(الكتاب والسنة) مقال للمسلم النمساوي الأستاذ محمد أسد (ليوبولد فايس)
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف خلق الله، وبعد:
فإن قضية السنة وحجيتها بقيت منذ ثلاثة عشر قرناً هي القضية الأولى لمن يريدون إسقاط الإسلام من داخله، وسار المسلمون مع هذه القضية مسيرة طويلة رادِّين عليها أحياناً، ومتأثراً بعضهم بها أو ببعض مستلزماتها أحياناً، وفي مطلع العصر الحديث أضيف إلى هذه القضية ما اقتضاه تأثر البعض بالحضارة الغربية ومفاهيمها الفلسفية في نظرية المعرفة وآراء المستشرقين الغربيين فيها.
وكان محمد أسد -وهو الفيلسوف النمساوي أو قل: البولندي- أحد العارفين جيداً بحضارة الغرب وفلسفاتهم، ومن خلال كتاباته بعد إسلامه ظل متّهماً في فهم بعض القضايا الإسلامية بالإغراق في العقلانية التي تجاوزت عقلانية المعتزلة؛ ولسنا هنا بصدد مناقشة التهم التي وُجهت إليه؛ ولكننا نقول: سواء أصحَّت تلك التهم أو بعضها أم لم تصحَّ فإن موقفه من السنة ومن أخبار الآحاد يبقى حجةً قويةً معاصرة يمكن أن يُواجه بها من يردون السنة في عصرنا هذا بحجج يزعمونها عقلانية أو بحجج تحت وطأة التأثر الثقافي بالغرب، بل إن كلامه حول حجية السنة وفي سائر كتابه : (الإسلام على مفترق الطرق) يصلح مفسراً لكثير من كلامه الغامض الذي احتج به من يرى نزوعه نحو العقلانية المغرقة في الاعتزال، ويدعو إلى تبرئة الرجل من كثير وليس من كل ما نُسب إليه من آراء.
المهم لدينا هنا: مكانة قوله في الاحتجاج بالسنة، وأنها متفرعة من مكانته كمسلم من أصل يهودي عارف بالثقافة والفلسفة الغربية العقلانية، كما هو مؤمن بالإسلام عقيدة وشريعة.
المقال الذي بين أيدينا هو أحد فصول كتابه (الإسلام على مفترق الطرق)؛ وقد تُرجم هذا الكتاب مرتين: إحداهما: ترجمة العالم الأديب عمر فروخ، والأخرى بترجمة الشيخ العالم صالح الحصين؛ وقد اخترنا للنشر والتعليق ترجمة الشيخ الحصين؛ لكونها متأخرة وترجمت عن الطبعة الإنجليزية المتأخرة للكتاب سنة 1981م، وقدم لها المؤلف، فعلمنا بذلك أنها آخر ما أراد المؤلف إيصاله للقراء.
رحم الله محمد أسد، ورحم مترجمي كتابه عمر فروخ وصالح الحصين، وجمعنا بهم في عليين.
د/محمـد بن إبراهيـم السعـيـدي
الـمشرف على مركز سلف للبحوث والدراسات
الأحد 28/2/1441هـ
ترجمــة محمــد أســد (ليوبولد فايس)
ولد محمد أسد في عام 1900م في بولندا؛ وكانت أحد أقاليم الإمبراطورية النمساوية، وهو من أصول ألمانية، وكان اسمه (ليوبولد فايس) قبل الإسلام حيث كان يهوديا يعيش في كنف جدّه الحاخام بنيامين فايس، فقد نشأ أسد في العاصمة فيينا، ودرس فيها الفن والفلسفة، وعمل في الصحافة، ثم وجد فرصته في وكالة “رودولف دامرت” للأخبار، ومنها أجرى حواراً غيّر حياته مع زوجة الكاتب الروسي الكبير غوركي في العام 1921م.
وفي تلك الأيام زار القدس ودمشق وبيروت، وعرف القاهرة والأزهر على يد الشيخ مصطفى المراغي، ثم عمل مراسلًا في صحيفة “فرانفكورتر تزايتونغ”، ثم رحل إلى برلين في العام 1923م، وهناك تلقى عرضاً من مدير الصحيفة للسفر إلى مصر والعراق وإيران وأفغانستان، فلم يتردد أيضاً، ليعيش عاماً ونصف العام شاهداً على إعلان الشاه رضا خان مملكته العلمانية، على حد وصف فايس، عاد بعدها إلى برلين ليعلن تحوّله إلى الإسلام في العام 1926م وليطلق على نفسه اسم “محمد أسد”.
وزار الملك عبد العزيز في عام 1927م، وسكن في المدينة المنورة، وأدى فريضة الحج إلى مكّة خمس مرات، وقام بجولات كثيرة في أنحاء نجد والحجاز والشرق والجنوب طيلة ستة أعوام، وفي السعودية أصدر صحيفته “عرفات” وكان قد بدأ يستغرق في الدراسات والأبحاث الإسلامية، ويساهم في الصحافة الأوروبية للتعريف بالإسلام وقضايا الشرق الأوسط.
وساهم محمد أسد في الحرب الشعبية الليبية ضد الاحتلال الإيطالي بنفسه، والتقى بالشاعر محمد إقبال في الهند، وساهم في إنشاء الدولة الإسلامية المستقلة (التي أصبحت باكستان فيما بعد)، وبعد إعلانها منح الجنسية الباكستانية، وعين رئيساً للجنة إعادة الإعمار الإسلامية، ثم أوفدته الباكستان لتمثيلها كمبعوث رسمي إلى الأمم المتحدة في العام 1949م، وبقي في منصبه حتى العام 1952م حيث استقال وبقي في نيويورك.
تزوج أسد من ثلاث نسوة: أُولاها إلزا، التي أسلمت معه ولكنها لم تُعَمَّر طويلا، ثم اقترن بامرأة عربية رُزِق منها ابنه الوحيد طلال الأستاذ بإحدى الجامعات الأمريكية ثم انفصل عنها، وأخيرا تزوج بولا حميدة الأمريكية التي أسلمت هي أيضا.
وكــان له اهتمام بالكتابة والتأليف، وكتب باللغتين العربية والإنجليزية، ومن أهم كتبه:
- الطريق إلى مكة.
- الإسلام في مفترق الطرق.
- منهاج الحكم في الإسلام.
- ترجمته للقرآن الكريم إلى الإنجليزية، واسمها: (The Message of the Quran).
- ترجمته جملة من (صحيح البخاري) بعنوان (Sahih al-Bukhari- The Early Years of Islam).
وفي سن الثانية والخمسين غادر نيويورك متوجهاً إلى سويسرا، ليعيش عشر سنين متواصلة، ثم يرتحل إلى طنجة في المغرب العربي، ويعيش فيها عشرين سنة، ثم ينتقل إلى البرتغال، ليعيش في ميخاس حتى وفاته في العام 1992م.
الكتـــاب والسنـــة
في العقود الماضية قُدِّمَت اقتراحات عديدة، وكثير من الأطباء الدينيين حاولوا اختراع علاج لجسم المسلمين المريض، ولكن حتى الآن لم تتحقق النتيجة المرجوة؛ لأن جميع هؤلاء الأطباء الحاذقين (أو المقبولين منهم على الأقل) نسوا دائماً أن يَصِفوا -مع أدويتهم- المقوِّيات والمنشِّطات والمغذِّيات الطبيعية التي كانت أساساً في نمو المريض من قبل. والغذاء الوحيد الذي يقبله ويهضمه جسم المسلم الحقيقي هو سنة نبينا محمد ﷺ، السنة هي المفتاح لفهم الإسلام قبل ثلاثة عشر قرناً؛ فلماذا لا تكون هي المفتاح لفهم وضعنا الحاضر من الضعف والانحطاط؟ المحافظة على السنة مرادفة لوجود الإسلام وتقدمه، وهجر السنة مرادفة لضعف وجود الإسلام. والسنة هي الإطار الحديدي لبيت الإسلام، فإن نُزع الإطار فلا عجب إن تداعى البناء كبيت من ورق([1]).
وهذه الحقيقة الناصعة، المجمع تقريباً على قبولها بين العلماء فيما مضى من تاريخ الإسلام([2])، لا تلقى قبولاً اليوم -كما نعلم جيداً- لأسباب مرتبطة بتأثير الحضارة الغربية المتزايد. ولكن الحقيقة مع ذلك أن المحافظة على السنة في وجود وتقدم الإسلام العملي هي الحقيقة الوحيدة التي يمكن أن تنقذنا من فوضى وخزي انحطاطنا الحاضر.
وكلمة (سنَّة) تستعمل هنا بمعناها الأوسع أي: القدوة التي وضعها [الله] لنا في أقوال النبي ﷺ وأعماله ومواقفه([3]): فإن حياته العظيمة كانت بياناً وتوضيحاً حيًّا للقرآن، ولا نستطيع أن نوفي هذا الكتاب الكريم حقه بأعظم من اتباعنا النبي ﷺ الذي جعله الله واسطة وحيه إلينا.
وقد رأينا أن أهم إنجازات الإسلام([4])، والأمر الذي يميزه عن بقية الأديان هو: شرعة التناسق الكامل بين الجوانب الأخلاقية والجوانب المادية في الحياة البشرية([5]). وهذا سبب من أسباب نجاح الإسلام في عصوره الذهبية أينما حلَّ.
لقد علَّم البشرية أن احتقار الأرض ليس شرطاً في تمجيد السماء([6]). وهذه الميزة البارزة للإسلام تفسر الاهتمام العميق للنبي ﷺ بوصفه دليلاً رساليًّا للناس كافة، بظاهرة الحياة الإنسانية في قطبيها الروحي والمادي، وعلى هذا فلا يُظهر فهماً عميقاً للإسلام من يُفَرّق بين أوامر النبي ﷺ ونواهيه المتعلقة بالأمور الدينية والروحية، وبين أوامره ونواهيه المتعلقة بالمسائل الاجتماعية والحياة اليومية([7]). ولا شك أن الزعم بأننا ملزمون باتباع سنته في الأمور الأولى وغير ملزمين باتباع سنته في الأمور الثانية زعم ساذج ومخالف للشريعة، مثل فكرة أن بعض الأوامر والنواهي العامة في القرآن خاصة بالعرب الجاهليين في زمن نزول الوحي، وليست للمثقفين في القرن العشرين، وفي جذور هذا الزعم إنقاص للدور الحقيقي للنبي العربي([8]).
وكما أن حياة المسلم لا بد أن توجه إلى تناغم كامل غير مقيد ولا مشروط بين ذاته الجسدية والروحية؛ فإن اتباعه للنبي ﷺ يشمل الحياة بكاملها وما تضمه من أمور أخلاقية وعملية، فردية واجتماعية. هذا هو أعمق معنى للسنة، قال الله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء:65]، وقال تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 31 – 32].
وعلى هذا فسنة النبي ﷺ هي -بعد القرآن- المصدر الثاني لشريعة الإسلام. وفي الحقيقة يجب أن نعدّ السنة البيان الوحيد المعتبر لآيات القرآن، والسبيل الوحيد لتجنب مخالفتها الدائمة فيما يتعلق بتأويلها ووضعها موضع العمل. وهناك عدد من آيات القرآن تحمل معاني مجازية، ويمكن أن تفهم بطرق مختلفة([9]). وإضافة إلى ذلك فإن بعض الأمور الشرعية ذات الأهمية العملية لم يرد تفصيلها في القرآن. ولا شك أن آيات القرآن كلها تهدي إلى طريق مستقيم واحد، ولكن استنباط الأحكام الشرعية ليس ميسَّراً للمسلم في كل حال إلا ببيان من النبي ﷺ. ومع إيماننا بأن القرآن كلام الله وكاملٌ في الشكل والمضمون فالنتيجة المنطقية أنه لم يُقصد بتنزيله أن يُعمل به في معزل عن هدي النبي ﷺ في سنته. ويخبرنا [الوحي] والعقل أن خير مفسر للقرآن هو من أُنزل عليه ليبينه للناس، قال الله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل:44].
والآن نصل إلى سؤال مهم جدًّا عن موثوقية وصحة المصادر التي نقلت لنا حياة النبي ﷺ وأقواله، هذه المصادر هي الأحاديث من أقوال النبي ﷺ وأفعاله التي نقلها إلينا أصحابه ﭫ وجُمعت بدقة متناهية في القرون القليلة الأولى بعد الهجرة.
ويزعم عدد من المفكرين المعاصرين أنهم مستعدون لاتباع السنة لو اقتنعوا بأنه يمكن الاعتماد على مجموع الأحاديث التي قامت عليها السنة. لقد صار من مظاهر الحداثة العصرية في أيامنا التشكيك في صحة أكثر الأحاديث، ومن ثَمَّ في بنية السّنَّة.
هل يوجد مسوِّغ علمي لهذا الاتجاه؟ هل يوجد أي برهان علمي يسوِّغ رد الحديث بوصفه مصدراً يمكن الاعتماد عليه لشريعة الإسلام؟
قد يظن ظانٌّ أن مخالفي اتّباع السنة الصحيحة قادرون على إيراد حجة حقيقية تثبت عدم الثقة في الأحاديث المنسوبة إلى النبي ﷺ. ولكن هذا الظن بعيد كل البعد عن الحقيقة. فعلى الرغم من كل الجهود التي بُذلت لتحدي صحة مجموع الأحاديث فإن هؤلاء النقاد المحدثين -شرقيين وغربيين- لم يستطيعوا تأييد نقدهم الشخصي البحت بأي مقوّمات لبحث علمي حقيقي. وليس من السهل عليهم تحقيق ذلك؛ إذ إن جامعي الحديث (وبخاصة البخاري ومسلم) قد فعلوا كل ما يمكن للبشر فعله لوضع صحة كل حديث موضع الاختبار الدقيق جدًّا، أكثر بكثير مما يفعله المؤرخون الغربيون لاختبار صحة وثيقة تاريخية([10]).
سنتجاوز حدود هذا الكتاب لو حاولنا بيان الطريقة البالغة الدقة التي كان يحقق بها أوائل المحدّثين درجة صحة الحديث؛ ولذلك فإننا نكتفي هنا بأن نقول: إن علماً مستقلًّا قد تم وضعه، وهدفه الوحيد هو البحث الدقيق في معنى ونوع وطريق نقل حديث النبي ﷺ. والفرع التاريخي لهذا العلم قد نجح في تأسيس سلسلة متصلة للتراجم المفصلة لشخصية كل راوٍ من رواة الحديث. فحياة كل هؤلاء الرجال والنساء قد تم التحقيق فيها بدقة من كل جانب، ولم يُقبل منهم لصحة الرواية إلا من كانت طريقة حياته وطريقة روايته ونقله للحديث توافق وترقى إلى المستوى الذي اشترطه كبار المحدثين، أي: من اعتقد المحدثون أنه بلغ من الصحة والضبط أقصى درجة يمكن تصورها([11]).
وعلى هذا، فإن رغب أحد في أن يُنكر صحة حديثٍ ما اليوم، أو عِلم تحقيق الحديث عامة، فعليه وحده يقع عبء إثبات زعمه. وعلميًّا فإنه لا مسوغ لإنكار صدق مصدر تاريخي ما إلا إذا كان المنكر مستعدًّا لإثبات أن هذا المصدر غير جدير بالثقة. وفي غياب حجة علمية معقولة ضد صحة المصدر نفسه، أو ضد واحد أو أكثر من الرواة عنه، وفي الوقت نفسه غياب أي حديث يناقضه ويكون مثله في القوة أو أقوى منه، فإننا ملزمون بقبول صحة الحديث.
لنفترض -مثلاً- أن أحداً تكلم عن حروب محمود الغزنوي([12]) في الهند، فوقفتَ فجأة لتقول: (أنا لا أعتقد أن محمود الغزنوي زار الهند مطلقاً، إنما هي أسطورة ليس لها أساس تاريخي) فماذا سيحدث في حالة كهذه؟ أحد المبرزين في التاريخ سيحاول تصحيح خطئك، فينقل عن السجلات والتواريخ المبنية على تقارير المعاصرين عن ذلك السلطان المشهور بوصفها برهاناً قطعيّاً على حقيقة أن محموداً كان في الهند. وفي هذه الحال يجب عليك أن تقبل هذا البرهان، أو أنك ستُعَدّ شاذًّا يجحد بلا سبب ظاهر الوقائع التاريخية الثابتة. وإذا كان الأمر كذلك فإن المرء ليسأل نفسه: (لماذا لا يستعمل نقادنا العصريون هذا المعيار المنطقي العادل نفسه في قضية الحديث كذلك؟).
إن الأساس الأصلي لعدم صحة الحديث هو الكذب المتعمد من الراوي الأول للحديث (الصحابي) أو أحد رواة الحديث بعده. أما الصحابة فإن إمكانية تعمدهم الكذب مستبعدة من البداية، ولا نحتاج إلا إلى شيء من النظر الدقيق إلى المشكلة من الناحية النفسية لكي يحال افتراض تعمد الصحابي الكذب على الرسول ﷺ إلى منطقة الخيال المحض. فالتأثير البالغ لشخصية الرسول ﷺ على الصحابة ﭫ -رجالاً ونساءً- حقيقة ناصعة في التاريخ الإنساني([13])، وإضافة إلى ذلك فالأمر موثق بأعلى درجة من التوثيق التاريخي. هل يتصور أحد أن من كان مستعدًّا للتضحية بنفسه وبكل ما يملك استجابة لأمر رسول الله ﷺ يتلاعب بأقواله؟! ألم يقل رسول الله ﷺ: «من كذب عليَّ متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار»؟! (من رواية البخاري وأصحاب السنن) وقد عرف الصحابة ذلك، وآمنوا بكلمات النبي ﷺ الذي أيقنوا أنه ينطق بوحي الله تعالى، فهل يحتمل من وجهة النظر النفسية عصيانهم لهذا النهي الحاسم؟!
في محكمة الجنايات أول سؤال يواجه القاضي: لمصلحة مَنْ ارتُكِبت الجريمة؟ وهذا المبدأ القضائي يمكن استعماله أيضاً في [تحقيق صحة] الحديث. وباستثناء الأحاديث التي تخص مكانة أشخاص أو جماعات معينة، والأحاديث التي حُكم عليها بالوضع أو بالترك([14]) من قبل أكثر المحدّثين، والأحاديث المتعلقة بالادِّعاءات السياسية للأحزاب المختلفة في القرن الأول بعد موت النبي ﷺ؛ فإنه لا يوجد سبب مصلحي لأيِّ فرد لتزييف أقوال النبي ﷺ([15]).
ولإدراك إمكانية اختراع أحاديث لأغراض شخصية فإن أكبر المحدّثين (البخاري ومسلم) حرصا بشدّة على إقصاء الأحاديث المتعلقة بالأحزاب السياسية عن صحيحيهما. وما بقي فهو فوق شبهة تحقيق مصلحة خاصة لأيِّ أحد([16]).
يبقى موضع جدل آخر في التشكيك بصحة الحديث: يمكن تصور أن مصدر الشك هو الصحابي الذي سمع الحديث من شفتي النبي ﷺ أو أن أحد الرواة اقترف -بحسن نية- خطأ في فهم كلمات النبي ﷺ أو أصيب بضعف الذاكرة، أو لأيِّ سبب نفسي آخر. ولكن البرهان الضمني (أي: النفسي) يقف ضد أيِّ إمكانية كبيرة لوقوع مثل هذه الأخطاء (على الأقل من جانب الصحابة). فإن هؤلاء الذين عاشوا مع النبي ﷺ كان كل قول من أقوال النبي ﷺ أو فعل من أفعاله له أكبر الأهمية، ليس لتأثير شخصية النبي ﷺ عليهم فحسب، بل ولاعتقادهم الجازم بإرادة الله تعالى تنظيم حياتهم وفق توجيهات النبي ﷺ واقتدائهم به.
ولذلك فإنهم لم يأخذوا أمر أحاديثه بتهاون، بل حاولوا حفظها في صدورهم مهما كلفهم ذلك من جهد([17]). ولقد رُوي أن الصحابة المقربين من النبي ﷺ كانوا يقسمون أنفسهم إلى جماعات تتكون الواحدة من رجلين بالتناوب، أحدهما يلازم مكان وجود النبي ﷺ، والآخر ينشغل بأمور معاشه، ومهما سمع الأول أو رأى من النبي ﷺ أبلغه لصاحبه([18])؛ حرصاً منهم على ألا يفوتهم شيء من أقوال النبي ﷺ أو أفعاله. وليس محتملاً -وحالهم على ذلك- أن يتهاونوا في ضبط كلمات الحديث كما سمعوها. وإذا كان ممكناً لمئات من الصحابة أن يحفظوا في صدورهم جميع كلمات الله في القرآن بأدق تفاصيل التهجِّي؛ فإنه -بلا شك- من الممكن لهم ولمن جاؤوا مباشرة بعدهم -كذلك- أن يحفظوا في صدورهم الأحاديث المفردة عن النبي ﷺ دون أن ينقصوا منها أو يزيدوا فيها شيئاً.
وإضافة إلى ذلك فإن المحدثين لا يمنحون كمال الصحة إلا للأحاديث التي رويت بالألفاظ نفسها خلال سلاسل مستقلة ومختلفة من الرواة. وليس هذا كل ما في الأمر، بل لكي يوصف الحديث بأنه (صحيح) فلا بد له من أن يوثق في كل مرحلة من الرواية بشهادة اثنين([19]) -على الأقل- أو أكثر من الرواة حتى لا تعتمد الرواية في أي مرحلة على شهادة راوٍ واحد فقط.
وشرط التوثيق هذا دقيق إلى درجة أن الحديث الذي رواه -مثلاً- ثلاثة أجيال من الرواة بين الصحابي والمصنّف أو المخرج [كالبخاري مثلاً] تناقله في الواقع عشرون راوياً أو أكثر خلال هذه الأجيال الثلاثة([20]).
ومع كل هذا؛ فلم يعتقد مسلم أن أحاديث النبي ﷺ يمكن أن تبلغ درجة صحة القرآن وضبطه؛ فلم يتوقف أبداً في أي زمن العمل على تحقيق الأحاديث. وحقيقة أنه يوجد أعداد من الأحاديث الموضوعة لم تَفُتْ أبداً انتباه المحدّثين، كما يظن بعض غير المسلمين، بل وبعض المسلمين السذج. على العكس فإن علم التدقيق الحديثي قد أُحدث لمقابلة ضرورة التمييز بين الأحاديث الصحيحة والموضوعة. وما جاء إماما الحديث: البخاري ومسلم -ناهيك عن بقية المحدثين- إلا نتيجة مباشرة لهذا الاتجاه التحقيقي. وعلى هذا، فوجود بعض الأحاديث المزيفة لا يثبت شيئاً مخالفاً لنظام نقل الحديث أكثر مما تثبت حكاية خيالية من حكايات (ألف ليلة وليلة) باعتبارها حجة جدلية ضد صحة أيِّ تقرير تاريخي عن أحوال الزمن نفسه([21]).
وحتى الآن لم يستطع ناقد أن يثبت بطريقة منهجية علمية بطلان مجموع الأحاديث المعتدّ بصحتها طبقاً لمعيار تدقيق الأحاديث. ورفضُ كل الأحاديث الصحيحة أو بعضها إنما هو أمر عاطفي بحت، وقد أخفق في إثبات نفسه بوصفه نتيجة تحقيق علمي غير متحيز. ولكن الدافع خلف اتجاه مخالف كهذا بين عدد من مسلمي عصرنا يمكن تتبع أثره [فهذا الدافع يكمن في استحالة الجمع بين طرقنا الحاضرة المنحطة في العيش والتفكير، وبين شريعة الإسلام الأصلية كما جاءت بها سنة نبينا ﷺ]. ولكي يسوّغوا نقصهم ونقص بيئتهم فإن منتحلي تدقيق الأحاديث يحاولون التخلص من ضرورة اتباع السنة([22])، ولو تحقق لهم ذلك لكان لهم [ولغيرهم] أن يفسروا كتاب الله وشرعه كما يحلو لهم، ولكل أحد وفقاً لميوله وفهمه، وفي هذه الحال تدمر تماماً وظيفة الإسلام بوصفه شريعة أخلاقية وعملية، فردية وجماعية.
وفي هذه الأيام، حيث يتحقق تأثير الثقافة الغربية أكثر فأكثر في العالم المسلم، يطرأ دافع آخر للاتجاه المنحرف لمن يوصفون بالمفكرين الإسلاميين في هذا الأمر. إن من المستحيل أن تحيا وفق سنة نبينا محمد ﷺ وفي الوقت نفسه تتبع النهج الغربي للحياة. ولكن كثيرين بين جيل المسلمين الحاضر مستعدون لعشق كل ما هو غربي، ولعبادة الحضارة الأجنبية لمجرد أنها قوية ومسيطرة ماديًّا. وهذا (الاستغراب) هو أقوى سبب لكون أحاديث النبي ﷺ وسنته عامة غير مرغوبة بها اليوم. السنة تخالف بكل وضوح المبادئ الفكرية التي تقوم عليها الحضارة الغربية، إلى درجة أن أولئك المفتونين بالأخيرة لا يرون طريقاً للخروج من مخالفتها للأولى إلا باعتبار السنة غير مهمة، ومن ثَمَّ فهي ليست من فروض الإسلام لأنها مبنية على أحاديث غير موثوق بصحتها. وبعد ذلك يكون من السهل أن تلوى تعاليم القرآن بطريقة يمكن أن تجعلها أيضاً مناسبة لروح الحضارة الغربية.
وقريباً من أهمية ما سبق (أي: التسويغ الشرعي للسنة من خلال تحقيق الثقة التاريخية بالحديث) مسألة التسويغ الروحي الداخلي: لماذا ينظر إلى متابعة السنة على أنها لازمة لحياة إسلامية حقة؟ ألا يوجد طريق آخر إلى حقيقة الإسلام غير متابعة المنهاج الكبير للأقوال والأفعال، وللأوامر والنواهي المستنبطة من قدوة حياة النبي ﷺ ؟
لقد كان النبي بلا شك أعظم الرجال؛ ولكن أليست ضرورة تقليد حياته من كل النواحي طغياناً على الحرية الفردية للشخصية الإنسانية؟ لقد كان من المجادلات القديمة التي تعلق بها النقاد المعادون للإسلام: أن ضرورة المتابعة الدقيقة للسنة كانت من الأسباب الأساسية لانحطاط العالم المسلم؛ لأن اتجاهاً كهذا يفترض أن يتعدى على حرية الإنسان في أفعاله (على المدى الطويل) وعلى التطور الطبيعي للمجتمع. وإنه لمن الأهمية العظمى لمستقبل الإسلام: ما إذا كنا قادرين أو غير قادرين على مجابهة هذه المجادلة؛ فموقفنا من قضية متابعة السنة سيقرر موقفنا في المستقبل من الإسلام.
لنا الحق أن نفخر بحقيقة أن الدين الإسلامي لا يقوم على عقيدة غامضة، بل هو مفتوح للبحث العقلي. وعلى هذا فإن لنا الحق في أن نعلم أن اتباع السنة مفروض علينا، ليس هذا فحسب، بل أن نفهم السبب الضمني لفرض الله ذلك علينا.
الإسلام يقود الإنسان إلى توحيد كل اتجاهات حياته.
هذا الدين يمثل -في ذاته- مجموع عقائد لا يمكن الزيادة عليها، ولا يمكن النقص منها. ولا يوجد مكان في الإسلام للانتقاء. وسواء جاءت تعاليمه من كتاب الله أو سنة رسوله ﷺ، فلا بد من قبولها بكاملها([23])، وإلا فلا قيمة لقبولها. إن من الخطأ الكبير الظن أن الإسلام (بوصفه ديناً يقبله العقل السليم) يترك تعاليمه مفتوحة للاختيار [أو الفهم] الفردي [في أيِّ مكان وأيِّ زمان] وهو ظن تسببت في وجوده (العقلانية) بفهمها الخاطئ العام. وهناك هوة واسعة (تعترف بها بصورة كافية فلسفات كل العصور) بين العقل والعقلانية، وهو المفهوم العام اليوم. وظيفة العقل فيما يتعلق بالتعاليم الدينية لها شخصية ضابطة تعمل على ألا يحمل العقل فوق طاقته. وفيما يتعلق بالإسلام فإن العقل غير المتحيز قد أعطاه في كل مرة كامل الثقة. وهذا لا يعني أن كل من قرأ القرآن سيقبل بالضرورة تعاليمه، فهذا يتوقف على السجية والبيئة، وأخيراً وليس آخراً على هداية الله. ولكن بلا شك لن يدعي شخص غير متحيز أن في القرآن ما يناقض العقل. وبلا شكّ يوجد في القرآن [من الغيبيات] ما يتجاوز حدود فهمنا الحاضرة؛ ولكن لا شيء فيه مّما يهين الذكاء الفطري([24]).
وظيفة العقل في الأمور الدينية -كما سبق- إنما تتعلق بالضبط: أداة تسجيلية تقول: (نعم) أو (لا) فيما يناسبها. ولكن هذا لا يصح تماماً فيما يسمى (العقلانية) فإنها لا تكتفي بالتسجيل والتنظيم، بل تقفز إلى ميدان التخمين والخرص. هي ليست مستقلة ومحايدة كالعقل المجرد، بل هي مزاجية وشخصية. العقل السليم عرف حدوده، أما العقلانية السطحية فإنها غير معقولة بدعواها الإحاطة بالعالم وبالمغيبات ضمن دائرتها الفردية. وفي الأمور الدينية فإنها لا تكاد تقر بإمكانية وجود أشياء ما -مؤقتاً أو دائماً- فوق الفهم البشري. وفي الوقت نفسه تقر بهذه الإمكانية للعلم لذاته. والمبالغة في الثقة بهذه العقلانية القاصرة هي أحد أسباب رفض كثير من مسلمي هذا العصر الاستسلام لاتباع سنة النبي ﷺ، ولكننا لا نحتاج إلى (كانت)([25]) اليوم ليثبت أن الفهم البشري محدود جدًّا في إمكاناته. العقل غير قادر -بقدرته الطبيعية- على فهم فكرة الكلية؛ قد يستطيع إدراك تفاصيل الأشياء وحدها، ولكننا لا نعرف معنى الأبدية والأزلية، بل نحن لا نعرف ما الحياة؟ وفي قضايا الدين القائمة على أسس غيبية فإننا نحتاج إلى دليل يملك من التفكير أكثر مما تملكه العقول العادية، وأكثر من العقلانية الشخصية التي يملكها كل منا. نحن نحتاج إلى بشر يوحى إليه، أي: إلى نبي. وما دمنا نؤمن بأن القرآن كلام الله، وأن محمداً رسول الله؛ فإننا ملزمون -أخلاقيًّا وعقليًّا- باتباع هداه مطلقاً.
هذا لا يعني أن نقصي قوانا العقلية، بل على العكس لا بد من أن نستفيد من قوانا العقلية إلى أقصى درجة من القدرة والمعرفة لنكتشف المعنى والمقصد الضمني للأوامر الشرعية المبلغة إلينا.
وعلى أي حال -سواء استطعنا معرفة الحكمة والمقصد والغرض النهائي أم لم نستطع- يجب علينا طاعة الأمر. وأضرب مثلاً لذلك: الجندي الذي أمره قائده باحتلال موقع إستراتيجي معين، فإن الجندي الصالح سينفذ الأمر فوراً، وإن استطاع في أثناء التنفيذ فهم المقصد الإستراتيجي للأمر، فخير له ولوظيفته، وإن استعصى عليه فهم المقصد العميق من الأمر وقت التنفيذ فليس له الحق في عصيان الأمر أو تأجيل تنفيذه [حتى يفهمه أو يقتنع به].
ونحن المسلمين نعتمد على الله الذي أرسل لهدايتنا خير قائد من البشر. وبطبيعة الحال نؤمن بأنه أعلم منا بشريعة الإسلام، سواء من الجهة الدينية أم من الجهة الاجتماعية، وأنه لم يأمرنا بفعل شيء أو تركه إلا لمصلحة مؤكدة ومقصد حقيقي لصلاح البشرية، قد يظهر أحياناً وقد يخفى أحياناً على أكثر الناس. وقد يظهر المقصد العميق لحكم شرعي أو لا يظهر منه غير المقصد القريب. ومهما تكن الحال فإننا ملزمون بطاعة النبي ﷺ وباتِّباعه بشرط ثبوت صحة أمره أو نهيه، ولا أهمية لغير ذلك.
وبطبيعة الحال فإن الأحكام الشرعية [كما جاء بها النبي ﷺ من عند الله تعالى] تتفاوت في الأهمية، ولكن لا يليق بنا أن نهمل شيئاً منها بحجة أنها غير أساسية، فقد قال الله تعالى عن نبيه ﷺ: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ﴾ [النجم: 3 – 4] أي: لا يتكلم إلا بوحي من الله تعالى. وعلى هذا فإن من الواجب علينا أن نتبع سنة النبي ﷺ إن كنا نرغب صادقين في الثبات على الإسلام. ونحن لا ننظر إلى عقيدة الإسلام بوصفها واحدة من السبل، بل ننظر إليها على أنها وحدها السبيل، وإن الرجل الذي هدانا الله به إليها ليس واحداً بين عدد من الهداة، بل هو وحده الهادي، فإن اتّبعناه في كل ما يأمرنا به اتّبعنا شريعة الإسلام، وإن تركنا السنة تركنا حقيقة الإسلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) لاحظ أن هذا الكلام كُتِب قبل قرابة التسعين عامًا، وتحديدًا في عام 1933 ميلادية كما رقمه المؤلف نفسه في كلمة صدَّر بها الكتاب لإحدى طبعاته الإنجليزية سنة 1982، والمؤسف أن الحل لمشكلات المسلمين الذي أرشد إليه المؤلف لم تعمل به الأمة الإسلامية كما ينبغي لها أن تفعل حتى يومنا هذا؛ ولا يخفى أن هذا الحل ليس محمد أسد -رحمه الله- أول من أرشد إليه؛ بل أرشد إليه القرآن العظيم والسنَّة المطهرة، وأرشد إليه أئمة الأمة منذ عشرات السنين.
فقد قرن الله عز وجل طاعته بطاعة رسوله ﷺ في أكثر من موضع من كتابه، قال تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۚ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ [النساء:13-14]، وهناك آياتٌ أُخر باللفظ نفسه في سورة النساء، والنور، والأحزاب، والفتح؛ هذا إلى جانب آيات أخر منها ما يؤيد أن طاعة الرسول طاعة لله؛ قال تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ۖ وَمَنْ تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ﴾ [النساء:80]، ومنها ما يؤكد أن اتباع الرسول شرطٌ لصدق محبة الله عز وجل : ﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [آل عمران:31]. ووجه الاستدلال على كل تلك الآيات وغيرها: أن المسلمين إذا لم يُقيموا سنَّة نبيهم فإنهم لم يُقيموا الإسلام. ولا شك أن الإسلام هو سر وجودنا، وسر قوتنا، وسر اجتماعنا، فإذا لم نُقمه فلن تقوم لنا قائمة، ومن تتبَّع تاريخ الأمة الإسلامية وما حل بها من نقص وانتكاسات طوال التاريخ يجد أن ذلك لم يكن إلا بسبب بُعدها عن سنَّة نبيها؛ وكل ما حلَّ بها من عودة ونصر فلم يكن ذلك إلا بسبب اقترابها أكثر من هذه السنَّة العظيمة، ولو تمت دراسة التاريخ الإسلامي دراسة علمية متأنية متجردة من الهوى لوجد الباحث أن هذه القاعدة هي التي تحكم التاريخ الإسلامي في انتصارات المسلمين وانكساراتهم، وفي ظهورهم واضمحلالهم.
والعجيب والمؤلم في الوقت نفسه: أن دراسة كهذه تكاد تكون غير موجودة؛ أعني دراسة تُعنى باستقراء التاريخ الإسلامي في جميع القرون وجميع الأوطان، والعمل على محاولة تفسيره وتتبع مظاهر القوة والضعف فيه وأسبابهما.
ونحن لسنا في حاجة إلى هذه الدراسة إلا لتأييد ما عندنا من اليقين بأن مدى اتباع المسلمين للسنَّة هو العامل الأساسي في قوتهم وضعفهم، حتى يتيقن من هو في حاجة إلى اليقين، وحتى يطمئن قلب من قلبُه في حاجة للاطمئنان.
وقد جرَّب المسلمون خلال التسعين عامًا الماضية -أي: منذ كتابة المؤلف رسالته هذه حتى يومنا- أنواعًا من التجارب للنهوض بالأمة وتحقيق النصر، وكلها فشلت إلا ما كان منها متبنيًا فكرة إعادة الأمة إلى سنَّة المصطفى ﷺ؛ وحسب علمي فإنها تجربة واحدة في هذا القرن وهي تجربة المملكة العربية السعودية؛ حيث رفعت هذا الشعار، فجمع الله بها في جزيرة العرب من الناس والبقاع ما لم يجتمع قبلها؛ ولو أن حكام المسلمين وعلماءهم وشعوبهم استفادوا من تجربتها فأقاموا السنن وأماتوا البِدَع وجعلوا هدي النبي صلى الله عليه وسلم حاكمًا عليهم في أقوالهم، وأعمالهم، وعباداتهم، ومعاملاتهم، ورؤاهم، وتصوراتهم؛ لنالوا بذلك العاجلة والآجلة.
لكنهم حتى اليوم مصرون على خوض التجارب الفاشلة الواحدة تلو الأخرى، ولعل آخرها تبنِّي بعض قادة العمل الإسلامي للعلمانية نهجًا للحكم وإقامة الدولة، وما تصرفهم ذلك إلا إمعان في الإيغال في طريق الأخطاء، والله المستعان.
([2]) الإجماع الذي ذكره المؤلف بين العلماء إجماع نظري وليس عمليًّا، ذلك أن العلماء من بعد القرن الرابع الهجري تقريبًا لا يخلو كثير منهم من البدع إقرارًا وتمكينًا لها، وبعضهم رؤوسٌ فيها من الاعتزال والأشعرية والتصوف وما ترتب على الانتماء إلى تلك المذاهب من القول بالجبر، أو الإرجاء، أو الأعمال الشركية، والانغماس في الخرافة التي تصل بأصحابها أحيانًا إلى مجافاة الدين. والأمة اليوم في حاجة إلى هذا الإجماع قولًا وعملًا، وليس قولًا وحسب.
([3])تنقسم السنَّة كما هو معلوم إلى: أقوال النبي ﷺ وأفعاله وإقراراته وصفاته.
وقول المؤلف (ومواقفه) ليست موجودة في ترجمة الأستاذ عمر فروخ للكتاب [انظر ص 90 طبعة دار العلم للملايين] وربما عنى المؤلف بها إقراراته، وترجمها الشيخ صالح الحصين مراعاةً لدقة النقل، أو أن المؤلف عنى بها ما هو أعم من الإقرارات، وهو مواقفه العامة من القضايا الكلية والجزئية التي تعبر عنها الأقوال والأفعال.
([4])هذا الأمر الذي أشار إليه المؤلف هو من إنجازات الإسلام العظيمة، لكنه ليس أهمها؛ إذ إن أهم إنجازات الإسلام تخليص البشر من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد كما قال ربعي بن عامر ﭬ لرستم؛ ويشهد له قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات:56]، ولعل عمر فروخ في ترجمته عَدَلَ عن هذه العبارة إلى عبارة «من أهم».
([5]) يعني الأديان الصحيحة التي جاء بها الأنبياء، فما ذكره المؤلف من الخصائص لعل ما جاء لنبينا محمد ﷺ يتميز به عن سائر الأنبياء قبله؛ وذلك: أن تلك الرسالات لم تكتمل فيها الشرائع، كما أن في بعضها تشديدًا على الأمم السابقة ربما حال دون شيء من ذلك التناسق الذي قصده المؤلف، كما أخبر الله تعالى بهذا التشديد فيما حكاه عز وجل من خصائص رسالة محمد ﷺ حين قال: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ ﴾ [الأعراف:157].
أما سائر الملل والنِحَل فإن ما يميز الإسلام عنها كثير، وليس محصورًا في شرع معين، وأنا أعلم علمًا يكاد يصل إلى اليقين أن المؤلف رحمه الله لم يُرد المعنى الحرفي لما كتب مما يوحي بالحصر، لكن أردت الإيضاح، وكذلك التنبيه إلى عُذر المؤلف بأن الأساليب الكتابية في أوائل وأواسط القرن الماضي تمتلئ بالإطلاقات والتعميمات والحصر الذي لا يُراد به سوى تعظيم أمر ما يجري الحديث عنه، ولا يُراد حقيقة الإطلاق والتعميم والحصر، وهذا ما يجده القارئ في كتابات عاملة الكتاب آنذاك من عرب وغيرهم.
([6]) أي: أن التخلي عن الدنيا وما فيها من متاع ليس شرطًا في صحة العبادة أو صحة الإقبال على الله كما هو الحال في بِدْعة الرهبانية عند النصارى، فلا عداوة في الإسلام بين الدنيا والآخرة، بل الإسلام قصد الآخرة ولم ينسَ الدنيا، وخدم الروح ولم يهمل الجسد، وعظّم حق الخالق، وشدّد في حقوق المخلوق، قال تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ﴾ [القصص:77]، وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها»، وقال تعالى عن أهل النار: ﴿قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ﴾ [المدثر: 43، 44].
([7])ولهذا يُخطئ من يقبل خبر الواحد العدل في العبادات والمعاملات ويرده في العقائد، أو يقبله في كل شيء ويرده في الحدود أو في الكفارات، أو من يقبله إذا وافق هواه ويرده إذا خالف هواه.
([8])ظهرت في العصر الحديث أفكار تدعو إلى قراءة القرآن الكريم قراءة تاريخية، ويعنون بذلك فهم روح القرآن ومقاصده باعتبارها هي المقصود منه، أما تفاصيل العبادات والعقوبات وأحكام البيوع وغيرها فكثير منها إنما شُرِع مراعاةً لظروف وأحوال وطبيعة ذلك الجيل، وعليه فلا يصلح أن نأخذ تلك الشرائع في واقعنا المعاصر، وهذه الأفكار مأخوذة بحذافيرها عن الفلاسفة الأوربيين في نقدهم للكتب المحرَّفة التي يزعمون أنها التوراة والإنجيل، ونقل بعض من يصفون أنفسهم بالثقافة هذه النظريات لينتقدوا بها الكتاب والسنَّة؛ انظر تفاصيل ذلك في كتاب [تجديد الدين لدى الاتجاه العقلاني الإسلامي المعاصر ص279].
وكذلك ظهرت فكرة إخضاع النص للواقع، بمعنى: أن نجعل فهم النصوص خاضعًا لضغط الواقع، وليس العكس: أي أن نحمل واقعنا كما يُريده النص [انظر: مقالات الطاعنين في نصوص الشريعة عرض ونقد أ.د. عبد العزيز العيد ص 140].
([9])الأصل في اللغة الدلالة على الحقيقة، ولا يصح العُدُول عن الحقيقة إلى المجاز إلا بقرينة قوية من الحال أو المقال تمنع إرادة المعنى الحقيقي، كقوله تعالى: ﴿ يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ﴾ [الكهف:77] فالإرادة هنا مجازية لأن الجدار مسلوب الإرادة لكونه جماداً؛ وقوله تعالى: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا ﴾ [يوسف:82] فيعدل عن الحقيقة إلى المجاز لأن المراد حتماً ليس سؤال الجُدران والبهائم وإنما سؤال أهل القرية وأهل العير من باب ذكر المحل وإرادة الحال. أما دون قرينة قوية فلا يُعدل إلى المجاز؛ كأن لا تتوافق الحقيقة مع هوى البعض أو إدراكهم، فذلك لا يسوغ لهم الذهاب إلى المجاز.
ولذلك منع بعض أهل العلم الكبار من تصور المجاز في القرآن وقالوا في الآيتين السابقتين: إنهما على الحقيقة؛ فالجدار له إرادة تليق به وتتناسب مع خلقه كما أن له تسبيحاً بنص القرآن حيث يقول تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾ [الإسراء:44] والجدار شيء فهو داخل في هذا العموم؛ وأما القرية والإبل فإن ذلك كما تقدم من ذكر المحلّ وإرادة الحالّ وهو من أساليب البيان العربي وليس مجازاً.
وأيًّا من القولين اخترنا فإن ذلك لا يسوغ لنا إحالة كل شيء لا نفهمه أو تخفى علينا حكمته إلى المجاز؛ لأن ذلك مفتاح للذهاب بدلالة القرآن كله وتأويل مراد الله من خلقه، وهذا يتعارض مع التشريع الذي يعني وضع نظام محكم للبشرية، ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة:48]، ولو جاز فتح هذا الباب لما كان هناك شرعة ولا منهاج؛ كما أن الشريعة وضعت للإفهام: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [الزخرف:3] وفتح الباب على مصراعيه في المجاز مناف لتعقل القرآن الذي جعله الله عربيًّا من أجله.
([10]) لاحظ أن هذا الكلام قيل قبل تسعين سنةً، ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم لم يستطع أحد أن يأتي بكلام علمي يقدح في مصادر السنَّة النبوية، وكل ما قالوه ودارت عليه مؤلفاتهم: أن السنة منها الصحيح والضعيف، وهذا الذي قالوه ليس مبتكرًا بل إن علماء الأمة قائلون به، لكن أولئك المرجفين لم يستطيعوا أن يُقرُّوا بأن علماء الأمة أيضًا ميزوا الصحيح عن الضعيف بطريقة بلغت من المتانة حد أن تكون مستعصية على النقد.
([11]) لعلم الحديث فروع كثيرة، الأمر الذي جعل بعض العلماء الأوائل يُعبِّرون عنها بعلوم الحديث، كما فعل الحاكم النيسابوري حيث سمى كتابه «معرفة علوم الحديث» وغير الحاكم رحمه الله سماها أنواعًا، الحاصل من ذلك: أن الذي يخدم حديث رسول الله ﷺ فنون كثيرة من العلم؛ فمن هذه الفنون ما يتعلق بوضع قواعد نظرية تضع تقسيمات للحديث بحسب قوته وصفات كل قسم وشروطه، ومنها ما يتعلق بطرق رواية الحديث والمقبول من هذه الطرق والمردود، ومنها ما يتعلق بكيفية الحكم على الراوي، ومنها ما يتعلق بألفاظ الرواية وما يدل منها على السماع المباشر، وما يدل على الإرسال ومدى قوة تلك الألفاظ في الدلالة ومدى أثرها في قوة الرواية، ومنها ما يتعلق بكثرة الرواة وقلتهم وأثر عددهم في قوة المروي وضعفه، وغير ذلك من أنواع العلوم، وكل نوع منها أفرده بعض الأئمة بمؤلف مستقل؛ كالخطيب البغدادي رحمه الله الذي قال عنه ابن حجر العسقلاني رحمه الله: «قلَّ فنٌّ من فنون الحديث إلا وقد صنَّف فيه كتابًا مفردًا» [نزهة النظر ص 39 تحقيق نور الدين عتر].
هذا في الجانب النظري التقعيدي والذي لا تخلو المؤلفات فيه من تطبيقات عملية كثيرة، أما الجانب التطبيقي فقد اشتغل المحدثون في كتب الرواية وكتب الرجال وتركوا لنا تراثًا عظيمًا،
فألَّفوا الكتب المسندة المختصة بالصحيح، والكتب المختصة برواية الضعيف، والمختصة بالمراسيل، والمختصة بالأحاديث المتواترة، وبالمصحَّف، وبالمعلِّ، والكتب التي تخصصت في ذكر الموضوعات المكذوبات على النبي ﷺ، والكتب التي اختصت بالأحاديث المشتهرة على الألسنة، والكتب التي جمعت بين الصحاح والحسان، كما ألَّفوا كتبًا في دراسة تلك الكتب وتتبعها ونقدها.
أما كتب الرجال فقد اختصت بدراسة سير الرجال؛
فمنها ما جمع الرجال بجميع طبقاتهم ككتاب الجرح والتعديل لابن أبي حاتم [ت 327].
ومنها ما خصصوه لتراجم الثقات ككتاب الثقات لابن حبان [ت 354].
ومنها ما خصصه مؤلفه للرجال الضعفاء ككتاب الضعفاء الكبير للعقيلي [ت 322].
ومنها ما خصصه مؤلفه لرجال الكتب الستة وهو كتاب الكمال في أسماء الرجال لعبد الغني المقدسي [ت600].
ومنها كُتُبٌ خصصها مؤلفوها لتراجم الرواة من مدن مخصوصة كنيسابور وبغداد
ودمشق وغيرها من المدن التي وُجِد فيها علم الرواية.
ومنها المخصصة للمختلطين، وللمدلسين، وللكذابين، إلى غير ذلك.
ومشكلة كثير ممن يطعنون في الأحاديث أنهم ليس لديهم أدنى معرفة بهذه الجهود الحضارية التي لا توجد في أمة من أمم الأرض إلا الأمة الإسلامية، والحمد لله رب العالمين.
([12]) يمين الدولة أبو القاسم محمود بن سبكتكين ثاني حكام الدولة الغزنوية، كان شهمًا، شجاعًا، بطلًا، مجاهدًا، ديِّنًا، توسعت الدولة الغزنوية في عهده، وفتح الهند؛ ولد سنة 360 هـ، وتوفي سنة 421 هـــ. [سير أعلام النبلاء 17/484].
([13]) الملحظ الذي ذكره المؤلف حول المانع النفسي من الكذب على سول الله ﷺ ملحظ صحيح قويّ، فتأثير شخصية النبي ﷺ فيمن التقى بهم أمر شديد العظمة حتى أولئك الذين لم يؤمنوا به،
فأحداث السيرة النبوية لا تذكر لنا أن أحدًا من الكفار أو المنافقين ممن التقى رسول الله ﷺ تجرأ وكذب عليه، بل الحديث الصحيح الذي رواه أبو سفيان ﭬ عن قصة لقائه بهرقل وأنفة أبي سفيان من أن يكذب على رسول الله ﷺ مع أنه كان كافرًا في ذلك الوقت، بل كان أشدَّ أعداء رسول الله عليه، ولم يكن ذلك في تقديري من أبي سفيان أنفةً وحسب، بل هو التأثير النفسي لشخصية رسول الله ﷺ المثالية العظيمة في نفوس من يلقونه، ولو كانت أنفةً وحسب لوجدنا غير أبي سفيان من الكفار والمنافقين من يتقول عليه، لكن ذلك لم يحدث بدلالة ما بين أيدينا من السيرة الشريفة. كما أن عدالة الصحابة ﭫ ثابتة في آيات كثيرة من القرآن الكريم، وقد عملنا في مركز سلف للبحوث والدراسات على استقصائها فجاءت نيفًا وثمانين آية.
أضف إلى ذلك: أن الصحابة ﭫ لم يكونوا جميعًا من رواة حديث الرسول ﷺ، فمن الجم الغفير للصحابة الذين بلغوا المائة ألف صحابي لم تنقل الرواية إلا عما ينيف على الألف بقليل، والمكثرون منهم والذين تدور أحكام السنَّة على رواياتهم أقل من ذلك بكثير، ولكَ أن تتصوّر أنّ الفتوى لم تُنقل إلا عن قريب من المائة منهم والذين أكثروا من الرواية وعليهم مدار سنة رسول الله ﷺ لا يتجاوزون السبعة وعشرين صحابيًّا كلهم ممن عُلِم علم اليقين حُسْن إسلامهم، وقد ذكر ذلك ابن القيم في كتابة إعلام الموقعين عن رب العالمين ج1 ص 11، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد.
([14])قد يُترك الاستدلال بالحديث وليس لكونه موضوعًا أي: مكذوبًا على رسول الله ﷺ، بل يُترك لوجود نوع من أنواع الضعف فيه؛ كالإرسال، والانقطاع، وجهالة عين الراوي، أو جهالة حاله دون عينه، بل قد يُترك الحديث مع صحة إسناده لوجود علَّة من العلل الخفية فيه وهو ما يُسمى بالحديث المُعَل أو المعلول، وتعريفه: الحديث الذي اطُّلِع فيه على علَّة تقدح في صحته مع أن الظاهر السلامة منها، مقدمة ابن الصلاح، المطبوع مع شرحها للعراقي ص 115.
([15])هذه المسألة يبحثها علماء الحديث في أبواب العدالة عند الحديث عن رواية المبتدع، وفي أبواب الحديث عن الموضوع عند ذكر أسباب الوضع، انظر مثلًا: التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح للحافظ العراقي ص131، و148، فتح المغيث للسخاوي، 1: 252، وتدريب الراوي 1/ 281 و1/ 324.
([16])مدار قبول حديث الراوي أو ردِّه عند المحدثين منوط بمقدار احتمالية الكذب لديه على رسول الله ﷺ، فقبلوا حديث الثقة العدل، وإن كان من أهل البدع ما لم يروِ حديثًا يدعم بدعته، فإن هذا الحديث يُرَد لارتفاع هوى الكذب لديه في هذه الجزئية؛ ولذلك ردُّوا أحاديث الكرَّامية لقولهم بجواز الوضع في الترغيب والترهيب، وردُّوا حديث الخطابية لقولهم بجواز الشهادة بالباطل لأتباعهم، وردوا حديث الرافضة الشاتمين للسلف لكثرة الكذب فيهم على النبي ﷺ، وقبلوا رواية عدد من أهل البدع ممن لا تحملهم بدعهم على الكذب وعُرِفوا بالتقوى والأمانة في النقل، وقد سرد السيوطي أسماء من روى عنهم البخاري ومسلم أو أحدهما، مع الإشارة إلى بدعته، تدريب الراوي 1 / 328، وهذا من عظيم علم أهل الحديث وعقلهم وعدلهم، قارن ذلك بما يُرمون به من التعصب والإقصاء، نعم هم متعصبون لاتباع سنة رسول الله ﷺ، ماقتون لتركها، مشفقون على الأمة من التهاون بها، لكنهم مع ذلك أهل عدل مع من خالفهم، يقبلون منهم ما عندهم من خير ويردون ما هم عليه غير ذلك، ولا يجعلونهم في درجة واحدة من الابتعاد عنهم، وصور عدلهم مع مخالفيهم تملأ صحائف التاريخ، والحمد لله رب العالمين.
([17])كان الصحابة ﭫ شديدي الحرص على حفظ ما كان يصدر من رسول الله ﷺ من الأقوال، ولم يكن رسول الله يتكلم كثيرًا، بل كان ينطق بجوامع الكلم، وكان من حضره من الصحابة ينقلون أقواله لمن لم يحضر، قال البراء بن عازب: “ما كل الحديث سمعناه من رسول لله ﷺ، كان يحدثنا أصحابنا وكنا مشتغلين في رعاية الإبل وأصحاب رسول الله ﷺ كانوا يطلبون ما يفوتهم سماعه من رسول الله ﷺ، فيسمعونه من أقرانهم، وممن هو أحفظ منهم، وكانوا يشدِّدون على من يسمعون منه”. وانظر: المحدث الفاصل للرامهرمزي 163 حيث تحدث عن فضل نقل حديث رسول الله ﷺ وفضل طلبه، وهي فضائل كان الصحابة ﭫ يستحضرونها ويعملون لتحصيلها.
([18])وممن روي عنه ذلك عمر بن الخطاب ﭬ قال: «كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أميَّة بن زيد، وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على رسول الله ﷺ، ينزل يومًا وأنزل يومًا، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك» وانظر للفائدة كتاب: السنة قبل التدوين للدكتور محمد عجاج الخطيب.
([19]) المقصود بشهادة الاثنين: شهادة عدلين على عين الراوي، فمجهول العين ترتفع الجهالة عنه برواية اثنين عنه، قال السيوطي: «المجهول عند أهل الحديث من لم تعرفه العلماء ولم يشتهر بطلب العلم في نفسه، ولا يُعرف حديثه إلا من جهة راوٍ واحد، وأقل ما يرفع الجهالة عنه رواية اثنين مشهورين عنه فأكثر» تدريب الراوي 1: 317.
وارتفاع جهالة العين لا يعني ارتفاع جهالة الحال، وارتفاعها يكون بنص الأئمة على عدالته، وقد يُقبَل في ذلك إمامٌ واحد، التقييد والإيضاح 137.
([20]) من حيث التقعيد النظري الذي دونه علماء أصول الفقه وعلماء المصطلح فإن خبر العدل عن العدل المتّصل من غير شذوذ ولا عِلَّة مقبول، ومن حيث العلم التطبيقي فإنه يندر أن يوجد حديث إلى الجيل الثالث لم يروه إلا ثلاثة، بل غالب الأحاديث رواها عدد من الناس عن الراوي الأول.
والمحدِّثون يُسمون هذا النوع بالفرد أو الغريب، والصحيح من الأحاديث الغرائب قليل، وأكثرها حكم العلماء بضعفه ونكارته، قال الإمام أحمد: «لا تكتبوا هذه الأحاديث الغرائب، فإنها مناكير، وعامتها عن الضعفاء»، وقال الإمام مالك: «شر العلم الغريب، وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس». انظر: الوسيط في علوم ومصطلح الحديث للشيخ الدكتور محمد أبو شهبة ص 203.
([21])أنتج علماء الحديث على مر تاريخهم كتبًا كثيرة أفردوا فيها الأحاديث الموضوعة على رسول الله ﷺ، ومنها: الموضوعات لابن الجوزي، واللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة للسيوطي، وتنزيه الشريعة المرفوعة من الأحاديث الشنيعة الموضوعة لابن عراق.
أما الأحاديث الضعيفة فمنها ما أُدرج في الكتب التي تخصصت في تراجم الضعفاء؛ ككتاب الضعفاء لابن حبان، والكامل لابن عدي، وميزان الاعتدال للذهبي، ومنها ما نبَّه العلماء على الكتب التي هي مظان وجوده كما قالوا عن مصنفات ابن أبي الدنيا، ومنها ما صنفوه في كتب خاصة حسب نوع ضعفه ككتاب المراسيل لأبي داود، وكتاب العلل للدارقطني.
كما اشتغل العلماء بتخريج أحاديث المتون الشهيرة في الفقه والأصول وغيرها، وميزوا صحيحها من ضعيفها؛ ككتاب: نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية للزيلعي، والتلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير لابن حجر العسقلاني، وأيضًا له: موافقة الخبر الخبر في تخريج أحاديث المختصر، وهكذا ظل العلماء يجتهدون حتى يومنا هذا في تنقية الكتب القديمة والحديثة من الروايات الضعيفة، وهذا من تسخير الله لهذا العلم الشريف ومن الحفظ الذي وعد الله به في قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر:9].
([22])كما قلنا في بداية هذه التعليقات فإن الكتاب مضى عليه ما يقرب من مائة عام، ولا زال الحال كما هو، فمنكرو السنَّة لم يستطيعوا إثبات دعواهم بطريق علمي ولا زالوا لا يجدون حجة إلا الهوى، حيث تُعارض السنَّة كثير من الأخلاق والعادات التي فرضها على الأمة التعلق بالحضارة الأوروبية كما قال محمد أسد -رحمه الله- .
([23]) الشاطبي -رحمه الله- يرى أن السنَّة في المرتبة الثانية في التشريع وتأتي بعد القرآن، والصحيح: أن الكتاب والسنَّة الصحيحة في رتبة واحدة في التشريع، وذلك أن طاعة الرسول ﷺ طاعة لله سبحانه وتعالى كما قالعز وجل: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ۖ وَمَنْ تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ [النساء:80]، وقد استفاض في الرد عليه الدكتور عبد الغني عبد الخالق في كتابه حُجية السنَّة ص487.
([24]) الحقيقة: أن القرآن الكريم قسم العالم إلى قسمين: عالم الغيب، وعالم الشهادة.
قال تعالى: ﴿وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ ۚ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾ [الأنعام:73]، وقال سبحانه: ﴿ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [التوبة:94]، وأثنى عز وجل على نفسه باختصاصه بعلم الغيب: ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا﴾ [الجن: 26-27]، وأثنى على المؤمنين الذين يؤمنون بالغيب: ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ [البقرة:3].
فعالم الغيب هو ما لا سبيل إلى معرفته إلا من الوحي، كصفاتهعز وجل وكيفيتها، والمبدأ والمعاد، ونعيم القبر وعذابه، واليوم الآخر، وأحوال يوم القيامة، وعالم الجن والملائكة، وغير ذلك مما لا سبيل إلى الوصول إليه بالحس، وعالم الشهادة هو كل ما يمكن الوصول إليه بالحواس حالًا أو مآلًا، فمجال العقل هو عالم الشهادة، وقد أعطى الله العقل الإذن بالبحث في هذا العالم والسؤال عنه والتدبر فيه، وذلك في آياتٍ كثيرة من كتاب الله؛ كقوله تعالى في وصف المؤمنين: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران:191] فأطلق التفكر في الخلق، وعلى ذلك آيات كثيرة، لكنه منع من التفكر في عالم الغيب الذي لا يمكن دركه بالحس فقال: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء:36].
ولعل من معاني الآية: النهي عن تتبع ما لا يدل عليه السمع والبصر وسائر الحواس؛ لأن ذلك مما لا يمكن معرفته إلا بالوحي، وهذه الغيبيات يوقف فيها عند الوحي وليس للعقل دخل فيها، ومن ذلك أحكام التشريع وحِكَمه ليس للعقل دخل فيها، ما خلا الحِكَم من تلك التشريعات فإن للعباد أن يتفكروا لتحصيلها، لكن حين تخفى عليهم حكمةٌ ما فعليهم التسليم لله والانقياد.
([25])إيمانويل كانط فيلسوف ألماني توفي سنة 1804م، وكان من أبرز من تكلموا في نظرية المعرفة. من أشهر كتبه: نقد العقل الخالص.