الشَّواهد القرآنيَّة على أنَّ موطن بني إسرائيل ليس جنوب الجزيرة العربية
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
بنو إسرائيل نعني بهم: صَحيحِي النَّسب إلى يعقوب عليه السلام، دون الأدعياء الذين هم اليوم غالب يهود العالم، وإسرائيل هو يعقوب عليه السلام كما هو مقرَّر ومعروف، يقول ابن كثير رحمه الله: “يقول تعالى آمرًا بني إسرائيل بالدخول في الإسلام، ومتابعة محمد عليه من الله أفضل الصلاة والسلام، ومهيِّجًا لهم بذكر أبيهم إسرائيل؛ وهو نبي الله يعقوب عليه السلام، وتقديره: يا بَنِي العبدِ الصالح المطيع لله، كونوا مثل أبيكم في متابعة الحق، كما تقول: يا ابن الكريم افعل كذا، يا ابن الشجاع بارز الأبطال، يا ابن العالم اطلب العلم ونحو ذلك. ومن ذلك أيضا قوله تعالى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 3] فإسرائيل هو يعقوب عليه السلام“([1]).
وقد ورد تسمية يعقوب بإسرائيل في حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: حضرت عصابة من اليهود رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا أبا القاسم، حدثنا عن خلال نسألك عنها لا يعلمهن إلا نبيٌّ، فكان فيما سألوه: أيّ الطعام حرَّم إسرائيل على نفسه قبل أن تنزل التوراة؟ قال: «فأنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب عليه السلام مرض مرضًا شديدًا فطال سقمه…»([2])، فإسرائيل حين يطلق هو يعقوب عليه السلام، وأبناؤه وذريتهم هم بنو إسرائيل.
وبنو إسرائيل من أقرب الشعوب نسبًا إلى العرب؛ إذ يشتركون في أبينا إبراهيم عليه السلام الذي هو أبٌ لكلا الشعبين؛ من جهة إسماعيل عليه السلام فيما يتعلق بالعرب، ومن جهة إسحاق وابنه يعقوب عليه السلام فيما يتعلق ببني إسرائيل، وهو أبٌ للمسلمين خاصَّة بوصف الله تعالى له بذلك في القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78].
ومن يقرأ القرآن الكريم يجد أنه قد لفت النظر إلى بني إسرائيل كثيرًا، فقد تناولهم في مواضع عديدة، وذكر موسى عليه السلام وحده مئة وواحدًا وثلاثين مرة، وذكر كلمة إسرائيل أربعين مرة، وهذا ذكر كثيرٌ بالنسبة لأسلوب القرآن وذكره للأنبياء، ولا بد أن لهذا التناول المستمر لبني إسرائيل حِكَمًا كثيرةً ليس هذا موضعَ بسطِها.
وليس ذكر بني إسرائيل في القرآن الكريم ذكرًا تاريخيًّا فقط، وإنما يذكر الله ما أنعم به عليهم، وقد ذكَّرهم بذلك فقال تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40]، كما بين الله أنه سينصرهم على فرعون وقد فعل، فقال: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف: 137]، بل ذكر الله أنَّه فضَّلهم على العالمين في زمانهم، فقال: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 47]. يقول قتادة: “فضَّلهم على عالم ذلك الزمان”([3])، وعن أبي العالية: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} قال: “بما أعطوا من الملك والرسل والكتب، على عالم من كان في ذلك الزمان، فإن لكل زمان عالَمًا”([4])، إضافة إلى ما ذكره القرآن الكريم من تاريخ بني إسرائيل منذ نشأتهم من يعقوب عليه السلام إلى يومنا هذا، بل وذكر أمورًا غيبية مستقبلية تخصهم كما في سورة الإسراء.
والمطَّلع على كتب التاريخ يجد أنها كذلك مليئة بأخبار بني إسرائيل ووجودهم في الشام ومصر، وتنقلهم بينها، بيد أن هناك من صار ينادي بأن بني إسرائيل قبيلةٌ عربية، وأن وجودهم واستقرارهم والأحداث التي جرت عليهم كلها في جنوب الجزيرة العربية، بل وأنَّ التوراة ما أنزلت إلا هناك!
وقد بدأت هذه الفكرة عند اليهود أنفسهم؛ لكن لعلَّ أول من أشهرها هو الباحث كمال صليبي قبل أربعين سنةً من الآن في كتابه: “التوراة جاءت من جزيرة العرب”، ولم تلقَ فكرتُه ترحيبًا ولا رواجًا؛ بل رُدّ عليها في حينها ونُسيت.
بالرغم من ظهور بعض الردود عليها في أوراق علمية ومقالات ظلَّت تظهر بين الحين والآخر، ومنذ عامين أو ثلاثة تقريبًا بدأت هذه النظرية تظهر على تويتر في تغريدات في الشبكة العنكبوتية من أسماء أكثرها مستعارة، ثم ظهرت مؤخرًا في كتابين أو ثلاثة.
ومعَ يقينِنا بمخاطر الترويج لهذه النظرية سياسيًّا، وفيما يخصّ أيلولتها لو نجح أصحابها في بثِّها إلى نزع المكانة الدينية عن المسجد الأقصى وفلسطين من نفوس المسلمين، نقول: مع يقيننا بذلك إلا أنَّنا في هذه السلسلة لا نتعرض لنوايا المروِّجين لهذه النَّظرية؛ لكننا نؤكِّد أن المستفيد الأوحد منها هم الصهاينة الذين يهمُّهم أن يكف المسلمون عن أن ينظروا لفلسطين باعتبارها أرضًا مقدسة مباركة! أما المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله فهو عند هؤلاء الكعبة في مكة، أو أي مسجد أثري في تهامة عسير، أو هو مسجد قريب من مكة في أقصاها، وبذلك يصبح الاحتلال الصهيوني لفلسطين مسألة نزاع قومي لا دخل للمسلمين بها، إذ لا قدسية للقدس عند المسلمين مادام أن المسجد الأقصى وهو المسجد الثالث ليس فيها!
ولهذا لا نستبعِد أن يكونَ النَّشاط الذي يُلاقيه نشرُ هذه النظرية له عدة محركات، منها ما هو بحثيّ بحتٌ، ومنها ما هو نفسيٌّ من فئات مولَعين بالغرائب، ومنها ما هو مخابَراتيٌّ يستغلُّ هذه الدوافعَ البحثيَّة والنفسيَّة لمآرب أخرى.
ولن نناقش في هذه الورقة تفاصيلَ شبهات أصحاب تلك النظرية والمروِّجين لها، فلذلك مقامات أخَر؛ لكننا سنخصِّص هذه السلسلةَ لـلآتي:
أولًا: ذكر دلالات القرآن الكريم والسنة النبوية على موطن بني إسرائيل، وأين نزلت التوراة، وأين بعث الله نبيَّه موسى وأنبياء بني إسرائيل عليهم السلام، وإلى أين أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم.
ثانيًا: ذكر ما ورد من ذلك في كلام السلف رضي الله عنهم وعلماء الأمَّة الإسلامية.
ثالثًا: ذكر موطن بني إسرائيل وانتقالهم في التوراة التي بين أيدينا، وهي وإن كانت محرَّفة يقينًا كما تشهد بذلك نصوص الكتاب والسنة، وأيضا كما تشهد بذلك دراسات الباحثين اليهود والنصارى، إلا أننا سوف نستنطق نصوصَها لكون المروِّجين لهذه النظرية يجعلونها مصدرَهم الأول، ويقارنون ما ورد فيها من أسماء للبقاع والنباتات بما في منطقة عسير من أسماء للبقاع والنباتات، ويجعلون ذلك مستندَهم الأول في تقرير شبهاتهم.
وغرضُنا هو أن نبيِّن أن القرآن الكريم والسنة النبوية وأقوال سلف الأمَّة وعلمائها، بل ونصوص التوراة نفسها، كلها مجتمعة تنطق بموطن بني إسرائيل الحقيقيّ، وتذكُر تنقلاتهم ورحلاتهم وأنبياءَهم، وبهذا العرض تتبين الحقيقة.
فإذا أدرك القارئ الكريم أن هذا ما جاء في تلك المصادر فليس هو في حاجة إلى معرفة شبهاتهم وكيف نردُّ عليها، فقديمًا قيل: إذا جاء نهر الله ذهب نهر معقل؛ والقارئ للقرآن الكريم وتفاسيره لا يحتاج إلى كبير عناء في إدراك أن ما جرى لبني إسرائيل كان بعيدًا تمامًا عن جنوب الجزيرة العربية وعن الحجاز، وإنما كانت المجريات من الشام إلى مصر ثم الشام، هناك عاش بنو إسرائيل، وتنقَّلوا وخاضوا حياتهم، ونزلت عليهم التوراة والزبور والإنجيل، وتدلّ على هذا الشواهد القرآنية التي نبدأ في استعراض ما يحتمله المقام منها:
أولًا: ذكر مصر في القرآن الكريم:
ذكر الله سبحانه وتعالى مصر في القرآن صراحةً خمس مرات، كما أنه ذكره بدون الاسم الصريح مراتٍ عديدةً، وسنستعرض جملةً من هذه الآيات مع الاعتماد على الصَّريح منها:
الآية الأولى: وهي مِن أصرَحِها وأوضحِها في الدّلالة على أنَّ المراد بمصر هي البلد المعروف بهذا الاسم في زماننا الآن، وهي التي ذكرها الله سبحانه في عرض قصَّة يوسف عليه السَّلام، فإنَّ الله سبحانه وتعالى قد ذكر أنَّ يعقوب عليه السَّلام -وهو إسرائيل- قد كان له اثنا عشر ولدًا ومنهم يوسف عليه السلام، ولَمَّا أراد إخوة يوسف أن يتخلَّصوا منه ويخلوا بأبيهم ألقوه في غيابة الجبِّ حتى يلتقطَه من يمرُّ بهذا الجبِّ من السيارة، وكان من إرادة الله أن يأتي إلى هذا الجب مَن يحمل يوسُف عليه السلام كما ذكر الله ذلك فقال: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [يوسف: 19]، وبعد أن أخرجوا يوسف عليه السلام من ذلك الجبِّ باعوه إلى عزيزٍ من مصر، وبهذا قد هيَّأ الله ليوسف عليه السلام أن ينتقلَ إلى مصر ويبقى فيها، وهي تهيئة لانتقال بني إسرائيل كلهم إلى مصر كما سيأتي بيانه.
وجرت الأحداثُ العظيمة التي مرَّت بيوسف عليه السلام وهو في مصر، يقول سبحانه وتعالى: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف: 21]، وقد توارد المفسرون على أنَّ الذي اشتراه عزيز مصر، يقول الطبري: “وقال الذي اشترى يوسف من بائعه بمصر”([5]).
ومن هنا كانت بداية الذهاب إلى مصر والانتقال إليها، ولم يكن الذي اشتراه أيَّ رجل من مصر، وإنما هو عزيزٌ في مصر، فقد روى الطبري عن السدي قال: “انطُلِق بيوسف إلى مصر، فاشتراه العزيز ملك مصر، فانطلق به إلى بيته فقال لامرأته: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا}”([6])، وقال الزمخشري: “الذي اشتراه قيل: هو قطفير أو أطفير، وهو العزيز الذي كان على خزائن مصر”([7])، ويقول ابن كثير رحمه الله: “وكان الذي اشتراه من مصر عزيزها، وهو الوزير بها”([8])، وقيل: كان هو على خزائن مصر، يقول الشوكاني: “{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ} هو العزيز الذي كان على خزائن مصر، وكان وزيرًا لملك مصر”([9]).
فالآية تثبت أن يوسفَ عليه السلام -وهو ابن إسرائيل يعقوب عليه السلام- كان قد انتقل إلى مصر مع هذه الحادثةِ التي وقعَت، مما جعل بقيةَ بني إسرائيل يرحلون إلى مصر أيضًا كما سيأتي بيانه.
الآية الثانية: جاءت الآية الثَّانية التي ذكَرت مصر أيضًا في قصَّة يوسف عليه السلام، فإنَّ يوسف عليه السلام بعد أن انتقل إلى مصر وصار فيها مسؤولًا عن خزائن الأرض جمعه الله بإخوته في قصَّة معروفة شهيرة، وفي آخرها أنَّ يوسف عليه السلام طلب من إخوته أن يأتوا بأبيهم يعقوب -إسرائيل- عليه السلام، فجاؤوا كلُّهم إلى مصر، وبهذا انتقل إسرائيلُ وبنوه إلى مصر، وفي هذا يقول الله تبارك وتعالى: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف: 99]، يروي الطبري رحمه الله عن السدي في هذه الآية أنه قال: “فحملوا إليه أهلهم وعيالهم، فلمَّا بلغوا مصر كلَّم يوسف الملك الذي فوقه، فخرج هو والملوك يتلقونهم، فلمَّا بلغوا مصر قال: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ}”([10]).
وانتقال يعقوب إلى مصر كان من الشَّام، وانتقاله يعني انتقال إسرائيل وبني إسرائيل إلى مصر، وهذه حقيقة مهمَّة ينبغي أن تكونَ واضحة لِمَا لها من دلالة بيّنة على أن وجودهم كان في الشام ومصر.
وممَّا يؤكِّد هذا ويقوِّيه أن الله سبحانه وتعالى ذكر أن إسرائيل -وهو يعقوب عليه السلام- كان يسكن البادية، فقد قال الله: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف: 100]، فكان عليه السلام يسكن البادية كما يقول البغوي رحمه الله: “{وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} والبدو بسيط من الأرض يسكنه أهل المواشي بماشيتهم، وكانوا أهلَ بادية ومواشي، يقال: بدا يبدو بدوًا إذا صار إلى البادية”([11]).
وقد توارد المفسِّرون أنَّ الباديةَ التي سكنَها يعقوبُ عليه السلام كانت في الشام، يقول قتادة رحمه الله: “{وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} كان يعقوب وبنوه بأرضِ كنعان، أهل مواشٍ وبرِّيَّة”([12])، ويقول الطبري رحمه الله: “وقوله: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} يقول جل ثناؤه مخبرا عن قيل يوسف: وقد أحسن الله بي في إخراجه إيّاي من السجن الذي كنتُ فيه محبوسًا، وفي مجيئه بكم من البدو. وذلك أن مسكنَ يعقوب وولده فيما ذكر كان ببادية فلسطين“([13])، ويقول القرطبي رحمه الله: “{وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} يروَى أن مسكن يعقوب كان بأرض كنعان، وكانوا أهل مواش وبَرِّيَّة”([14])، فكان إسرائيل عليه السلام يسكن في تلك الديار، في بادية فلسطين، يقول ابن كثير رحمه الله: “قال ابن جريج وغيره: كانوا أهل بادية وماشية. وقال: كانوا يسكنون بالعربات من أرض فلسطين، من غور الشام”([15]).
وممَّا يشير إلى أنَّ الباديةَ كانت في الشَّام وانتقل منها إلى مصر: أن انتقالاتهم من البادية إلى مصر وبالعكس كانت كثيرة، وقد تخلَّف الأخ الأكبر حين أُخذ أخو يوسف عليه السلام، وقال: {ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} [يوسف: 81]، ثم أرسل يعقوب أبناءه فقال لهم: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]، وهذه تنبئ أن المسافة ليست طويلة كما بين الشام وجنوب جزيرة العرب، ولئن قلنا إن البادية هي شمال الجزيرة العربية وما حولها فلا ضير أيضًا، لكن الجزم بأنها في جنوب جزيرة العرب لا دليل صريح صحيح عليه.
والمطلَّع على كتب التفسير يجد أن المفسِّرين لا يعلِّقون كثيرًا على قوله: {ادْخُلُوا مِصْرَ}؛ لأنَّ مصر عندهم هي المعروفة عندنا، ولئن كان المراد بمصر غير التي نعرفها لأشار ولو واحد منهم إلى ذلك، ولأشار إلى ذلك واحدٌ من الصحابة على الأقلّ، بل لأشار إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم مبيّنًا للكلمة ومفسرًا لها.
الآية الثالثة: قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [يونس: 87].
قصة موسى عليه السلام من أكبر الشَّواهد على أن بني إسرائيل لم يكونوا في جنوب جزيرة العرب، وإنما كانوا في الشام ومصر، وموسى لا شكَّ أنَّه من أنبياء بني إسرائيل، والتوراة أنزلت عليه، ومن تأمَّل في قصته يجد أنَّها كلّها جرت فيما بين الشام ومصر، ولم يكن لجنوب الجزيرة العربية أيّ ذكر في قصته، وسيأتي ذكر ذلك، أما هذه الآية فإنَّ الله قد بيَّن فيها أنَّه أمر موسى وهارون عليهما السلام أن يتبوَّءَا لقومهما بمصر بيوتا يصلُّون فيها، يقول الطبري رحمه الله: “قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً}، يقول: واجعلوا بيوتكم مساجدَ تصلُّون فيها”([16]).
وكان السببُ في ذلك أنَّهم كانوا يخافون من فرعون، فأمرهم الله أن يصلُّوا في بيوتهم، يقول مجاهد: “كَانُوا لَا يُصَلُّونَ إِلَّا فِي البِيَع، فَقِيلَ لَهُمْ: صلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ مِنْ مَخَافَةِ فِرْعَوْنَ”([17])، ويقول البغوي رحمه الله: “كانت بنو إسرائيل لا يصلّون إلا في كنائسهم وبِيَعهم، وكانت ظاهرة، فلما أرسل موسى أمر فرعون بتخريبها، ومنعهم من الصلاة فيها، فأمروا أن يتّخذوا مساجدهم في بيوتهم ويصلوا فيها خوفًا من فرعون”([18]).
وممَّا يدل على أنَّها مصر المعروفة أنَّ المفسرين ذكروا أن خوفهم كان من فرعون، وسيأتي بيان أن فرعون اسم لكل من حكم مصر التي نعرفها، يقول الواحدي: “{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ} الآية: لَمَّا أُرسل موسى -صلوات الله عليه- إلى فرعون أمر فرعون بمساجد بني إسرائيل فَخُرِّبت كلُّها، ومُنعوا من الصَّلاة، فأُمروا أن يتَّخذوا مساجد في بيوتهم ويصلُّوا فيها خوفًا من فرعون، فذلك قوله: {تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا} أي: اتخذ لهم {بِمِصْرَ بُيُوتًا} في دورهم، {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} أَيْ: صلُّوا في بيوتكم لتأمنوا من الخوف”([19]).
أمَّا القرطبي فإنَّه يفصل في مصر المذكورة في هذه الآية، يقول رحمه الله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا}… ومصر في هذه الآية هي الإسكندرية، في قول مجاهد. وقال الضَّحاك: إنه البلد المسمى: مصر، ومصر ما بين البحر إلى أسوان، والإسكندرية من أرض مصر“([20]).
فمصر المذكورة إذن في هذه القصة وعند ذكر بني إسرائيل هي مصر المعروفة، وليست مصرًا في جنوب جزيرة العرب.
الآية الرابعة: ذكر الله قصة موسى عليه السلام، وبيَّنَّا أنها وقعت في مصر التي نعرفها، وممَّا يدل على ذلك: الموضع الذي في قصة موسى عليه السلام حين جاء موسى بالبينات إلى فرعون، فاستند فرعون إلى الأنفة والعصبية، يقول تعالى: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الزخرف: 51].
وقد ذكر المفسرون أنَّ المراد بمصر هنا هي التي نعرفها؛ لأنهم نصُّوا على الأنهار، وأن المراد نهر النيل المعروف، يقول البغوي رحمه الله: “{وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ} أنهار النيل، {تَجْرِي مِنْ تَحْتِي}: من تحت قصوري، وقال قتادة: يجري بين يدي في جناني وبساتيني، وقال الحسن: بأمري”([21])، ويقول الزمخشري: “فقال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ} يعني أنهار النيل”([22])، ويقول السعدي رحمه الله “{أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} أي: ألست المالك لذلك المتصرف فيه، {وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} أي: الأنهار المنسحبة من النيل في وسط القصور والبساتين“([23]). ويبين أبو السعود أنها أنهار عديدة، منها نهر النيل، وليس في الدنيا إلا واحد في مصر التي نعرفها، يقول رحمه الله: “{قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ} أنها النيل، ومعظمها أربعة: أنهر الملك، ونهر طولون، ونهر دمياط، ونهر تنيس، {تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} أي: من تحت قصري أو أمري، وقيل: من تحت سريري لارتفاعه، وقيل: بين يديّ في جناني وبساتيني”([24]).
وفصَّل في ذلك ابن عطية فقال: “نداء فرعون يحتمل أن يكون بلسانه في ناديه، ويحتمل أن يكون بأن أمر من ينادي في الناس، ومعنى هذه الحجة التي نادى بها أنَّه أراد أن يبين فضله على موسى؛ إذ هو ملك مصر، وصاحب الأنهار والنعم، وموسى خامل متقلّل لا دنيا له، قال: فلو أنَّ إله موسى يكون حقّا كما يزعم لما ترك الأمر هكذا. ومِصْر من بحر الإسكندرية إلى أسوان بطول النيل، والْأَنْهارُ التي أشار إليها هي الخلجان الكبار الخارجة من النيل، وعظمها نهر الإسكندرية وتنيس ودمياط ونهر طولون”([25]).
فهذه الآية من الآيات التي تدلُّنا على موطن بني إسرائيل، وأن قصة موسى عليه السلام لم تقع إلا في مصر التي فيها نهر النيل.
الآية الخامسة: قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة: 61].
رزق الله بني إسرائيل في التيه طعامًا وهو المنُّ والسلوى، فاشتاقوا إلى أطعمة أخرى، فطلبوها من موسى عليه السلام، وتذكروا طعامًا كانوا يأكلونه في مصر، فأمرهم بالهبوط إلى مصر، يقول الطبري رحمه الله: عن قتادة في قوله: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} قال: “كان القوم في البرية قد ظلل عليهم الغمام، وأنزِل عليهم المنُّ والسلوى، فملّوا ذلك، وذكروا عيشًا كان لهم بمصر، فسألوه موسى، فقال الله تعالى: {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ}”([26]).
وقد اختلف العلماء في مصر التي ذكرها الله هنا في هذه الآية على قولين: فمنهم من قال: إن المراد بها مصرٌ من الأمصار، وقيل: المراد مصر المعروفة التي كان فيها فرعون وأخرج منها موسى عليه السلام.
يقول الطبري رحمه الله: “وأما الذي لم ينوَّن “مصر” فإنَّه لا شكّ أنه عنى مصر التي تعرف بهذا الاسم بعينها دون سائر البلدان غيرها”([27]).
وقد قال كثيرٌ من السَّلف بهذا القول، فعن أبي العالية قال: “يعني به مصر فرعون”([28])، وقال الضحاك: “هو مصر موسى وفرعون”([29])، وقال الأعمش: “أراد به مصر الذي عليه صالح بن علي، وهو المصر المعروف”([30]).
ولا يخفى ما في هذه الآية من خلاف، ولسنا نقول: إنها محكمة للدلالة على مصر المعروفة، وإن قلنا: إنها لا تدل على ذلك فإن عندنا أدلة عديدة على الدلالة على أن بني إسرائيل كانوا في مصر المعروفة، ومع ذلك فإن كان المراد هو الهبوط على أيّ مصرٍ من الأمصار لم يمكن أن يكون ذلك المصر جنوب الجزيرة العربية؛ إذ إنهم في تيه، وخرجوا من التيه إلى الشام كما هو معروف، وليس من المعقول أن يأمرهم بأن يأتوا إلى جنوب جزيرة العرب ثم يخرجوا منه مرة أخرى إلى الشام.
ومواطن الخلاف يرجح الإنسان فيها بمرجحات، ومن الأدلة التي استدل بها على أنَّ المراد مصر المعروفة ما ذكره الطبري فقال: “وأما الذين قالوا: إن الله إنما عنى بقوله جل وعز: {اهْبِطُوا مِصْرًا} مصر؛ فإن من حجتهم التي احتجوا بها الآية التي قال فيها: {فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَٰلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 57-59]، وقوله: {كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَٰلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الدخان: 25-28]، قالوا: فأخبر الله -جل ثناؤه- أنه قد ورثهم ذلك وجعلها لهم، فلم يكونوا يرثونها ثم لا ينتفعون بها. قالوا: ولا يكونون منتفعين بها إلا بمصير بعضهم إليها، وإلا فلا وجه للانتفاع بها، إن لم يصيروا، أو يصر بعضهم إليها. قالوا: وأخرى، أنها في قراءة أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود: (اهْبِطُوا مِصَرَ) بغير ألف، قالوا: ففي ذلك الدلالة البينة أنها مصر بعينها”([31]).
والشَّاهد من هذه الآيات كلِّها أنَّ كلَّ الإشارات تدلُّ على أن مصر المذكورة في الآيات هي مصر المعروفة، وقد استفاض بذلك الذِّكر، وأقوى دليل على ذلك أن القرآن الكريم لم يشر إشارة واحدة إلى غير مصر المعروفة؛ إذ لو كان المراد مصرًا غير مصر المعروفة لنبَّه القرآن عليه، فتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يصحّ، ولا نجد في القرآن أيّ إشارة ولو خفيّة إلى أن المراد بمصر غير مصر التي يعرفها الناس.
ولَمَّا كان القرآن مبيِّنا لكل شيء، ولم نجد فيه إشارة إلى أن المراد غير مصر التي نعرفها؛ عُلم أنها مصر المعروفة التي ينصرف إليها الذهن عند إطلاق اللفظ.
وهناك آيات كثيرة أخرى لم تصرِّح باسم مصر، ولكنها تدلُّ دلالة واضحة على أن موطن بني إسرائيل كان ما بين مصر والشام، ومن تلك الآيات ما أشار الله فيها إلى الوحي لموسى عليه السلام، يقول تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم: 52]، وذلك حين كان راجعًا من مدين، يقول الطبري رحمه الله: “يقول تعالى ذكره: ونادينا موسى من ناحية الجبل، ويعني بالأيمن: يمين موسى؛ لأنه الجبل لا يمين له ولا شمال، وإنما ذلك كما يقال: قام عن يمين القبلة وعن شمالها”([32]).
والطُّور يعرّفه البغوي فيقول في تفسير هذه الآية: “{وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} يعني يمين موسى، والطور: جبل بين مصر ومدين. ويقال: اسمه الزبير، وذلك حين أقبل من مدين ورأى النار فنودي: يا موسى، إني أنا الله رب العالمين”([33])، ويقول أبو السعود: “الطورُ: جبلٌ بين مصرَ ومدْيَنَ، والأيمنُ صفةٌ للجانب”([34]).
ويقول الرازي: “لَيْسَ لِلْجَبَلِ يَمِينٌ وَلَا يَسَارٌ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ طُورَ سَيْنَاءَ عَن يَمِينِ مَنِ انْطَلَقَ مِنْ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ، وَقُرِئَ: (الْأَيْمَنِ) بالجر على الجوار نحو جحر ضَبٍّ خَرِبٍ، وَانْتِفَاعُ الْقَوْمِ بِذَلِكَ إِمَّا لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَيْهِمْ وَفِيهَا شَرْحُ دِينِهِمْ، وَإِمَّا لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا كَلَّمَ مُوسَى عَلَى الطُّورِ حَصَلَ لِلْقَوْمِ بِسَبَبِ ذَلِكَ شَرَفٌ عَظِيمٌ”([35]).
وقصة وحي الله لموسى عليه السلام تكررت في عدة مواطن من القرآن الكريم، فقد قال الله: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص: 29، 30]، وقال تعالى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص: 46].
فالطُّور الذي عنده أوحى الله إلى موسى يُثبت قطعًا أنَّ بني إسرائيل لم يكونوا في جزيرة العرب، وإنَّما هناك في الشَّام ومصر، وقد أضاف الله الطُّور إلى سيناء في قوله تعالى: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} [المؤمنون: 20].
ورغم أنَّ المفسرين قد اختلفوا في المراد بسيناء هل يعني: مبارك، أو يعني: البقعة المعروفة في مصر الآن؟ إلا أنهم لم يقولوا: إنه في جنوب جزيرة العرب، ولا اختلاف تضاد بين القولين، وإنما يكون مكانا معروفا ويكون مباركا في الوقت نفسه.
وقد ذهب ابن عباس وغيره إلى أن المراد البقعة المعروفة في مصر، فقد روي عن ابن عباس أنه قال عن قوله: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ} قال: “هو جبل بالشام مبارك”([36])، وروي عنه أنه قال: “الجبل الذي نودي منه موسى صلى الله عليه وسلم”([37])، وقد رجَّح الطبري القول الثاني وهو أن المراد منه: البقعة الجغرافية المعروفة، يقول الطبري: “والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن سيناء اسم أضيف إليه الطور يعرف به، كما قيل: جبلا طيئ، فأضيفا إلى طيئ، ولو كان القول في ذلك كما قال من قال: معناه جبل مبارك، أو كما قال من قال: معناه حسن؛ لكان الطور منوَّنًا، وكان قوله: سيناء من نعته، على أن سيناء بمعنى: مبارك وحسن غير معروف في كلام العرب، فيجعل ذلك من نعت الجبل، ولكن القول في ذلك -إن شاء الله- كما قال ابن عباس من أنه جبل عرف بذلك، وأنه الجبل الذي نودِي منه موسى صلى الله عليه وسلم، وهو مع ذلك مبارك، لا أن معنى سيناء معنى مبارك“([38])، وبهذا قال ابن كثير رحمه الله: “وطور سيناء: هو طور سينين، وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى بن عمران عليه السلام، وما حوله من الجبال التي فيها شجر الزيتون”([39]).
وقد أكَّدت على ذلك كتب البلدان، يقول البكري الأندلسي: “الطُّور: جبل بيت المقدس، ممتدٌّ ما بين مصر وأيلة، سمي بطور بن إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وهو الذي نودي منه موسى، قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} [القصص: 46]، وهو طور سيناء، قال الله سبحانه: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ} [المؤمنون: 20]، وقال في موضع آخر من كتابه: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ} [التين: 1، 2] ومعناهما واحد”([40])، وقال ابن شمائل القطيعي البغدادي عن دير يسمى دير طور سينا: “(دير طور سينا) ويقال: كنيسة الطور، في قلة طور سينا، وهو الموضع الذي تجلَّى فيه النُّور لموسى، مبني بحجر أسود عرض سوره سبعة أذرع، وله ثلاثة أبواب حديد، وفى غربيّه باب لطيف”([41])، وذكر عن الطُّور أقوالا عديدة، والمتأمل فيها يجد أنه لم يرد قول واحد أنه في جنوب جزيرة العرب، فمهما اختلفوا في تحديده يبقى أنه ما بين الشام ومصر، وليس هو في جنوب جزيرة العرب، يقول: “(طور) بالضم ثم السكون وآخره راء، يقال لجميع الشام: الطور.
وقيل: الطور هو الجبل المشرف على نابلس يحجه السامرة، ولليهود فيه اعتقاد عظيم، يزعمون أن إبراهيم أمر بذبح إسحاق فيه، وأنه مذكور في التوراة. وبالقرب من مدين جبل يسمى: الطور، وهو الذي كلّم الله عليه موسى.
والطور: جبل مطلٌّ على طبريَّة الأردن.
والطور: جبل بأرض مصر، عند كورة تشتمل على عدة قرى قبليّها، وبالقرب منها جبل فاران.
وطور زيتا: جبل بقرب رأس عين، عند قنطرة الخابور، على رأس شجر زيتون يسقيه المطر. وجبل مشرف على مسجد بيت المقدس من شرقيّه، بينه وبينه وادي جهنم الذي فيه عين سلوان.
وطور سِيناء بكسر السين، وقرئ بفتحها، وهو ممدود: جبل بقرب أينة، وهو جبل أضيف إلى سينين، وسينين: شجر”([42])، أما عن سيناء فقد قال فيها: ” (سينا) بكسر أوله، ويفتح: موضع بالشام يضاف إليه الطور، فيقال طور سيناء، وهو الجبل الذي كلَّم الله عليه موسى بن عمران”([43]).
ويقول أبو عبدالله الحميري: “ولا خلاف أن في الشام جبلًا يسمى: الطور، وهو طور سيناء، قيل: إنه الذي أقسم الله به لفضله على الجبال؛ إذ روي أن الله تعالى أوحى إلى الجبال إني مهبط على أحدكم أمري -يريد رسالة موسى عليه السلام-، فتطاولت كلها إلا الطور، فإنه استكان لأمر الله عز وجل وقال: حسبي الله، فأهبط الله الأمر عليه، ويقال: إنه بمدين”([44]).
فهذه الآيات وأقوال المفسرين وأقوال أصحاب كتب البلدان والجغرافيا تثبت أنَّ الله سبحانه وتعالى قد أوحى إلى موسى وهو راجع من مدين إلى مصر، وليس في جزيرة العرب كما يُزعم، بل كان عند الطور الذي هو مضاف إلى سيناء، والتي هي بقعة معروفة، وسواء كانت تلك البقعة ضمن الحدود المصرية آنذاك، أو كانت خارجة عنها، فإنها معروفة وهي في الشمال، وليس في جنوب جزيرة العرب.
ومن تلك الآيات: الآيات التي تدلُّ على تيه بني إسرائيل، فقد ذكر التيه الذي وقع فيه بنو إسرائيل وأنه بعد ذلك منَّ عليهم فأخرجهم منه إلى الشام، وذكر الله أن موسى عليه السلام قد طلب منهم القتال فقال: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: 21]. فلما لم يوافقوا على ذلك عاقبهم الله بالتيه كما قال تعالى: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 26].
يقول ابن الأثير: “ثم إن الله تعالى أمر موسى عليه السلام أن يسير ببني إسرائيل إلى أريحا بلد الجبارين، وهي أرض بيت المقدس، فساروا حتى كانوا قريبا منهم”([45]).
ثم توفي موسى عليه السلام في التيه، وقد أخرجهم الله منه، يقول ابن عباس رضي الله عنه: “إن موسى وهارون توفيا في التيه، وتوفي فيه كل من دخله وقد جاوز العشرين سنة، غير يوشع بن نون وكالب بن يوفنا، فلما انقضى أربعون سنة أوحى الله إلى يوشع بن نون فأمره بالمسير إليها وفتحها، ففتحها. ومثله قال قتادة والسدي وعكرمة”([46]).
والشاهد من هذا أنَّ بني إسرائيل في زمن موسى عليه السلام، وفي زمن التيه، ثم خروجهم منه كانوا جهة الشام وقبل الشام من جهة مصر؛ لأنهم خرجوا منها، ويمكن أنهم مرُّا على شمال جزيرة العرب، بل وإن تنزَّلنا وقلنا: إنهم في خلال التيه مرّوا بجنوب الجزيرة فلا إشكال أيضًا؛ ولا يثبت دعاوى القوم؛ لأنهم في تيه، فكان مجرَّد مرور، ولم تكن تلك الديار مستقرًّا لهم، فمهما قلنا في التيه يبقى أن استقرارهم لم يكن في جنوب جزيرة العرب.
ومما يدل على ما نروم تأصيله أن كلمة مصر حين وردت في السنة النبوية جاءت مطلقة دون تعريف بها؛ ممَّا يدل على أنها هي مصر المعروفة المستقرة في الأذهان، فلا يعهد أن النبي صلى الله عليه وسلم يطلق كلمة وردت في القرآن ثم يريد منها معنى غير المذكور في القرآن ثم لا ينبه عليها! فحين ذكر مصر فإنها هي مصر المذكورة في القرآن ولو كانت غيرها لكان تلبيسًا على الناس، ولما كان القرآن بينًا؛ لأن كلمة واحدة وهي (مصر) قد اختلف معناها بين القرآن والسنة ولم يبين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن أهم الدلائل على أن المراد بمصر في السنة هي مصر المعروفة اليوم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكر الأقباط، يقول صلى الله عليه وسلم: «إذا افتتحتم مصرًا فاستوصوا بالقبط خيرًا؛ فإن لهم ذمَّةً ورحما»([47])، ويقول صلى الله عليه وسلم: «الله الله في قبط مصر، فإنكم ستظهرون عليهم، ويكونون لكم عدّة وأعوانا في سبيل الله»([48]).
والقبط مكانهم في مصر المعروفة ليس إلا، وليسوا في جنوب جزيرة العرب. يقول غطاس الخشبة وهو يبين قبائل مصر وأنسابهم: “ومن أولاد مصرايم: كفتوريم، وهو جد القفطيين الذين صعدوا إلى مصر العليا وأنشؤوا مدينة (فقط) القديمة المسماة باللغة المصرية: جبتيو… ولفظ القبط في اللغة العربية يشير أصلا إلى المصريين القفطيين الذين اعتنقوا الدين المسيحي في بداية البشارة به، فالقبطي هو المصري القفطي المسيحي”([49]).
ومن أصرح الأحاديث التي تثبت أن مصر هي مصر المعروفة قوله صلى الله عليه وسلم: «منَعَت العراق درهمها وقفيزها، ومنعت الشأم مديها ودينارها، ومنعت مصر إردبها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم»([50]).
يقول الخطابي رحمه الله: “المدي: مكيال أهل الشام، يقال: إنه يسع خمسة عشر أو أربعة عشر مكّوكا، والأردب: مكيال لأهل مصر، ويقال: إنه يسع أربعة وعشرين صاعا، ومعنى الحديث: أن ذلك كائن، وأن هذه البلاد تفتح للمسلمين، ويوضع عليها الخراج شيئا مقدرًا بالمكاييل والأوزان، وأنه سيمنع في آخر الزمان”([51])، ويقول النووي: “وأمَّا الإردب فمكيال معروف لأهل مصر، قال الأزهري وآخرون: يسع أربعة وعشرين صاعا”([52]).
ويمكن أن نُلخص دلالات ما سبق بما يلي:
أولًا: أن بني إسرائيل وفد أجدادهم الأول إلى مصر مع يعقوب زمن يوسف عليهما السلام، وكانت إقامتهم بمصر حتى ابتلاهم الله بالتيه.
ثانيًا: أن مصر الواردة في القرآن هي مصر المعروفة اليوم لا غير، وذلك لأمور:
١- أنَّه لم يقل أحد من أهل التفسير بأن مصر الواردة في القرآن غير مصر المعروفة لدى العالمين منذ سحيق التاريخ، إلا ما جاء من الخلاف في شأن آية {اهْبِطُوا مِصْرًا}، والراجح أنَّ المراد به أيضا مصر المعروفة؛ لأنه لا يصار إلى القول بالاشتراك إلا بدليل، ولا دليل. فتبقى دلالة مصر على الأصل في عدم الاشتراك.
وأما الاستدلال بقراءة التنوين على أنها ليست مصر المعروفة فضعيف؛ لأن من القراء من قرأها دون تنوين، والقراءات يفسر بعضها بعضا، كما أن مصر ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث أو للعلمية والعجمة، وما كان كذلك جاز صرفه ومنعه من الصرف؛ لذا فصرف مصر لا يعني بالضرورة خروجها من العلمية إلى المعنى اللغوي لكلمة مصر وهو المدينة أو الإقليم، وعلى التسليم برجحان تفسير مصر بذلك فكما قدمنا فسرها أهل العلم بأنها الشام، ولم يفسروها بصقع آخر، وبذلك يتأكد أن القول بأن مصر التي سكنها بنو إسرائيل غير مصر المعروفة خلاف الإجماع.
٢- أنَّ النداء من الله تعالى جاء إلى موسى في جبل الطور، والطورُ جاء في القرآن معرفًا بأنه طور سيناء كما في قوله تعالى: ﴿وَشَجَرَةً تَخرُجُ مِن طورِ سَيناءَ تَنبُتُ بِالدُّهنِ وَصِبغٍ لِلآكِلينَ﴾ [المؤمنون: ٢٠]، وفي قوله تعالى: ﴿وَطورِ سينينَ﴾ [التين: ٢].
وسيناء كما في معاجم البلدان هي المعروفة اليوم، لكن بعضهم يجعلها في مصر وبعضهم يجعلها في الشام، ولا أحد جعلها من الحجاز؛ وفي كلتا الحالتين لم يكن الطور منزلًا لبني إسرائيل، وإنما هو جبل في طريق موسى عليه السلام من مدين إلى مصر، ومدين قِيل: هي على البحر محاذية لتبوك، وقيل: هي في الشام.
٣- ذكر الله تيه بني إسرائيل أربعين سنة، وذكر الأرض التي حرَّمها عليهم، وذكر تعالى خروجهم من التيه، وذكر اسم ملكهم الذي قاتلوا معه: طالوت، وملك الجبارين الذين قاتلوهم: جالوت، واسم من تولى قتل جالوت وهو داود عليه السلام، وذكر النهر الذي ابتلاهم به، ولم تذكر التوراة ولا أحد من المؤرخين أن شيئًا من ذلك كان في جزيرة العرب؛ ولا يبعد أن تكون بعض فترات التيه كانت في شمالي الجزيرة مما يلي سيناء والشام لقربها، ولو صحَّ ذلك فلا يغير من الموقف شيئا، فالتيه منزل مؤقَّت لبني إسرائيل، ليس مكان مُلكهم ولا مستقرّهم ولا مبعث أنبيائهم.
ثانيًا: الآيات التي تتحدث عن فرعون:
وردَ في القرآن الكريم آياتٌ عديدةٌ عن فرعونَ وقصَّته مع موسَى عليه السلام، وقد ذكرنا سابقًا أنَّ قصَّةَ موسى عليه السلام وقعَت في مصر، ثم خروجه منها إلى التيه، ثم منه إلى الشام، وقد ورد اسم فرعون في القرآن الكريم (67) مرة، تبيِّن كفرَه وطغيانه وظلمه وجبروته، وقصته مع موسى عليه السلام، وسنستعرض جملة من الآيات التي تبين موطنه، وليس غَرضنا أن نأتي بها كلها.
الآية الأولى: قوله تعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف: 127].
وهذه الآية تتحدَّث عن موسى عليه السلام وفرعون، والأرض المذكورة في الآية هي أرض مصر، يقول الطبري رحمه الله: “يقول تعالى ذكره: وقالت جماعة رجال {مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ} لفرعون أتدع {مُوسَى وَقَوْمَهُ} من بني إسرائيل {لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ}، يقول: كي يفسدوا خدمَك وعبيدك عليك في أرضك من مصر”([53])، ويقول أبو السعود: “{أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} أي: في أرض مصر؛ بتغيير الناس عليك، وصرفهم عن متابعتك”([54])، ويقول الشوكاني مقرِّرا ما قلناه: “قوله: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} هذا الاستفهام منهم للإنكار عليه، أي: أتتركه وقومَه ليفسدوا في الأرض بإيقاع الفرقة وتشتيت الشمل. والمراد بالأرض هنا: أرض مصر”([55]).
فهذا فرعون في زمن بني إسرائيل في أرض مصر، ولم يذكر الله أنهم كانوا في جنوب الجزيرة، ولم يشر إلى ذلك لكونه معروفًا عند الناس.
الآية الثانية: قوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف: 137].
اختلف العلماءُ في بيان هذه الأرض التي أورثها بنو إسرائيل؛ إلا أن كلَّ قول من القولين يبين أنهم كانوا في الشام ومصر وليسوا في جنوب جزيرة العرب، فعن الحسن في قوله: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} قال: “الشأم”([56])، وعن قتادة قال: “هي أرض الشأم”([57]).
وقيل: هي مصر والشام، يقول السمعاني: “{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} قيل: أراد بها أرضَ مصر والشام، وقيل: أراد بها الشام وحده، وقيل: أراد به الأردن وفلسطين، وقوله: {بَارَكْنَا فِيهَا} أي: بالخصب والسعة”([58])، ويقول البغوي رحمه الله: “{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ}: يقهَرون ويستذَلّون بذبح الأبناء واستخدام النساء والاستعباد وهم بنو إسرائيل، {مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا} يعني: مصر والشام”([59])، ويقول الزمخشري: “والأرض: أرض مصر والشام”([60])، وبمثله قال القرطبي([61]) والنسفي([62]).
ثم يبين الله سبحانه وتعالى أنه دمَّر ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون، وهذا الدمار كان في مصر ولبنيانهم بمصر، يقول الواحدي: “{وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ}: أهلكنا ما عمل فرعون وقومه في أرض مصر، {وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} وما بنوا [من] المنازل والبيوت”([63]).
الآية الثالثة: قوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 4].
وقد توارد المفسِّرون على أنَّ فرعونَ قد علا في الأرض، أي: أرض مصر، يقول الطبري رحمه الله: “يقول تعالى ذكره: {إِنَّ فِرْعَوْنَ} تجبر في أرض مصر وتكبَّر، وعلا أهلها وقهرهم، حتى أقروا له بالعبودة”([64])، ويقول الواحدي: “{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا} استكبر وتعظَّم، {فِي الْأَرْضِ} أرض مصر”([65])، وبمثل هذا قال السمعاني([66])، والبغوي([67])، والبيضاوي([68])، والنسفي([69])، وأبو السعود([70]). ففرعون قد تكبَّر وتجبَّر على بني إسرائيل في أرض مصر كما تقوله الآية الكريمة، مما يعني أنَّ بني إسرائيل في مصر والشام.
والآيات كثيرة نكتفي منها بهذه الآيات، وغرضنا أن نبيّن أنَّ ما جرى من فرعون مع بني إسرائيل إنما جرى في مصر، ووجه الشاهد في ذلك أنَّ المعروفَ أنه لا يطلق اسم فرعون إلا على من ملك مصر المعروفة لدينا اليوم، وقد ذكر الله قصة فرعون مراتٍ كثيرةٍ دون أي إشارة إلى أنه في منطقة أخرى، أو أنه في جنوب جزيرة العرب، فتوارُد الآيات عن فرعون وربطها بقصَّة موسى عليه السلام لا يدَع لنا مجالًا للشّكّ أن المراد هي مصر التي نعرفها.
يقول ابن كثير وهو يبيِّن أن فرعون لا يطلق إلا على من ملك وحكم مصر المعروفة: “وَفِرْعَوْنُ عَلَمٌ عَلَى كُلِّ مَنْ مَلَكَ مِصْرَ كَافِرًا، مِنَ الْعَمَالِيقِ وَغَيْرِهِمْ، كَمَا أَنَّ قَيْصَرَ عَلَمٌ عَلَى كُلِّ مَنْ مَلَكَ الرُّومَ مَعَ الشَّامِ كَافِرًا، وَكِسْرَى لِكُلِّ مَنْ مَلَكَ الْفُرْسَ، وتُبَّع لِمَنْ مَلَكَ الْيَمَنَ كَافِرًا، وَالنَّجَاشِيُّ لِمَنْ مَلَكَ الْحَبَشَةَ، وَبَطْلَيْمُوسَ لِمَنْ مَلَكَ الْهِنْدَ”([71]).
وممَّا يؤكِّد على أنَّ هذا المعنى متقرِّرٌ عند الجميع منذ القدم: أنَّ والدَ يوسف عليه السلام وإخوته حين قدموا مصر ورأى إسرائيلُ يوسفَ لم يعرفه حين رآه في أُبَّهته حتى ظنَّه فرعون مصر! فقد روى الطبري عن فرقد السبخي قال: لما ألقي القميصُ على وجهه ارتدَّ بصيرًا، وقال: {أْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} [يوسف: 93]، فحمل يعقوب وإخوة يوسف، فلما دنا أخبر يوسف أنه قد دنا منه، فخرج يتلقاه. قال: وركب معه أهل مصر، وكانوا يعظمونه. فلما دنا أحدهما من صاحبه، وكان يعقوب يمشي وهو يتوكَّأ على رجل من ولده يقال له يهوذا، قال: فنظر يعقوب إلى الخيل والناس، فقال: يا يهوذا، هذا فرعون مصر؟ قال: لا، هذا ابنك”([72]).
ثالثًا: الآيات التي تتحدَّث عن المسجد الأقصى:
مرَّ بنا أنَّ إسرائيل -وهو يعقوب عليه السلام- كان في بادية الشام حتى أدخلهم يوسف عليه السلام إلى مصر، وظلَّ بنو إسرائيل في مصر المعروفة حتى أخرجهم منها فرعون، فخرج موسى عليه السلام مع بني إسرائيل وتاهوا في الأرض حتى توفي موسى عليه السلام، ثم أخرجهم الله من ذلك التيه واستقرُّوا في فلسطين وما حولها، وهناك وُلِد عيسى عليه السلام، والله سبحانه يحكي عن بني إسرائيل على أنهم حولَ المسجد الأقصى، وأن المسلمين سيدخلون هذا المسجد؛ مما يؤكِّد على وجودهم في الشام ومصر وليس في جنوب جزيرة العرب، ونقتصر في بيان ذلك على آيتين:
الآية الأولى: قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1].
في هذه الآية يخبر الله سبحانه وتعالى عن قصة الإسراء التي وقعت للنبي صلى الله عليه وسلم، والشاهد من القصة -دون خوضٍ في تفاصيلها- هو أن الله ذكر أنه قد أسرى بعبده إلى المسجد الأقصى، وقد توارد المفسرون في وصف المسجد الأقصى على أنه بيت المقدس الموجود في فلسطين، وليس مسجدًا آخر قرب مكة كما يدعيه البعض!
قال ابن عباس رضي الله عنه: “من بيت أم هانئ إلى المسجد الأقصى يعني: إلى بيت المقدس”([73])، وقد سمي المسجد بالأقصى لبعده([74])، وعلى كونه بيت المقدس توارد المفسرون، فقد ذكره الماتريدي([75])، وابن أبي زمنين([76])، والثعلبي([77])، والسمعاني([78])، والبغوي([79])، والرازي([80])، والنسفي([81])، وابن كثير([82])، وقد قال ابن كثير رحمه الله إنه في إيلياء فقال: “{إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} وهو بيت المقدس الذي هو إيلياء، معدن الأنبياء من لدن إبراهيم الخليل؛ ولهذا جمعوا له هنالك كلّهم، فأمَّهم في محلتهم ودارهم، فدلّ على أنه هو الإمام الأعظم والرئيس المقدم، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين”([83]).
بل نقل الرازي الاتفاقَ على أن المراد بالمسجد الأقصى هو المسجد ببيت المقدس فقال: “وقوله: {إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} اتَّفقوا على أنَّ المراد منه بيت المقدس، وسمي بالأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام”([84]).
بل ورد تفسير المسجد الأقصى ببيت المقدس في الأحاديث الصحيحة الصريحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه أنه أسريَ به إلى بيت المقدس الذي سمَّاه الله في القرآن: المسجد الأقصى، يقول عليه الصلاة والسلام: «لما كذبتني قريش حين أُسرِي بي إلى بيت المقدس»([85])، وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الطويل عن الإسراء: «فركبته حتى أتيتُ بيت المقدس»([86]).
وكفار قريش حين كذَّبوا خبر الإسراء وصف النبي صلى الله عليه وسلم لهم المسجد الأقصى وصفًا دقيقًا، وسمَّاه بيت المقدس في قوله عليه الصلاة والسلام: «لما كذَّبتني قريش قمت في الحجر، فجلَّى الله لي بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه»([87])، وفي رواية: «لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها، فكربت كربةً ما كربت مثله قط، قال: فرفعه الله لي أنظر إليه، ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به»([88]).
وهذه الأحاديث تثبت أن المسجدَ الأقصى بعيد عن مكة المكرمة؛ إذ لو كان قريبًا من مكة أو حولها لما كان لهذا من معنى؛ إذ إنه ليس من المستبعد أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد زاره في أيّ يوم من حياته، فهو في متناول السفر والرحلة إليه، فاستغراب كفار قريش وتكذيبهم فيه دليل واضحٌ على أن المسجدَ الأقصى كان معروفًا عندَهم، وأنه بعيد عن مكة؛ ولذلك كذَّبوا خبر الإسراء، بل استنكروا ذلك غايةَ الاستنكار حتى أتوا أبا بكر الصديق رضي الله عنه ليخبروه، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: “لما أُسرِي بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى أصبح يتحدَّث الناس بذلك، فارتدَّ ناس ممن كان آمنوا به وصدَّقوه، وسعوا بذلك إلى أبي بكر رضي الله عنه، فقالوا: هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أُسري به الليلةَ إلى بيت المقدس؟! قال: أوَقال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن كان قال ذلك لقد صدق، قالوا: أوَتصدِّقه أنه ذهب الليلةَ إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟! قال: نعم؛ إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك: أصدِّقه بخبر السماء في غدوَة أو رَوحة، فلذلك سمِّيَ: أبو بكر الصديق”([89]).
ولكونه معروفا عند كفار قريش أن المسجد الأقصى هو الذي ببيت المقدس سألوه عن أشياء فيه، فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم، فكان في ذلك حجة له، ولو كان مسجدًا قريبا لما كان له في وصفه حجة.
ومن أصرح الأدلة على أن المسجد الأقصى ليس بالقرب من مكة، وإنما هو الذي ببيت المقدس قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تُشَدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، ومسجد الأقصى، ومسجدي»([90])، مع الرواية الأخرى الصحيحة التي يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّما يُسافر إلى ثلاثة مساجد: مسجد الكعبة، ومسجدي، ومسجد إيلياء»([91])، وقد سبق بنا الحديث بأن إيلياء هو بيت المقدس، ويؤكِّد على ذلك كتب البلدان، يقول اليعقوبي: “ولفلسطين من الكور: كورة إيليا، وهي بيت المقدس، وبها آثار الأنبياء عليهم السَّلام”([92])، ويقول ياقوت الحموي: “إِيلِيَاءُ: بكسر أوله واللام، وياء، وألف ممدودة: اسم مدينة بيت المقدس”([93])، ويقول أبو عبدالله الحميري: “إيليا: ويقال: أَيليا بفتح الهمزة، مدينة بالشام وهي بيت المقدس، وهي مدينة قديمة جليلة”([94]).
فهذا الحديث يؤكِّد أن المسجد الأقصى إنما هو المسجد الذي ببيت المقدس، وليس أي مسجد آخر قرب مكة المكرمة.
ويجمع إلى هذا أيضًا الحديث الذي فيه بشارة النبي صلى الله عليه وسلم بفتح بيت المقدس، فعن عوف بن مالك قال: أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وهو في قبة من أَدَم، فقال: «اعدُد سِتًّا بين يدي الساعة: موتي، ثم فتح بيت المقدس، ثم موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم، ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطًا، ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر، فيغدرون فيأتونكم تحت ثمانين غاية، تحت كلّ غاية اثنا عشر ألفا»([95])، وغزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة، وفتح مكة كان في العام الثامن من الهجرة، وليس من المعروف أن هناك بقعةً قريبة من مكة ظلَّت دون فتح إلى عام تبوك! فإن جمعنا هذا مع الأحاديث التي تثبت أن المسجد الأقصى ببيت المقدس عرفنا أن المسجدَ بعيد عن مكة المكرمة.
وممَّا يؤكّد على أن المراد من المسجد الأقصى هو الذي ببيت المقدس وأنه بعيد عن مكة ما أخرجه البيهقي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ليلة الإسراء، ومما ورد فيه أنه بعد أن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ما وقع له في تلك الليلة، وما رأى فيها، وما حصل له من المعراج، قال له أبو جهل: “ألا تعجبون مما يقول محمد؟! يزعم أنه أتى البارحةَ بيت المقدس، ثم أصبح فينا، وأحدُنا يضرب مطيتَه مصعدة شهرًا ومنقلبة شهرا، فهذا مسيرة شهرين في ليلة واحدة!”([96])، فالأمر مستقرّ عندهم أن المسجد الأقصى مسجد بعيد، وأنه بمسيرة شهر، فكيف يكون قريبًا من مكة المكرمة؟!
ويتلخَّص من هذا أن الأحاديث عن المسجد الأقصى تثبت أنه ببيت المقدس، وأنه لم يكن قريبًا من مكة المكرمة، بل كان في بيت المقدس المعروف الآن، وكل الشواهد الحديثية والتاريخية تؤكِّد هذ القول.
الآية الثانية: قوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء: 7].
يخبر الله سبحانه وتعالى عن بني إسرائيل أنه أحسنَ إليهم، وأمدَّهم بأموال وبنين، وجعلهم أكثر نفيرًا، ثم بين لهم أنهم إن أحسَنوا فلهم، وإن أساؤوا فقد توعَّدهم الله بأن يأتي بمن يدخل المسجد، وهذا المسجد الذي ذكره الله في هذه الآية هو المسجد الأقصى ببيت المقدس، وإلا فأين المسجد الذي توعَّد الله بدخول غير بني إسرائيل فيه في جنوب جزيرة العرب؟!
وكل الشواهد التاريخية فضلًا عن أقوال المفسرين تخبرنا عن أن هذا المسجد هو ببيت المقدس، وأنه تهدَّم على يد بختنصَّر أو غيره.
يقول سعيد بن جبير: “بعث الله عليهم في المرة الأولى سنحاريب، قال: فرد الله لهم الكرَّة عليهم، كما قال، قال: ثم عصوا ربهم وعادوا لما نهوا عنه، فبعث عليهم في المرة الآخرة بختنصر، فقتل المقاتلة، وسبى الذرية، وأخذ ما وجد من الأموال، ودخلوا بيت المقدس، كما قال الله عز وجل: {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} دخلوه فتبَّروه وخرَّبوه، وألقوا فيه ما استطاعوا من العذرة والحيض والجيَف والقَذَر”([97])، وقال قتادة: “قوله: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ} آخر العقوبتين {لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} كما دخله عدوهم قبل ذلك، {وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا}، فبعث الله عليهم في الآخرة بختنصر المجوسيّ البابلي، أبغض خلق الله إليه، فسبى وقتل وخرب بيت المقدس، وسامهم سوء العذاب”([98])، وقد توارد المفسرون على بيان أن المسجد في هذه الآية هو المسجد الأقصى ببيت المقدس، يقول ابن أبي زمنين: “{وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ} يعني: بيت المقدس([99])، وبه قال البغوي([100])، والنسفي([101])، وابن كثير([102])، والسعدي([103])، وغيرهم.
وتلخَّص من هذا أن المراد بالمسجد الذي كان فيه بنو إسرائيل هو المسجد الأقصى ببيت المقدس، وهو الذي تعرَّض للغزو عدة مرات، وفتحَه المسلمون زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولم يكن ثمةَ مسجد في جنوب جزيرة العرب قد تعرَّض لمثل هذا، ولا يعرف أن بختنصَّر وغيره غزا هذه المناطق، فالشواهد التاريخية مع أقوال المفسرين تواردت على كون بني إسرائيل في الشام في المسجد الأقصى، وهذا لا يعني أنَّ لهم الحقَّ في فلسطين والمسجد الأقصى، ولتفصيل ذلك مقامات أخر.
وأخيرًا:
هذه شواهد قرآنية عديدة تبيّن لنا أن بني إسرائيل كان موطنهم ما بين الشام ومصر، فقد كانوا في الشام مع يعقوب عليه السلام، ثم انتقلوا إلى مصر وبقوا هناك فترة طويلة حتى أخرجوا منها وعادوا إلى الشام، وكلّ الآيات تثبت أن هذه المواطن هي مواطن بني إسرائيل، وليس لهم أيّ وجود في جنوب جزيرة العرب، ولم يذكر الله ذلك في كتابه، ولم يَثبُت ذلك بدليل قطعي ولا ظنّي، وهذه الأدلة التي ذكرناها من الكتاب والسنة قطعية الثبوت وقطعية الدلالة، وهي تبين لنا موطن بني إسرائيل بالدقة.
ولا يثبُت للمتخرِّصين أيّ دليل على أن مصر المذكورة في القرآن ليست مصر المعروفة، وإنما هي مصر من الأمصار، وأن المقصود جنوب جزيرة العرب؛ ذلك أن من عرف أسلوبَ القرآن وأسلوبَ خطابه يدرك أن الظاهرَ من القرآن هو المراد، وأنه لو كان المراد غيرَ الظاهر لبيَّن ذلك، أو بيَّنه نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، لكن لا توجد إشارة واحدة تشير إلى أن المراد بمصر غير المصر المعروفة.
وبهذا يتبين لنا أنه لا مسوِّغ لأحدٍ بأن يدَّعي أن مصر المذكورة في القرآن والسنة هي غير مصر المعروفة الآن، وعليه فإنه لا ينبغي لمن يقول: إن بني إسرائيل عاشوا في جنوب الجزيرة العربية أن يوردوا بعض الأدلة فقط كتشابه الأسماء والنباتات وغيرها، وإنما يجب عليهم أن يأتوا بدليل صريح من الكتاب أو السنة مقابل كل هذه الأدلة التي ذكرناها، وأنى لهم ذلك؟!
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) تفسير ابن كثير (1/ 241).
([2]) أخرجه الإمام أحمد (2471).
([3]) ينظر: تفسير الطبري (1/ 24).
([4]) ينظر: تفسير الطبري (1/ 24).
([7]) تفسير الزمخشري (2/ 453).
([8]) تفسير ابن كثير (4/ 378).
([10]) تفسير الطبري (16/ 265).
([12]) ينظر: تفسير الطبري (16/ 275).
([13]) تفسير الطبري (16/ 275).
([14]) تفسير القرطبي (9/ 267).
([15]) تفسير ابن كثير (4/ 412).
([16]) تفسير الطبري (15/ 171).
([17]) ينظر: التفسير من سنن سعيد بن منصور (5/ 329).
([20]) تفسير القرطبي (8/ 371).
([22]) تفسير الزمخشري (4/ 257).
([24]) تفسير أبي السعود (8/ 50).
([25]) تفسير ابن عطية (5/ 59).
([26]) ينظر: تفسير الطبري (2/ 125).
([28]) ينظر: تفسير الطبري (2/ 134).
([29]) ينظر: تفسير البغوي (1/ 123).
([30]) ينظر: تفسير السمعاني (1/ 86).
([32]) تفسير الطبري (18/ 210).
([34]) تفسير أبي السعود (5/ 270).
([36]) ينظر: تفسير الطبري (19/ 22).
([37]) ينظر: تفسير الطبري (19/ 22).
([39]) تفسير ابن كثير (5/ 471).
([40]) معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع (3/ 897).
([41]) مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع (2/ 567).
([42]) مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع (2/ 896).
([43]) مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع (2/ 768).
([44]) الروض المعطار في خبر الأقطار (ص: 397).
([45]) الكامل في التاريخ (1/ 169).
([46]) ينظر: الكامل في التاريخ (1/ 174).
([47]) أخرجه الحاكم (4032)، وقال عنه: “هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه”، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1374).
([48]) أخرجه الطبراني في الكبير (561)، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (3113).
([49]) رحلة بني إسرائيل إلى مصر الفرعونية.. والخروج (ص: 64).
([52]) شرح النووي على صحيح مسلم (18/ 20).
([54]) تفسير أبي السعود (3/ 262).
([56]) ينظر: تفسير الطبري (13/ 76)، تفسير ابن كثير (3/ 466).
([57]) ينظر: تفسير الطبري (13/ 77).
([58]) تفسير السمعاني (2/ 209).
([60]) تفسير الزمخشري (2/ 149).
([61]) تفسير القرطبي (7/ 272).
([64]) تفسير الطبري (19/ 516).
([66]) تفسير السمعاني (4/ 120).
([68]) تفسير البيضاوي (4/ 171).
([70]) تفسير أبي السعود (7/ 2).
([71]) تفسير ابن كثير (1/ 258). وينظر: تفسير أبي السعود (3/ 257).
([72]) ينظر: تفسير الطبري (16/ 265)، تفسير الزمخشري (2/ 505).
([73]) ينظر: تفسير السمرقندي (2/ 299).
([74]) انظر: تفسير الثعلبي (6/ 55)، وتفسير السمعاني (3/ 214)، وتفسير الرازي (20/ 292).
([75]) تفسير الماتريدي (7/ 3).
([76]) تفسير القرآن العزيز (3/ 5).
([78]) تفسير السمعاني (3/ 214).
([80]) تفسير الرازي (20/ 292).
([84]) تفسير الرازي (20/ 292).
([89]) أخرجه الحاكم (4407) وقال: “هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه”، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (306).
([94]) الروض المعطار في خبر الأقطار (ص: 68).
([96]) ينظر: دلائل النبوة للبيهقي (2/ 395).
([97]) ينظر: تفسير الطبري (17/ 373).
([98]) ينظر: تفسير الطبري (17/ 377).
([99]) تفسير القرآن العزيز (3/ 13).
([100]) تفسير البغوي (3/ 123).
([101]) تفسير النسفي (2/ 247).