّة في الإمام علي.. فريةٌ بتراء
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه.
أما بعد: فإن من عظيم فضل أهل العلم وحرمة جنابهم أن جعل الله لحومَهم مسمومة، وعادته سبحانه في هتك أستار منتقصيهم معلومة؛ لأن الوقيعة فيهم بما هم منه براء أمره عظيم، والتناول لأعراضهم بالزور والافتراء مرتع وخيم، والاختلاق على من اختاره الله منهم لنشر العلم خلق ذميم، والاقتداء بما مدح الله به قول المتبعين من الاستغفار لمن سبقهم وصف كريم؛ إذ قال مثنيًا عليهم في كتابه: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10]([1]).
ومع هذا فقد يحلو لبعض الناس تلقف الإساءة إلى العلماء، ونشرها دون تثبت أو روية، وهم بهذا يقعون فيما حذر الله تعالى المؤمنين من الوقوع فيه؛ فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].
فقد انتشر في الآونة الأخيرة تصيُّد بعضِ الروافض ومَن سار على دربهم لجُملة من الاتهامات الباطلة التي وجِّهت إلى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ومنها: أنه كان ينتقص من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ويطعن فيه.
وجُلُّ اعتمادهم في هذه الافتراءات على ما أورده الحافظ ابن حجر في ترجمة شيخ الإسلام في كتابه “الدرر الكامنة”، وترجمته لابن المطهر الحلي الرافضي في كتابه: “لسان الميزان”([2])، فضلًا عن إذاعة فهمهم الخاطئ لكلام شيخ الإسلام ابن تيمية، أو اقتطاعهم لبعض كلامه من سياقه الذي قيل فيه.
وتفصيل الجواب عن تلك الفرية من طريقين محكمين:
الأول: ما قرره ابن تيمية في كتبه في حقّ أمير المؤمنين علي وثناؤه عليه.
الثاني: مناقشة الركائز على اعتمد عليها المبطلون لترويج فريتهم.
الطريق الأولى: ما قرره ابن تيمية في كتبه في حقّ أمير المؤمنين عليّ وثناؤه عليه:
الناظر في كتب شيخ الإسلام -على جهة العموم، وكتابه “منهاج السنة” على جهة الخصوص- لا يخطئ بصره أنها مشحونة بنصرة مذهب أهل السنة والجماعة في التعظيم والتبجيل والثناء والمدح للصحابة الكرام عمومًا، ولأمير المؤمنين علي بن أبي طالب خصوصًا؛ ودونك بعض نصوص شيخ الإسلام القاطعة في ذلك:
– يقول شيخ الإسلام: “ومن أصول أهل السنة والجماعة: سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما وصفهم الله به في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10]، وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي؛ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ»([3])“([4]).
– ويقول في الثناء على أمير المؤمنين: “وأما كون عليّ وغيره مولى كل مؤمن فهو وصف ثابت لعلي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد مماته، وبعد ممات علي، فعليٌّ اليوم مولى كل مؤمن، وليس اليوم متوليًا على الناس، وكذلك سائر المؤمنين بعضهم أولياء بعض أحياءً وأمواتًا”([5]).
– بل إنه أعلنها صريحة وبدون مواربة -كما في بعض مخاطباته- لما سئل: فما تحبون أهل البيت؟ فأجاب بقوله: “محبتهم عندنا فرض واجب، يؤجر عليه”([6]).
ولما سئل: فمن يبغض أهل البيت؟ أجاب بقوله: “من أبغضهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا”([7]).
فهل يصح بعد هذا ما يدعيه الروافض ومن لفَّ لفَّهم ممن حسدَه ونصب له العداء بالقول والقلم؟! ولو ذهبنا نستقصي ما جاء من نصوص عن شيخ الإسلام في هذا لطال بنا المقام، ولخرجنا عن المقصود، وحسبنا من القلادة ما أحاط بالعنق.
الطريق الثاني: مناقشة الركائز على اعتمد عليها المبطلون لترويج فريتهم:
استنَد مُروِّجو هذه الفريةِ على أربع ركائز واهية، كلُّ ركيزة لا تزيد أختَها إذا ضُمَّت إليها إلا وهنًا:
الأولى: نقل المترجمين لهذه الفرية من طريق مبهمة.
الثانية: التزوير على شيخ الإسلام.
الثالثة: تسويق الفرية عن طريق الفهم الخاطئ.
الرابعة: اقتطاع بعض الكلام من سياقه.
وتفصيل ذلك مع إبراز وجوه الرد عليها فيما يلي:
الركيزة الأولى: نقل المترجمين لهذه الفرية من طريق مبهمة:
دأب كثير من متزعِّمي نشر هذه الفرية على ترديد ما ذكره الحافظ ابن حجر في كتابه “الدرر الكامنة” في ترجمة شيخ الإسلام([8])، حيث قال: “وافترق الناس فيه -يعني: في شيخ الإسلام- شيعًا… ومنهم من ينسبه إلى النفاق؛ لقوله في عليّ ما تقدم([9])، ولقوله: إنه كان مخذولًا حيثما توجَّه، وأنه حاول الخلافةَ مرارًا فلم ينَلها، وإنما قاتل للرئاسة لا للديانة”([10]).
والجواب عن هذا الكلام من وجهين:
الوجه الأول: قول الحافظ: “ومنهم من ينسبه إلى النفاق”، للباحث المنصف أن يتساءل: من صاحب هذه المقولة؟! ليستنَّى لنا الحكم عليها بالعدل والإنصاف، فلمَّا أبهمه الحافظ ابن حجر دلَّ ذلك على إهماله وعدم اعتباره.
الوجه الثاني: مما يغلب على الظنّ أنَّ قول ابن حجر: “وافترق الناس فيه شيعًا” يتوجَّه بصفة رئيسة إلى من خالف شيخ الإسلام أو ناصبه العداء.
بيان ذلك: أن الحافظ لم يذكر ضمنَ هذا التقسيم مَن مدح شيخ الإسلام ابن تيمية، ولا من رفع من شأنه، وإنما اقتصر على من رماه -ظلمًا وزورًا- بالتكفير أو التبديع أو النفاق، ومن المعلوم أن هناك شريحةً كبيرةً من العلماء الأفاضل المنصِفين أثنوا على شيخ الإسلام خيرًا، ووصفوه بجميل الصفات، حتّى من المخالفين له.
وعلى سبيل المثال: ما ذكره الحافظ ابن حجر في “الدرر الكامنة” -ضمن ترجمة شيخ الإسلام- حيث قال: “وقال شيخ شيوخنا الحافظ أبو الفتح اليعمري في ترجمة ابن تيمية: حداني -يعني: المزي- على رؤية الشيخ الإمام شيخ الإسلام تقي الدين، فألفيته ممن أدرك من العلوم حظًّا، وكان يستوعب السننَ والآثار حفظًا، إن تكلَّم في التفسير فهو حامل رايتِه، أو أفتى في الفقه فهو مدرِك غايتِه، أو ذاكر في الحديث فهو صاحب علمه وذو روايته، أو حاضر بالملل والنحل لم يرَ أوسع من نحلته في ذلك، ولا أرفع من درايته.
برز في كل فنٍّ على أبناء جنسِه، ولم تر عين من رآه مثلَه ولا رأت عينه مثلَ نفسه، كان يتكلم في التفسير فيحضر مجلسه الجمّ الغفير، ويردون من بحره العذب النمير، يرتعون من ربع فضله في روضة وغدير.
إلى أن دب إليه من أهل بلده داءُ الحسد، وألَّب أهل النظر منهم على ما ينتقد عليه من أمور المعتقد، فحفظوا عنه في ذلك كلامًا أوسعوه بسببه ملامًا، وفوَّقوا لتبديعه سِهامًا، وزعموا أنه خالف طريقَهم، وفرَّق فريقهم، فنازعهم ونازعوه، وقاطع بعضَهم وقاطعوه”([11]).
وخلاصة الجواب عن هذه: أن فرية طعن شيخ الإسلام ابن تيمية في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فرية باطلة، ولا تعدو أن تكون من قبيل طعن الحساد وتأليب الأعداء بالباطل ومن غير بينة.
ويحتمل احتمالًا ظاهرًا أن يكون صاحب هذا القول -الذي نقله ابن حجر مبهمًا- هو الرافضي ابن المطهِّر الحلِّي، فإنه قد صنَّف كتابًا لنشر مذهب الرافضة بعنوان: “منهاج الكرامة في معرفة الإمامة”، فألف شيخ الإسلام كتابه “منهاج السنة في نقض كلام الشيعة القدرية”؛ نقضًا له، وتفنيدًا لشبهاته.
وقد بلغ ابنَ المطَهِّر الحِلِّي تصنيفُ شيخ الإسلام هذا، فكاتبه بأبيات، كما في “لسان الميزان” لابن حجر([12])؛ وهذا مما يقوي احتمال أن يكون هو صاحب هذا القول الذي نقله ابن حجر في “الدرر الكامنة” مبهمًا لقائله.
الركيزة الثانية: التزوير على شيخ الإسلام:
من الأمثلة الفجَّة على ذلك: ادِّعاء بعضِهم على شيخ الإسلام أنه قال عن أمير المؤمنين عليّ: “إنه كان مخذولًا حيثما توجه”([13]).
والجواب عن هذه الفرية:
أن هذا الكلام لا يثبت عن شيخ الإسلام بحالٍ من الأحوال، وها هي كتبه مطبوعة ومتداولة، وليس فيها هذا الكلام الباطل، ولا قريبًا منه عن أمير المؤمنين، ولو يُعطَى الناسُ بدَعواهم لادَّعى رجالٌ أموالَ قومٍ ودماءَهم.
الركيزة الثالثة: تسويق الفرية عن طريق الفهم الخاطئ:
اجتهد ناشرو هذه الفريةِ في تسويقها عن طريق تزييف الحقائق، وتزيين الفهم الخاطئ فيما نقلوه من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، ومن الأمثلة على هذا: ما نقله ابن حجر: “وقال في حق عليّ: أخطأ في سبعة عشر شيئًا، ثم خالف فيها نصَّ الكتاب، منها اعتداد المتوفى عنها زوجها أطول الأجلين”([14]).
والجواب عن هذه:
بداية: لا بد من تصويب العبارة -كما جاءت في كلام شيخ الإسلام- فإنه قال: “وقد جمع الشافعي ومحمد بن نصر المروزي المسائل التي تركت من قول علي وابن مسعود، فبلغت شيئًا كثيرًا، وكثير منها قد جاءت السنة بخلافه: كالمتوفى عنها الحامل؛ فإن مذهب علي رضي الله عنه أنها تعتدُّ أبعدَ الأجلين، وبذلك أفتى أبو السَّنابل بن بَعْكَك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما جاءته سُبَيعة الأسلمية وذكرت ذلك له، قال: كذب أبو السنابل، بل حللتِ، فانكحي من شئت([15]). وكان زوجها قد توفي عنها بمكة في حجة الوداع”([16]).
وقد أراد شيخ الإسلام ضربَ المثل ببعض المسائل التي أخطأ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه الاجتهاد فيها؛ دفعًا لغلوّ الروافض فيه، ولا يعدُّ هذا طعنًا ولا انتقاصًا من قدر أمير المؤمنين عليّ.
على أنَّ شيخ الإسلام لم يكن مبتدئًا لهذه التخطئة من عنديَّاته، بل نقلها عمن سبقه من أهل العلم والفضل: كالشافعي ومحمد بن نصر المروزي.
وكما هو معلوم فإن الخطأ في الاجتهاد لا يقدح في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولا ينقص من قدره؛ فإن أهل السنة والجماعة يعتقدون فضل الصحابة الكرام رضي الله عنهم، ولا يعتقدون عصمتَهم؛ فهم بشر يصيبون ويخطئون، وقد أخطأ في الاجتهاد من هو أفضل من علي بن أبي طالب رضي الله عنه كأبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، ولا يطعن فيهما أهل السنة والجماعة بسبب ذلك.
ألا ترى إلى خطأ أبي بكر الصديق رضي الله عنه في ميراث الجدة، ورجوعه عن هذا عندما أعلمه المغيرة بن شعبة بسنة النبي صلى الله عليه وسلم؟! فعن قَبِيصَة بن ذُؤيب أنه قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها؟ فقال: ما لك في كتاب الله تعالى شيء، وما علمت لك في سنة نبي الله صلى الله عليه وسلم شيئًا، فارجعي حتى أسألَ الناس، فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس، فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة، فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبة، فأنفذه لها أبو بكر([17]).
الركيزة الرابعة: اقتطاع بعض الكلام من سياقه:
من سمات أهل البدع أنهم يقتطعون كلام أهل الحقّ من سياقه؛ تلبيسًا على الناس، وترويجًا لباطلهم ونشرًا لبدعهم؛ ومن دعاويهم الباطلة على شيخ الإسلام ما يلي:
- افتراؤهم على شيخ الإسلام أنه قال في علي: “إنه قاتل للرئاسة لا للديانة”([18]).
والصواب من قول شيخ الإسلام: “فإن جاز للرافضي أن يقول: إن هذا كان طالبًا للمال والرياسة([19])، أمكن الناصبي أن يقول: كان عليّ ظالما طالبًا للمال والرياسة، قاتل على الولاية حتى قتل المسلمين بعضهم بعضًا، ولم يقاتل كافرًا، ولم يحصل للمسلمين في مدة ولايته إلا شرٌّ وفتنة في دينهم ودنياهم”([20]).
ومن المعلوم أن مراد شيخ الإسلام بهذا الكلام هو إقامة الحجة على ابن المطهِّر الحلي وتفنيد شبهاته التي اعترض بها على خلافة أبي بكر الصديق؛ فكلام شيخ الإسلام هنا من باب الإلزام لابن المطهِّر الحلي بكلام النواصب، لا من باب أنه يتبنَّى هذه الأقوال، أو يقول ببعضها.
- وقد قال في موضع آخر: “وقد كان أبو بكر رضي الله عنه أبعدهم عن الممانعة من معاوية بكثير كثير، لو كان لعلي حقّ؛ فإن أبا بكر لم يدع إلى نفسه، ولا أرغب ولا أرهب، ولا كان طالبًا للرئاسة بوجه من الوجوه”([21]).
وهذا الكلام قاله شيخ الإسلام في معرض ردِّه على الأحاديث التي استدلَّ بها ابن المطهر الحلي على إمامة علي بن أبي طالب، فذكر شيخ الإسلام هذا الكلام إثباتًا لفضيلة أبي بكر، وعلوِّ منزلته، ورفعة قدره على علي بن أبي طالب، وليس في الكلام نسبة أمير المؤمنين أنه يحب الرياسة.
- افتراؤهم على شيخ الإسلام أنه قال في عليّ: “إنه كان يحبّ الرئاسة، وأن عثمان كان يحب المال”([22]).
والصواب أنه قال -في معرض تفضيل عثمان على علي، وتقديمه عليه في الخلافة-: “وأما الطريق النظرية: فقد ذكر ذلك من ذكره من العلماء، فقالوا: عثمان كان أعلم بالقرآن، وعلي أعلم بالسنة، وعثمان أعظم جهادًا بماله، وعلي أعظم جهادًا بنفسه، وعثمان أزهد في الرياسة، وعلي أزهد في المال، وعثمان أورع عن الدماء، وعلي أورع عن الأموال”([23]).
ومقتضى تلك العبارة أن عثمانَ وعليًّا يشتركان في الفضائل، لكن عثمان يفضله في العلم بالقرآن، وعليّ يفضله في العلم بالسنة، كما أنهما يشتركان في الزهد في الرياسة؛ إلا أن عثمان يفضله في هذا الجانب، كما أنهما يشتركان أيضا في الزهد في المال، إلا أن عليًّا يفضله في تلك المزية، فأين هذا من قولهم: إن عليًّا كان يحب الرئاسة وعثمان كان يحب المال؟! وكما يقال: تجشَّأ لقمان من غير شبع([24]).
- ومن جملة افتراءاتهم على شيخ الإسلام قوله: “أبو بكر أسلم شيخًا يدري ما يقول، وعلي أسلم صبيًّا، والصبي لا يصح إسلامه على قول”([25]).
وتصويب عبارة شيخ الإسلام: هو كالتالي: “فإن الناس متنازعون في أول من أسلم؛ فقيل: أبو بكر أول من أسلم، فهو أسبق إسلامًا من علي، وقيل: إن عليًّا أسلم قبله، لكن علي كان صغيرًا، وإسلام الصبي فيه نزاع بين العلماء، ولا نزاع في أن إسلام أبي بكر أكمل وأنفع، فيكون هو أكمل سبقًا بالاتفاق، وأسبق على الإطلاق على القول الآخر، فكيف يقال: علي أسبق منه بلا حجة تدل على ذلك؟!”([26]).
وقد ذكر شيخ الإسلام هذا الكلام في معرض الرد على ادِّعاء ابن المطهر الحلي بأن عليًّا هو أوّل من سبق إلى الإسلام، ضمن الأدلة التي عرضها الرافضي على إمامة علي رضي الله عنه.
فقام شيخ الإسلام يدحض أدلته على ذلك؛ وأن قول الرافضي: “وهذه الفضيلة لم تثبت لغيره من الصحابة” ممنوع؛ مبيِّنًا أن أهل العلم اختلفوا في تعيين أول من دخل في الإسلام، فبعضهم يقول: أبو بكر، وبعضهم يقول علي، ثم إنه على التسليم بأن عليًّا هو أول من أسلم، فإن إسلام أبي بكر أكمل من إسلام علي؛ لأن عليًّا أسلم وهو صبي، وقد تنوعت أنظار العلماء في صحة إسلام الصبي.
فقد اتَّضح جليًّا أن سياق الكلام هو في إلزام الرافضي بالحجة، وليس التشكيك في صحة إسلام علي رضي الله عنه، أو أن شيخ الإسلام لا يصحح إسلامه.
- افتراؤهم على شيخ الإسلام أنه قال: “وبكلامه في قصة خطبة بنت أبي جهل ومات ما نسبها من الثناء على… وقصة أبي العاص بن الربيع وما يؤخذ من مفهومها، فإنه شنع في ذلك”([27]).
والصحيح من عبارة شيخ الإسلام قوله -في معرض الرد على ابن المطهر الحلي-: “بل لو قال القائل: إنه لا يعرف من النبي صلى الله عليه وسلم أنه عتب على عثمان في شيء، وقد عتب على علي في غير موضع، لما أبعد.
فإنه لما أراد أن يتزوج بنت أبي جهل اشتكته فاطمة لأبيها وقالت: إن الناس يقولون: إنك لا تغضَب لبناتك، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبًا، وقال: «إن بني المغيرة استأذنوني أن يزوِّجوا ابنتهم عليَّ بن أبي طالب، وإني لا آذن، ثم لا آذن، ثم لا آذن، إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلِّق ابنتي ويتزوَّج ابنتهم؛ فإنما فاطمة بضعة مني، يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها»، ثم ذكر صهرًا له من بني عبد شمس فقال: «حدَّثني فصَدَقَني، ووعدني فوفى لي»([28])، والحديث ثابت صحيح؛ أخرجاه في الصحيحين”([29]).
وهذا الكلام قاله شيخ الإسلام ردًّا على ابن المطهِّر الحلي في طعنه في أبي بكر الصديق، وأنه منع فاطمة من إرث فَدَك([30])، فأراد شيخ الإسلام إلزام الرافضي الحجَّةَ، فأورد له عدة وجوه، ومنها هذا الإيراد: بل لو قال قائل… إلخ. وهو إلزام قويّ، لا مناصَ من الخروج عنه.
وبهذا يُعلم أنه ليس في منطوق كلام شيخ الإسلام ولا في مفهومه أدنى تشنيعٍ أو إساءة إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
- ومنها افتراؤهم على شيخ الإسلام أنه قال: “وليس علينا أن نبايع عاجزًا عن العدل عليا ولا تاركًا له، فأئمة السنة يسلمون أنه ما كان القتال مأمورًا به، ولا واجبًا، ولا مستحبًا”، حيث زعموا -زورًا وبهتانًا- أنه يطعن في أمير المؤمنين ويصفه بأنه عاجز عن العدل.
وتصحيح العبارة عن شيخ الإسلام هكذا: “… وطالب الحقّ من عسكر معاوية يقول: لا يمكننا أن نبايع إلا من يعدل علينا ولا يظلمنا، ونحن إذا بايعنا عليًّا ظلمنا عسكره، كما ظلم عثمان.
وعليٌّ إما عاجز عن العدل علينا، أو غير فاعل لذلك، وليس علينا أن نبايع عاجزًا عن العدل علينا ولا تاركًا له؛ فأئمة السنة يعلمون أنه ما كان القتال مأمورًا به: لا واجبًا، ولا مستحبًا، ولكن يعذرون من اجتهد فأخطأ“([31]).
فانظر -يا رعاك الله- كيف قام هذا الرافضي بتحريف الكلام فقال: “وليس علينا أن نبايع عاجزًا عن العدل عليًّا”، والصواب: “وليس علينا أن نبايع عاجزًا عن العدل علينا”.
وبناء على هذا التحريف تغيَّر المعنى، وحمل الكلام على غير محمله الصحيح، واتهم شيخ الإسلام بما لم يقله، على أن هذا الكلام هو لسان حال طالب الحقِّ في عسكر معاوية، وليس هو من كلام شيخ الإسلام، فهو ناقل ومحلِّل للكلام، وليس متبنِّيًا له.
كما أنه في آخر الكلام أوضح -بما لا مزيد عليه- أن من اجتهد فأخطأ فهو معذور، فبطل المدَّعَى، ووضحت الحجة، واستبانت المحجة، ولله الحمد.
وقائمة الافتراءات تطول، وانتزاعهم لكلام شيخ الإسلام من سياقه لا ينتهي، وتحريفهم للقول عن مواضعه لا ينحصر، وحسبنا ما تقدم.
على أنه مما ينبغي استحضاره جيدًا لأهل السنة والجماعة: أن مراد شيخ الإسلام في كتابه “منهاج السنة” هو إقامة الحجة على ابن المطهِّر الحلي وتفنيد شبهاته، وغالب كلام شيخ الإسلام معه في مقام المناظرة، من باب الإلزام له لا من باب التبني لبعض تلك الأقوال، وكثيرًا ما يكرر شيخ الإسلام في كتابه “منهاج السنة”: “نقول هذا على طريق الإلزام”([32]).
ومن أجمع ما قاله شيخ الإسلام في فضل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومدحه والثناء عليه قوله: “وكُتُب أهل السنة من جميع الطوائف مملوءة بذكر فضائله ومناقبه، وبذم الذين يظلمونه من جميع الفرق، وهم ينكرون على من سبه، وكارهون لذلك…
بل هم كلهم متفقون على أنه أجلّ قدرًا، وأحقّ بالإمامة، وأفضل عند الله وعند رسوله وعند المؤمنين من معاوية وأبيه وأخيه الذي كان خيرًا منه.
وعليٌّ أفضل ممن هو أفضل من معاوية رضي الله عنه، فالسابقون الأولون الذين بايعوا تحت الشجرة كلهم أفضل من الذين أسلموا عام الفتح، وفي هؤلاء خلق كثير أفضل من معاوية، وأهل الشجرة أفضل من هؤلاء كلِّهم، وعلي أفضل من جمهور الذين بايعوا تحت الشجرة، بل هو أفضل منهم كلهم إلا الثلاثة -يعني: أبا بكر وعمر وعثمان-، فليس في أهل السنة من يقدِّم عليه أحدًا غير الثلاثة.
بل يفضِّلونه على جمهور أهل بدر وأهل بيعة الرضوان، وعلى السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار”([33]).
وبالجملة فإن تلك فرية مردودة، ظاهرة الفساد والبطلان، وكما قال الشاعر:
وَلَيسَ يصحُّ في الأذهانِ شيءٌ | إذَا احتَاجَ النَّهارُ إلى دَليل |
نسأل الله تعالى أن يعصِم ألسنتنا من الوقوع في أهل العلم، أو رميهم بالباطل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) مقتبس من كلام ابن عساكر في تبيين كذب المفتري (ص: 29).
([3]) أخرجه البخاري (3673)، ومسلم (2540)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، واللفظ لمسلم.
([4]) العقيدة الواسطية (ص: 24).
([5]) منهاج السنة النبوية (7/ 325).
([8]) ومنهم: عدنان إبراهيم في بعض خطبه، ودونك بعض كلامه في هذا الرابط:
https://www.youtube.com/watch?v=6m6T4eSOLF0
([9]) يشير بذلك إلى قوله في الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة (1/ 179): “وقال في حق عليٍّ: أخطأ في سبعة عشر شيئًا، ثم خالف فيها نصّ الكتاب، منها اعتداد المتوفى عنها زوجها أطول الأجلين”. وسيأتي مناقشة تلك المسألة، ضمن هذه المقالة.
([10]) الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة (1/ 180-181).
([11]) الدرر الكامنة (1/ 182-183).
([13]) الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة (1/ 180-181).
([14]) الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة (1/ 179).
([15]) أخرجه البخاري (5318)، ومسلم (1484) بألفاظ قريبة.
([16]) منهاج السنة النبوية (6/ 113-114).
([17]) أخرجه أحمد (29/ 493)، وأبو داود (2894)، والترمذي (2100، 2101)، والنسائي في الكبرى (6305)، وابن ماجه (2724)، وقال محققو المسند: “صحيح لغيره”.
([18]) ينظر: الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة (1/ 181).
([19]) يقصدون بذلك الطعن في الصديق أبي بكر رضي الله عنه.
([20]) منهاج السنة النبوية (2/ 60).
([21]) منهاج السنة النبوية (7/ 462).
([22]) ينظر: الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة (1/ 181).
([23]) منهاج السنة النبوية (8/ 229).
([24]) مثل يقال لمن انتحَل العلم وليست عنده أدواته. ينظر: الأمثال لابن سلام (ص: 209).
([25]) ينظر: الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة (1/ 181).
([26]) منهاج السنة النبوية (7/ 155).
([27]) ينظر: الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة (1/ 181).
([28]) أخرجه البخاري (3729)، ومسلم (2449)، من حديث المسور بن مخرمة.
([29]) منهاج السنة النبوية (4/ 242).
([30]) في مركز سلف تفصيل لهذه القصة، والرد على شبهات الرافضة حولها، ضمن مقالة بعنوان: مكِيْدَةُ الشِّقاقِ بين السلف وآل البيت!! ودونك رابطها: https://salafcenter.org/2999/.
([31]) منهاج السنة النبوية (4/ 384).
([32]) ينظر: منهاج السنة في المواضع التالية: (1/ 198، 205، 453، 3/ 349).