الأربعاء - 27 ذو الحجة 1445 هـ - 03 يوليو 2024 م

قاعدة: “لا نكفر أحدًا من أهل القبلة بذنبٍ ما لم يستحلَّه” بيانٌ ودفع شبهة

A A

دين الله تعالى وسطٌ بين الغالي فيه والجافي عنه؛ وهذه الوسطيةُ هي أبرز ما يميِّز أهلَ السنة والجماعة عن أهل البدع والغواية، ففي باب الوعيد نجد أن أهل السنة والجماعة وسطٌ بين الخوارج القائلين بالتكفير بكلّ ذنب، وبين المرجئة القائلين بأنه لا يضر مع الإيمان ذنب.

وفي هذه المقالةِ شرحٌ وبيانٌ لقاعدة أهل السنة والجماعة قاطبة في باب الوعيد وهي: “لا نكفِّر أحدًا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله”، يعقُبه تفنيدٌ للإشكالات والشّبهات التي أُثيرت حولها.

تنصيص الأئمَّة على هذه القاعدة:

نصَّ غير واحدٍ من أئمة أهل السنة والجماعة على هذه القاعدة، ومن أشهرهم الإمام أبو جعفر الطحاوي (ت 321هـ)، إذ يقول في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة: “ولا نكفِّر أحدًا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحلَّه”([1]).

كما حكَى بعضُ الأئمة الاتفاقَ على تلك القاعدة، ما بين مطلقٍ للَفظها ومقيِّد بالاستحلال، فبعضُهم يقول: “لا نكفِّر أحدًا من أهل القبلة بذَنب”، وبعضهم يقيِّده بقوله: “إذا لم يستحلَّه”. ولما كان المقام لا يناسبه التطويل فيكتفَى بذكر أشهرِ من نصَّ عليها:

  • الإمام أبو حنيفة (ت 150هـ):

يقول أبو مطيع الحكم بن عبد الله البلخي: سألت أبا حنيفة النعمان بن ثابت -رضي الله عنه- عن الفقه الأكبر، فقال: “ألا تكفِّرَ أحدًا من أهل القبلة بذنب”([2]).

وقال أيضًا: “ولا نكفِّر مسلمًا بذنبٍ منَ الذنوب، وإن كانت كبيرة، إذا لم يستحلَّها”([3]).

  • الإمام محمد بن الحسن الشيباني (ت 189هـ):

قال: “لا ينبغي لأحدٍ من أهل الإسلام أن يشهدَ على رجلٍ من أهل الإسلام بذنبٍ أذنَبه بكفر، وإن عظُم جرمه، وهو قول أبي حنيفة، والعامّة من فقهائنا”([4]).

  • الإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ):

يقول محمد بن حميد الأندرابي: قال أحمد بن حنبل في بيان صفة المؤمن من أهل السنة والجماعة: “ولم يشكّ في إيمانه، ولم يكفِّر أحدًا من أهل التوحيد بذنبٍ”([5]).

  • الإمام ابن عبد البر المالكي (ت 463هـ):

يقول: “وقد اتَّفق أهل السنة والجماعة -وهم أهل الفقه والأثر- على أن أحدًا لا يخرجه ذنبه -وإن عظم- من الإسلام، وخالفهم أهل البدع”([6]).

شرح القاعدة:

اتَّفق أهل السنة والجماعة على عدم تكفير مرتكب الكبيرة من المسلمين، فمنِ ارتكب كبيرةً من كبائر الذنوب -كالزنا والسرقة ونحوهما، دون الشرك-، ومات عليها من غير توبة، فهو مستحق للوعيد يوم القيامة، وأمره -مع هذا- في مشيئة الله تعالى، إن شاء عذَّبه بعدله، وإن شاء غفر له وعفَا عنه بفضله؛ كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48، 116].

وقولهم: “من أهل القبلة”: المراد بهم هنا: مسلمٍ لم يقترف ذنبًا يخرجه من الإسلام؛ يقول الإمام أبو محمد البربهاري (ت 329هـ): “ولا نخرج أحدًا من أهل القبلة من الإسلام، حتى يرُدَّ آيةً من كتاب الله، أو يردَّ شيئًا من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يذبَح لغير الله، أو يصلِّي لغير الله، فإذا فعل شيئًا من ذلك فقد وجب عليك أن تخرجَه من الإسلام، وإذا لم يفعل شيئًا من ذلك فهو مؤمن مسلم بالاسم لا بالحقيقة”([7]).

وأما قولهم: “ما لم يستحلَّه”: فمعنى الاستحلال: اعتقاد الشيء المحرم حلالًا. يقول ابن القيم (ت 751هـ): “إن المستحل للشّيء هو الذي يفعله معتقدًا حلَّه”([8])، ويقول الشاطبي (ت 790هـ): “لفظ الاستحلال إنما يستعمل في الأصل فيمن اعتقدَ الشيء حلالًا”([9]).

والمعنى: أن العبد إذا فعل الذنب -ما لم يتضمَّن ترك أصل الإيمان- مع اعتقاده أن الله تعالى حرَّمه عليه، واعتقاد انقياده لله تعالى فيما حرَّمه أو أوجبه عليه، فإن أهل السنة لا يحكمون على هذا العبد بالكفر؛ أما إذا اعتقد أن الله تعالى لم يحرم الذنب، أو أنه حرمه لكن امتنع من قبول هذا التحريم، ورفض أن يسلِّم بحكم الله تعالى، فإنَّ العبدَ في هذه الحالة إما أن يكون جاحدًا أو معاندًا؛ ولهذا قرر علماء أهل السنة والجماعة أن من عصى الله تعالى مستكبرًا كإبليس كفر باتفاق، ومن عصاه مشتهِّيًا لم يكفر([10]).

مناط إعمال القاعدة:

لعل المتأمِّل في كلام الأئمَّة يرى أنهم أوردوا تلك القاعدة المنيفة أصالةً في معرض الرد على مذاهب أهل الزيغ والضلال؛ من الخوارج القائلين بأن مرتكب الكبيرة كافرٌ، كما يخالفون المعتزلة القائلين بأن مرتكب الكبيرة يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر، فهو في منزلة بين المنزلتين، وأوجبوا له الخلود في النار يوم القيامة.

يقول ابن أبي العزّ الحنفي (ت 792هـ): “إن أهل السنة متَّفقون كلهم على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفرًا ينقل عن الملة بالكلية، كما قالت الخوارج؛ إذ لو كفر كفرًا ينقل عن الملة لكان مرتدًّا، يُقتل على كل حال، ولا يقبَل عفو وليّ القِصاص، ولا تجري الحدودُ في الزنا والسرقة وشرب الخمر! وهذا القول معلومٌ بطلانه وفساده بالضرورة من دين الإسلام”([11]).

ولما كانت حقيقة الذنب: إما أن يكون فعلًا لمحرم، أو تركًا لواجب؛ فإنه يتبادر لنا سؤال وهو: ما المراد بالذنب في القاعدة؟ وهل تشمل القاعدة جميع الذنوب، سواء كانت متضمنة لترك أصل الإيمان أو غير متضمنة لذلك؟

للعلماء في الجواب عن هذين السؤالين تفصيل؛ يوضحه ما يلي:

من المعلوم بأنَّ هناك بعضَ الذنوب تتضمَّن ترك أصل الإيمان؛ كسبِّ الله تعالى، أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم، أو السجود لصنم، فهذه الذنوب والمعاصي -المتضمنة ترك أصل الإيمان- لا تندرج قطعًا تحت القاعدة؛ ولهذا يقول الإمام ابن القيم في معرض بيان مجالات إعمال القاعدة: “والكفّ عن أهل القبلة؛ فلا تكفر أحدًا منهم بذنب، ولا تخرجه عن الإسلام بعمل، إلا أن يكون في ذلك حديث -كما جاء وما روي- فتصدّقه وتقبله، وتعلم أنه كما روي؛ نحو كفر من يستحلّ نحو ترك الصلاة، وشرب الخمر، وما أشبه ذلك، أو يبتدع بدعة ينسب صاحبها إلى الكفر والخروج من الإسلام، فاتَّبِع ذلك ولا تجاوزه”([12]).

إذًا مجالات إعمال القاعدة هو فعل المعاصي التي لا تتضمَّن ترك أصل الإيمان، ومن أبرز أمثلتها كبائر الذنوب؛ من القتل، والزنا، وشرب الخمر، وأكل الربا، والكذب، والسرقة، ونحو ذلك، وقد اشتبَه هذا الأمر على بعض العلماء؛ فظنوا أن القاعدةَ عامَّةٌ في جميع الذنوب والمعاصي، سواء تضمَّنت تركَ أصل الإيمان أو لا، وتفنيد تلك الشبهة والجواب عنها في الفقرات الآتية.

شبهة اشتراط الاستحلال القلبي في التكفير بالمعاصي جميعها:

يرى بعضُهم أنه لا يجوز أن نكفِّر العصاةَ المتلبِّسين بشيء من المعاصي لمجرَّد ارتكابهم لها واستحلالهم إياها عمليًّا، إلا إذا ظهر لنا يقينًا منهم ما يكشِف لنا عمَّا في قرارة نفوسهم أنهم لا يحرِّمون ما حرَّم الله ورسوله اعتقادًا، فإذا عرفنا أنهم وَقعوا في هذه المخالفة القلبية حكمنا حينئذ بأنهم كفروا كفرَ ردة([13]).

ويقول أيضًا في تعليقه على كلام الطحاوي -وهو نص القاعدة التي معنا-: “يعني استحلالًا قلبيًّا اعتقاديًّا، وإلا فكلّ مذنب مستحلٌّ لذنبه عمليًّا، أي: مرتكبٌ له، ولذلك فلا بدَّ من التفريق بين المستحلِّ اعتقادًا فهو كافر إجماعًا، وبين المستحلِّ عملًا لا اعتقادًا، فهو مذنبٌ يستحقّ العذاب اللائق به، إلا أن يغفر الله له، ثم ينجيه إيمانه، خلافًا للخوارج والمعتزلة الذين يحكمون عليه بالخلود في النار، وإن اختلفوا في تسميته كافرًا أو منافقًا”([14]).

الجواب الإجمالي عن الشبهة:

قد ظهرت هذه الشبهة قديمًا، وقام بعض محقِّقي العلماء بتفصيل الردِّ عليها وإظهار عوارها؛ ولعل من أبرز الأمثلة على بطلانها: أنه يوجد في أهل القبلة المنافقون الذين يتظاهرون بقول الشهادتين، وهم أكفر من اليهود والنصارى، كما دلَّ على هذا الكتاب والسنة والإجماع.

ومن الأمثلة على فسادها أيضًا: من يقوم بإظهار إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة؛ كالصلاة والزكاة والحج ونحوها؛ يقول ابن أبي العز الحنفي: “لا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة، والمحرمات الظاهرة المتواترة، ونحو ذلك، فإنه يستتاب، فإن تاب، وإلا قتل كافرًا مرتدًا”([15]).

الجواب المفصَّل الشبهة:

ولتفصيل الجواب عن تلك الشبهة لا بد من بيان مقدّمة هامة، وهي أن الذنوب والمعاصي ليست كلّها على درجة واحدة، وأنها على كثرتها يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام:

فهي إما أن تكون فعلًا منهيًّا عنه لم يتضمَّن ترك أصل الإيمان، وإما أن تكون فعلًا منهيًّا يتضمن ترك أصل الإيمان، وإما أن تكون عدم اعتقاد وجوب الواجبات الظاهرة المتواترة، وبيان ذلك فيما يأتي:

القسم الأول: الفعل الذي نهى عنه الشارع الحكيم، ولم يتضمَّن ترك الإيمان، وذلك مثل الزنا والسرقة وشرب الخمر والربا وأكل أموال الناس بالباطل ونحوها، هذه الأفعال يرى أهل السنة والجماعة أن مجردَ فعلها لا يخرج المسلم من حظيرة الإسلام -كما تقدم- إلا إذا اعتقد مرتكبها أنها حلال، وهذا القسم هو مناط إعمال القاعدةِ باتِّفاق أهل السنة والجماعة.

وقد أحسن أبو الحسن الأشعري (ت 324هـ) بتمثيله لهذه القاعدة بارتكاب الكبائر؛ حيث قال في بيانه لاعتقاد أهل السنة: “ولا يكفِّرون أحدًا من أهل القبلة بذنب: كنحو الزنا والسرقة، وما أشبه ذلك من الكبائر، وهم بما معهم من الإيمان مؤمنون، وإن ارتكبوا الكبائر”([16]).

القسم الثاني: الفعلُ المنهي عنه المتضمِّن لترك أصل من أصول الإيمان، ومن أمثلته: سب الله أو سب رسوله، أو إهانة المصحف، أو السجود لصنم، ونحو ذلك؛ فهذا يكفر فاعله بمجرَّد فعله لها، ولا ينظر في جحده أو استحلاله لها؛ وذلك لأن هذه الذنوب قد تضمنت ترك أصل الإيمان؛ ودليل ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 46]، فإذا تضمَّن فعل الذنب تركًا لأصل الإيمان كالشرك بالله تعالى، فإن الله تعالى لا يغفره، وهذا القسم لا يدخل قطعًا في القاعدة عند أهل السنة والجماعة.

ولعل هذا القسم يحتاج إلى شيء من التفصيل، ولندع شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ) يفصِّل لنا القول فيه؛ حيث يقول: “إن سبَّ الله أو سبَّ رسوله كفر، ظاهرًا وباطنًا، وسواء كان السابّ يعتقد أن ذلك محرّم، أو كان مستحلًّا له، أو كان ذاهلًا عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل”([17]).

وقد حكى الإمام أبو إسحاق ابن راهويه (ت 238هـ) الإجماع على ذلك فقال: “قد أجمع المسلمون أن من سبَّ الله أو سب رسوله -عليه الصلاة والسلام- أو دفع شيئًا مما أنزل الله أو قتل نبيًّا من أنبياء الله أنه كافر بذلك، وإن كان مقرًّا بما أنزل الله”([18]).

وكذلك نقل عن الشافعي أنه سئل عمَّن هزل بشيءٍ من آيات الله تعالى أنه قال: “هو كافر”، واستدل بقول الله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65، 66]([19]).

وكذلك قال أصحابنا [يعني: الحنابلة] وغيرهم: من سبَّ الله كفر، سواء كان مازحًا أو جادًّا؛ لهذه الآية وهذا هو الصواب المقطوع به([20]).

وقال القاضي أبو يعلى في “المعتمد”: “من سبَّ الله أو سب رسوله فإنه يكفر، سواء استحلَّ سبه أو لم يستحله، فإن قال: لم أستحل ذلك، لم يقبل منه في ظاهر الحكم، رواية واحدة، وكان مرتدًّا؛ لأن الظاهر خلاف ما أخبر؛ لأنه لا غرض له في سب الله وسب رسوله إلا لأنه غير معتقد لعبادته، غير مصدِّق بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ويفارق الشارب والقاتل والسارق إذا قال: أنا غير مستحل لذلك أنه يصدَّق في الحكم([21]).

وأكثر من هذا؛ حيث يرى الإمامان الجليلان الحميدي وأحمد بن حنبل -رحمهما الله تعالى- أن هذا القول -أعني: القول بأن من فعل منهيًّا عنه تضمَّن ترك أصل الإيمان فإنه لا يحكم بكفره إلا إذا استحل أو جحد([22])– كفر صراح. ودونك نص كلامهما:

يقول الحميدي: “وأُخبِرت أن قومًا يقولون: إنَّ من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج، ولم يفعل من ذلك شيئًا حتى يموت، أو يصلي مسند ظهره مستدبر القبلة حتى يموت، فهو مؤمن، ما لم يكن جاحدًا، إذا علم أن تركه ذلك في إيمانه، إذا كان يقرّ الفروض، واستقبال القبلة.

فقلت: هذا الكفر بالله الصراح، وخلاف كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفعل المسلمين، قال الله جل وعز: {حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]. قال حنبل: قال أبو عبد الله أو سمعته يقول: من قال هذا فقد كفر بالله، ورد على الله أمره، وعلى الرسول ما جاء به”([23]).

القسم الثالث: عدم اعتقاد وجوب الواجبات الظاهرة المتواترة، كمن اعتقد عدم وجوب الصلاة أو الزكاة ونحوها، فهذا يكفر، وكذا من اعتقد عدم تحريم المحرمات الظاهرة المتواترة، كمن اعتقد حلَّ الخمر أو الزنا ونحو ذلك.

ويلخص شيخ الإسلام ابن تيمية ذلك بقوله: “قد تقرَّر من مذهب أهل السنة والجماعة -ما دل عليه الكتاب والسنة- أنهم لا يكفِّرون أحدًا من أهل القبلة بذنب، ولا يخرجونه من الإسلام بعمل؛ إذا كان فعلًا منهيًّا عنه؛ مثل الزنا والسرقة وشرب الخمر؛ ما لم يتضمن ترك الإيمان. وأما إن تضمَّن ترك ما أمر الله بالإيمان به مثل: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت؛ فإنه يكفر به. وكذلك يكفر بعدَم اعتقاد وجوب الواجبات الظاهرة المتواترة، وعدم تحريم الحرمات الظاهرة المتواترة”([24]).

فتبين لنا بما تقدَّم: أن عدمَ تكفير أهل القبلة بذنبٍ ما لم يستحله منوطٌ بمن ارتكب فعلًا منهيًّا عنه ولم يتضمَّن ترك الإيمان؛ كشرب الخمر أو الربا أو نحو ذلك، ولا يندرج تحت القاعدة الفعل المنهيُّ عنه المتضمِّنُ لترك أصل الإيمان؛ كسب الله ورسوله أو إهانة المصحف ونحو ذلك، فإن فاعله يكفر بمجرد الفعل ما لم يقم مانع معتبر من موانع التكفير، ولا يتعلَّق ذلك باستحلال أو جحود، وكذا لا يندرج تحتها عدم اعتقاد وجوب الواجبات الظاهرة المتواترة، كمن اعتقد عدم وجوب الصلاة أو الزكاة أو الحج ونحو ذلك، فإنه يكفر أيضًا بمجرد ذلك.

اللَّهمَّ أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

ــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) متن الطحاوية بتعليق الألباني (ص: 60).

([2]) الفقه الأكبر (ص: 76).

([3]) الفقه الأكبر (ص: 43).

([4]) موطأ مالك رواية محمد بن الحسن الشيباني (ص: 325).

([5]) مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي (ص: 222).

([6]) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (17/ 22).

([7]) شرح السنة (ص: 64).

([8]) إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان (1/ 593).

([9]) الاعتصام (2/ 452).

([10]) ينظر: الصارم المسلول على شاتم الرسول (ص: 521).

([11]) شرح الطحاوية (ص: 321).

([12]) حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح (ص: 411-412).

([13]) ينظر: فتنة التكفير (ص: 10).

([14]) موسوعة الألباني في العقيدة (4/ 224).

([15]) شرح العقيدة الطحاوية (ص: 316-317).

([16]) مقالات الإسلاميين (1/ 227).

([17]) الصارم المسلول على شاتم الرسول (ص: 512).

([18]) ينظر: المرجع السابق، والسيف المسلول على من سب الرسول لتقي الدين السبكي (ص: 121).

([19]) ينظر: السيف المسلول على من سب الرسول (ص: 125).

([20]) ينظر: الصارم المسلول على شاتم الرسول (ص: 512)، والكلمات النافعة في المكفرات الواقعة (ص: 346).

([21]) ينظر: الصارم المسلول على شاتم الرسول (ص: 512)، والسيف المسلول على من سب الرسول (ص: 131).

([22]) وهي نفس الشبهة التي نناقشها.

([23]) ينظر: السنة لأبي بكر بن الخلال (3/ 586-587).

([24]) مجموع الفتاوى (20/ 90).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

جديد سلف

هل يُمكِن الاستغناءُ عن النُّبوات ببدائلَ أُخرى كالعقل والضمير؟

هذه شبهة من الشبهات المثارة على النبوّات، وهي مَبنيَّة على سوء فَهمٍ لطبيعة النُّبوة، ولوظيفتها الأساسية، وكشف هذه الشُّبهة يحتاج إلى تَجْلية أوجه الاحتياج إلى النُّبوة والوحي. وحاصل هذه الشبهة: أنَّ البَشَر ليسوا في حاجة إلى النُّبوة في إصلاح حالهم وعَلاقتهم مع الله، ويُمكِن تحقيقُ أعلى مراتب الصلاح والاستقامة من غير أنْ يَنزِل إليهم وحيٌ […]

هل يرى ابن تيمية أن مصر وموطن بني إسرائيل جنوب غرب الجزيرة العربية؟!

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة (تَنتقِل مصر من أفريقيا إلى غرب جزيرة العرب وسط أوديتها وجبالها، فهي إما قرية “المصرمة” في مرتفعات عسير بين أبها وخميس مشيط، أو قرية “مصر” في وادي بيشة في عسير، أو “آل مصري” في منطقة الطائف). هذا ما تقوله كثيرٌ من الكتابات المعاصرة التي ترى أنها تسلُك منهجًا حديثًا […]

هل يُمكن أن يغفرَ الله تعالى لأبي لهب؟

من المعلوم أن أهل السنة لا يشهَدون لمعيَّن بجنة ولا نار إلا مَن شهد له الوحي بذلك؛ لأن هذا من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، ولكننا نقطع بأن من مات على التوحيد والإيمان فهو من أهل الجنة، ومن مات على الكفر والشرك فهو مخلَّد في النار لا يخرج منها أبدًا، وأدلة ذلك مشهورة […]

مآخذ الفقهاء في استحباب صيام يوم عرفة إذا وافق يوم السبت

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. فقد ثبت فضل صيام يوم عرفة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (‌صِيَامُ ‌يَوْمِ ‌عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ)([1]). وهذا لغير الحاج. أما إذا وافق يومُ عرفة يومَ السبت: فاستحبابُ صيامه ثابتٌ أيضًا، وتقرير […]

لماذا يُمنَع من دُعاء الأولياء في قُبورهم ولو بغير اعتقاد الربوبية فيهم؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة هناك شبهة مشهورة تثار في الدفاع عن اعتقاد القبورية المستغيثين بغير الله تعالى وتبرير ما هم عليه، مضمونها: أنه ليس ثمة مانعٌ من دعاء الأولياء في قبورهم بغير قصد العبادة، وحقيقة ما يريدونه هو: أن الممنوع في مسألة الاستغاثة بالأنبياء والأولياء في قبورهم إنما يكون محصورًا بالإتيان بأقصى غاية […]

الحج بدون تصريح ..رؤية شرعية

لا يشكّ مسلم في مكانة الحج في نفوس المسلمين، وفي قداسة الأرض التي اختارها الله مكانا لمهبط الوحي، وأداء هذا الركن، وإعلان هذه الشعيرة، وما من قوم بقيت عندهم بقية من شريعة إلا وكان فيها تعظيم هذه الشعيرة، وتقديس ذياك المكان، فلم تزل دعوة أبينا إبراهيم تلحق بكل مولود، وتفتح كل باب: {رَّبَّنَآ إِنِّيٓ أَسۡكَنتُ […]

المعاهدة بين المسلمين وخصومهم وبعض آثارها

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة باب السياسة الشرعية باب واسع، كثير المغاليق، قليل المفاتيح، لا يدخل منه إلا من فقُهت نفسه وشرفت وتسامت عن الانفعال وضيق الأفق، قوامه لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف، والإنسان قد لا يخير فيه بين الخير والشر المحض، بل بين خير فيه دخن وشر فيه خير، والخير […]

إمعانُ النظر في مَزاعم مَن أنكَر انشقاقَ القَمر

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الحمد لله رب العالمين، وأصلى وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فإن آية انشقاق القمر من الآيات التي أيد الله بها نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم، فكانت من أعلام نبوّته، ودلائل صدقه، وقد دلّ عليها القرآن الكريم، والسنة النبوية دلالة قاطعة، وأجمعت عليها […]

هل يَعبُد المسلمون الكعبةَ والحجَرَ الأسودَ؟

الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وهدنا صراطه المستقيم. وبعد، تثار شبهة في المدارس التنصيريّة المعادية للإسلام، ويحاول المعلِّمون فيها إقناعَ أبناء المسلمين من طلابهم بها، وقد تلتبس بسبب إثارتها حقيقةُ الإسلام لدى من دخل فيه حديثًا([1]). يقول أصحاب هذه الشبهة: إن المسلمين باتجاههم للكعبة في الصلاة وطوافهم بها يعبُدُون الحجارة، وكذلك فإنهم يقبِّلون الحجرَ […]

التحقيق في نسبةِ ورقةٍ ملحقةٍ بمسألة الكنائس لابن تيمية متضمِّنة للتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وبآله

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ تحقيقَ المخطوطات من أهمّ مقاصد البحث العلميّ في العصر الحاضر، كما أنه من أدقِّ أبوابه وأخطرها؛ لما فيه من مسؤولية تجاه الحقيقة العلمية التي تحملها المخطوطة ذاتها، ومن حيث صحّة نسبتها إلى العالم الذي عُزيت إليه من جهة أخرى، ولذلك كانت مَهمة المحقّق متجهةً في الأساس إلى […]

دعوى مخالفة علم الأركيولوجيا للدين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: عِلم الأركيولوجيا أو علم الآثار هو: العلم الذي يبحث عن بقايا النشاط الإنساني القديم، ويُعنى بدراستها، أو هو: دراسة تاريخ البشرية من خلال دراسة البقايا المادية والثقافية والفنية للإنسان القديم، والتي تكوِّن بمجموعها صورةً كاملةً من الحياة اليومية التي عاشها ذلك الإنسان في زمانٍ ومكانٍ معيَّنين([1]). ولقد أمرنا […]

جوابٌ على سؤال تَحَدٍّ في إثبات معاني الصفات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة أثار المشرف العام على المدرسة الحنبلية العراقية -كما وصف بذلك نفسه- بعضَ التساؤلات في بيانٍ له تضمَّن مطالبته لشيوخ العلم وطلبته السلفيين ببيان معنى صفات الله تبارك وتعالى وفقَ شروطٍ معيَّنة قد وضعها، وهي كما يلي: 1- أن يكون معنى الصفة في اللغة العربية وفقَ اعتقاد السلفيين. 2- أن […]

معنى الاشتقاق في أسماء الله تعالى وصفاته

مما يشتبِه على بعض المشتغلين بالعلم الخلطُ بين قول بعض العلماء: إن أسماء الله تعالى مشتقّة، وقولهم: إن الأسماء لا تشتقّ من الصفات والأفعال. وهذا من باب الخلط بين الاشتقاق اللغوي الذي بحثه بتوسُّع علماء اللغة، وأفردوه في مصنفات كثيرة قديمًا وحديثًا([1]) والاشتقاق العقدي في باب الأسماء والصفات الذي تناوله العلماء ضمن مباحث الاعتقاد. ومن […]

محنة الإمام شهاب الدين ابن مري البعلبكي في مسألة الاستغاثة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فإن فصول نزاع شيخ الإسلام ابن تيمية مع خصومه طويلة، امتدت إلى سنوات كثيرة، وتنوَّعَت مجالاتها ما بين مسائل اعتقادية وفقهية وسلوكية، وتعددت أساليب خصومه في مواجهته، وسعى خصومه في حياته – سيما في آخرها […]

العناية ودلالتها على وحدانيّة الخالق

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ وجودَ الله تبارك وتعالى أعظمُ وجود، وربوبيّته أظهر مدلول، ودلائل ربوبيته متنوِّعة كثيرة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن دلائل الربوبية وآياتها أعظم وأكثر من كلّ دليل على كل مدلول) ([1]). فلقد دلَّت الآيات على تفرد الله تعالى بالربوبية على خلقه أجمعين، وقد جعل الله لخلقه أمورًا […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017