الاثنين - 02 شوّال 1446 هـ - 31 مارس 2025 م

تصدير سِجلّ مؤتمر جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريِّين للشيخ محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله (3)

A A

 للتحميل كملف pdf  اضغط هنا

بَدء تفرُّق المسلمين في الدين

أقام سلفُنا الصالح دينَ الله كما يجب أن يقامَ، واستقاموا على طريقته أتمَّ استقامةٍ، وكانوا يقِفون عند نصوصِه من الكتاب والسنة، لا يتعدَّونها ولا يتناولونها بالتأويل، وكانت أدواتهم لفَهم القرآن روح القرآن وبيان السُّنَّة ودلالة اللُّغَة والاعتبارات الدينيَّة العامَّة، ومِن وراء ذلك فِطرةٌ سليمة، وذَوق متمكِّن، ونظَرٌ سَديد، وإخلاصٌ غيرُ مدخول، واستِبراءٌ للدِّين قد بلغ من نفوسهم غايته، وعزوفٌ عن فتنة الرأيِ وفتنة التَّأويل.

أدبهم قولُه تعالى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]، وقولُه تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، فكانوا أحرصَ الناس على وِفاق، وكانوا كلَّما طاف بهم طائفُ الخلاف في مسألةٍ دينية بادَروه بالردِّ إلى كتاب الله وإلى سنَّة رسوله، فانحَسم الداءُ وانجابتِ الحَيرة.

وكان العلماءُ هم المرجِع الأعلى للعامَّة في كلِّ ما يحزبُها من شؤون دينِها، يرجعون إليهم بلا عصبِيَّةٍ، ويصدُرون عن رأيِهم بلا عصبيَّة، وكان العلماءُ يمثِّلون الاستخلافَ الدينيَّ والوراثة النبويَّة تمامَ التمثيل، يقودون الأمَّةَ بالحقِّ إلى الحقِّ، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكَر، ولا تأخُذهم في الله لومَة لائمٍ.

وأوَّل ما نشأ في المجتمع الإسلاميِّ من جراثيمِ التفرُّق في الدِّين الكلامُ في القدَر والخوضُ في الصِّفات، وقارَنَ ذلك حدوث الخلافِ في الخلافةِ: هل هي شعبةٌ منَ الدين تفتقِر إلى تنصيصٍ من الشارع، أو هي مصلَحة دنيويَّة ترجِع إلى اختيارِ أهل الرأي منَ الأمَّة. وقد سبَق الخلافُ العمليُّ الخلافَ العلميَّ في هذه المسألَة، وهي المعترَك الأوَّل الذي اشتَجرَت فيه الآراءُ حتى تطرَّفت، بعدَ أن اشتَجَرت فيه الرماحُ حتى تقصَّفت، كما أنها أوَّل مسألةٍ امتزجت فيها الأنظارُ الدينية بالأنظار الدنيويَّة (أو السياسة كما يقولون اليوم)، وفي هذا المعترك نبتَت جُرثومة التعصُّب الخبيثةُ.

ثمَّ توسَّعت الفتوحاتُ، وبسَط الإسلام ظلَّه على كثيرٍ منَ الممالك التي كانَت لها أثارةٌ مِن عمران وشيءٌ مِن سلطان، ودانت لهُ كثيرٌ من الأمَم، وفي كلِّ أمَّة طوائفُ دخلت في الإسلام وهي تحمِل أوزارًا من بقايَا ماضِيها، وما كادَت هذه المجموعاتُ البشرية تمتزج ويفعل الإسلامُ فيها فِعلَه، حتى ظَهرت عليها أعراضُ التَّفرُّق، فظهر أصحابُ المقالاتِ في العقائد، وأحدَثوا بدعةَ التأويل الذي هو في الحقيقةِ تحريفٌ مسمًّى بغير اسمه.

وتوفَّرت الدَّواعي لظهورِ المذاهب الفقهيَّة والمذاهب الكلاميَّة والمذاهب الصوفيَّة في أزمِنَة متقارِبة، وكان لترجمة الفلسفةِ اليونانيَّة والحكمة الفارسيَّة والهندية أثرٌ قويٌّ في تعدُّد المذاهب الكلامية والصوفية؛ بما أتت به الأولى من بحثٍ في الإلهيات على الطريقةِ العقليَّة الصِّرفة، وبما غذّت به المتكلِّمين من الأنظار المختَلفة وأمدَّتهم به من طرائق الجدل وقوانينه، وهذا هو مبدأ التفرُّق الحقيقيُّ في الدين؛ لأنَّ المتكلمين يزعمون أنَّ علومَهم هي أساس الإسلام، والصوفيَّة يقولون: إنَّ علومَهم هي لباب الشريعة وحقيقتُها.

* * *

أمَّا المذاهبُ الفقهيَّة فحدوثُها ضروريٌّ وطبيعيٌّ ما دامت السُّنَّة لم تُجمع، وبعد جمعِها لم تكن وافيَةً بالتنصيص على الوقائعِ الجزئية، ومتونها وأسانيدُها بعدُ خاضِعةٌ للتزكية والتجريح؛ لأنها لم تُنقل بطريق التواتر، وما دامت مداركُ المجتهدين الذين هم المرجِع في هذا الباب متفاوتةً بالقوّة والضَّعف في الاستنباط ووجوه القياس وعِلَله، وما دامت الوقائِع التي تُناط بها الأحكام لا تَنضَبط، وقدِ استحدث العِمران أنواعًا جديدةً من المعاملات الدنيويَّة لا عهدَ للإسلام الفطريِّ بها، وصورًا شتَّى من المعايِش ووجوهِ الكَسب لم تكن معروفةً، فمِن سماحة التشريع الإسلاميِّ ومرونتِه أن تُتَناول هذه المستحدثاتُ الجديدة بأنظارٍ جديدة، وتُستَنبط من أصوله أحكامٌ لفروعها، وكلُّ هذا لا حرَج فيه، وليس داخلًا فيما نشكُوه، بل نحن أوَّل من يقدر قدرَ تلك الأنظار الصائبَة والمدارك الراقية، ويقيمها دليلًا على اتّساع التشريع الإسلاميِّ لمصالح الناسِ وصلاحيَّته لجميع الأزمنة، وينكر على من سدّ هذا البابَ على الأمَّة فزهّدها في استجماع وسائِله، ونحن أوَّل من يقدر قدرَ أولئكَ الأئمَّة العظام الذين هُم مفاخِر الإسلام.

والمذاهب الفقهيَّة في حدِّ ذاتها ليست هي التي فرَّقت المسلمين، وليس أصحابها هم الذين ألزَموا الناسَ بها، أو فرضوا على الأمَّة تقليدَهم، فحاشاهم من هذا، بل نصَحوا وبيَّنوا، وبذَلوا الجهدَ في الإبلاغ، وحكَّموا الدليلَ ما وجَدوا إلى ذلك السَّبيل، وأتوا بالغرائب في باب الاستنباط والتعليل، والتفريع والتأصيل، ولهم في بابِ استخراج علل الأحكام وبناءِ الفروع على الأصول وجمعِ الأشباه بالأشباهِ والاحتياطِ ومراعاة المصالح ما فاقُوا به المشرِّعين من جميع الأمَم.

وإنَّما الذي نعدُّه في أسباب تفرُّق المسلمين هو هذه العصبيَّةُ العمياء التي حدَثت بعدهم للمذاهب، والتي نعتقِد أنهم لو بُعثوا من جديدٍ إلى هذا العالَم لأنكروها على أتباعهم ومقلِّديهم، وتبرَّؤوا إلى الله منهم ومنها؛ لأنها ليست من الدِّين الذي اؤتمِنوا عليه، ولا من العِلم الذي وسّعوا دائرته.

وكيف يَرضَون هذه العصبيَّة الرعناءَ ويقِرُّون عليها مقلِّدتَهم ومِن آثارها فيهم جعلُ كلامِ غير المعصومِ أصلًا وكلام الله ورسوله فرعًا، يُذكر للتقوية والتأييدِ إن وافق، فإن خالفَ أُرغِم بالتأويل حتَّى يوافق؟! وهذا شرّ ما بلغته العصبيَّة بأهلها، ومِن آثارها فيهم معرفةُ الحقِّ بالرجال، ومن آثارها فيهِم اعتبارُ المخالِف في المذهَب كالمخالف في الدِّين، يُختلف في إمامَته ومصاهَرته وذكاتِه وشهادتِه، إلى غير ذلك مما نعدُّ منه ولا نعدِّده.

وقد طغَت شرور العصبيَّة للمذاهب الفقهيَّة في جميع الأقطار الإسلاميَّة، وكان لها أسوأُ الأثر في تفريق كلمة المسلمين، وإنّ في وجه التاريخ الإسلاميِّ منها لنُدوبًا.

أمَّا آثارُها في العلوم الإسلاميَّة فإنها لم تمدَّها إلَّا بنوعٍ سخيفٍ مِنَ الجدل المكابر، لا يُسمِن ولا يُغني من جوعٍ، ولا عاصمَ مِن شرور هذه العصبيَّة إلَّا صرفُ الناشئةِ إلى تعليمٍ فقهيٍّ يستَنِد على الاستقلال في الاستدلال، وإعدادها لبلوغ مراتِبِ الكمال، وعدَم التَّحجير عليها في استِخدام مواهِبها إلى أقصى حدٍّ.

* * *

وأمَّا المذاهبُ الكلاميَّة فلم يكُن أثرُها بالقليلِ في تفرُّق المسلمين وتمزُّق شملِهم، ولكنها لما كان موضوعُها البحثَ في وجودِ الله وإثبات صفاته، وما يجب له من كمالٍ وما يستحيل عليه من نَقص -كلُّ ذلك من طريقِ العقل- كانت دائرتها محدودةً، وكان التعمُّق فيها من شأنِ الخواصِّ، وقعَد بالعامَّة عنِ الدخول في معتركها إحساسها بالتقصير في أدواته من جدلٍ وعقلياتٍ يحتاج إليها في مقامات المناظرة والحِجاج، فليس علمُ الكلام كعلمِ التصوُّف مطيَّةً ذلولًا يَندَفِع لركوبها العاجِز والحازم، فالتَّصوُّف شيءٌ غامِض، يُسعى إليه بوسائِل غامضةٍ، ويسهُل على كلِّ واحدٍ ادِّعاؤه والتلبيس به. فإن خاف مدَّعيه الفضيحةَ لم يعدَم سلاحًا من الجَمجَمة([1]) والرمز وتسمية الأشياءِ بغير أسمائها، ثمَّ الفزع إلى لزوم السَّمت والتدرُّع بالصَّمت والإِعراض عن الخلق، والانقطاع والهروب منهم، ما دام هذا كله معدودًا في التصوُّف وداخلًا في حدودِه. ولا كذلك علمُ الكلام الذي يفتقِر إلى عقل نيِّرٍ وقريحةٍ وقَّادة وذكاء نافِذ، ويحتاج منتحِلُه إلى براعةٍ ولسنٍ ومِران على المنطِق ومقدّماته ونتائجه وأقيستِه وأشكاله. ولِمَ كلُّ هذه العدَد؟ كلُّ هذه العدَدُ للمناظرات وما تستلزمه من إيرادٍ ودفع ٍوإفحام وإلزام، وأين العامَّة من هذا كله؟! لذلك لم يكن لها من حظٍّ في هذا العِلم إلَّا معرفة أسماء بعضِ الفرق والانتصار لها انتصارًا تقليديًّا؛ ولذلك كانت آثارُ التفريق الناشئة عن هذه المذاهِب الكلاميَّة قاصرةً على طبقات مخصوصَة، ولم تتغلغَل في العامَّة كما تغلغلت آثار التصوُّف.

وقد انقرضَت تلك الفرقُ، وانقَرض بانقراضها سببٌ جوهريٌّ من أسباب التفرُّق، بل ماتَ بموتها شاغلٌ طالما شغَل طائفةً من خِيرة علماء المسلمين ببعضِهم، وجعل بأَسهم بينهم شديدًا، وألهاهم بما يضرُّ عمَّا ينفع.

تلاشَت تلك الفرقُ ولم تبق إلَّا أخبارُ معاركها الجدليَّة في كتب التاريخ، وإلا آراؤها المدوَّنة في كتبها فتنةً للضعفاء وتبصرةً للحصفاء([2])، ولم يبقَ من تلك الأسماءِ التي كوَّنت قاموسًا في الأنساب إلَّا اسمان يدوران في أفواهِ العامَّة وأشباهِ العامَّة، ويستعمِلونهما في أغراضٍ عامِّيَّة وهما: (أهل السُّنَّة والمعتزلة).

ومِنَ المحزنِ أنَّ دراسةَ علم التوحيدِ حتى في كلِّيَّاتنا (الراقية) كالأزهر والزَّيتونة لا تزال جاريةً على تلك الطرائقِ، وفي تلكَ الكتُب، ولا تزال تقرَّر فيها تلكَ الآراء، ولا تزال تُذكر فيها أسماء تلك الفرَق التي لم يبقَ لها وجودٌ، ويَستَعرِض سيِّدُنا المدرِّس تلك الآراءَ ثمَّ يدحضُها، ويُقيمها ثمَّ ينقُضها. وتُقتَطَع أوقاتُ الطلبة المساكين في ذلك، ويا ضيعةَ الأعمار!

أمَّا الشبهاتُ التي يورِدُها كلَّ يومٍ ملاحدةُ العَصر ومبشِّرو المسيحيَّة على الإسلام، ويَفتِنون بها العلماءَ فضلًا عن العوامّ، فإنَّ كلِّيَّاتنا (العلميَّة الدينيَّة) ومدرِّسيها لا يُعيرونها أدنى اهتِمام، ولا يَعمُرون بها وقتَ الطلبة، فيا لَلفضيحة!

* * *

وإذا نحن وازنَّا بين ما أَجداه علينَا علمُ الكلام وبين ما خسِرناه بسبَبِه وجدنا الخسارةَ تربُو على الرِّبح، فتوحيدُ الله مقرَّر في القرآن بأجدَى بيانٍ وأكملِ برهانٍ، وصفاته لا يطمَع طامعٌ أن يأتيَ في إثباتها بأكمل ممَّا أتى به القرآن، وطريقةُ القرآن في التنزيه أقومُ طريقة، وقد جَرى عليها الصحابةُ فكانوا أكمَل الناس توحيدًا، مع أنهم لا يعرفون الجوهَرَ والعرض، وهل يبقى زمانَين؟ ولا الكَمّ ولا الكيف بمعانيها الفلسفيَّة الدَّقيقة. وعلى هذا فما معنى إضاعةِ الوقت وإِعنات النفس في معرفةِ هذا العلم المسمَّى بعلم الكلام؟!

ولو كان هذا العلمُ المستحدَث ذا قواعدَ طبيعيةٍ لا تُنقض -كقواعدِ الحساب أو الهندسة مثلًا- لخفَّ ما يلقى الناسُ في تعلُّمه من عَناء، ولكنَّنا رأينَا تلك القواعدَ تتهاوى في المناظرات القوليَّة أو القلميَّة كفقاقيع الماء، فلا يكاد يَبني الباني حتى ينبري له هادِم ينقُض ما بنى ويتبِّر ما علا.

فوَا أسَفاه على تلك الحملاتِ العنيفة التي كانت جهادًا ولكن في غير عدوٍّ، ووا لهفاه على ذلك النَّقع([3]) المثار وقدِ انجلى عن غيرِ فتحٍ ولا غنيمَة، ووا حَسرتاه على ذلكَ الذكاءِ الذي كانت تكادُ تشفُّ له حجُب الغيَب -ذكاء أبي بكر الباقلَّاني وفخر الدِّين الرازي وأبي الهذيل وابن المعلّم- وقد ضاع فيمَا لا تعودُ على الإسلام منه عائِدة، ولا تنجرُّ له منه فائِدة.

وإنَّك لتطالِع تفسيرَ الرازيِّ مثلًا فتتلمَّح من جملته ذكاءً يشعُّ، وقريحَة تتَّقد، وألمعيَّةً تكاد تنتزع منك بناتِ صدرك، فتظنُّ أن سيكشف لك عن الجهات المتَّصلة بنفسِك منَ القرآن، ويجلِّي لك سُنن الله في الأنفس والآفاق، وإذا بالظنِّ يخيب والفأل يكذب؛ إذ ترى تلك القِوى مصروفةً إلى جهةٍ غير التي تُريد، وترى الرجلَ وقد غَلب على ذكائه وجَرفته العادةُ التي تملَّكته إلى الآراء والعقلياتِ وإثارة الشبهات، وترى ذلك الذِّهن العاتي يتخبَّط في مضائقَ هي دونَ قدرِ القرآن ودونَ قيمةِ ذلك الذهن، حتى ليُسفُّ([4]) فيزعم لك مثلًا أنَّ أولي العلم في قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18] هم أهل الأصول.

ونحن نعتقِد أنَّ الرجلَ وأمثالَه من الأذكياءِ ما أُتوا إلَّا من غَرامهم بهذه المباحث الكلاميَّة واستهتارهم فيها. ويمينًا لو أنَّ تلك الجهودَ التي تفرَّقت على الكلامِ تألَّفت على جِهةٍ عقليةٍ أخرى لفتَحت في العلم فتحًا أغرَّ زاهرًا، ولتعجّلت به الفخر للإسلام وأهلِه.

* * *

وأمَّا المذاهبُ الصوفيَّة فهي أبعدُ أثرًا في تشويهِ حقائقِ الدين، وأشدُّ منافاة لروحِه، وأقوى تأثيرًا في تفريقِ كلمةِ المسلمين؛ لأنها ترجع في أصلِها إلى نزعةٍ غامضة مبهَمَة، تستَّرت في أوَّل أمرها بالانقطاع للعبادة والتجرُّد من الأسباب والعزوفِ عن اللَّذَّات الجسدية والتظاهُر بالخصوصيَّة، وكانت تأخذُ منتحلِيها بشيءٍ من مظاهر المسيحيَّة، وهو التسليم المطلَق، وشيءٍ من مظاهِر البرهميَّة، وهو تعذيب الجسَد وإرهاقُه توصُّلًا إلى كمالِ الروح زعمَوا. وأين هذا كلُّه من روح الإسلام وهدي الإسلام؟! ولم يتبيَّن الناس خيرَها من شرِّها لما كان يسودُها من التكتُّم والاحتراس، حتى جرَت على ألسنَة بعض منتحليها كلماتٌ كانت ترجمةً لبعض ما تحمل من أوزار، فراب أئمَّةَ الدين أمرُها، وانفتَحت أعينُ حرَّاس الشريعة، فوقفوا لها بالمرصادِ، فلاذ منتحلوها بفُروقٍ مبتَدَعَة يريدون أن يثبِتوا بها خصوصيَّتهم؛ كالظاهر والباطن، والحقيقة والشريعة، إلى ألفاظٍ أخرى من هذا القبيلِ، لا تخرج في فَحواها عن جعل الدِّين الواحد دينَين.

وما كاد السيفُ الذي سُلَّ على الحلَّاج وصَرعَى مخرَقَته([5]) يُغمَد ويوقِن القومُ أنَّهم أصبحُوا بمنجاة من فتكاتِه، حتى أجمعوا أمرَهم وأبدَوا للنَّاس بعضَ مكنوناتِ أسرارهم، ملفوفةً في أغشيةٍ جميلة من الألفاظ، ومحفوفةً بظواهِرَ مقبولةٍ من الأعمال، وحاولوا أن يصِلوا نحلتَهم تلك بعُجرها وبُجرها بصاحبِ الشريعة أو بأحدِ أصحابه، فلم يُفلحوا، وافتضحَت حيلَتهم، وانقَطع الحبل مِن أيديهم، فرجعوا إلى ادِّعاء الكشف وخَرق الحجب والاطِّلاع على ما وراء الحسِّ، إلى آخِرِ تلكَ (القائمة) التي لا زلتَ تسمَعُها حتى من أفواه العامَّة وتجدُها في معتقداتهم.

ثم أَمِرَ أمرُ هذه الصوفيةِ، وتقوَّت على الزمن، والتقَت مع الباطنيَّة وغيرها من الجمعيَّات التي تبني أمرها على التستُّر على طبيعةٍ دسَّاسة وعِرق نزَّاع ومزِاج مُتحدٍ، واختَلَطت تعاليم هذه بتعاليم تلك، وتشابهت الاصطلاحات، وابتلي المسلمون من هذه النِّحَل بالداء العُضال.

وقدِ اتَّسع صَدرُها بعد أن تعدَّدت مذاهبُها، واختلفَت مَشاربُها في القرون الوسطى والأخيرة من تاريخ الإسلام، فانضَوى تحت لوائِها كلُّ ذي دِخلة سيِّئة وعقيدةٍ رديئَة، حتى أصبَح التصوُّف حيلةَ كلِّ محتال، وحِليَةَ كلِّ دجَّال. وإنَّ هذه الطرقَ المنتشرةَ بين المسلمين، والتي تربو على المذاهب الفقهيَّة عدًّا، كلّها -على ما بينَها من تبايُن الأوضاع واختلاف الطِّباع وتنافُر الأتباع- تنتسب إلى هذا التصوُّف، ولكنَّه انتسابٌ صوريٌّ اسميٌّ، وشتَّان ما بين الفرع وأصله! فمبنى التصوُّف في أغلب مظاهره -كما أسلفنا- على الانقطاع والزُّهد في الدنيا، والتجرُّد والتقشُّف ورياضة النفس على المشاقِّ، وفطمها عن الشهوات، ومبنى هذه الطرقِ في ظاهِر أمرِها وباطنِه على حيوانيَّةٍ شرِهة، لا تقف عند حدٍّ في التَّمتُّع بالشَّهوات والانهماك في اللَّذائذ واحتِجان الأموال([6]) من طريقِ الحرام والحلال، واصطيادِ الجاهِ وحبِّ الظهور والاختلاط بأهل الجاه وإيثارهم والتزلُّف إليهم.

* * *

ـــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) الجَمجمة: الكلام غير المبين.

([2]) جمع حصيف وهو: صاحب العقل والرأي السديد.

([3]) أي: الغبار.

([4]) أي: هبط إلى مستوًى متدنٍّ.

([5]) أي: كذبِه ودجله وافترائِه.

([6]) أي: جمعها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جديد سلف

التدرج في تطبيق الشريعة.. ضوابط وتطبيقات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: إن الله تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب ليقوم الناس الناس بالقسط، قال تعالى: ﴿‌لَقَدۡ ‌أَرۡسَلۡنَا ‌رُسُلَنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِ﴾ [الحديد: 25] أي: “ليعمل الناس بينهم بالعدل”[1]. والكتاب هو النقل المُصَدَّق، والميزان هو: “العدل. قاله مجاهد وقتادة وغيرهما”[2]، أو “ما يعرف به العدل”[3]. وهذا […]

تأطير المسائل العقدية وبيان مراتبها وتعدّد أحكامها

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: إنَّ علمَ العقيدة يُعدُّ من أهم العلوم الإسلامية التي ينبغي أن تُعنى بالبحث والتحرير، وقد شهدت الساحة العلمية في العقود الأخيرة تزايدًا في الاهتمام بمسائل العقيدة، إلا أن هذا الاهتمام لم يكن دائمًا مصحوبًا بالتحقيق العلمي المنهجي، مما أدى إلى تداخل المفاهيم وغموض الأحكام؛ فاختلطت القضايا الجوهرية مع […]

توظيف التاريخ في تعزيز مسائل العقيدة والحاضر العقدي

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: إنَّ دراسةَ التاريخ الإسلاميِّ ليست مجرَّدَ استعراضٍ للأحداث ومراحل التطور؛ بل هي رحلة فكرية وروحية تستكشف أعماقَ العقيدة وتجلّياتها في حياة الأمة، فإنَّ التاريخ الإسلاميَّ يحمل بين طياته دروسًا وعبرًا نادرة، تمثل نورًا يُضيء الدروب ويعزز الإيمان في قلوب المؤمنين. وقد اهتم القرآن الكريم بمسألة التاريخ اهتمامًا بالغًا […]

تصفيد الشياطين في رمضان (كشف المعنى، وبحثٌ في المعارضات)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  تمهيد يشكِّل النصُّ الشرعي في المنظومة الفكرية الإسلامية مرتكزًا أساسيًّا للتشريع وبناء التصورات العقدية، إلا أن بعض الاتجاهات الفكرية الحديثة -ولا سيما تلك المتبنِّية للنزعة العقلانية- سعت إلى إخضاع النصوص الشرعية لمنطق النقد العقلي المجرد، محاولةً بذلك التوفيق بين النصوص الدينية وما تصفه بالواقع المادي أو مقتضيات المنطق الحديث، […]

رمضان مدرسة الأخلاق والسلوك

المقدمة: من أهم ما يختصّ به الدين الإسلامي عن غيره من الأديان والملل والنحل أنه دين كامل بعقيدته وشريعته وما فرضه من أخلاق وأحكام، وإلى جانب هذا الكمال نجد أنه يمتاز أيضا بالشمول والتكامل والتضافر بين كلياته وجزئياته؛ فهو يشمل العقائد والشرائع والأخلاق؛ ويشمل حاجات الروح والنفس وحاجات الجسد والجوارح، وينظم علاقات الإنسان كلها، وهو […]

مَن هُم أهلُ السُّنَّةِ والجَماعَة؟

الحمدُ للهِ وكفَى، والصَّلاةُ والسَّلامُ على النبيِّ المصطفَى، وعلى آلِه وأصحابِه ومَن لهَدْيِهم اقْتفَى. أمَّا بَعدُ، فإنَّ مِن المعلومِ أنَّ النَّجاةَ والسَّعادةَ في الدُّنيا والآخِرَةِ مَنوطةٌ باتِّباعِ الحَقِّ وسُلوكِ طَريقةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعَة؛ ولَمَّا أصْبحَ كلٌّ يَدَّعي أنَّه مِن أهلِ السُّنَّةِ والجَماعَة، وقام أناسٌ يُطالِبون باستِردادِ هذا اللَّقبِ الشَّريفِ، زاعِمين أنَّه اختُطِفَ منهم منذُ قرون؛ […]

أثر ابن تيمية في مخالفيه

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: شيخ الإسلام ابن تيمية هو البحرُ من أيِّ النواحِي جِئتَه والبدرُ من أيّ الضَّواحِي أتيتَه جَرَتْ آباؤُه لشأْو ما قَنِعَ به، ولا وقفَ عنده طليحًا مريحًا من تَعَبِه، طلبًا لا يَرضَى بِغاية، ولا يُقضَى له بِنهايَة. رَضَعَ ثَدْيَ العلمِ مُنذُ فُطِم، وطَلعَ وجهُ الصباحِ ليُحاكِيَهُ فَلُطِم، وقَطَعَ الليلَ […]

عرض وتعريف بكتاب (نقض كتاب: مفهوم شرك العبادة لحاتم بن عارف العوني)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدّمة: إنَّ أعظمَ قضية جاءت بها الرسل جميعًا هي توحيد الله سبحانه وتعالى في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، حيث أُرسلت الرسل برسالة الإخلاص والتوحيد، وقد أكَّد الله عز وجل ذلك في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]. […]

عبادة السلف في رمضان وأين نحن منها؟!

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: لا يخفى أن السلف الصالح -رضوان الله عليهم- كانوا يحرصون كل الحرص على كثرة التعبد لله سبحانه وتعالى بما ورد من فضائل الأعمال، وبما ثبت من الصالحات الباقيات التي تعبَّد بها النبي صلى الله عليه وسلم، بل إنهم كانوا يتهيؤون للمواسم – ومنها شهر رمضان – بالدعاء والتضرع […]

النصيرية.. نشأتهم – عقائدهم – خطرهم على الأمة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: لقد كانت الباطِنيَّةُ -وما زالت- مصدرَ خطَرٍ على الإسلامِ والمسلمين مذ وُجِدت، وقد أيقَن أعداءُ الإسلامِ أنَّ حَسْمَ المواجهة مع المسلمين وجهًا لوجهٍ لن يُجدِيَ شيئًا في تحقيق أهدافِهم والوصولِ لمآربهم؛ ولذلك كانت الحركاتُ الباطِنيَّةُ بعقائِدِها وفِتَنِها نتيجةً لاتجاهٍ جديدٍ للكيد للمسلمين عن طريق التدثُّرِ باسمِه والتستُّرِ بحبِّ […]

موقف الإمامية الاثني عشرية من خالد بن الوليد -قراءة نقدية-

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: إن الله أعزّ الأمة، ووجّهها نحو الطريق المستقيم، وفتح لها أبواب الخير بدين الإسلام، هذا الدين العظيم اصطفى الله له محمدَ بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، واصطفى له من بين أهل الأرض رجالًا عظماء صحبوه فأحسنوا الصحبة، وسخروا كل طاقاتهم في نشر دين الله مع نبي […]

التلازم بين العقيدة والشريعة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: من تأمل وتتبَّع أسفار العهدين القديم والحديث يدرك أنهما لا يتَّسمان بالشمول والكمال الذي يتَّسم به الوحي الإسلامي؛ ذلك أن الدين الإسلامي جاء كاملا شاملا للفكر والسلوك، وشاملا للعقيدة والشريعة والأخلاق، وإن شئت فقل: لأعمال القلوب وأعمال الجوارح واللسان، كما جاء شاملا لقول القلب واللسان، وهذا بخلاف غيره […]

إنكار ابن مسعود للمعوذتين لا طعن فيه في القرآن ولا في الصحابة

يعمد كثير من الملاحدة إلى إثارة التشكيك في الإسلام ومصادره، ليس تقويةً لإلحاده، ولكن محاولة لتضعيف الإسلام نفسه، ولا شك أن مثل هذا التشكيك فيه الكثير من النقاش حول قبوله من الملاحدة، أعني: أن الملحد لا يؤمن أساسًا بالنص القرآني ولا بالسنة النبوية، ومع ذلك فإنه في سبيل زرع التشكيك بالإسلام يستخدم هذه النصوص ضد […]

دعاوى المناوئين لفتاوى ابن باز وابن عثيمين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: تُثار بين الحين والآخر نقاشات حول فتاوى علماء العصر الحديث، ومن أبرز هؤلاء العلماء الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز والشيخ محمد بن صالح العثيمين. ويطغى على هذه النقاشات اتهام المخالف لهما بالتشدد والتطرف بل والتكفير، لا سيما فيما يتعلق بمواقفهما من المخالفين لهما في العقيدة […]

شبهات العقلانيين حول حديث “الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم” ومناقشتها

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة    مقدمة: لا يزال العقلانيون يحكِّمون كلامَ الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم إلى عقولهم القاصرة، فينكِرون بذلك السنةَ النبوية ويردُّونها، ومن جملة تشغيباتهم في ذلك شبهاتُهم المثارَة حول حديث: «الشيطان يجري في ابن آدم مجرى الدم» الذي يعتبرونه مجردَ مجاز أو رمزية للإشارة إلى سُرعة وقوع الإنسان في […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017