مقال: لكلّ جديدٍ لَذعة للكاتب النصراني: أمير بُقْطُر
تقديم:
لا تخلو أمَّةٌ من الأمم منِ اتِّخاذ مواقفَ تجاه أيِّ جديد دخيل على ثقافَتها، ومن وجود أفكار وفهومٍ وآراء مختلفة نحوها، بعضها تتَّسم بالسطحية في تناولها، وأخرى بالعُمق في دراستها، بيدَ أنَّ تعمُّد خلط الأوراق ورمي التّهَم بقصد الإساءة والتضليل ديدنُ من فقد النَّصَفة والاعتدال في الحوار والمناقشة.
ومما طال منهجَ علماء الدعوة السلفيّة منَ التُّهَم أنَّ علماءها يحرِّمون كلَّ المخترعات الحديثة، فهذا -بزعمهم- يدلّ على ضعفِ تفكيرهم وعدم صحة منهجهم، وخطأ فهمهم للعقيدة الإسلامية والأحكام الشرعية، وأن نظرة الممانعة خصوصيّة إسلامية، دافعُها التشدُّدُ وكراهية الحياة والتقدُّمِ والمدنيَّة.
وهذه نظرةٌ خاطئَة تجاهَ المنهج السلفِيّ الذي يقوم على احترام العلم والتشجيع على المخترعات العصرية، قال الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله (ت1375هـ) تحت قاعدة (الشارع لا يأمر إلا بما مصلحتُه خالِصة أو راجحة، ولا ينهى إلا عمَّا مفسدته خالصة أو راجحة): “ويستدلّ بهذا الأصل العظيم والقاعدة الشرعية على أنَّ علوم الكون التي تسمَّى العلوم العصرية وأعمالها، وأنواع المخترعات النافعة للنّاس في أمور دينهم ودنياهم، أنها داخلة فيما أمَر الله ورسوله، ومما يحبه الله ورسوله، ومن نِعم الله على العباد لما فيها من المنافع الضرورية والكمالية، فالبرقيات بأنواعها والصناعات كلها وأجناس المخترعات الحديثة تنطبق هذه القاعدة عليها أتمَّ الانطباق”([1]).
وأمَّا ما يوردونه من الأقوال المحرّمَة لها فهي من المواقف الخاطئة المحدودة، والغالب صدورها من غير الراسخين في العلم، وليس الأمر في ذلك خاصا بالمنتسبين إلى المنهج السلفي، بل وجد هذا في غيرهم أيضا، وقد قام جمهرة من العلماء السلفيين بالرد على تلك المواقف وبيان بطلان تلك الاجتهادات، ونصوصهم في ذلك كثيرة ومعلومة([2]).
وبالرجوع إلى التاريخ نجِد كثيرًا من أمثال هذه المواقف غير الراسخة ولا القائمة على منهاج معتدِل، تواجِه كلَّ جديد بالرفض والتحريم، فهي علةٌ فاشية من قديم، حتى عند غير المسلمين، قال الشيخ د. بكر أبو زيد: “ومنه ما ذكره الفخر الرازي في تفسيره([3]) أن «الساعة المائية» لما اختُرعت قابلها بعضهم بأنها سحر! ومواجهة الرفض هذه موجودة لدى بعضٍ من المسلمين، ولدى آخرين من الكافرين، أمام أيّ جديد، وانظر أمثلة موسعة لهذا في «التاريخ القويم» للكردي([4])، ذكرها استطرادًا)([5]).
وهذا المقال الذي أشار إليه الشيخ د. بكر أبو زيد رحمه الله من المقالات التاريخية المهمَّة في هذا الباب، حيث رصَد جوانبَ متنوعة من الجديد الدخيل على المجتمعات، وكيف قابلها بعضهم بالممانعة، وتأتي أهميَّته كذلك أن كاتبه نصراني وليس مسلمًا، فضلا عن أن يكون سلفيًّا.
واعتمد عليه بعض الكُتَّاب بالرجوع إلى ما أورده الكردي في “التاريخ القويم”، دون الرجوع إلى أصله.
ويُنبّه إلى أن الكرديَّ قد نقل هذا الموضوع عن الكاتب النصرانيّ أمير بُقْطُر، وبالرجوع إلى أصل المقال المنشور في مجلة الهلال في 1 فبراير 1933م اتَّضح أن الكرديَّ قد اختصره في مواضع، وأضاف عليه في مواضع أخرى دون أن ينبِّه إلى ذلك.
ونحن سنذكر مقال الكاتب أمير بُقْطُر، والذي عنوانه: “لكلِّ جديد لذعة”، ونجعل الإضافات التي زادها الكردي ولم ينبه عليها بين معقوفين، ولا ننبِّه إلى ما أسقطه من أصل المقال.
نص المقال
لكلّ جديدٍ لذّةٌ في بعض الأحايِين، ولَذعة في غيرها، وليست المبادئ والعاداتُ والتقاليد وحدَها هي التي يصعب نبذُها والتمسك بسواها، فإنَّ للأشياء المادية المحسوسة سلطانًا على صاحبها وسيادة قويّة السواعد، شديدة المراس، كثيرة البطش، يقول علماء النفس: إنَّ الإقلاع عن عادة أَلِفَها الإنسان والرجوع عن رأي معروف من الوعورة بمكانٍ عظيم؛ لأنه يدعو إلى اعتناق مبدأ جديد واتباع عادةٍ جديدة، واعتناقُ هذا المبدأ أو اتِّباع هذه العادة يتطلَّب تفكيرًا وموازنة وترجيحَ مبدأ على مبدأ وعادة على عادة، في هذا كلّه من العناء والنَّصب والتَّعب ما لا يخفى، والمرء بطبيعته ميَّال إلى الراحة والكسل، وقلَّ من لا يهوى الخلودَ إلى السكينة، ومن يرغب في عناء التفكير حبًّا في البحث عن الحقيقة والجري وراء الأصلح، ما لم يكن الدافع ضرورة قصوى، اقتصادية أو اجتماعية، اتقاءً لشرٍّ، أو خشيةَ الوقوع في خطر، أو دفاعًا عن النفس، يقول الرياضيون: إن أقرب مسافة بين نقطتين الخطُّ المستقيم، غير أنَّ الذين يجدون في كلّ جديد لَذعة يزعمون أنَّ النقطة أو المكان الذي هم فيه هو أقرب مسافة بين نقطتين، كما يزعم الفلاسفة والساسَة أن الخطَّ المتعرج المنحني أقرب هذه المسافات؛ لأن اللفَّ والدوران في نظر الفلاسفة أقربُ طريق إلى الحقيقة، وفي نظر الساسة أقرب طريق إلى نيل المراد، والجمود في نظر الأصوليِّين أقرب طريق إلى كلّ مكان في الوجود. إنّ في تاريخ التمدُّن الإنساني فتراتٍ تقهقَر فيها البشر خطواتٍ إلى الوراء، ومراحل شلّت فيها أعمالهم، وأصاب كبد مشروعاتهم سهام الفشل والخيبة.
ويعزو أحد علماء الكيمياء سببَ هذا التقهقر وذاك الفشل إلى مرض معدٍ يصيب العقول ويتفشَّى بين الناس بسرعة البرق، ويدعى (نيوفوبيا) وهو يشبه الـ(هيدروفوبيا)، غير أن المرَضَيْن وإنْ اتّفقا في الأعراض يختلفان في الأسباب، ففي حالة المرض الثاني يقال: إن العليل عند رؤية الماء يعتريه الخوف والحنق الشديد، وفي الحالة الأولى تظهر عليه علائم الانقلاب والتأفُّف وأعراض الاستياء الشديد عند رؤية كلِّ جديد، وهذا الداء كثيرُ الانتشار، ومتى أزمن لا يعرف له بين العقاقير من دواء غير السمّ الزعاف، ومن المشاهد أن الناسَ جميعَهم يحملون جراثيم هذا الداء، وكلّنا عرضة لظهور أعراض خفيفة منه “وطفح” بسيط من جرائه، وتمتاز عصور عن عصور وبلاد عن بلاد بتفشِّيه بصفة عدوى سريعة الانتقال، غير أنَّ أسلم طريقة للوقاية منه هي استعمال “مصل” التربية العلمية التي تدعو للتفكير والبحث وقبول الآراء الحديثَة.
[الاختلاف في استعمال السكّة الحديدية:]
كتب أحد أعضاء البرلمان الإنجليزي في مارس سنة (1825م) الكتاب الآتي تعليقًا على أوَّل اقتراح في البرلمان لإنشاء أوَّل خطّ حديدي في إنجلترا:
(لقد اتَّضح لي في ختام الأمر أن صاحبَ الاقتراح ذاهبُ العقل لا مشاحَّة، فقد كان زبد الغيظ يفور من فمه كما تفور القدور، وهو يقترح إدخالَ تلك الآلة الجهنميّة، ذلك الوحش الضاري الذى يحمل ثمانين طنًّا من السلع، ويزعج عباد الله بدخانه الكثيف بين منشستر وليفربول، والحمد لله فقد خنق ذلك الشيطان الملعون في مهده؛ إذ جاءت أصوات الأغلبية الساحِقة ضدَّه، وانسحب أصحاب الاقتراح غير مأسوف عليهم).
[الاختلاف في استعمال البخار في الأسطول:]
ومن قبيل هذا الخطاب ما حدَث في مجلس النواب الإنجليزي، فإنه عندما اقترح نائب إدخال البخار في الأسطول قام نائب آخر منتفضًا وخاطبَ صاحبَ الاقتراح وهو يتدفَّق غضبًا قائلًا: (إننا عندما ننخرط في سلك البحرية -يا حضرة النائب المحترم- نعرض ذواتنا لخطر الحرب، ونذهب متأهّبين لمعانقة رقاب المنايا، تقطيعًا ونسفًا ورميًا برصاص البنادق وشظايا القنابل، ولكنا -يا حضرة النائب المحترم- نأبى أن نُغْلى غَلْيًا ونحن على قيد الحياة).
[الاختلاف في استعمال التدفئة وأنابيب الماء وتشييد المنازل العالية:]
ولما أن أدخلت نظم التدفئة وأنابيب الماء وشيِّدت المنازل العالية ذات الأدوار العديدة في روما استشاط سفيكا الحكيم الروماني غيظًا، ونقم عليها، وأعلن سخطه على رؤوس الملأ قائلًا: (إنها خطر داهم على الأخلاق، وتهديم للفضيلة، وتحسّر على الماضي)، وأبان كيف أن الأقدمين كانوا يعيشون أحرارًا نبلاء تحت سقوف من القشّ، في حين إنَّ العصريين عبيدٌ أرقاء، تستر ذلّتهم قصور عمادها المرمر والرخام، وجدرانها المنقوشة بالذهب الوهّاج. ولو أتيح لهذا الحكيم أن يبعث من قبره اليوم ويشاهد إحدى ناطحات السحاب التي يجتاز عدد طبقاتها المائة في نيويورك لعجزت لغتة اللاتينية -على غناها- عن التعبير عن سخطه واستيائه.
[الاختلاف في استعمال الشوكة والسكين في الأكل:]
وحدث في الجيل السابعَ عشر للميلاد أن رجلًا دخل محلًّا حاملًا معه آلة شيطانية، وهي شوكة الأكل المعروفة، ولما أن عرف عنه أنه يستعملها للقبض على قطع اللحم بدلًا من أصابعه كان موضع الهزء والسخرية، وعُدَّ عمله هذا مجونًا وإهانة للعناية الربّانية، وقالوا: ” كيف يجرؤ امرؤ أن يخجل من لمس طعام بأصبعه؟!”.
ومِن أسخف وأغرب ما سمعناه منذ سنوات أنَّ مدرسة أجنبية للبنات في مصر كانت تشجع الفتيات (المصريات) على الأكل بأصابعهن بدلًا من السكينة والشوكة، بدعوى المحافظة على التقاليد الشرقية، أَلا يعلم أصحاب ذلك المعهد أن الشوكة لم تهبط على أوربا من السماء، وأن مصر كغيرها من البلدان لها حق التمتع بمزايا الميراث الاجتماعي في حدود المعقول أيًّا كان منشؤه ونوعه، وأن الاستعانة بالآلات على اختلاف أنواعها لمن الفروق الهامة بين الهمجية والمدنية؟!
[الاختلاف في لبس البنطلونات:]
ولما اعتنق البلغاريون المسيحية عقد رجال الدين مجلسًا للبحث في: هل تتفق السراويل التي يلبسها أهالي بلغاريا مع الدين الجديد الذي تديَّنوا به؟ وذلك لأن السراويل (البنطلونات) كانت غير معروفة عند المسيحيِّين في بادئ الأمر، وقد انقلبت الآية اليوم، فإن بعض المسيحيِّين الذين ينشرون دينهم في آسيا وإفريقيا يشجعون معتنقي المسيحية على ارتداء السراويل تشبهًا بهم، سواء أكان ذلك يلائم جوَّ البلاد أم لا يلائمه، وفي عصر شكسبير كان يقوم الرجال بأدوار السيدات في رواياتهم كما يفعل الآن طلبة مدارسنا في كثير من الأحوال، ولما أن ظهرت في فرنسا سنة 1629م “بدعة جديدة” وهي أن يقوم النساء بالأدوار النسائية أخذ المتفرِّجون في الصفير والزمر وضرب الممثِّلين والممثلات ببذور البرتقال.
[الاختلاف في استعمال النظارات:]
ومن أفْكَه القول ما وقع في إنجلترا عند ظهور النظارات تحت إشراف الجمعية الملكيّة، فقد طعن بعضهم في الزّيّ الجديد، وقالوا: إنه مفسدة للأخلاق، وإن النظارة تعدم المساواة بين من يلبسها ومن لا يلبسها من الرجال، وأضافوا إلى هذا أن المرأة لا يمكنها أن تضع نظارة على عينيها لأسباب تتعلَّق بالجمال والحكمة، وبهذا تعدم المساواة بين الرجل والمرأة، وأذاع قسيس مشهور بيانًا أعلن فيه أنَّ في النظارات اعتداءً جريئًا على الأخلاق؛ لأن فيها قلبًا للحقائق المرئيّة بالعين المجرّدة، ووضع الأشياء وضعًا غير طبيعيٍّ لما تشعّه عليها من ضوء كاذب.
[الاختلاف في استعمال أحواض الاغتسال:]
وفي منتصف القرن التاسع للميلاد أقبل الناس في أمريكا على شراء سلعة جديدة، وهي أحواض الحمامات “بانيو” لاستعمالها في المنازل، وما كادت تأتي إلى عالم الوجود حتى هجاها رجال الأقلام والصحافة بألسنة حداد، وقالوا: “إنها مدعاة للبذخ والإسراف، ومنافية لمبادئ الديمقراطية”. وزاد الأطباء في الطنبور نغمة فادّعوا أنها خطَر يهدِّد الصحة العامة، ونادوا بمقاطعتها، واستعان المعارضون بالحكومة كالمعتاد، وطلبوا منها مصادرة هذه البدعة أو تضييق نطاقها بفرض ضريبة جسيمة على أصحابها، وإجبارهم على استخراج رُخص رسميّة قبل السماح لهم بالانتفاع بها، وفعلًا بلغت الضريبة على الحوض الواحد في ولاية “فرجينيا” ثلاثين ريالًا، وحرمت بلدية “بوستن” استعمال هذه الأحواض تحريمًا باتًّا شرعيًّا، إلا إذا أشار الأطباء على أحد بها.
[الاختلاف في استعمال المطابع:]
وعند ظهور الكتب المطبوعة لأوَّل مرة لم يُقبل الناس على شرائها، حتى أُفهموا غشًّا وتضليلًا أنها مخطوطات، وطعن العلماء الطليان على الطباعة طعنًا جارحًا، وقالوا: إنها بدعة همجيّة ألمانية، ونادى كهنتهم: “لنهدم كيان الطباعة أو تهدم هي كياننا”!
[ولما دخلت المطبعة إلى تركيا في زمن السلطان أحمد الثالث أفتت مشيخة الإسلام بجواز استعمالها، إلا أنه بقي طبع المصحف ممنوعًا، ثم عادت الدولة العثمانية فمنعت المطبعة، ثم جاء السلطان عبد الحميد الأول فأعادها، وجاء السلطان محمود فاهتمّ بها أكثر، ويقال: إنه في سنة 1129 هجرية أفتى شيخ الاسلام بالأستانة عبد الله أفندي بجواز طبع الكتب غير الدينية، وقيل: بل إنه أفتى بجواز الطباعة].
[الاختلاف في أكل الملح والموز والبطاطس والطماطم:]
وعند وصول السفينة الأولى إلى إنجلترا محمّلة ملحًا لم يقبل على شراء الملح أحد، فألقي في اليمّ. والموز على حلاوته كان “مضغة” في الأفواه عند أول ظهور في لندن، فلم يتيسر لتجّاره أن يوزعوه بأي ثمن، وأخيرًا حاولوا توزيعه مجانًا على صعاليك المدينة وفقرائها فأبوا، وأخيرًا ترك في مكانه يتسرب إليه الفساد. والبطاطس في بدء عهد إنجلترا بها أعدمت بدعوى أنها ضارة بالمجتمع الإنساني. أما الطماطم فديست بالأقدام؛ لأن فيها إفسادًا لأخلاق الأمة.
[الاختلاف في قبول البنات في المدارس:]
منذ سبعين عامًا [أي: في حوالي سنة (1850م)] لم تقبل البنات في أميركا سوى كلية واحدة، ولم تقبل امرأة في مطعم إلا مصحوبة بذويها، ولم يكن لامرأة حقّ التصويت في بلاد العالم كلها، ومنذ عهد قريب لما أن ألقت السيدات الحجارة على البرلمان الإنجليزي احتجاجًا على حرمانهن من حق الانتخاب صاح أحد النوّاب متهكمًا: “زوِّجوا الأوانس منهنّ، فيكففن عن المطالبة بحقوقهنَّ”.
[الاختلاف في استعمال الكهرباء:]
والكهرباء عند بدء إدخالها في عواصم المديريات في مصر لم تقبل على الرحب والسعة من جميع السكان على السواء، فقيل عنها في بعض الدوائر: إنها تذهب بالبصر وتلحس نور العين، وقيل عنها في أوساط أخرى: إنها تعرض المباني والمنازل لخطر الحريق، وتباهى بعض ذوي البنايات الفخمة من أعداء الجديد بأنهم محافظة على التقاليد يرفضون بتاتًا إدخال البدعة الغربية في منازلهم، وقد رفض الكهَنة في كثير من الكنائس أن يجعلوا للشموع والقناديل الزيتية مزاحمًا، فبقيت الكهرباء ردحًا من الزمن حرمًا محرمًا، غير أنني أذكر أن تلك العقبات التي وضعت في سبيل هذا الاختراع العجيب لم تك إلا حواجز من الهشيم، حيث أقبل الناس جميعًا فيما بعد على استعمال الكهرباء، وأضيئت بها الكنائس، فبدّدت غياهب الظلمات فيها، واختفت أمام شموعه الساطعة أصوات المحتجين من ذوي العمائم السوداء.
[الاختلاف في استعمال السيارات والعربات:]
ولا أزال أذكر أيضًا أن بعض الأعيان في عواصم المديريات على غناهم الوافر وثرواتهم الطائلة ظلّوا زمنًا طويلًا يتردَّدون في استعمال العربات والأوتومبيلات، وداموا يمتطون ظهور الحمير البيضاء المقصوصة الشعر المكسوَّة سرجها بالقطيفة الحمراء، يخترقون شوارع المدينة الكبرى، فيقف لهم الناس إجلالًا على الجانبين، وهم يفاخرون أنهم لا يزالون على عهودهم الماضية، وأن ظهر الدّابة أكثر وجاهةً وأعزّ جانبًا وأرفع مقامًا من متكآت العربة ومساند الأوتومبيل، وأن خطوة الحمار الهادئة ومشيته الوئيدة الناعمة أصح للمعدة والأمعاء من رجّة السيارة وسرعتها الخاطفة وصعودها وهبوطها وحركاتها البهلوانية الشيطانية وجموحها الذي لا يكبح!
[الاختلاف في استعمال الشمسيّة:
في أوائل القرن الثامن عشر للميلاد أدخلت الشمسية “أي: المظلّة” إلى أوروبا، فاستقبلها الناس عند ظهورها بجميع مظاهر السخرية والاستهزاء، بل لما ظهرت لأوّل مرّة في شوارع لندن أخذ المارة يرشقون حاملها بالحجارة، ثم فيما بعد ألفها الناس وأدركوا منافعها.
الاختلاف في استعمال الصابون:
جاء في كتاب “صفحات من تاريخ الكويت” تأليف الأستاذ يوسف بن عيسى القناعي ما نصه: وكانوا -أي: أهل الكويت- إذا أكلوا العصيدة مسحوا أيديهم بأرجلهم، وكانوا لا يستعملون الصابون إلا من مدَّة قليلة، وأذكر بهذه المناسبة النادرة التالية وهي: دخل رجل اسمه عيسى أبو عبود على المرحوم الأخ أحمد، فوجده يغسل يده بالصابون بعد العشاء، فقال له متأسِّفا: آفا عليك يا أحمد! تغسل يدك بالصابون؟! فأجابه أحمد أن الأخ يوسف يغسل يده بالصابون مثلي، فرد عليه عيسى بشدَّة: حاشا على ذلك الوجه أن يغسل يده بالصابون، انتهى من الكتاب المذكور.
فانظر -رحمك الله- إلى مثل هذا التعصُّب الشديد، واعلم أنَّ كثيرًا من بدو الأعراب وبدو اليمن يفعلون ذلك أيضًا، أي: يمسحون أيديهم في وجوههم أو في ذراعهم أو في أرجلهم بعد الأكل الذي فيه الدسم كاللحم والسمن والشحم، ولا يغسلون أيديهم، ويقولون: كيف يغسلون أيديهم من نعمة الله؟! وهذه حالة قديمة العهد ترجع إلى العصور الأولى من نشأة الإنسان، ولكن هذه الحالة تزول سريعًا من البدو والأعراب إذا خالطوا أهل المدن.
الاختلاف في بناء برج إيفل بباريس:
لما أراد “جوستاف إيفل” بناء البرج العظيم في باريس عاصمة فرنسا -الذى سُمّي فيما بعد باسمه “برج إيفل”- وجد عقباتٍ كثيرةً في مشروعه هذا، وقام ضدّه كثيرون، ونسبوه إلى الجنون، بل قدموا فيه مذكرة رسميّة قالوا فيها ما يأتي: “نحن جماعة الكتاب والمصورين والنحّاتين والمهندسين وعشّاق باريس الذين يغارون على جمالها، نحتجّ بكل قُوانا ونُعرب عن مزيد اشمئزازنا باسم الذوق الفرنسي والفن الفرنسي، بل باسم تاريخ فرنسا كلّه المعرّض الآن للاحتقار بسبب إقامة برج إيفل الشنيع المنظر الذي لا فائدة منه على الإطلاق في قلب عاصمتنا الجميلة”. هذا ما كتبه حسّاده ومعارضو مشروعه، لكن الرجل لم يحفل بهم؛ لأنه كان قويَّ الإيمان بفائدة مشروعه العظيم، فبدأ بإنشاء البرج في سنة (1887) سبع وثمانين وثمانمائة وألف من الميلاد، وأكمل بناءه في سنة (1889) ميلادية، وبعد سنة من إكمال بنائه فتح للجمهور، ثم إنه في سنة (1903) من الميلاد أنشئت في هذا البرج إدارة للتلغراف واللاسلكي، وهو من أكبر المحطات اللاسلكية في العالم، وقد زاد إيراد البرج في السنة الأولى من حياته على نفقة بنائه، ولا تزال إيراداته عظيمة جدًّا، وقد بلغت نفقات بناء هذا البرج سبعة ملايين وثمانمائة ألف فرنك في ذلك الوقت، وبلغ عدد الذين زاروه يوم الاحتفال بافتتاحه (23200) شخص، ويبلغ عمق أساسه خمسة عشر مترًا، ويبلغ ارتفاعه ثلاثمائة متر، ويبلغ وزن الحديد الذى فيه من أساسه إلى قمّته سبعة ملايين كيلوغرام، واستنفد في رسوم تصميماته خمسة عشر ألف متر مربع من ورق الرسم].
[الاختلاف في الانتقال من الأحياء القديمة:]
ولم يغب عن ذاكرتي المنازعات والخصومات التي كانت تقوم بين الآباء وأبنائهم في أعرق الأسر وأكرمها، ولم تك هذه الحروب الشعواء إلا صراعًا بين أب محافظ يريد أن يقضي البقية الباقية من حياته في منزل أجداده في ذلك الحي القديم الذي هجره ذووه، ولم يبق فيه إلا الفقراء ومتوسطو الحال، وبين ولد يرغب في الانتقال إلى أحد الأحياء الجديدة حيث يقطن “ذوات” البلد، وحيث تكثر المنازل الحديثة التي تتوافر فيها الشمس المضيئة والهواء النقي والمرافق الحديثة والحمامات المجهزة بالأحواض والأنابيب التي يجري بها الماء الساخن والبارد والغُرَف الصحيّة المطلة على الحدائق الغناء.
[الاختلاف في تعليم البنات:]
يقول أمين سامي باشا في مؤلفه “التعليم في مصر”: إن الأهالي في أول الأمر كانوا عقبة كؤودًا في طريق تعليم بنيهم، أمّا تعليم البنات فلم يصادف تسهيلًا في أول الأمر، حتى اضطر محمد علي باشا إلى إصدار أمره بشراء عشر جوار سودانيات صغيرات السن لتلقي فن الولادة ومعهنّ اثنان من أغوات حرم القصر ليتعلَّما فنّ الطب والجراحة. وليست العقبات التي صادفها محبذو تعليم البنات ببعيدة العهد، فإنَّ إحصاءات سنة (1930م) ثلاثين وتسعمائة وألف ميلادية فقط تدلّ على أن عدد الطالبات في مدارس وزارة المعارف الثانوية لم يتجاوز (396)، مقابل (14877) من الطلبة الذ كور، وقد لاقى كلوت بك في مدرسة قصر العين الأمَرَّين؛ لأن الأهالي كانوا يعارضون في تشريح الجثث ويعدّونه اعتداء على حرمة الموتى، وعند إنشاء مدرسة روض الأطفال في قصر الدوبارة بمصر منذ سنوات تعبت ناظرة المدرسة كثيرًا في إقناع الوزارة بأن قبول البنين والبنات للتعليم تحت سقف واحد من تلك المدرسة لا عيب فيه؛ لأنهم أطفال أبرياء لا تتجاوز سنّهم السادسة([6]).
انتهى
****
خاتمة:
إلى هنا انتهَى مقال أمير بُقْطُر مضافًا إليه زيادات الكردي بين معقوفات، ومن خلاله يمكننا القول: إنَّ منعَ المخترعات الجديدة ومعارضتَها طبيعةٌ اجتماعية بشريةٌ لا علاقةَ لها بالخلفيات الدينيَّة، وهذا ما قرَّره عالم الاجتماع العراقيّ علي الوردي رحمه الله حيث أشار إلى أن تناشُز آراء المجتمَع تجاه المخترعات الحديثة ظاهرة عامّة تظهَر في كلّ مجتمع يمرّ بمرحلة تغيير([7]).
وهذه النظرة الاجتماعية يجهَلها كثير ممن يتناولون الموضوعَ على أنها حقيقةٌ شرعية، وأنها تخلُّف في نظرة السلفيين للحياة، وهذا لا شكَّ دعوى لا أساس لها من الصحَّة، ولا تقف على ساقِ العلم والحجة والبرهان.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) القواعد والأصول الجامعة (ص: 20-21).
([2]) انظر على سبيل المثال مقال: تصحيح النقد الخاطئ للخطاب الشرعي تجاه المخترعات الحديثة، خالد بن عبد الله الغليقة، في موقع صيد الفوائد.
([4]) التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم (3/ 105-113).