إثبات الربوبية بين الوحي وأصحاب الإعجاز العلمي
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
مقدمة:
قضية الربوبية من القضايا التي تشغل كلَّ عاقل في هذا الكون ما دام جسدُه يتحرَّك وعقلُه يستوعِب الأشياءَ، وذلك لنوازعَ كثيرةٍ في النفس البشريَّة، منها أهميةُ معرفة الربِّ فطرةً ودينًا وعقلًا، ومنها حبُّ الاطلاع على الأشياء والوقوف على حقائقها بما يضمَن الطمأنينةَ واليقينَ بالمعتقَد.
والعقلُ البشريُّ في مرحلةٍ من مراحل جهله وسقوطِه قد يتصوَّر وجودَ خالق؛ لكنه لا يعرف علاقته بالكونِ، ولا تصرُّفه فيه وتدبيره له؛ وذلك لمحدودية المعارف التي ينطلق منها العقل في الوصول إلى الحقائق، فهي غالبًا ما تكون تجاربَ أو أشياء محسوسةً أو مقدّمات مظنونة لا تنتج علمًا، ولا يمكن الوقوف بها على غيبٍ، ومِن هنا احتاجَت النفس البشريةُ لمساعدةٍ ربانية تهديها إلى ما لا سبيلَ إلى معرفته معرفةً تامةً إلا بالوحيِ، فجاء الوحيُ مبيِّنًا لما انبَهَم على العقل من أمورِ الدين والدنيا، وموضِّحًا لها توضيحًا لا يكون معه ريبٌ ولا شكٌّ لمن كان له قلب أو ألقى السمعَ وهو شَهيد.
ومن بين المسائل التي تحدَّثت عنها النصوص القرآنية بإفاضة ونوَّعت العبارةَ في تبيينها مسألةُ الربوبية، فهي في القرآنِ بدرجةٍ منَ الوضوح لا يمكن للعقل دفعُها إلا على سبيل المكابرة وردِّ اليقين بالشك، وفي الوحي غنًى عن غيره في هذه المسألة، ومع ذلك أبى أهل التخصُّصات العلمية وأصحابُ المعارف المتنوِّعة إلا أن يُدخلوا علومَهم في هذا الباب، والمؤمنون منهم يدخلونها من باب حُسن النيَّة وإثبات صِدق القرآنِ والاستدلال على أهل المناهج بمناهجهم، لكن خشيةَ الاستغراق في ذلك لزم التنبيهُ على الفروق بين طريقة القرآن وطريقة القوم حتى لا تزلَّ قدم بعد ثبوتها، أو يُتوسَّع في تلك الميادين توسُّعًا يُنسِي في القرآن أو يُضعف الإيمان به كما وقع مع العلوم العقلية والفلسفية.
فقد ظهر في عصرنا الحديثِ ما يسمَّى بـ”الإعجاز العلميّ”، وفرح كثير من الناس به، وأوغلوا فيه بغير رفقٍ حتى أدخلوا الإعجاز في كلِّ قضيةٍ، مع أن مصطلح الإعجاز من الناحية الموضوعيّة ليس مسلَّمًا في الأبواب التي يُدخِلُه هؤلاء فيها، ولا يوجد ما يدلُّ على أنَّ القرآنَ قصَد لإعجاز البشرية في تلك المسائل، وسياق الآيات لا يدلُّ عليه بالدرجة التي تسمح بالاستدلال، وفي هذه الورقة نناقِش -إن شاء الله- إثباتَ الربوبية بين المنهجين، ونعلِّق على الفروقِ، ولكن قبل ذلك لا بد من تمهيد في بيان معنى مصطلح “الإعجاز العلمي”.
تمهيد: تعريف الإعجاز العلمي:
الإعجاز في اللغة: الفوت والسبق، يقال أعجزني فلان، أي: فاتني. وقال الليث: أعجزني فلان؛ إذا عجزت عن طلبه وإدراكه.
وقال الله في سورة سبأ: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيم} [سبأ: 5]. وقرأه بعضهم: {مُعَجِّزِينَ}، قال الفراء: من قرأ: {مُعَاجِزِينَ} فتفسيره: معاندين، وقال بعضهم: مسابقين، وهو قول الزجاج. ومن قرأ: {مُعَجِّزِينَ} فالمعنى: مثبِّطين عن الإيمانِ بها، منَ العجز وهو نقيض الحزم. وأما الإعجاز فهو الفَوت، ومنه قول الأعشى:
فذاك ولم يعجز من الموت ربّه ولكن أتاه الموت لا يتأبَّق([1])
وحين ننظر إلى الإعجاز والمعجزة وشروطهما نخلص بنتيجة وهي أن المعجزة لا تكون معجزة إلا بثلاثةِ شروط:
الأول: أن تكون من فعل الله؛ لأنه لو قدر عليها غير الله لم تعد معجزة.
الثاني: أن تكونَ خارقةً للعادةِ، فغير الخارق لا يكون معجزة.
الثالث: أن تظهر على يد مدَّع للنبوَّة([2]).
وإضافة الإعجاز إلى العلميّ باعتبار أنه وسيلتُه، والمقصود بالعلمي هنا العلميّ التجريبيّ.
ولا شكَّ أن هذا التوصيفَ قد يفيد أنَّ بعضَ ما يُسمَّى إعجازًا لا يدخل في حدِّ الإعجاز؛ لخلوه من الشروط المذكورة.
المبحث الأول: أدلة إثبات الربوبية في القرآن:
غالبُ أدلةِ الربوبية متضمِّنة لمعنى العبودية، لم يخرج من هذه القاعدةِ إلا القليلُ، فلا تأتي الآياتُ مقرِّرةً للربوبية إلا وتربطها بالعبودية غالبًا، سوى ما ورد في سورة الطور من تقرير الربوبية في قوله سبحانه: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُون} [الطور: 35].
وما ذُكر من مناظرة إبراهيم -عليه السلام- مع النمرود فقد قصد لإثبات الربوبية؛ لأن النمرود كان ينازع في خصائصها، قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين} [البقرة: 258].
وهكذا مع موسى -عليه السلام- حين حاج فرعون فقال له فرعون: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِين} [الشعراء: 23]، فقال له موسى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِين} [الشعراء: 24].
ويمكن إجمال أدلة القرآن في الآتي:
أولا: دليل الفطرة:
وهي قضية مهمَّة، فدلائل توحيد الربوبية تأتي دومًا في صورة التذكير والتنبيه، وذلك لتعويل القرآن على الفِطرة، وأنَّ معرفةَ الربوبية مركوزةٌ فيها، فحظُّ الأدلة التذكيرُ والتأكيد على هذه المعاني المركوزة في النفوس، وقد أشار شيخ الإسلام رحمه الله إلى ذلك فقال: “ليس في الرسل من قال أولَ ما دعا قومه: إنكم مأمورون بطلب معرفة الخالق فانظروا واستدلُّوا حتى تعرفوه. فلم يكلّفوا أولا بنفس المعرفة، ولا بالأدلة الموصِلة إلى المعرفة؛ إذ كانت قلوبهم تعرفه وتقرُّ به، وكلُّ مولود يولد على الفطرة، لكن عرَض للفطرة ما غيَّرها، والإنسان إذا ذُكِّر ذكَر ما في فطرته؛ ولهذا قال الله في خطابه لموسى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ} [طه: 44] ما في فطرته من العلم الذي به يعرف ربَّه، ويعرف إنعامه عليه وإحسانه إليه وافتقاره إليه، فذلك يدعوه إلى الإيمان”([3]).
والفطرة التي هي أعظمُ أدلة الربوبية يقصَد بها أحد أمرين:
أولا: المعارف الأوَّلية البدهيَّة المركوزة في النفس البشرية، والتي لا تفتقر للاستدلال، وهي محلُّ اتفاق بين جميع العقلاء.
ثانيا: القوة الكامنة في النفس، والتي تدفَع الإنسانَ إلى حبّ الحق وإيثاره على غيره، ومن أعظم الحقّ الذي تسعى إلى معرفته أن لها خالقًا مصوِّرا يستحقّ عليها المحبةَ والشكر([4]).
وقد جاء التنبيهُ عليها في عدّة مواضع من القرآن، منها قوله سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِين} [الأعراف: 172]. فقد ذكر المفسّرون أنّ هذه الشهادة هي الفطرةُ؛ بدليل أنه قال: من بني آدم، ولم يقل: آدم، وأنه قال: من ظهورهم، ولم يقل: من ظهره، والشاهد لا بد أن يكونَ ذاكرا لما شهد به([5]).
ومنها قوله سبحانه: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [إبراهيم: 10]. فقولهم: أفي الله شك؟! أي: أن الله فوق الشكّ فيه، والشكّ فيه مما تنكره الفطرةُ والعقل، ودليل إنكار العقل لذلك قولهم: فاطر السماوات والأرض، فهذا استدلال بالخلق على الخالق سبحانه([6]).
ومن أمثلة الاستدلال بالفطرة: التقرير بالربوبية وآثارها، قال سبحانه: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 60-64].
ثانيا: دليل الخلق:
وهذا دليل مستعملٌ في القرآن بكثرة، والخلق يدلُّ على الخالق من جهات عدة:
الجهة الأولى: عموم الخلق: هو دليل على وجود الخالق، وهذا المعنى مطروق في القرآن، قال سبحانه: {قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 164]، وقوله سبحانه: {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} [الفاتحة: 2]، وقوله: {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّار} [الرعد: 16].
فالاستدلال بالخلق على الخالق هو أحدُ طرائق إثبات الربوبية، وبه أخذ الأنبياء في استدلالهم على الله سبحانه وتعالى، ومن ذلك استدلالُ إبراهيم على النمرود بالربوبية وقوله: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين} [البقرة: 258]. وهكذا فعل موسى -عليه السلام- مع فرعون حين سأله عن إلهه، فأوجز له الجواب فقال: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50].
الجهة الثانية: خلق الإنسان خصوصًا: وهو أحد أدلة الخلقِ التي يستدلُّ بها على الربوبية، وقد ذكرها القرآن في أكثر من مناسبة لتقرير الربوبية، قال سبحانه حكاية عن نوح: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح: 14]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِين} [الأعراف: 11]، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيج} [الحج: 5].
الجهة الثالثة: خلق السماوات والأرض وما بينهما: وهو من أدلة الربوبية التي يستخدمها القرآن كثيرا، ويرشد إليها، قال سبحانه: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد} [فصلت: 53]، وقال سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِير} [الشورى: 29].
والإحالة إلى هذه الموجودات تضَع العقلَ المنكِر أمام المشاهدة التي لا يمكن دفعُها، كما تضع العلمَ البشري أمامَ عجزٍ لا مناص من الإقرار بهِ، فإدراك أطوار الأشياء ومراحل نموها لا يمكن للعقل أن يتابعه بالتفصيل، “ولكنّ هذا اليأس الإنساني من معرفة أطوار الكائنات تفصيلًا في ماضيها ومستقبلها يقابله يقينٌ إجمالّي ينطوي كلّ عقل على الاعترافِ به طوعًا أو كرهًا، وهو أنّه مهما طالت الأسباب الممكنة، وسواء أفرضت متناهية أو غير متناهية، فلا بدّ لتفسيرها وفهمها ومعقولية وجودها من إثبات شيء آخر يحمل في نفسه سببَ وجوده وبقائه، بحيث يكون هو الأول الحقيقيّ الذي ليس قبله شيء، وإلا لبقيت كلّ هذه الممكنات في طيّ الكتمان إن لم يكن لها مبدأ ذو وجود مستقل”([7]).
الجهة الرابعة: دلالة الاختراع: وهي إيجاد الأشياء بعد العدَم من غير مثال سابق، فحدوث الحيوان والنبات والمطَر بعد أن لم يكن موجودًا معلوم بالضرورة والحسّ والمشاهدة([8])، وهذا من أبين الأدلة وأظهرها على الربوبية؛ لأن حاجة الحادث إلى مُحدِث والإبداع إلى مبدِع قضية بدَهية عقلية([9]).
وقد استدلّ القرآن بهذا الاختراع على الربوبية، فقال سبحانه: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُون أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُون} [الطور: 36]، وقال سبحانه: {أَوَلاَ يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} [مريم: 67].
فكل هذه الآياتِ تثبت حاجةَ المخلوق إلى خالقٍ، ويعبِّر بعض العلماء عن دلالة الاختراع بدلالة الافتقار والعجز والنقصان، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “كل واحد من الحدوث والإمكان دليل على الافتقار إلى الصانع، وإن كانا متلازمين، فإذا علمنا أنّ هذا محدثٌ علمنا أنه مفتقر إلى من يحدثه، وإذا علمنا أن هذا ممكِن وجودُه وممكن عدمُه علمنا أنه لا يرجح وجوده على عدمه إلا بفاعل يجعله موجودًا. وكونه مفتقرا إلى الفاعل هو من لوازم حقيقتِه لا يحتاج أن يعلَّل بعلة جعلته مفتقرًا، بل الفقر لازم لذاته، فكل ما سوى الله فقير إليه دائما، لا يستغني عنه طرفةَ عين، وهذا من معاني اسمه الصمَد، فالصمد الذي يحتاج إليه كلُّ شيء، وهو مستغنٍ عن كل شيء”([10]).
الجهة الخامسة: العناية: فالاعتناء بالمخلوقات وتدبيرُها على وجه لا يختلّ معه نظامها دليلٌ على أنَّ المدبّر قائم بنفسِه وبغيره سبحانه، وأنَّ وجوده مؤثّر في الكون تأثيرَ الفاعل القادر الذي لا يعجزه شيء، وهذا أحد أدلَّة القرآن على الربوبية، وهذا الدليل مبني على أصلين:
الأول: العلم بهذه العناية.
والثاني: أنها صادرة عن فاعل قاصد مريد([11]).
والعناية شاملة لأمرين: العناية بجميع المخلوقات، والعناية بالإنسان خصوصًا، “فجميع الموجودات في هذا الكون مناسبة ومفيدة لوجود الإنسان، كوجود الشمس والقمر والنبات والحيوان والأمطار والبحار والهواء والنار، بل في أعضاء الإنسان ذاتها دليلٌ على أنَّ موجد هذا العالم قدير حكيمٌ عليم لطيف بعباده… ولما كانت جميع هذه الموجودات مخترَعَة من العدم بعد أن لم تكن، دلَّ على أنه لا بد من وجود مبدِع صانع لهذا الكون، قادر على الاختراع؛ لاستحالة تحوّلها من العدم إلى الوجود بنفسها، وذلك المبدِع الخالق هو الله لا إله إلا هو ولا رب سواه”([12]).
ومن أدلته قوله سبحانه: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِين وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُون} [الذاريات: 21]، وقال سبحانه: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [الحجر: 19-22]. وهذا الكون متقن ومحكم في خلقه وفي نظامه، وكل ذلك دليل على العناية، قال سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُور} [الملك: 3]، وقال سبحانه: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُون} [النمل: 88]، وقال سبحانه: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِين} [السجدة: 7].
الجهة السادسة: الهيئة: فهي من أدلة الربوبية، وهي تعني أن كلَّ موجود على صورته التي هو عليها خلقَه الله على ذلك، ولو شاء لخلقه على غيرها، لا أحد يشاركه في ذلك سبحانه، قال شيخ الإسلام رحمه الله مبينا وجه هذا الدليل: “فالعالم بما فيه من تخصيصه ببعض الوجوه دون بعض دالٌّ على مشيئة فاعله، وعلى حِكمته أيضًا، ورحمته المتضمنة لنفعه وإحسانه إلى خلقه. وإذا كان كذلك فقولنا: إن ما سوى هذا الوجه جائز يرادُ به أنه جائز ممكن من نفسه، وأن الربَّ قادر على غير هذا الوجه، كما هو قادر عليه. وذلك لا ينافي أن تكون المشيئة والحكمة خصّصت بعض الممكنات المقدرات دون بعض”([13]).
وقد بين القرآن هيئات الأشياء وصفاتها، وأن الله هو الذي خلقها على تلك الهيئة، وهو قادر على تغييرها، فقال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} [الفرقان: 45]، وقال سبحانه: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِين عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُون} [الواقعة: 61]، وقال سبحانه: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَك} [الانفطار: 8].
فهذه جملة من أدلة الربوبية التي لا تعدّ ولا تحصى في القرآن، ولعلنا في المبحث الآتي نبرز أهم خصائص أدلة القرآن.
المبحث الثاني: أهمّ خصائص أدلة القرآن:
لقد وصف الله سبحانه وتعالى القرآن بالهداية والبيان والنور، وأنه حكمٌ بين الناس فيما اختلفوا فيه، فكل أدلته خادمة لهذه الأوصاف، مؤكدة لها. ولأن القرآن قاصد للهداية فهو ينتخب من الأدلة والألفاظ، فيختار أقربها للنفس، وأقواها في قطع الحجة، وأوضحها لعموم الخلق، فيفهمه الأميّ، ويبهر الذكيَّ ولا يستطيع دفعه. فمن أهمّ خصائص أدلة القرآن ما يلي:
أولا: قطع قول المعاند وإبطاله:
فلا يوجد دليلٌ في القرآن تفنَّد به شبهة إلا كان هو أحسنَ جواب عليها، وقد لمس العلماء ذلك، ونصّوا عليه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “أخبر سبحانه أن الكفارَ لا يأتونه بقياس عقليّ لباطلهم إلا جاءه الله بالحقّ، وجاءه من البيان والدليل وضرب المثل بما هو أحسنُ تفسيرًا وكشفًا وإيضاحًا للحق من قياسهم”([14]).
ثانيا: الغنية والكفاية عن غيرها:
فأدلة القرآن مستغنًى بها عن غيرها، وهي بمفردها تكفي في الوصول إلى اليقين، دون الحاجة إلى أي علم آخر ينضاف إليها، قال العلماء: “قد اشتمل القرآنُ العظيم على جميع أنواع البراهين والأدلة، وما من برهان ودلالة وتقسيم وتحذير يُبنى من كلياتِ المعلومات العقلية والسمعية إلا وكتابُ الله قد نطَق به، لكن أورده على عادَة العرب دون دقائق طرقِ المتكلمين لأمرين:
أحدهما: بسبَب ما قاله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4].
والثاني: أن المائل إلى طريقِ المحاجّة هو العاجز عن إقامة الحجة بالجليل من الكلام، فإن منِ استطاع أن يُفهِم بالأوضح الذي يَفهَمه الأكثرون لم ينحَطّ إلى الأغمض الذي لا يعرفه إلا الأقلّون، ولم يكن ملغِزا، فأخرج تعالى مخاطباته في محاجّة خلقِه في أجلى صورة؛ ليفهم العامة من جليلها ما يُقنعهم وتَلزمهم الحجة وتفهم الخواصّ من أثنائها ما يربى على ما أدركه فهم الخطباء”([15]).
ثالثا: التنوع:
فأدلة القرآن نقلية وعقلية معا، وهذه خاصية في القرآن الكريم، قال ابن القيم رحمه الله: “الأدلة السمعية نوعان: نوع دلَّ بطريق التنبيه والإرشاد على الدليل العقلي، فهو عقلي سمعي، ومن هذا غالب أدلة النبوة والمعاد والصفات والتوحيد… وإذا تدبرتَ القرآن رأيتَ هذا أغلبَ النوعين عليه، وهذا النوع يمتنع أن يقومَ دليل صحيحٌ على معارضته؛ لاستلزامه مدلولَه، وانتقالُ الذهن فيه من الدليل إلى المدلول ضروريّ، وهو أصل للنوع الثاني الدالّ بمجرد الخبرِ، فالقدح في النوعين بالعقل ممتنع بالضرورة، أما الأول فلما تقدَّم، وأما الثاني فلاستلزام القدح فيه القدحَ في العقل الذي أثبته، وإذا بطل العقل الذي أثبَت السمعَ بطل ما عارضه من العقليات”([16]).
رابعًا: اليسر والوضوح:
للأدلة العقلية القرآنية خاصية وهي أنها سَهلة قريبة ملائمة للعقول جميعا، “والله سبحانه حاجَّ عبادَه على ألسن رسلِه وأنبيائه فيما أراد تقريرَهم به وإلزامهم إياه بأقرب الطرق إلى العقل، وأسهلها تناولًا، وأقلها تكلفًا، وأعظمها غناءً ونفعًا، وأجلّها ثمرة وفائدةً، فحججه سبحانه العقلية التي بيَّنها في كتابه جمعَت بين كونها عقليَّة سمعية ظاهرة واضحة قليلة المقدمات سهلة الفهم قريبة التناول قاطعة للشكوك والشبه ملزمة للمعاند والجاحد؛ ولهذا كانت المعارفُ التي استنبطت منها في القلوب أرسخَ ولعموم الخلق أنفعَ.
وإذا تتبَّع المتتبِّع ما في كتابِ الله مما حاجَّ به عبادَه في إقامة التوحيد وإثبات الصفات وإثبات الرسالة والنبوَّة وإثبات المعاد وحشر الأجساد وطرق إثبات علمه بكلّ خفيّ وظاهر وعموم قدرته ومشيئته وتفرُّده بالملك والتدبير وأنه لا يستحقّ العبادة سواه وجدَ الأمر في ذلك على ما ذكرناه من تصرُّف المخاطبة منه سبحانه في ذلك على أجلّ وجوه الحجاج، وأسبقها إلى القلوب، وأعظمها ملاءمة للعقول، وأبعدها من الشكوك والشبه، في أوجز لفظ وأبينه وأعذبه وأحسنه وأرشقه وأدلِّه على المراد”([17]).
خامسًا: الإرشاد إلى الجمال في الكون:
مِن خصائصِ أدلةِ القرآن الإرشادُ إلى الجمال في الكون، وطلبُ التفكير والتعقّل في الكون؛ للتوصُّل إلى أنَّ هذه الآياتِ برهان ودليل عظيمٌ على وجود الله تعالى، وقد سَلك القرآنُ في ذلك طرقًا متنوِّعة، منها الإرشادُ إلى الجمال في الكون، وأنه دليلُ القدرة الخارقة المعجزة؛ مثل قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7]، وقوله سبحانه: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُون} [النمل: 60]. ووجود الأضداد في هذا الكون -الليل والنهار، والشمس والقمر، والموت والحياة، والصحة والمرض- كلها أدلة على وجود الله.
فإذا تبين ذلك علم أنَّ أيَّ دليل لا يتَّصف بهذه الصفات المذكورة ليس دليلًا في الباب معتمَدًا، وإن قبل فهو على سبيل الاستئناس، وهنا يأتي حظّ الاكتشافات العلمية.
المبحث الثالث: الاكتشافات العلمية والاستدلال بها على الربوبية:
فرِح كثيرٌ من الناس -ولعلَّه من باب الحرص على هداية الآخرين- بالمكتشفاتِ العلميَّة وشهادتها بالربوبية وتصديقها للقرآن، وبعضُهم تحمَّس فسمَّى هذا الاكتشاف إعجازا علميًّا، مع أنَّ القرآنَ لم يتحدَّ الخلقَ بهذه المكتشفات العلميّة، وبعض التفاصيل إنما أشار إليها إشارة عامةً وجعلها تبعًا لغيرها؛ لأنَّ حرص القرآن على وضوح الدليل ينافي التعقيد وبُعد الحقيقة الذي تتميز به الكشوفات العلمية.
لكنَّ الباحثين في هذا الميدان يسوِّغون بحثهم بعدة مسوغات منها:
- إثبات قضايا المعتقَد من خلال الإعجاز العلميّ؛ وذلك بتتبع الإشارات والإرشادات القرآنية في الآيات الكونية.
- توسيع دائرة المخاطَبين بالوحي لتشمَل أصحابَ العلوم التجريبية، وتدخل عليهم من بابهم.
- أنه نوع من أنواع التدبّر الراقي والذي يوصل إلى دقائق الأشياء وحقيقتها.
- السعي إلى إزالة الحواجز الظاهرة بين العلوم العصريّة وبين الشريعة.
- زيادة اليقين بالنظر في الآيات الكونية بالتفصيل والتدقيق الذي يدلّ على عظمة الله سبحانه ورحمته البالغة وقدرته العظيمة([18]).
وما ذكروه كله ليس مستبعدًا أن يصلوا إليه من خلال ما أرادوا، ونحن لا ننفي أن الإعجاز يوصِل إلى ذلك؛ لأن الاستدلالات الخفيَّة والأدلة النظرية قد تنفع بعضَ الناس؛ “فإن الخفاء والظهور من الأمور النسبيّة، فربما ظهر لبعض الناس ما خفِي على غيره، ويظهر للإنسان الواحد في حال ما خفي عليه في حال أخرى. وأيضا فالمقدمات وإن كانت خفية فقد يسلمها بعض الناس وينازع فيما هو أجلّ منها، وقد تفرح النفس بما علمته بالبحث والنظر ما لا تفرح بما علمته من الأمور الظاهرة”([19]).
لكن الاعتراض يأتي من جهة اعتماده دليلًا مستقلُّا أو موضوعًا من موضوعات إثبات الربوبية، تتوقَّف المسائل عليه، فذلك مخالفٌ للقرآن من جهتين:
الجهة الأولى: الاستغناء بغيره عنه، فلا تنال أدلَّة القرآن حظَّها من الاعتبار والاعتقاد والوصول إلى اليقين إلا بقدر ما تسمح به العلوم التجريبيَّة.
الجهة الثانية: مخالفَة طريق القرآن في تسهيل هذا الباب وتقريبه لدلالة العقل والفطرة عليه، فيأتي اعتماد المكتشفات العلمية مُبعِدًا لبدهيَّات العقل والفطرة، موقفًا لأحكامها، حتى يكونا تبعًا له، وهو ما يوقع المؤمن في حيرةٍ دائمة وتساؤلاتٍ لا تتناهى، وهذا يتنافى مع الدين والعقل.
ولا شكَّ أن القرآنَ ليس كتابَ علوم تجريبيّة، ولا كتاب علوم عقلية بحتة، بل هو كتاب تشريع، وعلاقة هذه العلوم به هي الاعتبار والتبعية، فما يمكن للبشر أن يكتشفوه بعقولهم وينضبط عندهم فإنهم يوكَلون إليه، وأمر الربوبية وإن كان بدهيًّا مِن ناحية العقل والفِطرة لكن ملوِّثات الفطرة ومنغِّصات العقل تحجب هذه الحقيقة عن الإنسان، فتطول عليه الطريق، وهنا يأتي القرآن مبيِّنا لها ومرشدًا إلى أثرها، وهو عبادة الله سبحانه وتعالى؛ لأن العبادة هي العلاقة الحقيقيّة التي يعبر فيها الإنسان عن رضاه عن ربّه وشكره له، فغنى الله المطلق عن عباده يجعل جميعَ تصرفاتهم إذا لم تكن بإذنه فلا قيمة لها من ناحية العبودية، والإعجاز العلمي يقِف حيث وقف المناطقةُ، وهو إثبات الموجود وتأكيده، لكن تفصيل عبادته وأثر ذلك ودلالة الخلق عليه دلالة حقيقيّة أمر لا يرشد إليه العلم، ولا اكتشافاته بمفردها، فلا بد من الاهتداء بالوحي.
وهناك أمور لا بدَّ من التنبيه إليها في تبني الإعجاز العلمي في إثبات الربوبية:
الأول: الوقوف عند طريق العرب في الكلام: فإنَّ العرب تعتني بالمعاني المبثوثة، وقد أقامت الألفاظ من أجلها، وهذا الأصل معلوم عند أهل العربية، فاللفظ إنما هو وسيلة إلى تحصيل المعنى المراد، والمعنى الإفرادي لا يعبأ به إذا كان المعنى التركيبي مفهوما دونه([20]). يشهد لهذا ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قرأ قول الله: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31]، قال: ما الأب؟ ثم قال: ما كُلِّفنا هذا([21]). وهو هنا ترك التكلُّف؛ لأن المعنى مفهومٌ من جهة التركيب، ولا ينبني شيء على فهمه من جهة الإفراد.
فينبغي فهم القرآن على طريقة العرب الذين نزل بلسانهم، فالمفردة لا تعتني بها العرب كمفردة، ولا بتعدُّد استعمالها، وإنما تعتني بها في السياق الذي وُجدت فيه، وما تدلّ عليه في هذا السياق، فيكون هو المراد، وما سوى ذلك قد يكون مجازًا، لا يُصار إليه إلا بدليل، أو ملغى من المتكلّم أصلا، لا يقصده ولا يريده.
الثاني: مراعاة أولويات خطاب القرآن: فالقرآن جاء ووجد عند العرب علومًا كثيرة، منها الطب والنجوم والحساب وعلم الفلك والعيافة والكهانة والطيرة، فأبطل ما كان من هذه العلوم مخالفًا للشرع، وأبقى على ما فيه منفعة، واستخدمه وبين منفعته، فقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُون} [يونس: 5]، وقال: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا} [الإسراء: 12]. وأبطل الكهانة والعرافة فقال: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِين تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيم} [الشعراء: 222]. فعن قتادة في قوله: {كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} قال: هم الكهنة تسترق الجنّ السمع، ثم يأتون به إلى أوليائهم من الإنس([22]).
فهذه العلوم التجريبية حظُّها من القرآن إقرار منافعها على العباد، والإشادة بذلك، وأنه من النعم، أما هي في نفسها فإنها لا تدلّ على الله كدلالة الوحي، ولا قريبًا منه، ولا زالت حتى الآن هذه العلوم يكتشِف بها الملحدون بدائع الصنائع، ومع ذلك لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا.
الثالث: “الحقائق العلمية المحمّلة لآيات القرآن إنما حُكِم بقطعيتها في ضوء معطيات قابلة للتطور والتبدّل بحسب ما يستجدّ من وسائل إدراك معِينة للحواس، ووسائلِ استقراء وتأمل ومقارنة معِينة للقياس، فجزْم العلماء التجريبين بهذه الحقائق لا ينبغي أن يُنظر إليه على أنه يقينيات من جنس ما يعرفه علماء العقائد، ويعتمدون فيه على أوليات فطرية وبدهيات عقلية.
الرابع: أن كثيرا من المكتشفات العلمية المزعومة في حقيقتها غير مكتشفات، بل معلومات معروفة قديمًا للأطباء والفلاسفة والمعتنين بالعلوم الطبيعيّة، وإنما زادها المستكشفون دقَّة وتحديدًا وتأكيدا وبرهنَة بما فُتح عليهم من الآلات المعِينة للحواس المدركة، ووسائل التواصل الذي يتيح الاطلاع على ما أدركه الآخرون واكتشفوه، لكن جرى الوهم بأن كلّ ما عند الغرب مكتشف بسبب التقصير في الاطلاع على جهود السابقين، وأيسر طريقة للوقوف على ذلك تتبّع ما ذكره المفسرون -وخصوصا الفخر الرازي- والشُّرّاح قديما عند كلامهم عن النصوص المستشهَد بها في الإعجاز العلمي.
الخامس: أن ما يذكره المنتصرون للتفسير العلمي من مصالح ودواعٍ وإعجاز يتحقَّق بالمقام السلبي في هذا الباب، وهو: أن القرآن العزيز على كثرة ما فيه من ذكر الظواهر الكونية وأنواع المخلوقات، وعلى أنه ظهَر في مرحلة زمنية مليئة بالخرافات والأساطير المصادمة للعقل والعلم، مع ذلك كله لم تنهض واحدة من الحقائق العلمية المكتشفة حديثًا -على كثرتها- للقدح في شيء مما صرح به القرآن أو أشار إليه”([23]).
وخلاصة الأمر: أن إثبات قضايا الربوبية لا يتمّ استقلالًا بالإعجاز العلميّ، وإنما لا بد من الاستناد إلى الوحي؛ لأن الإعجاز والمكتشفات أمور غير مستقرَّة، فبعضها يكون نظريةً، وبعضها يكون حقيقة، ثم إن قضيةً كلية كقضية الربوبية لا يمكن أن يكونَ مستندُها خفيًّا وغير متاح للجميع، فقضية الربوبية من كليات الدّين التي لا يستقيم دين شخص إلا باليقين بها، فلا يمكن أن تتوقَّف على مثل هذه العلوم.
أما أهل هذه العلوم فهم نوعان:
النوع الأول: نوع لا يؤمن بالله مطلقًا، ويشترط للإيمان به أن تثبته علومه التي ينطلق منها، فهذا -لا بأس من أجل دعوته- أن يبيَّن له ذلك من خلال علومه التجريبية، وتقام عليه الحجة، مع التأكيد على أن هذا الاستدلالَ هو خاصّ بهذا الصنف، ويجب انتقالهم عنه إلى غيره بعد وضوحه وتجلّيه.
النوع الثاني: يؤمنون بالله لكن يحصل لهم شكّ وريب بسبب بعض الشبه، فيطلبون اليقين، فكل ما يزيد يقينَهم من تأمّل الصنائع والشرائع وحقائقها كلّه مطلوب، وخير لهم، لكن مع التنبيه إلى أنّ دليل الفطرة والمبادئ الأولية للعقل تشهد بالربوبية، وأن هذا هو الأصل لصحيح العقل وسليم الفطرة، أما الحالات المرضية فلها حكمُها الخاصّ، وهي حالة الوسواس والشكّ.
أمّا أن تجعَل المكتشفات أدلّة قائمة بذاتها، قد تغني عن أدلة الشرع أو تضاهيها أو لا يحتاج صاحبها إلى الرجوع إلى الشرع، وما كان من الشرع لا يتوافق مع العلوم التجريبية ظاهرا يمكن إلغاؤه أو مراجعته أو تحيينه إلى حين ثبوته، فهذا مناقض لمعنى العبودية لله سبحانه وتعالى ولمقاصد الأوامر الشرعية، والتي منها الامتثال والابتلاء، فليس بالضرورة أن تكون خاضعة لقانون العادة والتجربة، وإلا لما استسلم إبراهيم وابنه إسماعيل لأمر الله عز وجل في قضية الذبح.
ـــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([2]) ينظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (1/ 71).
([3]) مجموع الفتاوى (16/ 338).
([4]) ينظر: الفصل لابن حزم (1/ 40)، درء التعارض بين العقل والنقل (8/ 458).
([5]) ينظر: الروح لابن القيم (ص: 234).
([6]) ينظر: الأدلة العقلية النقلية على أصول الاعتقاد (ص: 200).
([7]) العقيدة في الله للأشقر (ص: 77).
([8]) درء التعارض بين العقل والنقل (7/ 219).
([9]) ينظر: الكشف عن مناهج الأدلة (ص: 61).
([10]) الرد على المنطقيين (ص: 346).
([11]) ينظر: مناهج الأدلة (ص: 60).
([13]) درء التعارض بين العقل والنقل (9/ 111).
([16]) الصواعق المرسلة (3/ 909).
([17]) الصواعق المرسلة (2/ 460).
([18]) ينظر مسوغاتهم في هذا المقال:
([19]) شرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي (ص: 67).
([20]) ينظر: الموافقات للشاطبي (2/ 84).
([21]) رواه ابن سعد في الطبقات (3/ 327).
([22]) ينظر: تفسير الطبري (19/ 414).
([23]) للمزيد ينظر: ملخص لرسالة منهج الاستدلال بالإعجاز على الرابط: