الدعوة النجدية وتهمة البداوة (3) الوهابيَّة والموقف من المدَنيَّة والحضارة
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
يزعم المنتقدون أنَّ الدعوةَ الوهابية اتَّخذت موقفًا سلبيًّا من التمدُّن؛ وذلك لعدَّة عوامل منها: (بداوة البيئة وفقرها الفكريُّ، ورفضها للعقلانية والفلسفة، وتمسُّكها بالسلفية الحنبلية المعظِّمة للنصوص، مع الحذر الشديد من الوافد الغربي)([1]).
ويرى أصحابُ هذا الاتجاه أنَّ الوهابية كانت (محكومةً بأوضاع بيئتها البدويَّة) من جهة، ومن جهة أخرى فإنَّ (المنهج النصوصيَّ الذي ورثته عن الحنبلية جعلَها تُسقط من تراثنا الإسلامي والحضاريّ المنهج العقليّ وعلومه وما تأسَّس عليها من تمدن)([2])، وأن الموقف السلفيَّ الذي تبناه النجديّون من عقلانية اليونان هو الذي دفعَهم لرفض عقلانية المسلمين، الأمر الذي أدى بهم إلى رفض (التمدن عامة كجزء من رفض ذلك التمدن الغربي الذي كان يتسلل إلى عالم الإسلام من تلك الثغرات التي فتحها الغرب في جدار آل عثمان)([3]).
ويؤكِّد المنتقِدون على أهمّية الفلسفة ويأخُذون على النجديِّين النفرة منها وإهمالها، (فلا يصحُّ لدعوة إصلاحيَّةٍ أن تنكر فائدتها أو أن تتجاهلها)، ذلك أنهم يرونَ الفلسفة الحديثة أصبحَت (عمليَّة ظاهرة النفع) في حياتنا بعد أن لم تلك كذلك في القديم([4]).
ونتيجة لفقر الفكر الفلسفي عند أعلام الدعوة النجدية فقد أصبح إسهامها على (الجبهة الحضارية متمثلًا في رفض التبعية الفكرية للغرب، مع العجز عن الإبداع في بلورة البديل وتطويره)([5]).
الموقف السلبي للوهابية من التمدُّن.. مناقشة وردّ:
هذه خلاصة ما يردِّده المنتقِدون للدعوة النجدية في سياق اتهامِها بالعجز عن الارتقاء في مدارج المدنية، وبالتخلُّف عن ركب الحضارة الحديثة، وإن كان بعضُهم يشكر لهم جهودَهم في الإصلاح الديني([6]).
والجواب عن هذا من عدة وجوه:
أولًا: لا يختلِف موقف الدعوة النجديَّة من مسألة التمدُّن والتقدُّم عن موقفِ الإسلام، فهما يصدران من منطلق واحد، والذي يرى في الإسلامِ دينًا متقبِّلًا للمدنيَّة سيكون مُلزَمًا بعدم انتقادِ الدعوة النجدية في هذا الشأن، بل الإنصافُ يقتضي الثناء على هذه الدعوة وما قدَّمته في سبيل ارتقاء الأمَّة نحو المدنية الصحيحة.
جاءت معظم نصوص الوحيين لتؤكِّد أهميةَ التمسُّك بالدين ووجوب إقامته في حياة المسلمين نظامًا عامًّا يشمل كافَّة جوانبها ومجالاتها، أما الشأن الدنيويُّ فقد تركت الشريعة المجال مفتوحًا لاختيار الأصلح والأنفع من الوسائل ما لم يعارض ذلك نصًّا شرعيًّا أو مقصدًا دينيًّا، مع التأكيد على أن الدنيا ليست إلا معبرًا للآخرة، والتحذير من الاغترار بها والركون إليها والغفلة عن القضية الأهم وهي: الاستقامة في الدنيا لإدراك النجاة الأخروية.
فمستوى الاهتمام بالدّنيا وشؤونها في نصوصِ الوحي ومعانيه لا يتناسب مع الاهتمام بقضيَّة العبادة والاستقامة والمصير الأخرويّ، والتي أخذت موقعًا مركزيًّا جوهريًّا تتضاءل معه كل الاهتمامات والقضايا الأخرى.
تجسَّد هذا التصوُّر في تفاعل الصحابة وأهل القرن الإسلامي الأول مع المدنيات الأخرى التي احتكّوا بها بعد خروجهم من الجزيرة العربية، فلو تساءلنا عن درجة التمدّن التي وصل إليها الصحابة في حياتهم، وكيف تفاعلوا مع الثقافات وأنماط العيش الجديدة التي خالطوا أهلها، وكيف نظروا للعالم الذي لم يعرفوه من قبل بعدَ استقرارهم في بلاد العراق والشام ومصر وفارس، والتي كانت تتفوَّق في مدنيتها وعلومها على الأوضاع البدائية في الجزيرة العربية؛ لوجدنا أنه لم يؤثر عن الصحابة كبيرُ اهتمام بتغيير نمطِ الحياة والسير في ركاب المدنية التي لم يعرفوها من قبل، بل عرف عنهم خلاف ذلك كالحذَر من التعلُّق بالدنيا والزهد فيها والتمسُّك بسنة الأولين، والإنكار على من تغيرت أحوالهم بالتوسُّع في الدنيا والتأثّر بنمط المعيشة الجديدة وثقافة الأعاجم من أبناء الحضارات التي قهرها الإسلام.
والمغرمون بالتأريخ للحضارة والمدنية الإسلامية لا يمكنُهم شمول القرن الهجريّ الأول بالكثير من التفصيل عن مظاهر الحضارة ووجوه التمدّن في الحياة الإسلامية آنذاك.
ثانيًا: من يطرح قضية التمدّن والحضارة فإنَّه يتَّخذ التمدُّنَ والتطوُّرَ الأوربيَّ معيارًا ونموذجًا، والتمدن الغربيُّ كان ثمرةً لجملة من التحوّلات الفكرية الدينيّة والسياسية والاجتماعية التي تركت أثرها في جميع خصائص النهضة الأوربية، فهي نهضة قامت على أنقاض الدّين وتراث المسيحية، وما نشأ عن ذلك من تغيّر في منظومة القيَم وطريقة التفكير والنظرة للحياة، بعبارة أخرى: فإن الطبيعة العلمانية الدنيويّة للتمدّن الغربي تؤثّر في تحديد مقاصدها ووسائلها وتحديد وجهتها بطريقة تجعَل الاقتباسَ منها أو التأثر بها غير ممكن إلا بالتأثر بكامل المنظومة الثقافية الصادرة عنها.
أما المدنية الإسلامية فعلى الضّدِّ من مدنية الغرب، فقد قامت على أساس الدين والوحي، وارتبطت نهضتها بهذا الأساس، فجاءت على طراز خاصٍّ لا يشبهها شيء من المدنيات والحضارات الوضعيَّة، فهي محكومة بالغاياتِ والمقاصد العامة للوحي الإلهي، وبالوسائل والآليات الخادمة لتلك المقاصد([7]).
ثالثًا: لم تظهر دعوة الإصلاح السلفيّ في نجد كردِّ فعل على تفوّق الغرب وانحطاط شأن المسلمين، ولم تتحرَّك في واقعها على وقع الصدمة الحضارية، ولم تنبهر بقوة الغَرب، وجعلت ذلك عقدةً توجِّه مسيرتَها وتتحكَّم بنظرتها لدينها ودنياها، بل كانت الدعوة النجدية مبادرةً إلى إصلاح واقعها انطلاقًا من رؤية عملية واقعيَّة، حيث سارعت إلى تنفيذ برنامجها مستهدِفة أكبر مواطن الخلِل ومكامن العِلَل في الحياة الإسلامية آنذاك، فاتَّجهت إلى الإصلاح الدينيِّ انطلاقًا من مركزية الدين في نهضة الأمة، ومن ضرورة صيانة العقل وتطهيره من أدران الخرافة والجهل وكلِّ ما يعيق تقدمه.
فالفارقُ بين النجديِّين وغيرهم من دعاة المدنية هو الفارق بين المجتهِد والمقلِّد، المجتهد الذي يختار الحلولَ الملائمة للمشاكل والتحديات التي يواجهها، والمقلِّد الذي يلجأ لحلول مجرَّبة في غير بيئتها ملائمة لغير ظروفها؛ ظنًّا منه أنها صالحة لكلّ زمان ومكان، فالمدنية الغربيَّة هي النموذج الذي اختطَف ألبابَ طائفة من الإسلاميّين، فعابوا على النجديّين بداوتهم وعجزهم عن مواكبة الحضارة، والواقع أنهم وقَعوا فيما رمَوا به غيرهم من التقليد والجمود.
فالإصلاح السلفيُّ هو ثمرة الحاجَة إليه، ونتيجة للتحدِّيات التي يسعَى لمواجهتها، كما أنه مرهون بطبيعة الحياة الاجتماعيةِ والحالة الفكرية السائدةِ في عصره وبيئتِه، أما التطلُّع للتمدُّن ومجاراةُ الأمم الغربيّة قبل تحقُّق الشروط الواجبة، والإصرار على تجاهل المعضلات المقيدة للانطلاق والنهوض؛ فإنَّ ذلك لا يدلّ إلا على جهلٍ بالنهضة وأسبابها وسبل تحقيقها، ومجرَّدُ الحديث عن المدنيّة ومحاسنها ليس خطَّةَ عمل أو مشروع نهضَة، بل هو اغترار بالظاهر وانبهار بالمظاهر، دون معرفة المساوئِ والمآخذ، ودون النظر فيما يصلح وما لا يصلح، ودون التمييز بين ما يلائم الواقع وما لا يلائم.
رابعًا: ليس مطلوبًا من حركةِ الإصلاح الديني أن تخطوَ بالمجتمع نحو المدنيَّة أو أن تحقِّق نهضة دنيويَّة شاملة؛ إذ حسبها أنها تمهِد السبيل وتوجِد الأرضية للتحوّل التدريجيّ نحو التمدّن والحضارة، وهذا ما فعلته الدعوة النجدية؛ إذ إنها قامت بإعادة الدّين إلى حقيقته الأولى وأصوله الصافية، وهذا التجديد والإحياء للدين الصحيح هو السبيل الوحيد لتمكينه من سلوك درب المدنيّة الصحيحة، فالدعوة النجديَّة حقَّقت الشرط الضروريَّ لاستعادة المدنية، وهيَّأت الظروف المطلوبةَ لذلك؛ من خلال استعادة الدين الصحيح وتحرير العقل المسلم من أغلال الخرافات وكلِ الأفكار والفلسفات المعارضة للوحي.
خامسًا: لم تكن حركة الإصلاح الديني البروتستانتي هي السبب في ترقّي البلاد الأوربية في مدارج المدنية والتقدّم، لكنها كان محطَّةً هامة في درب النهضة الأوربية الحديثة، فالذين يأخذون على الوهابية عدمَ إسهامها في التمدن وتأخرها في هذا الجانب لا يدركون حقيقةَ الإصلاح الديني ومهمَّته ومسؤوليته ونطاقَ تأثيره من جهة، كما أنهم لا يدركون دورَ هذا الإصلاح في نهضة الأمة الغربية، والتي يتخذونها نموذجًا ينشُدون محاكاتَه والوصول إليه.
فالنهضة شأنٌ تكامليّ ومحصلة لمختلف الجهود على مختلف الأصعدة والجوانب، فلا تستقلّ جهة دون أخرى بالمسؤولية عن التقدم، ولا يُحمَّل المصلحون الدِّينِيّون أوزارَ غيرهم ممن تأخَّروا عن مواكبة التطوّر العلمي والأخذ بأسباب المدنية النافعة، بل ينبغي أن يُشكر للمصلحين مبادرتُهم وإسهامُهم الكبير في إصلاح العقل وتطهير الدّين مما لحق به.
سادسًا: بالرغم من عدَم مسؤوليَّة حركة الإصلاح الديني عن تقدُّم الأمة في المجالات الدنيوية، فإنَّ الدعوة النجديَّة حقَّقت إنجازًا كبيرًا على هذا الصعيد؛ وذلك حينما تمكَّنت من فرض الأمن والنظام في أرض خضَعت دهرًا طويلًا لمنطق الاقتتال القبليّ والغزو والنهب والفوضَى، فأنهت هذه الحالة الجاهلية، وحاربت اللُّصوص وقُطّاع الطرق، ثم حكَمت بالشرع الإسلامي في أرض اعتادت حكم القبائل وأعرافها، والأهم من ذلك أنها قضت على مظاهر الشرك والوثنية، وحاربتها في الوقت التي ظلَّت هذه المظاهر قائمةً في معاقل المدنيَّة كبغداد ودمشق وحلب والإسكندرية والقاهرة وفاس ومراكش وتلمسان.
فقيام الدَّولةِ السعودية الأولى في جزيرة العرب ونجاحُها في بسط الأمن والنظام وإقامة الدينِ وقمع الشرك إنجازٌ غيرُ مسبوق، لم يعرفه تاريخ الإسلام في هذه الجزيرة منذ قرون، وهو إنجاز نوعيٌّ عجَز أهل المدن والحواضر عن مثله أو ما يقاربه.
سابعًا: لم تتَّخذ الاتجاهاتُ المنتقِدة للدعوة النجديَّة أيَّ خُطّة عمليّة للتحوُّل نحو المدنية، بلِ اكتفت بالتنظير والكلام العامّ حول هذا الشأن، والسبب في ذلك أن منشأ الجدل حول هذه القضيَّة هو الانبهارُ بما حقَّقه الغرب في هذا المضمار، دون النظر لما يلاءم الأمة الإسلاميةَ من عوامل النهوض، واتخاذُ التمدُّن الأوربي نموذجًا معياريًّا وحالة مثاليَّة ينبغي الوصول إليها، فالتفكير بهذا الاتجاه هو الذي جعل الحديثَ عن التمدّن والمدنية محصورًا في الكتابات والخطب المنَمَّقة دون أن يتحوَّل إلى برنامج عمليٍّ يناسب الحالة العربية الإسلاميَّة ومشاكلها وعللها والآفات المترسِّخة فيها.
في مقابل التنظير والكلام الإنشائي لدعاة المدنية والذي لم تتجاوَز أصداؤُه أوساط الأقلية المثقفة، فإن الدعوة النجدية أحدثت تغييرًا كبيرًا في واقعها ومحيطها على المستوى الديني والفكري والسياسي والاجتماعيّ، فضلًا عن تأثيرها الفكريّ العابر للحدود، والذي امتدَّ من أقصى الشرق في بلاد الهند وحتى أقصى بلاد المغرب.
فالفارق بين الدعوة النجدية وبين منتقديها من دعاة المدنية أنَّ الأولى تحركت في واقعها، فأحدثت تحوّلات كبرى على كافَّة الأصعدة خاصَّة الديني والاجتماعي والسياسي، أما دعاة المدنية فبقيت أفكارهم حبيسةَ الكتب والأوراق، وهي نتيجة طبيعيَّة، فالبقاء للأنفع والأصلح، وما كان واقعيًّا مراعيًا ظروف البيئة الاجتماعية وحاجاتها، دون المثالية المتعالية على ذلك كله.
ثامنًا: أنَّ الدعوة النجدية حورِبت كثيرًا منذ ظهورها، واجتمَع عليها الخصوم من كلِّ جانب؛ محاولين وأد أفكارها والحدَّ من انتشارها، ونالها من الأذى ما لم ينَل أيَّ حركة إصلاحية في تاريخ الإسلام، فكيف يُرجى ويُنتظَر من دعوة إصلاحية معارِضة لتيار الأكثرية مطوقةٍ بالأعداء أن تنشرَ أفكارها؟! وكيف يُعاب على الدعوة عدمُ انتشارها في الآفاق وقد اشتدَّ الأعداء في محاربتها وقصدوها بالجيوش في عقر دارها حتى دمروا مركز انطلاقها؟!
لكن بالرغم من شدة ما واجهته الدعوة النجديَّة من صنوف العداء، إلا أنها تمكَّنت من الانتشار في المدن الإسلامية الكبرى؛ حيث تلقَّاها المثقفون الإصلاحيون بقبولٍ حسن، وأثنوا عليها، ونافحوا عن أهلها، فالذي يتَّهم الدعوةَ النجدية بالعجز عن اختراق الحواضر والمدن لبداوة أفكارها يتجاهل بطريقةٍ أو بأخرى ما ابتُلِيت به الدعوة من عداوة الخصوم وكيدِهم، كما أنه يتجاهل أثرَها الواضح في فكر النُّخَب المتديِّنة التي تمرَّدت على واقع الجمود والتخلُّف الطاغي على الحياة الدينية آنذاك.
تاسعًا: قدمت الدعوة النجديَة إصلاحًا كبيرًا للعقل والدين في الحياة الإسلاميَّة، وتحرَّكت في واقعها، فأحدثت تغييرًا كبيرًا، بينما قعد غيرها عن العمل، واكتفى بالتنظير، أو انشغل بنقد منجزاتها، فلم يشاركها النضال من أجل الإصلاح الدينيّ، ولم يقدِّم شيئًا على صعيد التقدُّم الحضاري والتطوُّر العلميّ.
وفي هذا السياق ينتقد العالم الأزهريُّ عبد المتعال الصعيديّ الموقف السلبيَّ للأمم الإسلامية المتحضرة من الإصلاح النجديّ؛ حيث (إنها لم تقم بمناصرتِه وطلب المزيد من الإصلاح، بل وقفَت منه موقفًا غيرَ كريم، وقاومته بكل ما فيها من قوة جمودٍ على القديم، حتى وصل الأمر إلى قيام حروبٍ زادت في تفريق كلمة المسلمين)([8]). وهذا كلام أحد المنتقِدين للدعوة النجديّة لما يراه قصورًا في جهدها الإصلاحيّ بسبب بداوتها.
لقد مهَّدت الدعوة النجدية الطريق للمسلمين للقيام بنهضة دنيويَّة موازية لنهضتها الدينية، لكنها كانَت سابقةً لزمانها متقدِّمةً في وعيها على أبناء عصرها، فتخلَّفوا عن ركبها، ثم قاموا عليها ينكرون إصلاحها ويرمونها بالزَّندقة والمروق منَ الدين، وصدق فيهم قول إيليا أبو ماضي:
أوَكُلَّما جاء الزمان بمصلح في أهله قالوا: طغى وتَزندقَا
فكأنما لم يكْفه ما قد جَنوا وكأنما لم يكفهم أن أخفَقَا
هذا جزاءُ ذوي النُّهى في أمة أخذ الجمود على بنيها موثقا([9])
فليس الخلل في قصور الإصلاح الدينيّ السلفي، وإنما في قصور العقليات المعاصرة له عن الاستفادة منه في الجوانب الأخرى من الحياة الإسلامية آنذاك.
وحينما يطالب بعض الفضلاء الدعوةَ الوهابية بمواصلة الإصلاح للوصول إلى ما وصلت إليه أوربا من النهضة والتقدم، وعدم الاكتفاء بهدم القباب والأضرحة([10])؛ فإنه يتجاهل حقيقة أن الأكثرية المخالفة للوهابية لم تتَّفق معها على مبدأ محاربة القبوريَّة، بل كانوا يقاتلونها من أجل بقاءِ هذه الأضرحة، فكيف تقود الوهابيَّة مسيرة النهضة وأكثر المعاصرين لها لا يؤمِنون بأولويات هذه النهضة ومقدماتها الضرورية؟!
فالخلل ليس في العقلية البدوية لمصلحي نجد وقصورُها عن التطلّع للتمدّن الأوربي، بل الخلل في العقلية المتحضِّرة التي الذين ثارت في وجه الإصلاح النجدي لإبقاء الحالة الدينية والدنيوية على تخلفها وتدَنِّيها.
وإن أردنا التنزّل وتوجيه شيء منَ الملامة للدعوة النجديَّة في هذا السياق، فإنه قبل البحث عن أهلية النجديّين للتحرك نحو المدنية، ينبغي البحث عن القابليَّة والاستعداد لهذه المدنية عند المخالفين لهم.
عاشرًا: لم تقدِّمِ الدعوة النجديةُ خطَّة نهضوية شاملة لجميع مناحي الحياة حتى يمكن تقييمها والحكم على منجزاتها سلبًا أو إيجابًا، أو أن يقال: إنها نجحت في الإصلاح الديني وفشلت على جبهة التمّدن والتقدّم الحضاري.
فليس من العدل مطالبةُ الدعوة بإسهاماتٍ في التطوّر العلميّ والصناعي وتحديث الأنظمة الإدارية والسياسية والاقتصادية([11])، فكل ذلك ليس من مجال اختصاصها أو محل اهتمامها، والذي كان منصرفًا بالدرجة الأولى لإصلاح الدين، وإنقاذ أهله من الوثنية، ومقاومة التيار المؤيد لها.
فالدعوة جعلت الأولوية لمحاربة الشرك والخرافة، واسترداد الإسلام الأول الذي جاء به الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، فهي دعوة إصلاح ديني، هذه حقيقتها وهذا وصفها، وما حقَّقته من إنجازات فكريةٍ وسياسية واجتماعية في الجزيرة العربية والعالم الإسلامي فكلّ ذلك زائد على دورها ومهمَّتها التي تصدَّت لها، وهي بطبيعة الحال نتيجةٌ حتمية لارتباط النهضة الدنيوية بالاستقامة الدينية عند المسلمين.
والتهوين من أثر الإصلاح الديني في نجاح النهضة الدنيوية جهلٌ بشروطها الضرورية ومقدماتها الأساسية، خاصَّة في أمة العرب المسلمين التي قام وجودها وكيانها ونهضتها على أساس دينيّ، فمن العَبَث الاشتغال بأيّ إصلاح دنيوي وإهمال شأن الدين.
لذا ينكر (Lothrop Stoddard) على الذين (اتخذوا الوهابية دليلا على أن الإسلام بجوهرِه وطبائعه غير قابل للتكيّف على حسب مقتضيات العصور ومماشاة أحوال الترقي والتبدّل، ويرى أنَ نقدهم هذا لا مسوِّغ له؛ إذ قد فاتهم أن الدورَ الأول لكل إصلاح ديني إنما هو الرجوع إلى حالةِ أصل ذلك الدين المراد إصلاحه، والاستمساك به على حاله الأولى استمساكًا لا يحتمل نقدَ ناقد ولا اتهام متهم، فالمصلح الدينيّ لا يرى سبيلًا للقيام بالإصلاح وبلوغ الغاية إلا بنسخ جميع البدع والأوهام اللاصقة بالدين، دون اعتبار صفاتها وماهيتها)([12]).
حادي عشر: عظّم المنتقِدون من شأن المنهج العقليّ والفلسفة كأداةٍ لبلوغ التمدّن والحضارة، وأخذوا على النجديّين رفضَهم للمنطق اليوناني والفلسفة والعقلانية الإسلامية، والذي تبعه رفضٌ لكل مظاهر التمدن الغربي الوافد.
وهذا الكلام يؤكد أن دعاة المدنية لا يدرِكون حقيقةَ ما يقولون، وأن حديثهم ناشئٌ من الانبهار والإعجاب الشديد بما حقَّقه الغرب من تقدّم علميّ، دون معرفة السبيل لاتباع آثارهم وبلوغ ما بلغوا من الرقي والتحضر.
فموقفُ الدعوة النجدية من الفلسفة والمنطق هو موقفُ السلف الأوائل، وهي قضية مرتبطة بمسائل العقائد والتصوّرات الدينية، ولا شأنَ لها بالعلوم الدنيوية الطبيعية، فلم يكن للسلف قديمًا أو حديثًا موقفٌ سلبيّ من العلوم النافعة أيًّا كان مصدرها.
ولم يكن الاهتمام بالفلسفة والمنطق وعلم الكلام في التاريخ الإسلامي عاملا من عوامل بناء الحضارة، ولم يُثمر الاهتمام بهذه المباحث تقدمًا علميًّا عاد نفعُه على المسلمين والبشرية في ذلك الزمان، بل الأمر على العكسِ من ذلك؛ إذ لم يدخل على المسلمين من الخوض في هذه الأمور إلا الفتن والتفرّق والاختلاف المذموم والتعصّب واضطهاد المخالِف والاستنصار بالسّلطة السياسية وزجّها في الخلافات العقائدية المذهبيّة، بعبارة أخرى: فإن هذه المباحث أحدثت في أمة الإسلام حالةً مشابهة للأجواء السائدة في أوربا قبل عصر الأنوار، والتي طغى عليها التعصّب الديني وتكفير المخالف والتحالف بين السياسة الظالمة والمذهب الديني الفاسد، وغيرها من مظاهر الجمود والانغلاق الفكريّ التي نبذتها أوربا في طريق نهضتها الشاملة.
وكما أنَّ نهضة المسلمين الحضاريّة لم تعتمد على الخوض في منطق اليونان وعلم الكلام، فإن أوربا في نهضتها الحديثة لم تعتمِد على هذه المباحث، فليس هناك علاقة مباشرة أو غير مباشرة بين الأمرين: علوم الإغريق القدماء والثورة العلمية الصناعية، فروَّاد العلم الحديث نبذوا منهجيَّة أرسطو ونظرياتِه في عدد من المجالات العلمية.
أسس النهضة المدنية في دعوة الإصلاح الديني:
غالبًا ما يتمحورُ الحديث عن الدعوة السلفية النجدية على مبادئها الدينية، فالغالب على صبغتها هو الإصلاح الديني، لكن الدعوة لم تراوِح في مكانها ملتزمة نمطًا واحدًا من النشاط الدعويّ والنضال الفكري ضدَّ خصومها، بل تحركت في واقعها ونهضت بها قوة سياسيّة تبنَّت مبادئَها واصطدمت بخصومها، ونتج عن انتصارها تحوَّلات مهمة أسست لنهضة شاملة للجزيرة العربية في التاريخ المعاصر.
يرى بعض المؤرخين أن ظهورَ الدعوة الإصلاحية كان معبرًا عن تطلع الحاضرة النجدية إلى الاستقرار الأمني وقيام سلطة مركزية موحَّدة تُنهي حالة التشرذم والاقتتال المستمر بين الإمارات الصغيرة، وتوقِف هجمات البدو وغاراتهم على القرى والمدن، وتؤمِّن الحماية للنشاط التجاري بين نجد والأقطار المجاورة([13]).
وهذا التغيير المنشودُ لم يكن ليحدثَ لكثرة التحديات المعيقَة له، ومن أهمها القضاء على سلطة القبيلةِ التي فرضت نفوذَها وسطوتها على الحواضر، وتحويل ولاء أبناء القبائل لكيان سياسيّ آخر، فالقبيلة كنظامٍ سياسيّ اجتماعي مناهض لمفهوم الدولة المركزية.
حققت الدعوة الإصلاحية هذا التغييرَ، فتمكَّنت من القضاء على الانحطاط الديني والانقسام السياسيّ، فتقلَّص نطاقُ الفوضى، وعبّرت الدعوة بهذا الإنجاز عن طابعها التقدمي([14]).
انطلقت الأفكار السلفية من إقليم العارض، وهو من أقدم مراكز الاستقرار الحضرية في نجد([15])، وقادها فقيهٌ حنبليّ ينتمِي لأسرة علمية لها مكانتها العلميَّة والدينية في بلادها، كان سلفيًّا في تفكيره الديني والسياسي، فاتَّبع المنهجَ النبويَّ في طلب الدعم من القوى المحلية لإسناد المبادئ الدينية الجديدة، فظفرت به الدرعية، فأقامت الدولة ونصرت الدعوة، وعلى هاتين الركيزتين (الدعوة والدولة) تأسست النهضة المدنية للجزيرة.
فالدعوة الدينية بطبيعتها مناهضة للبداوة بنظمها وكثير من تقاليدها وقيمها، وتعززت الرغبة في محاربتها والقضاء عليه بحدة الانحراف الديني بين أهلها؛ حيث وصلت في بعض الأحيان إلى حدَّ إنكار الأركان الاعتقادية وترك الفرائض الدينية كالصلاة والزكاة والصوم، فضلا عن الاحتكام إلى قوانينهم وأعرافهم دون الاحكام إلى الإسلام.
أما الدولةُ فكانت الدعوةُ هي الوسيلة لتغيير واقعها وإحلال نظام جديدٍ محلَّ النظام القديم القائم على فساد الأوضاع الدينية بسبب تشوُّه معالم العقيدة، وضعف الالتزام المجتمعي بالواجبات والفرائض، والانقسام والصراع بين القوى المحلية، والاضطراب الأمني، وضعف الاحتكام للشريعة وقلة الالتزام بأنظمتها، فجاءت الدولة الجديدة لتؤسِّس نظامًا قوامه: التوحيدُ والشريعة والأمن والنظام والاستقرار، وحلَّت الهوية الدينية والولاء للدعوة وقيادتها السياسية محل الولاءات القبلية، وأنتجت واقعًا لم تعرفه الجزيرة منذ قرون.
لذلك ينبه (Planhol) إلى ضرورة (عدم التسرع في الحكم بأن الدولة السعودية ما هي إلا إمارة من بين تلك الإمارات المستقرة والعابرة التي يفرزها عالم البداوة باستمرار، فالحركة الدينية القوية والمتشدِّدة التي شكَّلت أساس الدولة وفَّرت لها لُحمةً أَمتنَ بكثيرٍ من روح الهيمنة وحدها، كما حدث تحوُّل سريع إلى مَلَكِية مستَقِرّة بكلّ المعايير، واضطرَّت القبائل إلى الرضوخ لهذا القانون الصارم)([16]).
وحركة التحضر التي قادتها الدعوة النجدية أوجدَت حركةً علمية نَشِطة في نجد، لكن الظروف السياسية طيلَةَ القرن التاسع عشر حالت دون نموِّها واتساع تأثيرها، ثم جاء الملك عبد العزيز الفيصل آل سعود رحمه الله مستأنِفًا عمل الأوَّلين في النهضة الدينية والمدنية؛ ذلك أنَّ (منزع النجديّين في الدين منزعُ إصلاحٍ وترقية وتنقِيَة، ومشربُه بعيد بالمرة عن الخرافات، فهو مشرَب إصلاحيّ مستحبّ جدًّا في العصر الحاضر.
وإذا سألت الأوربيين أنفسهم، قالوا: إن مثل هذا المشرب هو الذي فكَّ قيود الأفكار وحلِّ عِقال العقول في أوربا، وكان فاتحةَ عهد الارتقاء، وكثيرا ما أطلق الأوربيون على الوهابيّين: بروتستان الإسلام.
فالوهابيّون يقبلون كلَّ إصلاح ما لم يصادم الدينَ، والعلمُ والدينُ لا يتصادمان في الحقيقة إلا عند من لم يحسن فهم كلٍّ منهما). هذه رؤية الأمير شكيب أرسلان للنهضة الوهابية([17]).
ويذهب (Wilfred blunt) إلى أن التحضّر الإسلامي في الوقت الحالي إنما هو نتيجة غير مباشرة لحركة محمد بن عبد الوهاب([18]).
الشيخ محمد عبده ينتقد الوهابية أم ينتصر لمنهجها؟
نسب بعضُ الباحثين كلامًا لمحمد عبده (الشيخ الأزهريّ المعروف) ينتقد فيه الوهابية لعدم وِفاقهم في إصلاحهم مع التمدّن والتقدّم، وأنهم (لم يكونوا للعلم أولياءَ، ولا للمدنية أحبَّاءَ)([19]).
لكن الشيخ محمد عبده نفسُه ينتقد دعاةَ مجاراةِ الأمم المتقدِّمة دون الأخذ بأسباب والتقدّم، ودون تهيئة النفوس والعقول وتربيَتِها وتأهليها لبلوغ تلك الأحوال الراقية في النهضة الدنيوية.
ومما كتبه في ذلك: (إنَّ كثيرًا من ذوي القرائح الجيِّدة إذا أكثروا من دراسة الفنون الأدبية ومطالعة أخبار الأمم وأحوالهم الحاضرة تتولَّد في عقولهم أفكار جليلةٌ، وتنبعث في نفوسهم همم رفيعة، تندفع إلى قول الحقِّ وطلب الغاية التي ينبغي أن يكونَ العالم عليها، ولكونهم اكتسبوا هذه الأفكار وحصَّلوا تلك الهمم من الكتب والأخبار ومعاشَرة أرباب المعارف ونحو ذلك تراهم يظنّون أن وصول غيرهم إلى الحدّ الذي وصلوا إليه وسير العالم بأسره أو الأمة التي هم فيها بتمامها على مقتضى ما علِموه هو أمر سهلٌ مثل سهولةِ فهم العبارات عليهم، وقريب الوقوع مثل قُرب الكتب من أيديهم والألفاظ من أسماعهم، فيطلبون من الناس طلبًا حاثًّا أن يكونوا على مشاربهم، ويرغبون في أن يكون نظام الأمة وناموسُها العامّ على طبق أفكارهم، وإن كانت الأمَّة عدَّةَ ملايين وحضرات المفكرين أشخاصًا معدودين، ويظنون أن أفكارهم العالية إذا برزت من عقولهم إلى حيز الكتب والدفاتر ووضعت أصولًا وقواعد لسير الأمة بتمامها ينقلب بها حال الأمة من أسفل درك في الشقاء إلى أعلى درج في السعادة، وتتبدَّل العادات وتتحوَل الأخلاق، وليس بين غاية النقص والكمال إلا أن يُنادَى على الناس باتِباع آرائهم.
تلك ظنونُهم التي تحدِّثهم بها معارفهم المكتَسَبة من الكتب والمطالعات، وإنهم وإن كانوا أصابوا طرفًا من الفضْل من جهة استقامة الفكر في حدِّ ذاته وارتفاع الهمة وانبعاث الغيرة، لكنهم أخطؤوا خطأً عظيمًا من حيث إنهم لم يقارنوا بين ما حصَّلوه وبين طبيعة الأمة التي يريدون إرشادَها، ولم يختبروا قابلية الأذهان واستعدادات الطباع للانقياد إلى نصائحهم واقتفاء آثارهم، ولو أنهم درسوا طبائع العالم كما درسوا كتب العلم، ودقَّقوا النظر في سطور أخلاقه وعاداته الحقيقية الواقعية التي اقتضتها حالة وجوده، بل لو قارنوا بين الحوادث المسطَّرة في الكتب، وتبيَّنوا كيفية انتقال الأمم من بداياتها إلى نهاياتها؛ لعلموا أن الأمم في أحوالها العموميَّة كالأشخاص في أحوالها الخصوصية، بل إن الأحوال العمومية هي عبارة عن مجموع الأحوال الخصوصية، وليست الأمة مثلًا إلا مجموع أفرادها، وليس حال الهيئة المركبة من تلك الأفراد إلا مجموع أحوال هاته الأفراد.
فعلى من يريد كمال أمة بتمامِها أن يقيسَ ذلك بكمال كلّ فرد منها، ويسلك في تكميل العموم عينَ الطريق التي يسلكها لتكميل الواحد.
هل يسهل على صاحب الفكر الرفيع أن يودِعَ في عقل الطفل الرضيع أو الصبيّ قبل رشده وقبل أن يتعلَّم شيئًا من مبادئ العلوم تلك الأفكار العالية التي نالها بالجد والاجتهاد وكثرة المطالعات؟ كلا، بل لو أراد أن يجعلَ شخصًا من الأشخاص على مثل فكرِه احتاج إلى أن يبدَأ بتعليمه القراءة والكتابة، ثم مبادئ الفنون السهلة التحصيل، ثم يتدرج به شيئًا فشيئًا، حتى ينتهي بعد سنين عديدة إلى بعض مطلوبه، ثم هو في خلال ذلك محتاج إلى أن يحصر أعماله ويقيِّدها بقيود من الترغيب والترهيب، وأن يراقبَ حركاته في أعماله خوفًا من اختلاطه بفاسدي الأخلاق والأفكار أو المائِلين إلى الكسالة والبطالة أو ورود موارد الشهوات، ونحو ذلك من الملاحظات التي لا بد منها، فإنِ اختلَّ شيء من الترتيب في التعليم بأن قدَّم الأصعب على الأسهل مثلًا أو أهمل ملاحظة أعماله وأحواله اختلَّت التربية، وذهبت الأتعاب سُدًى، واستحال صيرورة حال ذلك الشخص مماثلة لحالة مرشده.
ولو أنه أراد تحويل أفكار شخص واحد وهو في سنّ الرجولية؛ هل يمكنه أن يبدلها بغيرها بمجرد إلقاء القول عليه؟ كلا، إن الذي تمكَّن في العقل أزمانًا لا يفارقه إلا في أزمان. فلا بد لصاحبِ الفكر أن يجتهدَ أولًا في إزالة الشبَه التي تمسك بها ذلك الشخص في اعتقاداته، وذلك لا يكون في آنٍ واحد ولا بعبارةٍ واحدة، ولكن بعبارات مختلفة في التقريب، بعضُها سهل المأخذ قريب المنال، والبعض أرقى منه، وبعضُها خطابي، والآخر برهانيّ، وما شابه ذلك. فإن لم يتَّخذ تلك الوسائل في إرشاده امتنَع عليه مقصودُه، بل ربما جرَّه نصحه إلى الضررِ بنفسه، تلك هي الحالة المشهودة التي لا ينكِرها أحد، ثم إنَّ نجاحه في تغيير فكر واحد مع كل هذا الاجتهاد موقوف على أنَّ صاحب ذلك الفكر الفاسِد لا يعاشر ولا يخالط في خلال تعلّمه إلا مرشدَه صاحبَ الفكر السليم، فإن كان يخالط غيره ممن يؤيِّد فكره الأول طال الزمن، وربما لم ينجح فيه الإرشاد، وأظن (أن) هذا يعترف به كلُّ من مارس الأخلاق والعادات.
إن كان هذا حال شخص واحد إذا أردنا إصلاح شأنه في صغره أو كبره، مع أنه يسهل ضبط أعماله وأحواله والوقوف على كُنْه أوصافه ودرجات تقدّمه في المقصود وتأخره فيه، فما ظنُّك بحال أمّة من الأمم تختلف عناصرها وتتباين شعوبها؟! فمن الخطأ بل من الجهالة أن تكلّف الأمة بالسير على ما لا تعرف له حقيقة، أو يطلب منها ما هو بعيد عن مداركها بالكلية، كما أنه لا يليق أن يطلب من الشخص الواحد ما لا يعقله أو ما لا يجد إليه سبيلًا.
وإنما الحكمة أن تحفظ لها عوائدها الكلية المقررة في عقول أفرادها، ثم يطلب بعض تحسينات فيها لا تبعد منها بالمرة، فإذا اعتادوها طلب منهم ما هو أرقى بالتدريج؛ حتى لا يمضي زمن طويل إلا وقد انخلعوا عن عاداتهم وأفكارهم المنحطّة إلى ما هو أرقى وأعلى من حيث لا يشعرون، أما إذا وضع لهم من الحدود ما لم يصلوا إلى كنهه، أو كلفوا من العمل ما لم يعهدوه، أو خولوا من السلطة ما لم يعودوه؛ رأيتهم يتخبطون في السير؛ لخفاء المقصود عنهم، وضلال الرأي فيما لم يكن يمر على خواطرهم، فيمكن أن يخرجوا عن حالتهم الأولى، لكن إلى ما هو أتعس منها بحكم الاستعداد القاضي عليهم بذلك)([20]).
كما كتب منتقدًا التمدُّن الزائف الذي دخَل البلادَ المصرية، فأحدث تغييرات ظاهريةً دون أن يكونَ هذا التمدّن صادرًا عن علم وفقهٍ وتجربة، ودون نظر لأحوالِ الأمم المتقدمة ودراسة أسباب تقدُّمها ونجاحها، حيث يقول: (تولَّى أمرَ هذه البلاد أناسٌ في أزمنة مختلفة، تظاهر كلّ منهم بأنه يريد تقدّمَها ونقلَها من حالة الهمجية -على ما يزعم- إلى حالة التمدّن التي عليها أبناء الأمم المتمدِّنة، وجعلوا الوسيلة إلى ذلك أن تنقل عادات أولئك الأمم المتمدِّنين وأفكارَهم وأطوارهم إلى هذه البلاد، وظنّوا أن تقليدَنا لعاداتهم وأخذَنا الآن بأفكارهم اليوميّة وتشبّهَنا بهم في الأطوار كافٍ في أن نكونَ مثلهم، وأنَّ استلامَنا لتلك العادات وتلقِّيَنا الأفكار أمر غير عسير.
لم ينظروا في الأسباب والوسائل التي توصَّل بها أولئك الأمم إلى هذه الحال التي هم عليها؛ حتى يعتدّوا مثلَها أو قريبًا منها لترقى هذه البلاد، بل ظنّوا أنّ هذه الغاية من الممكن أن تكونَ بداية، مع أن ما نرى عليه جيراننا من الممالك الغربية لم يصلوا إليه إلا بعد معاناة أتعاب ومقاساة مشاقّ وسفك دماء شريفة وثلّ عروش ملك رفيعة، وكانوا في كل ذلك يقربون من المقصود تارة ويبعدون عنه أخرى كما يرشدنا إليه تاريخهم، حتى بدلت الحوادث الدهرية طبائع الأهالي، وغيرت أخلاقهم، ونبَّهت الضرورات أفكارهم، وهذَّبت المخالطات الجهادية -العسكرية- والتجارية عقولهم.
إنَّ بداية التقدّم الأوربيِّ في الحقيقة كان في نفوس الأهالي وأفراد الرعايا، علَّمتهم الحروب الصليبية سبرَ البر والبحر، وخالطوا فيها الأمم الشرقيّة أجيالًا، وطمحت أنظارهم لمغالبتهم، فدقَّقوا في سبب قوة الشرقيين التي كانت لهم إذ ذاك، وبحثوا في أحوالهم، فرأوا لهم عادات جميلة، وفيما بينهم أفكار سامية، ورأوا في دوائر أعمالهم اتِّساعًا وأيدي الصناعة والاكتساب مطلقة الحرية؛ ولذلك كان الغنى والعزّ مستوكرًا أقطارَهم؛ فأخذ أهالي أوربا عند ذلك في تقليدهم، لكن لا في البهارج والزخارف، بل في أسبابها والموصلات إليها، وهي توسيع نطاق الصناعة والتجارة ونحوهما من وجوه الكسب؛ فكان ذلك أساسًا للعمل وقَرَ في النفوس وثبَت في العقول، وبنوا عليه ما شاءوا، ولو تأمَّلنا تاريخ سير التقدّم الأوربي لرأينا أسباب التقدّم يجمعها سبب واحد، وهو إحساس نفوس الأهالي بآلام صعبة الاحتمال من ظلم الأشراف -النبلاء- وغدر الملوك، وضيق وجوه الاكتساب، ونفرة دينية على المسلمين الذين استولَوا على حرمهم المقدَّس، وهذا الإحساس هو الذي دعا الأنفسَ الكثيرة العدد إلى الخروج من هذه الآلام، فطلبوا لذلك أسبابًا متنوعة، أقواها التعاضد والتعاون على ترويج وسائل الكسب وافتتاح أبواب الرزق، فكانت تعقد لذلك المحالفات والمعاهدات، وتتألَّف له الجمعيات، فكان جرثومة تقدمهم أمرًا منبثًّا في غالب الأفراد ومحرزًا في أغلب العقول، وهو نشاط الأهالي في اجتلاب الثروة وطلبهم لحرية العمل لينالوها، ورفضهم لتلك التقيُّدات التي كانت تمنعهم من طلب حقوقهم الطبيعية، ثم تدرَّجوا فيه ينتقلون من حال إلى حال، والأصل ثابت لا يتغير، حتى عمَّ التغير جميع العوائد والمشارب والقوانين، ولم يكن ذلك كله إلا من حرص الأهالي أنفسهم على الخروج من الآلام التي كانوا يشعرون بها في كل لحظة من حياتهم، ويتوارث هذا الشعور وذلك الحرص أبناؤهم من بعدهم.
أما عقلاؤنا فقد وجهوا نظرهم إلى حالة التمدّن الحاضرة، والأهالي على غير علم منها بأنفسهم، فاستلفتهم العقلاء إليها، لكن لا بتحريك غيرتهم إلى العمل اختيارًا، أو ألجأتهم إليه اضطرارًا، وتسهيل الطرق لهم حتى يسير من جميع عناصر البلاد وطبقاتها أشخاص مختلفون في الأفكار والأحوال إلى تلك البلاد المتمدّنة، ويشهدوا عاداتها وأحوالها، ويهتم العقلاء منهم بالبحث عن أسباب السعادة وموجبات الشقاء اهتمامَ المضطرّ الذي يطلب خلاص نفسه من هلاك يتوقَّعه، بل جلبوا إليهم كثيرًا من أبناء تلك البلاد تَظهَر عليهم الرفاهية، وترى عليهم آثار النعمة، يتكلمون بما لا يُفهم، ويتفكرون فيما لا يُعقل، فشادوا بيننا أبنية وزينوها بما لم نكن نعهده من أنواع الزينة، وجلبوا إلينا من مصنوعاتهم ما راق منظره وطار مخبره، لكننا لم نشهد مصنعه، ولم ندرِ منبَعه، ورأيناهم يتزيَّنون بهذه اللطائف التي تذهب الحزن وتشرح الخواطر ويتنافسون فيها، فأعجبتنا حالهم هذه، وقال لنا العقلاء: كونوا مثلهم والحقوا بهم في هذه السعادة، ثم صاروا أئمةً لنا في العمل، فأخذنا نتشبَّه بهم لكن فيما رأيناه وهو الزينة والبهرجة، غير باحثين عن كون ذلك هو الذي يلحقنا بهم في الحقيقة أم لا، ومن ذلك ترى أفكار الغالب منا دائمًا عندما يجد فرصةَ الاقتدار موجهة إلى تشييد الأبنية، وتجويد وضعها وإتقان ترتيبها وتزيين بواطنها وظواهرها، والتوسع في لوازم المآكل والمشارب وآلاتها وأوانيها والتفنن فيها، وجلب ما هو أغلى ثمنًا وأدخل في النظر وأجلب للأنس والتأنق في الملابس ومحاذاة الأوربيين فيها، ومحاولة أن تكون على النمط الأعلى عندهم، وعلى هذا النحو تفنَّنَّا في أنواع المفروشات وتألَّقنا في اقتنائها من أنواع مختلفة ممّا غَلا ثمنُه وارتفعت عن الطاقة قيمُه، وتنافسنا في ذلك كتنافس أسلافنا في افتتاح البلاد وتملّك الحصون. وبالجملة فقد سلكنا مسالكَ المتمدنين في ثمرات تمدُّنهم التي جعلوها من زوائدهم، فأسرفنا في الإنفاق، وصار الناظر لملابسِنا ومساكننا والذائق لمطاعمنا ومشاربنا يشهَد بأننا في ذلك بحمد الله متمدِّنون، فقد اشتركنا معهم في ثمرات التمدّن، أي: ما ينتهي إليه حال المتمدن من طلبه للتمتّع باللذائذ وركونه لترويح النفس وتخفيف أتعابها.
لكن من تأمَّل حقيقة الأمر علِم أنَّ مثلَنا في ذلك كمثل الدجاجة رأت أن الأوزَّة تبيض بيضًا كبيرًا، فطلبت أن تبيض مثلها، فأجهَدت نفسها في أن تكون كذلك، غيرَ عارفة أن ذلك لا يكون إلا باستعداد -أي: بأن تكون أوزة-، فحبست نفسها واستعملت قوتها الدافعة حتى انشقَّ منها ما انشق وتمزق منها ما تمزَّق، فإن إفراطنا في تقليد الأوربيين ومجاراتهم في عاداتهم التي نظنها تفوقُ عاداتِنا البسيطة فعَل في نفوس غالب الأغنياء منا فعلًا غريبًا، صرف نظرهم إلى اللذائذ واستكمال لوازم الترف والنعيم، وأحدث في نفوسهم غفلةً عما يحفظ ذلك عليهم، بل يوجِب ازديادَه لديهم، وهو الوقوف على الطريق المستقيم الموصل إلى اكتساب المجد الحقيقيّ والشرف الذاتي الذي يتبعه الغنى والثروة والراحة المستتبِعَة للذة الحقيقية والنعيم الباقي في الحياة وبعدها، ومن هذه الجهة -جهة الغفلة عن روح الثروة وحياتها وهو التمدن الحقيقي، أعني الإحساس بوجوه اللذائذ والآلام والتنشيط في طلب وجوه الكسب المتنوعة، وطلب المنة على تلك الوجوه ومراعاة الحقوق والواجبات الطبيعية والشرعية- فارقوا الأمم المتمدنة، فصح أن يطلق عليهم أنهم في غاية التمدّن مع أنهم إما في بدايته وإما قبلها بكثير، وحق لهم ذلك؛ فإنهم رأوا أبواب اللذات مفتَّحة قبل أن يجدوا عقلًا يقدِّر لهم ما يلزم منها وما لا يلزم.
كل ذلك نشأ من جلب تلك العوائد الترفيهيَّة إلى بلادنا، وطلب التحلي بها، بدون أن نحوزَ ما يوصلنا إليها من أنفسنا، وليتَنا قبل أن نشيدَ بيوتنا بالارتفاع الشاهق والترتيب المحكم ونزيِّنَها بأنواع النقوش والأثاثات أبقيناها على بساطَتها، وشيَّدنا في عقولنا الهمم الرفيعةَ والحمية التي لا تمتد إليها الأيدي، وأحكمنا طرقَ سيرنا في حفظ حقوقنا، ورتَّبنا في مداركنا جميعَ الوسائل والمعدات التي تحفظ علينا ما وجدنا، وتجذب إلينا ما فقدنا، وزيَّنَّا نفوسنا بالفضائل الإنسانية والشرعية من رحمة بالضعفاء ورفق بالملهوفين وغيرة على البلاد وأنفة عن الصغار.
لعمر الله، لو قدَّمنا هذه الزينة الجوهرية على ذلك الرونق الصوريّ لكان العالم بأسره ينظر إلينا نظر الراهب الخائف، أو يرمقنا بلحظ المعظِّم المبجِّل، وكانت معيشتنا البسيطة أوقعَ في نفسه من معيشته الرفيعة، وكان ذلك سهلًا لو أنَّ الزاعمين فينا حبَّ الترقي والتقدّم ساروا بنا من البدايات، وحجبونا عن النهايات؛ حتى لا نراها إلا من أنفسنا، فنطلبها لا لأنها أعجبت النظر، ولكن لأنها بنت الفكر ونتيجتَه، وكانوا يعلموننا محاذاة المتمدّنين في أصول أعمالهم لا في زوائدها، فكنا بذلك نصل إلى ما وصلوا إليه في زمن أقلّ بكثير من الزمن الذي نالوا فيه ما نالوا)([21]).
فما يقرِّره محمد عبده يؤكِّد منهجَ الدعوةِ النجدية في الإصلاح التدريجيّ القائم على التربية والتهذيب، وإيجاد الأرضية المناسبة للنهضة العامّة، وعدم المسارعة لتقليد الغرب والاكتفاء بنقل مظاهر التمدّن وقشوره دون الأخذ بأصوله وحقيقته من المعارف العلمية والتجارب العمليّة، وما ينشأ عن هذه المحاكاة العمياء من فساد في الأخلاق والعقائد وفقدان للهوية والخصوصية الدينية والثقافية القومية، مع الفشل في بلوغ الترقي والتمدن الحقيقي.
دعوى القصور الحضاريّ للوهابية وعجزها عن الانتشار في المدن([22]):
ومن وجوه انتقاص الدعوة النجدية مما يرتبط ببيئتها الزعم بأنها كانت ملائمةً وكافية للبدو دونَ الحضر، لكن بداوتها وبساطتها قعدت بها عن تلبية تطلُّعات سكان الحواضر وحاجاتهم، و(ظل صوتها غريبا عن أسماع الذين تجاوزوا طَورَ البداوة)([23]).
فمثل هذه الدعوة (قد تصادف نجاحًا وتجد لها الأتباع في بلادٍ فُطِر أهلها على الخشونة والبداوة، ولكنها تتعارض ومقتضيات الحضارة والعمران)([24])، فقد (وقفت صلاحيات فكريَّتها في التمدن عند حدود البيئة البدوية التي نشأت وتبلورت فيها، وعجزت عن تلبية حاجات البيئات العربية الإسلامية المتحضرة ذات الفكر المركَّب والتطوّر الحضاري المتقدِّم)([25]).
فالدعوة (وإن كانت تجديدًا للإسلام، ولكن آفاقها المحدودة وفكريَّتها المحافظة وأساليبها البدوية العنيفة قد أبقت عليها حركة تجديد ويقظة لأعراب شبه الجزيرة وحدهم)، كما أنها وإن (مثَّلت الردَّ العربي الإيجابي على بعض التحديات في ذلك التاريخ، إلا أنها كان ردَّ عرب البادية البسطاء في الأساس، وليس ردَّ عربِ البلاد التي قطعت في التحضّر والتمدّن شوطًا أبعد مما قطعه أهل نجد وتهامة والحجاز)([26]).
والجواب عن هذا من عدة وجوه:
أولًا: لم تقدِّمِ الدعوةُ النجدية طريقةً مبتكرةً لفهم الدين، أو نمطًا للعيش وفق قواعد دينية معينة حتى يقال: إنه صالحٌ لبيئة دون أخرى، ولم تقترِح خطةً نهضويَّة شاملة حتى تُوصف بالقصور عن تطلّعات الحضر وحاجاتهم، وعدمِ ملاءَمتِها لطبيعة التحديات التي تواجههم، فكل ما يقال في هذا المعنى محضُ كلامٍ إنشانيّ بعيد عن مبادئ الدعوة وحقيقتها، فالإصلاح السلفيُّ متعلِّق بالدين المتجاوز للفوارق والاختلافات بين المجتمعات، فمبادئ الدين وأصوله واحدة، وما يطرأ عليها من خلل وفسادٍ لا يختلف باختلاف البيئة الاجتماعية.
ثانيًا: التقليلُ من أهمية الإصلاح الديني لسكان الحضر يصادم حقيقتين:
أولاهما: رسوخ الخرافة وتقديس الأضرحة عند سكان الحواضر والمدن الكبرى.
والثانية: تردِّي الأحوال الحضارية للمدن في القرن الثامن عشر الميلادي.
فقد ظهر الشرك قديمًا وحديثًا في البيئات المدنية والريفية والبدوية، بل كانت مظاهره أشدَّ وضوحًا في الحواضر والمدن الكبرى، واحتضنت القاهرة وبغداد ودمشق وحلب ومراكش وفاس عشرات المراقد والأضرحة والقباب المنسوبة لشخصيات دينية، بينما لا نجد هذه الكثرة من المزارات في البوادي والأرياف.
كانت السيادة الدينية في المدن للفكر الصوفي المنحرف، فالكل خاضع لسلطته، لا يجرؤ أحد على نقد شطحات رموزه وأئمته، بل يجتهدون في تأويل عباراتهم واصطلاحاتهم وأسرارهم، أما المتصوِّف ابن عربي المتَّهم بالزندقة فقد أحيط بهالة من التبجيل والتكريم لدى الفضلاء والسفهاء على حدٍّ سواء، ومن عجائب تلك الحقبة إيمان طائفة من الناس بقدرة الأموات على سماع حوائجهم، أما العوام فكانوا يعتقدون أن المدن تحظى بحماية الأولياء الصالحين، فلا يصيبها مكروه، ولا يقربها عدو، والعلماء مشاركون للعوام في اعتقادهم الرديء، أو أنهم لا يجرؤون على النقد والإنكار لسطوة تلك الأفكار على أهل ذلك الزمان.
من جهة أخرى لم تنعم المدن الإسلامية في تلك الحقبة بحالة متقدمة من التحضر، فمدوَّنات التاريخ الثقافي والاجتماعي والاقتصادي تؤكد انتشار مظاهر التخلف في شتى مناحي الحياة، ومن ذلك غلبة الأمِّيَّة على كثير من الناس، وقلَّة المتعلمين، ورداءة التعليم وسوء مناهجه، وغلبة التقليد والجمود على أساليب العلماء والمدرِّسين، فضلا عن التخلف الواضح في مجال العمران والرعاية الصحية والصناعات والعلوم والمعارف الدنيوية بشكل عام.
الوهابية ومعالجة الواقع الديني المتخلف في المدن:
حاول بعض الفضلاء التقليل من أهمية الإصلاح الديني لأهل الحواضر من خلال تقسيم البدع والمحدثات والإضافات إلى نوعين:
أ- وليدة الخرافة والشعوذة.
ب- ثمرة للمجتمعات المتمدنة ذات الحياة الفكرية المعقدة والمركبة([27]) .
ويرى أن الدعوة النجدية (لم تتعرض لواقع عقلاني تريد تغييره، وإنما قاومت البدع والخرافات والشعوذة)([28]).
والجواب عن هذا:
أولًا: أن الأفكار الخرافية كانت راسخة الجذور في البيئات المتمدِّنة والمراكز الحضرية، فلا عبرةَ للتفريق بين حاضرة وبادية ما دام العطب الفكريّ منتشرًا في الجهتين، مع أن مظاهره وآثاره أشدّ وضوحًا في البيئة المدنية.
ومن جهة أخرى فإن مستوى التمدّن ودرجة الاهتمام بالعلوم العقلية والفلسفية في بيئة ما لا يعصم أهلها من شيوع الأساطير والتعلق بالخرافات، فقد تتعايش الفلسفة إلى جانب الخرافة وتقديس الأضرحة، وقد تنتشر الأساطير في بيئة على مستوى رفيع من التحضر.
فالاشتغال بالفلسفة والعلوم الطبيعية عند اليونان -مركز المدنية الغربية آنذاك- لم يمنع من انتشار المعتقدات الأسطورية بين أهلها والنخبة من فلاسفتها وعلمائها، وعلماء الشيعة الإمامية لهم عناية فائقة بالفلسفة والعلوم العقلية، بينما عوامّهم عاكفون على الأضرحة يطوفون بها، وفي مجتمعهم تكثر الخرافات والأساطير عن قدرات الأئمة ومعجزاتهم.
فالمجتمع اليوناني والمجتمع الشيعي خير مثال على قدرة الفلسفة وعلوم العقل على التعايش مع الجهالات والخرافات؛ إذ إن الاشتغال بها نظريّ بحتٌ، لا يحمل أصحابه على تغيير واقعهم وإنكار ما لا يقبل العقلُ تصوُّرَه، أو أن العقل المشتغِل بهذه العلوم قد يشارك العوامّ الجهلة في بعض معتقداتهم، كالعالم الشيعيّ الذي يؤمن بالخرافات المنسوبة للأئمة الصالحين من أهل البيت.
فالانحراف الديني الذي تصدَّت الدعوة النجدية لمحاربته كان عميقَ الأثر في البيئات المدنية التي ازدهَرت فيها العلوم العقلية والفلسفية وتعايشت مع الخرافات وتقبَّلتها، وربما اقترنت بها كما امتَزج التصوُّف بعلم الكلام منذ قرون طويلة.
فجاءت الدعوة لتصحيح أوضاعٍ متخلِفَة عَجز دعاة العقل عن مواجهتها ومعالجتها، ونجحت إلى حدٍّ كبير في مهمَّتها، وأعادت العقل المسلم إلى رُشده بعد أن خلَّصته من اللوثة الكلامية والصوفية التي هيمنت على نمط الحياة الدينيّة في المدن لقرون طويلة.
عجز دعاة العقل من سكان المدن عن إحداث نوعٍ منَ التغيير الإيجابي في واقعهم، سواء على الصعيد الدينيّ الفكري أو السياسي والاجتماعي، ولم تظهَر بوادر التغيير في تلك البلاد المتمدّنة إلا استجابةً لتأثير الدعوة النجدية، أو انطلاقًا من مبادئها بطريقة أو بأخرى، وقد شاع في أوساط المفكِّرين العرب أن الحركة الوهابيّة هي أول حركات التجديد والنهضة في العالم الإسلامي، وأول خطوات الخروج من مرحلة القرون الوسطى من تاريخ الإسلام، ولا يعرف لأي حركةٍ دينية ظهرت في المدن من الأثر الإصلاحيّ ما عرف للوهابية من تأثير واسع النطاق على مستوى العالم الإسلامي.
وقد نبَّه الأستاذ عبّاس العقاد إلى أن الدعوةَ الوهابية نهضت بالجزيرة العربية قبل أن تنهض مصر بنحو ستين، وعلَّل ذلك بأن الإصلاح في المجتمعات الحضرية يتأخَّر به الزمن؛ لأنه يستلزم من الدواعي العلميَّة والاجتماعية ما لم يكن لزامًا في البيئات البدوية([29]).
ولعل الأستاذ عبد المتعال الصعيديّ أوضح مقصودَ العقاد بكلامه هذا، فأشار إلى أنَّ إنكار الاستغاثة بالأموات ظهر في مصر على يد أحد المصلحين الأتراك، (ولكن من سوء حظه أنه قام بها في مصر حيث يوجَد الأزهر وعلماؤه، فقاموا بإنكار دعوته، ومن يمكنه أن يقف في طريق الأزهر إذا أنكر شيئًا من الدين أو أقره؟!
أما محمد بن عبد الوهاب فقد قام بدعوته في بادية نجد، وفي بيئة الحنابلة المعروفة قديمًا بإنكار البدع، والبدو لا يجمدون على علم كما يجمد الحضر، فتكون زحزحتهم عن الجمود أسهل من زحزحة غيرهم ممن يجمد على علم؛ لأن من جمد في دينه على علم من أهل الحضر أبعد عن الإصلاح ممن جمد في دينه على جهل؛ لأن جهل الأول بسيط تسهل زحزحته عنه، وجهل الثاني مركب يصعب تركه له)([30]).
والحطّ من شأن الوهابية ورميها بالعجز عن ملاءَمة أحوال المجتمعات المتحضرة والأمم المتقدمة يُذكر بنظرة الغربيين من الإسلام كدين أنجبته الصحراء، فهو ملائم للأجناس المنحطَّة والبدائية في نظرهم، وقد مرّ معنا قول إبراهام كيونين: (إن دينًا يمكن ترميمه بالعودة إلى معرفة صحيحة لأصوله السليمة يمكنُه تلبيةُ حاجات سكان الصحراء التي شهدت ولادته، إنه دين عاجز عن تلبية حاجات مختلفة أكثر ارتفاعًا).
ثانيًا: القول بأن الوهابية لم تجد البيئة الملائمة للانتشار خارجَ الجزيرة العربية هو نتيجة خاطئة لمقدِّمة أبطلناها سابقًا، وهي البساطة والسذاجة في المضمون الفكري للدعوة والقصور عن تلبية حاجات الحضر.
وأول ما يُذكر في سياق الرد على هذا الزعم هو إثبات العكس، وهو أن أفكار الدعوة انتشرت في العالم الإسلامي، وأثرت في التوجُّه الديني لكثير من الناس في المجتمعات المدنية المتحضرة، وهذه حقيقة واقعيةٌ يُسلِّم بها الموافق والمخالف، حتى أصبح أحدُ محاور الكتابة عن تاريخ الدعوة وأفكارها هو بيان انتشارها خارجَ الجزيرة ومدى تأثيرها العابر للحدود([31])، ولا يقتصر البحث في تأثيرها وسريان أفكارها إلى المجتمعات، وإنما البحث في أثرها على قادة حركات الإصلاح الديني وحجم التأثير المحتمل في أفكارهم وتوجهاتهم الإصلاحية.
ثالثًا: انتشار مبادئ الإصلاح النجدي في البيئات الحضرية المنكوبة بالفكر القبوري نتيجةٌ واقعية، لكن ما ينبغي التنبيه إليه أن الدعوة فرضت نفسها ووصلت إلى تلك الحواضر بالرغم من حملات التشويه الإعلامية والدعاية السيئة عنها، والتي تركت أثرًا سلبيًّا حال دون الانتشار الواسع لأفكارها، فما بثَّه رجال الدين والسياسة المناوئون للدعوة من الأكاذيب والمفتريات عن إمام الدعوة وأتباعه رسَّخت في الذهان صورةً مشوهة ساهمت كثيرا في الصد عن سبيلها أو مجرد الاقتراب لمعرفة ما جاءت به؛ حتى ظن كثير من الناس آنذاك أن الوهابية فرقة خارجة عن الإسلام أو منحرفة عنه، وأن محاربتها والقضاء عليها من قِبل محمد علي باشا كان (خدمةً للإسلام، كَفّرت عن محمد علي جميع الذنوب والآثام) كما يحكي محمد رشيد رضا([32]).
إلى جانب الحرب الإعلامية وحملات التضليل وخطاب الكراهية الموجه ضد الدعوة، فقد شنَّت عليها الدولة التركية حملات عسكرية، ونجحت بعد عدة محاولات من القضاء على دولتها الأولى وعاصمتها الدرعية، والتي أصبحت أثرًا بعد عين.
والمقصود أن الدعوة حوربت وعوديت إعلاميًّا وسياسيًّا وعسكريًّا، وواجهت الكثير من المتاعب، لكنها نجحت في الصمود والانتشار داخل الجزيرة وخارجها.
فمن يتحدث عن عجز الأفكار الوهابية عن اختراق المدن والمراكز الحضرية لا يأتي بما يُكذِّب الواقع فحسب، وإنما يمارس تضليلًا بتجاهله للحرب التي واجهتها والتحديات التي اعترضت طريقها وأعاقتها عن توسيع نطاق تأثيرها الفكري، فلم تكن السبل ممهدة أمامها حتى يقال: إنه قد خُلّي بينها وبين الناس، لكنها لم تجد منهم آذانا صاغية، فالحق أنه قد حيل بينها وبين المسلمين بمكائد وتدابير صدَّت عن سبيلها، ومنعت الكثيرين من الاستنارة بأفكارها.
رابعًا: رسوخ التخلف الديني في الحواضر:
من أهمّ العوامل التي حالت دون الانتشار الواسع للدعوة: الحالة الفكرية المتردِّية عند سكان المدن ورسوخ الخرافة في أذهانهم، والتي تعزَّزت بهيمنة رجال التصوف على توجيه العامة والتأثير فيهم في تلك الحقبات.
فمن أخبار تلك الحقبة المظلمة أن نعمان الآلوسي -أحد علماء بغداد المتنوّرين- أنكر سماع الأموات لكلام الأحياء، فثار عليه بعض العلماء، وهيَّجوا عليه العامة، فألجمهم بنصوص من كلام أئمة المذهب تؤيِّد ما ذهب إليه([33]).
ومعروفةٌ في دمشقَ حادثةُ هجوم العامَّة في الجامع الأموي على الشيخ محمد رشيد رضا الذي وقف خطيبًا بعد الإطاحة بالسلطان عبد الحميد عام 1908م، وأخذ يشرح الآيات القرآنية والأحاديث النبوية بمنظار التجديد الإسلامي، كما دعا الناس للرجوع إلى سيرة الصحابة واتباع أقوال الرسول والعمل بها، وإذا بالشيخ صالح الشريف التونسي يحذِّر من الوهابية، ومن هذا الشيخ الذي يُحرِّم زيارة قبور الأولياء الصالحين، ويمنع التوسل بهم، ولا يعتقد بكراماتهم، وحذّرهم منه، ولولا أن حمى الشيخَ رشيد رضا عددٌ من الشبان المتنوِّرين لكانت العامة فتكت به.
فهذا المشهد يوضِّح طرفًا من التردِّي العقلي الذي وصلت إليه حواضر الإسلام في تلك الفترة، ولذلك (لم يكن لحركة التنوير الإسلامي حتى مستهل القرن العشرين جذور بين العامة الخاضعة لمشايخ الطرق الصوفية)([34]).
النفوذ السياسي للعثمانيين عائقًا أمام انتشار الدعوة:
في سياق البحث عن عوائق انتشار الدعوة في المدن ينبغي مراعاة واقع السيطرة العثمانية المباشرة وأثره في الحد من وصول الدعوة وتوسُّع تأثيرها.
يعلل المستشار طارق البشري بُعدَ الاتجاه الإصلاحي عن المدن الرئيسية ومجال الهيمنة المركزية للدولة العثمانية آنذاك (أنه من عادة الدعوات التجديدية أن تظهر بعيدةً عن مناطق استقرار وتركّز المؤسسات التقليدية، وعن مناطق استتباب الهيئات التي تقوم بالفكر التقليدي وتقوم عليه مدافعة عنه)، في ضوء ذلك (كان من الطبيعي أن تبقى منطقة المركز عصية على التغيير والتجديد؛ لاستتباب المؤسسات التقليدية، وعظم النفوذ المحافظ لهذه المؤسسات، واتصالها جميعا بهيئات الحكم والسلطان، ووجودها كلها في منطقة الضوء الساطع لدى أجهزة الدولة)([35]).
الوهابية فكر النخبة وتهمةٌ لمشاريع النهضة:
وقف التصوُّف المدعوم من السلطة في وجه الأفكار السلفية، فانحسر تأثيرها عن العوام، لكنها وصلت إلى النخب المثقفة، فاستحسنوها وأقبلوا عليها، (وتأثر بهذه الدعوة الخاصة وخاصة الخاصة، كما تأثر بها ناشئة الشباب المثقفين بحكم ثقافتهم ونمو عقليتهم)([36])، وامتد نفوذ هذه الأفكار حتى في مجال المؤسسات المركزية الخاضعة لسلطة الدولة التركية؛ (وذلك لعظم الاحتياج إلى الإصلاح الفكري وإلى التجديد الفقهي في ذلك الوقت، ولأن ثمة شواهد تاريخية تشير إلى أن هذه الدعوات كانت مما يحسن قبوله لدى عامة المفكرين والمثقفين في مصر والشام، لو لم تواجه بمثل ما وُوجهت به من السلطة)([37]).
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل أصبحت الوهابية وصفًا يطلق على كل اتجاه تجديدي نهضوي إصلاحي وتهمةً توجَّه لأي مشروع يسعى للتغيير، وبات دعاة الجمود والتقليد والخرافة ينبزون خصومهم بالوهابية، والتي باتت قرينةً للنهوض وكسر الأغلال المعيقة له.
ففي العراق كان العلامة علي بن محمد السويدي داعيةُ الإصلاح يوصَف بالوهابية؛ بالرغم من أن دعوته تزامنت مع قيام الدولة السعودية الأولى، ولم يثبت أنه اطلع على مؤلفات الإمام ورسائله([38]).
وفي الجزائر اتُّهم المصلحون في جمعية العلماء أنهم وهابيون، فأجابهم عبدُ الحميد بن باديس بقوله: (أفتُعَدُّ الدعوةُ إلى الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمَّة وطرحُ البدع والضلالات واجتنابُ المردِيات والمهلِكات نشرًا للوهابية، أم نشر العلم والتهذيب وحرية الضمير وإجلال العقل واستعمال الفكر واستخدام الجوارح نشرًا للوهابية؟! إذًا فالعالم المتمدِّن كلُّه وهابيّ! وأئمة الإسلام كلهم وهابيّون!)([39]).
وفي مطلع القرن العشرين يؤكد المؤرخ عبد الله حنّا أن (الوهابية كانت تهمةً تُلصق بدعاة التحرر من المسلمين، وكانت الوهابية في بلاد الشام إحدى قلاع قوى التنوير ضدَّ الجمود والتحجر السائدين في المجتمع الإقطاعي العثماني، والوهابية لم تكن على وئام مع الدولة العثمانية وسلاطينها، وحتى منتصف القرن العشرين كان معظم المتنوّرين في بلاد الشام ينظرون إلى الوهابية نظرة إيجابية مفعمة بالتأييد)([40]).
وكتب أحد الدمشقيين مقالًا في مجلة المقتطف، يروي فيه كيف لاحقت تهمة الوهابية كل الأنشطة والاتجاهات الإصلاحية في دمشق، فيقول: ([وأشد] ما لقي المصلحون من شيوخ السوء حشويةِ الدين الجامدين في سبيل الدعوة إلى الحق، وما نالهم من النكبات ماديا ومعنويا وأدبيا، ومهما يحاول هؤلاء عرقلة مساعي أولئك أو اضطهادهم وظفرهم بأمنياتهم في بعض الأحايين فإنهم ليحاولون المستحيل في الضغط على تلك الموهبة الفكرية التي امتاز بها أولئك المصلحون عن غيرهم من البشر، الميزةَ التي ولدت لهم أعداء ألِدَّاء، يحسدونهم في السراء والضراء، ويرمونهم بما هم منه براء، كما هو الحال الآن في الحشوية الدمشقية ورميهم علماءهم الأطهار وأحرارهم الأخيار بالوهبنة تارة والزندقة تارة أخرى. ألا وإن التاريخ يعيد نفسه، فقد مثل لنا رمي هؤلاء الحشوية للمصلحين بالوهابية رمي الروافض لأهل السنة بالنواصب، وتلقيب القدرية لهم بالمجبرة، وتسمية الجهمية لهم بالمجسمة والمشبهة، زد على أن هذه الأقاويل لا تغمط من قدرهم ولا تحطّ من علمهم شيئا، بل على العكس من ذلك، فإنها قد تكون واسطة لرفعة شأنهم وتألّق شهرتهم.
فقد آل نبأ الوهابية إلى ن صار سمرا وفكاهات، ومن ذلك ن من روى من المدرسين أو الخطباء أحاديث في الشرك جليًّا أو خفيًّا يتناجون بأنه يرمز للوهبنة ويسمونه وهابيًّا، وهكذا إشاعتهم عن غرف القراءة العامّة التي أسست في حاضرتنا حديثا -هي غرف القراءة التي أسستها في دمشق جمعية النهضة العربية، ونوَّهت بها جرائد سوريا وبيروت- بأنها منتدى الوهابية. ومن النكت الغريبة أن أحد الشيوخ عنده لوح مكتوب عليه كلمة: يا وهاب, وله إطار نفيس، فقيل عنه: إنه لم يؤثر هذه القطعة إلا أنه مُغرى بالوهابية.
وكذلك من كان اسمه عبد الوهاب صار يقال عنه: إن أباه كان وهابيًّا حتى آثر تسمية ابنه باسم زعيم تلك الفئة، مع أن زعيمهم يُدعى: محمد بن عبد الوهاب، فكان الأجدر تسميتهم: محمدية، وهكذا قل عن تلقيبهم الأهرام والمقطم وأشباهها بأنها جرائد الوهابية. ومثله تشهيرهم بأن كل من هاجر من وجه الاستبداد نازحا عن بلاده هو من الوهابية، وكذلك أبطال الحرية وخطباء الدستور، مما يضحك الثكلى ويبكي العاقل. وهكذا الحال الآن، فلا تسمع في المنتديات -عامة كانت أو خاصة- إلا الوهابية والوهبنة لكل من أنكر منكرا أو ناقش في أمر أو بحث في مسألة. وقد عرف الجميع سر المسألة، بل انقلب الأمر على القائمين على الوهابية، وانعكست القضية؛ إذ زرعوا في أذهان العامة من الرجال حتى النساء مفرداتهم وما يؤثر عنهم، وأصبح كثير من الناس يدقّق في تلك المسائل ويلهج بها ويسال عنها النبهاء المنورين ليصل إلى أصلها. وكثير من أولي السذاجة والفطرة توَهْبَن بفضل تلك الثورَة التي هاج ثائرها منذ عهد غير بعيد)([41]).
وممن أشار إلى ارتباط تهمة الوهابية بالنهضويين ودعاة التجديد في سوريا الزعيم عبد الرحمن الشهبندر، السياسي المعروف وأحد رموز النضال الوطني ضد الفرنسيين، حيث يقول في إحدى خطبه: (اجتمعنا مرة في سوق الحميدية، وكان بيننا الشيخ طاهر الجزائري وسليم البخاري والشيخ عبد الرزاق البيطار والشيخ جمال الدين القاسمي وعبد الحميد الزهراوي ومحمد علي المسلم، وكنت أنا سابعهم ولدًا صغيرًا، وكان الناس يشيرون إلينا ويقولون: إن هؤلاء هم وهابية الشام، ولم تكن تلك الكلمة يومئذ لمديحنا والإعراب عن ميزتنا، وإنما كانت نوعًا من الشتيمة إلا عند قليل من الناس.
إن الوهابي الصغير عبد الرحمن الشهبندر وإخوانه الوهابيين المجاهدين الذين هم أصغر مني سنًّا وأكبر مقامًا هم الذين تجتمِعون الآن لتقيموا لهم الحفلات تكريمًا لهم، وتتحدَّثون بالخدمات التي تظنّون أنهم قاموا بها اتجاه أوطانهم)([42]).
لم يقتصر الأثر الإصلاحي للدعوة النجدية على الساحة السنية، فقد تسرّبت أفكارها إلى الوسط الشيعي، وظهرت في إيران نخبة مثقَّفة تدعو لنبذ التعاليم والعقائد الشيعية المخالفة للإسلام كالإمامة والاستغاثة بالأموات وتعظيم الأضرحة والخُمس والرجعة والمرويات المنسوبة للأئمة، ومن أبرز رموز هذا التيار: شريعت سنكلجي وأحمد كسروي وعلي أكبر حَكَمي زاده وغيرهم، وكعادتهم سارع الشيعة إلى اتهام التيار الإصلاحي بالوهابية([43]).
هاجم الخميني هذه الدعوات في كتابه (كشف الأسرار) الذي افتتحه بمهاجمة الوهابية باعتبارها السبب الرئيس في إفساد عقائد هؤلاء الثائرين على التشيع([44]).
فالذي يتقرَّر بعد استعراض الحقائق السابقة يعاكِس زعمَ المنتقدين للوهابية حول عجزها عن اختراق الحواضر والانتشار في المدن.
لقد ظلَّ انتشار الأفكار الإصلاحية مرتبطًا بالمستوى العلمي والثقافي للبيئة الاجتماعية، وبمدى سلامتها من لوثة الخرافة، وقابليتها لنبذ مذهب الآباء، فانتشرت الوهابية في صفوف النخبة المتعلمة الحاملة للواء النهضة، وأصبحت تهمة لكل دعاة التجديد، لكنها لم تنتشر في أوساط العوام؛ لهيمنة الجهل والأمية، وخضوعهم لتأثير التصوف الخرافي.
ولذلك يؤكد بعض الباحثين([45]) أن الوهابية لم يكن لها تأثير قوي في المدن العربية إلا بعد الحرب العالمية الأولى، أي: بعد زوال الهيمنة العثمانية، وتطوّر أنظمة التعليم، وانخفاض مستوى الأمية، وانحسار نفوذ التصوّف في المجتمع، وغيرها من التحولات الإيجابية التي حدثت في تلك الفترة.
نجاح الإسلام وفشل الوهابية!
الادِّعاء بعجز الوهابية عن الانتشار في الأقطار المتحضرة حاول البعض صياغته بطريقة مختلفة من خلال مقارنة نجاح الفتوحات الإسلامية وفشل الغزو الوهابي في السيطرة على البلاد العربية، ثم الارتقاء بالمقارنة بين شخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وشخصية محمد بن عبد الوهاب.
يقول المؤرخ وعالم الاجتماع العراقي علي الوردي: (ظهر في صحراء العرب في القرن الثامن عشر رجل اسمه محمد بن عبد الوهاب، حيث حاول أن يقلّد محمدًا -يعني النبيَّ صلى الله عليه وسلم- في توحيد القبائل عن طريق الدين، وقد قذفهم إلى العالم المتحضر يفتحونه، فنجح في ذلك نجاحًا، ثم انتهت حركته أخيرًا إلى الفشل، ذلك أن محمد بن عبد الوهاب كان فقيهًا مقلدًا، ولم يكن نبيًّا عبقريًّا من طراز محمد بن عبد الله، لقد فهم ابن عبد الله طبيعة مجتمعه وزمانه، وعرف كيف يسير فيها ويعالج مشكلاتها الراهنة، أما ابن عبد الوهاب فكان لا يعرف من دنياه سوى حفظ الكتاب والسنة والتزمُّت فيهما تزمتًا شكليًّا جامدًا، وشتان بين العبقري والمقلّد)([46]).
بُنِيت هذه المقارنة على افتراضات ومقدِّمات خاطئة، وانتهت بصاحبها إلى وضع تصوُّر مشوَّه مفاده عجز الدعوة عن الانتشار خارج الجزيرة، وستكون مناقشة هذه الدعوى حسب النقاط التالية:
أولًا: ليس هناك أي وجه للمقارنة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأي عالم أو مصلح من أتباع أمته، فالعبقرية النبوية هبة ربانية مؤيَّدة بالوحي، فإنجازها ونجاحاتها لا توضع بميزان المقارنة مع نتائج اجتهادات العقل البشري المعرَّض للخطأ والصواب والمقيَّد بالظروف والإمكانات المتاحة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن غاية ما يقوم به الفقيه المصلح هو محاولة اقتفاء أثر الرسول صلى الله عليه وسلم وتتبُّع منهجه وإحياء سنته، فهو لا يحاول إعادة التجربة النبوية في الدعوة بطريقة أكثر احترافية أو للحصول على نتائج أفضل.
إضافة إلى ذلك فإن المقارنة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأي أحد من أتباعه ستزري بالثاني مهما كان قدره في العلم والذكاء، ومهما بلغت جهوده في الإصلاح والبناء، فالمقارنة لا تصح بأي حال من الأحوال.
من جانب آخر فإن الإنجاز الذي حققه محمد بن عبد الوهاب يعد إنجازًا استثنائيا بكل المعايير، فإن قدرته على تغيير طباع البدو وعاداتهم وحملهم على اعتناق مبادئ دعوته ونشرها، وإنهاء حالة الانقسام والاقتتال بين القبائل والبلدات النجدية، وتحويل أنظارهم نحو الغاية الدينية، كل ذلك لم يكن أمرًا هينًا، فدعوة محمد بن عبد الوهاب على ما توصف من الصرامة والحدة لا تلائم عقول البدو ونمط عيشهم وما ألفوه من العادات والتقاليد، فالتغلب على هذه الأحوال وتحويل هؤلاء البشر من قوم محتقَرين في أعين الناس لا يبالي بهم أحد إلى قوة مؤثرة في تغيير تاريخ المنطقة ومسارها المستقبلي، وإخراجهم من التبعية إلى القيادة، وتحويل الأنظار إليهم كل ذلك يدل على شخصية كاريزمية وعبقرية سياسية.
ثانيًا: ما ذكره الكاتب من عدم ملاءمة الإصلاح النجدي لمشاكل العصر ومتطلباته غير صحيح، فلم تكن هناك أولوية مقدمة على إصلاح الدين وتنقية العقيدة، لا يقتصر هذا الأمر على بيئة نجد والجزيرة العربية، فكل بلاد الإسلام كانت مصابة بعطب الفكر القبوري، والمصلحون في سائر الأقطار ابتدؤوا بالإصلاح الديني والصدام مع الطرق الصوفية، فحركة الإصلاح السلفية (قامت مستجيبة لمتطلبات العصر في مجال الإصلاح الفكري، وقد نجحت في تقويض المذهبية الضيقة والصراعات المذهبية ومبالغات الطرق الصوفية ونزعتها الحلولية)([47]).
ثالثًا: لم تكن غاية الدعوة النجدية التوسع في فتح البلدان ونشر الإسلام فيها على غرار ما فعل الفاتحون الأوائل، فالتحول لمرحلة الصدام المسلح ضرورة اقتضاها تغير طبيعة الصراع ودفعًا لعدوان الخصوم، تعزز ذلك بالرغبة في نشر المبادئ الإصلاحية وإقامة معالم الدين، ولم يكن التطلع للغزو هدفًا لإمام الدعوة حينما بدأ مهمته حتى يقال بأنه دفع أبناء القبائل لفتح العالم المتحضر.
رابعًا: توجيهُ النظر إلى عدم الانتشار خارج الجزيرة العربية صرفٌ للنظر عمّا حقَّقته الدعوة بتوحيد أقاليم الجزيرة تحت قيادة سياسية واحدة ونشر المبادئ الإصلاحية في أرجائها، وهو إنجاز عسكريّ سياسيّ دينيّ غير مسبوق في تاريخ الإسلام في الجزيرة، والتي لم تعرف منذ قرون طويلة الخضوع لسلطة سياسية، وحتى إقليم الحجاز الذي حرصت الحكومات المتعاقبة على مد نفوذها إليه، فقد وقع بقبضة العبيديين الشيعة لمدة تجاوزت قرنين من الزمن.
ونتيجة لإهمال الساسة أو عجزهم عن إخضاع الجزيرة لسيادة الدولة فقد توفرت الأرضية المناسبة لظهور الحركات الشيعية التي اتَّخذت من شرق الجزيرة قاعدة لحكمها ومنطلقًا لنشاطها المعادي للعالم السني، وبعد انحسار النفوذ الشيعي ظلَّ المشهد العام يسوده الاضطراب السياسي والأمني، وتزايد نفوذ القبائل لتحلَ محل الإمارات الصغيرة التي نشأت هنا وهناك، تزامن ذلك مع هيمنة الصراعات السياسية واضطراب الأمن في مدن الحجاز، وبقي الحال على ما هو عليه حتى ظهرت الدولة السعودية، فأنهت حالة التشرذم والانقسام والاقتتال وغياب الحكم الإسلامي وانتشار الوثنية، فالتقليل من الإنجاز التاريخي الذي حققته الدعوة النجدية على مستوى الجزيرة جهلٌ بحقيقته وصرف للنظر عن أهميته؛ إذ لم تكن مهمة الدعوة -بتوحيد الأقاليم وتطويع القبائل وإخضاعها لقانون ديني وسلطة سياسية- مهمة سهلة أنجزت بين ليلة وضحاها حتى يمكن تجاهلها؛ للوصول إلى حكم مفاده أنها عجزت عن غزو العالم المتحضر، وهو الهدف الذي لم يراودها ابتداءً.
خامسًا: لم يكن الطريق مذللًا أمام الدعوة للانتشار في البيئات الحضرية حتى يُحكم بفشلها في مهمتها، فمنذ المراحل الأولى للدعوة وهي تواجه مختلف أشكال العداء من كافة القوى المحيطة بها، فتتابَعت الحملات العسكرية للقضاء عليها، ولم يتوقَف الخصوم عن بثّ الدعايات الكاذبة عنها وتأليب الرأي العامّ ضدَّها، واستمرَّ هذا الحال حتى غزت الجيوش المصرية أرض الجزيرة، وقصدت الدعوة في عقر دارها، فدمَّرت عاصمتها، وقتلَت أهلها، وأخرجتهم من ديارهم، فالدَّعوة اتَّخذت موقعَ الدفاع عن نفسها فترة طويلةً، كما انشغلت بمواجهة التحديات الداخلية، كلّ ذلك ينبغي ذكره في سياق موانع وصول الدعوة للبلاد العربية.
سادسًا: السعي للمقارنة بين الدعوة النبويَّة والدعوة النجدية يميل لصالح الثانية من حيث سعيُها لاقتفاء أثر الأولى ونجاحها في ذلك، فعناصر التشابه كثيرة من التجربتَين، ومن ذلك: التركيز على الدعوة للتوحيد ومحاربة الشرك، البدء بالدعوة السلمية، البحث عن النصير والظهير السياسي للدعوة الدينية، التحول لمرحلة الصدام المسلَّح مع الخصوم، توحيد الجزيرة العربية تحت قيادة سياسية ومبدأ ديني واحد، مراسلَة الملوك والزعماء ودعوتهم للإيمان بالمبادئ الدينية الجديدة. فليس من الغريب أن نجدَ تشبيه الدعوة النجدية بنهضة الإسلام الأولى في كتابات بعض المعاصرين([48]).
الوهابية ونظرية صراع البداوة والحضارة:
حاول بعض المعاصرين توظيف نظرية ابن خلدون عن الصراع المفترَض بين البداوة والحضارة وإسقاطها على الدعوة النجدية والدولة السعودية الناشئة عنها([49]).
وهذه النظرية بغضِّ النظر عن صحتها([50]) فإن استعمالها لقراءة التجربة الإصلاحية النجدية دليلٌ على ضعفها وركاكتها؛ إذ إنها تتجاهل كلَّ المعطيات المتعلقة بظهور الدعوة، وتكتفي بما استقرَّ في مخيلتها عن البدو والبداوة، بل إنها تتجاهل وجودَ دعوة دينية أحدثت تحولًا كبيرًا في تاريخ نجد والبلاد العربية، ولا يهمُّها سوى البحث عن الشواهد المصدقة للنظرية حتى وإن كان شاهدًا يُبطلها.
ذلك أنه عند التنزل والافتراض جدلًا بأن الوهابيين كانوا من البدو الأعراب فإنَّهم عند تحرّكهم وانطلاقهم لنشر المبادئ الدينية الجديدة تخلَّوا عن طبيعتهم البدوية، وتمرَّدوا على نمط حياتهم وتفكيرهم، ونذروا أنفسهم لمهمة تجديد الدين وردِّ المسلمين إلى الجادة الصحيحة، ولم يكن هذا الانقلاب الكبير في الفكر والسلوك إلا ثمرةَ الإيمان بالعقيدة السلفية التي أحدثت فيهم ما أحدثت في نفوس المسلِمين الأوائل.
ويبطل توظيف نظرية صراع البداوة والحضارة لفهم القضية النجديّة بالنظر لعدة اعتبارات:
– الأساس الديني الذي قامت عليه ثورة النجديين، فالذي أخرجهم من بلادهم دعاةً إلى المبادئ الجديدة هو ظهور حركة الإصلاح الديني، فقبل هذا الحدث لم يكن أحد يتوقع حدوث التغيير الديني أو السياسي في نجد.
– الصراع الديني السياسي بين الدعوة النجدية والدولة العثمانية، والذي أظهر حرص العثمانيين على قمع المحاولة الرامية لتقليص نفوذهم السياسيّ وضرب النموذج الديني الصوفيّ الذي يؤمنون به ويتبنَّونه، فالقضية كانت دينية سياسية في نظر الجانبين، إلا أن العثمانيين كانوا يغلِّبون النظرة السياسية، والنجديّين يغلّبون النظرة الدينية للصراع.
– سياسة الدولة السعودية بهدم الأبنية الوثنية وإلزام الناس بأداء الفرائض الدينية ومحاربة قطاع الطرق وتأمين السُبل، ومكاتبة الملوك والزعماء والعلماء ودعوتهم للإيمان بالعقيدة السلفية، وعدم الحرص على مجرد الغزو ومد النفوذ السياسي للدولة وإخضاع الحكام الآخرين.
كل ما سبق يؤكد أن التحضّر أو الاستقرار في المناطق الحضرية وفق الفرضية المذكورة لم يكن هدفًا لأتباع الدعوة النجدية، بل كانت غايتهم انتشال الحواضر والبوادي من الحالة الدينية البائسة التي وصلوا إليها.
– المتأمل في حروب الدولة السعودية الأولى سيجد أن معظمَها وقع على أرض الجزيرة، أي: في نطاق البداوة المفترض، أما الغارات على العراق وبلاد الشام فكانت مرتبطة بظروف معينة كتأديب القبائل والردِّ على اعتداءات المجاورين كما في حادثة كربلاء عام (1801م)، أو أن تكون هذه الغارات انطلاقًا من الرؤية الدينية للدولة باستهداف البلدات التي تظهر فيها القباب والأضرحة وتُعطَّل فيها شعائر الإسلام، بالإضافة إلى ذلك فإنّ هذه الغارات لم تصل إلى العمق العراقي أو الشامي، بل اكتفت بمهاجمة التُّخُوم والأطراف التي يغلب على سكانها البدو ورعاة الأغنام والفلاحون.
بعبارة أخرى: فإن مسرح العمليات للقوات النجدية تركَّز بشكل كبير داخلَ حدود الجزيرة العربية، وكلّ المواجهات مع القوات التابعة للعثمانيين سواء الحملات العسكرية العراقية أو المصرية كانت مواجهات دفاعية، أي: أن الطرف البادئ بالعدوان هو الجانب المتحضر، فالحضارة هي التي هاجمت البداوة وليس العكس.
النظرة للوهابية كطائفة بدويَّة خرجت لغزو البلاد المتحضِّرة في سياق فرضية صراع البداوة والحضارة شبيهة برؤية الغرب لأمَّة العرب كأمَّة بدائية اندفعت تحمل دينَها الجديد بعنف وتعصّب نحو المراكز المتحضرة، لكن بدائيتها تلاشت بالتدريج عبر الاندماج مع الأمم المتحضرة، هذه رؤية الفليسوف الألماني (Hegel)([51]).
بينما ذهب الكاردينال (Newman John) إلى أن الاستعارات من النصرانية والأشكال شبه البروتستانتية هي التي أضفت على الشخصية العربية تحويرات جذرية إيجابية الأبعاد، وبدلا من التمسك بأنماط حياتهم القبلية القديمة أصبح العرب فلاسفة وعشاقا لعلوم الرياضيات والفلك ومؤسسي علم الكيمياء([52]).
ودعوى هزيمة عرب الصحراء الفاتحين وذوبانهم في حضارات الأمم المغلوبة (وأنهم جلسوا مجلس التلاميذ عند أقدام الشعوب التي أخضعوها) رائجة في كتابات المستشرقين، ومن أشهرهم (Philip Hitti)([53]).
دعوة ابن تيمية بين الحضر والبدو:
لما كانتِ الدعوة النجدية متأثرةً بأفكار ابن تيمية، فقد كان من الطبيعي أن يدخل هذا الفقيه المصلح في دوَّامة الجدل بشأن بداوة الدعوة النجدية وعجزها عن الانتشار في البيئة الحضرية، فقد ذهب البعض إلى أن أفكار ابن تيمية لم تلقَ رواجًا في البيئة الشامية والمصرية المتحضّرة، بينما نادى بها (محمد بن عبد الوهاب في بيئة بدوية فنجح نجاحًا عظيمًا)([54]).
ونعلِّق على ذلك بما يلي:
– القول بملاءمة أفكار ابن تيمية للطبيعة البدوية يناقض دعوى القول بسذاجة الأفكار التي طرحها محمد بن عبد الوهاب وملاءمتها لإنسان البادية البسيط، فابن تيمية فقيه مجتهد وعالم استثنائي بكل المعايير، خاض الكثير من المعارك الفكرية مدافعًا بقوة عن منهج السلف ضد الطوائف المخالفة كالأشاعرة والمعتزلة والشيعة والفلاسفة والصوفية، مشهود له بقوة الحجة وسعة الاطلاع، ومؤلفاته وآراؤه لا يتداولها إلا النخبة من العلماء وطلبة المعارف الدينية، فمن المنطقي أن تنتشر أفكاره حيث يكثر العلم وأهله وتزدهر مدارسه ومعاهده، وأن تكون المجتمعات المتحضرة أقرب لفهم آرائه ومناقشتها وقبولها -أو نقدها- من البيئات الفقيرة علميًّا وثقافيًّا.
– الرفض والمعارضة لأفكار ابن تيمية نتيجة طبيعية ومتوقَّعة لأي مصلح ديني يأتي بأفكار وتصوّرات غير مألوفة لأهل زمانه، ويزعزع قناعات الأكثرية، محاولًا بجهوده المحدودة معاكسة هذا التيار لاسترداد الصيغة الأولى من الإسلام، وقد مضت السنة وجرت العادة بأن يلقى المصلحون الرفض والمعارضة من أقوامهم.
– تركز الخلاف بين ابن تيمية ومعاصريه من العلماء حول مسائل في الفقه والعقيدة، وهو خلاف قديم متجدِّد بين الاتجاه السلفي والاتجاه الكلامي، وتمحوَر حول عدد من مسائل الاعتقاد، وكذلك الشأنُ في الخلاف الفقهي، فهو أيضًا ظاهرة مألوفة في تاريخ الفقه الإسلامي بين مجتهد مجدد وجامد مقلد.
وقد عرفت البيئات الحضرية في الأندلس وبغداد وبلاد ما وراء النهر نماذجَ كثيرة لهذه الخلافات الفكرية، لكن المختلف في صراع ابن تيمية وخصومه هو تمرُّده على الواقع الفكري السائد آنذاك وما تضمنه من انحرافات منهجية عن هدي السلف في فهم الدين، في مقابل رد الفعل العنيف الذي جوبه به من قبل الخصوم، واستعانتهم بالسلطة السياسية لتصفية خلافهم الفكري معه، وما نشأ عن ذلك من اضطهاد لأتباعه وقمع لأنصار مدرسته في حياته وبعد مماته.
– من الأسباب التي حالت دون انتشار فكر ابن تيمية في زمانه التخلف الديني والتصوف الطاغي على عقول العامة والفقهاء والمدعوم من السلطة الحاكمة، ويكفي للدلالة على رداءة الحالة الفكرية آنذاك أن القضية التي حُبس فيها ابن تيمية أكثر من سنتين ومات في حبسه كانت متعلقة بموقفة من مسألة شد الرحال لزيارة القبر النبوي، هذه القضية تكشف طبيعة العقلية الخرافية التي تهوي بالفقيه العاقل إلى منزلة الأمي الجاهل الذي يعتقد بالأموات ويؤمن بقدرتهم على إجابة الدعاء ويلتمس البركة عند أضرحتهم.
كل ما تقدَّم يبيِّن حقيقة التلبيس الذي يمارسه من يقول: فكر ابن تيمية لم يجد له أرضية خصبةً في الحواضر فتلقَّفه البدو من أتباع محمد بن عبد الوهاب؛ إذ إنه يتجاهل غوغائية الفقهاء المعارضين له، وصدور المراسم السلطانية التي تمنع من اتباع عقيدته، ووفاته في السجن بسبب آرائه، والتنكيل بأتباعه من بعده، وهيمنة التصوف على الحياة الدينية بشكل عام.
فنحن أمام انتكاسة فكرية (التصوف) وممانعة علمائية مؤيدة بإرهاب الدولة وتدخُّلها لإلزام المجتمع باتجاه مذهبيّ وطريقة في الاعتقاد وقمع من يخالفها، كل ذلك يفسِّر محدودية تأثير ابن تيمية في بيئته.
– كان من الممكن تجنب الدخول في متاهة التحليلات المرفوضة وفق كل المعايير الموضوعية، والاكتفاء بالسبب المنطقي لانتصار المذهب السلفي في نجد في مقابل محدودية تأثيره في بيئة ابن تيمية، وهو الرعاية والحماية التي وفرتها الدولة السعودية للدعوة، فحفظتها من عدوان الخصوم، ومهدت الأرضية لانتشارها الفكري، وفي المقابل لم تفتقد دعوة ابن تيمية للدعم السياسي فحسب، بل كانت محل اضطهاد السلطة وقمعها، ولم تزل تلاحقها وتضيق الخناق على أتباعها حتى انتهى الأمر بإمامها حبيسا في السجن لم يخرج منه إلا إلى قبره([55]).
معرفتنا بهذا الأمر وحده كاف لحسم الجدل في هذا التفريق بين دعوة ابن تيمية والدعوة النجدية، بناء على الهوس بثنائية البداوة والحضارة وزجّها في كل قضية تخدم أصحاب الأهواء والأغراض.
ـــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([2]) الصحوة الإسلامية والتحدي الحضاري (ص: 18).
([3]) الاستقلال الحضاري (ص: 41-43)، الطريق إلى اليقظة الإسلامية (ص: 166-167)، الوسيط في المذاهب (ص: 112-118).
([4]) المجددون في الإسلام من القرن الأول إلى الرابع عشر (ص: 331-332).
([5]) الوسيط في المذاهب والمصطلحات الإسلامية (ص: 117).
([6]) ومن هؤلاء: محمد عبده وعبد المتعال الصعيدي، وكلاهما من التيار الإصلاحي في الأزهر، ومحمد عمارة المفكر الإسلامي المعروف، وأحمد أمين كما في كتابه زعماء الإصلاح في العصر الحديث (ص: 20-21).
([7]) عن خصائص المدنية الإسلامية انظر كتاب: (الوحي المحمدي) لمحمد رشيد رضا، وكتاب: (بين الدين والمدنية) لأبي الحسن الندوي.
([8]) المجددون في الإسلام (ص: 332).
([9]) ديوان إيليا أبو ماضي (ص: 513).
([10]) المجددون في الإسلام من القرن الأول إلى الرابع عشر (ص: 331).
([11]) رسالة إلى الدعوات الإسلامية من دعوة العمل الإسلامي (ص: 226، 233)، تاريخ الإصلاح في الأزهر (ص: 226).
([12]) حاضر العالم الإسلامي (1/ 40).
([13]) تاريخ الأقطار العربية (ص: 87-95)، الجذور الاجتماعية للحركة الوهابية (مجلة المستقبل العربي/ العدد 257/ 37-56)، تكوين الدولة القُطرية المنظور الوحدوي (مجلة المستقبل العربي/ العدد 12/ 35-60)، توحيد الجزيرة العربية دور الأيديولوجية والتنظيم في تحطيم البنى الاجتماعية الاقتصادية المعيقة للوحدة (مجلة المستقبل العربي العدد 93/ 28-40)، الصحراء العربية ثقافتها وشعرها عبر العصور قراءة أنثروبولوجية (ص: 457-473).
([14]) تاريخ الأقطار العربية (ص: 92).
([15]) الصحراء العربية ثقافتها وشعرها عبر العصور قراءة أنثروبولوجية (ص: 458).
([16]) تاريخ أرض الإسلام (ص: 141).
([17]) محاضرات المجمع العلمي العربي بدمشق (3/ 53-54).
([18]) مستقبل الإسلام (ص: 57).
([19]) السلف والسلفية (ص: 58).
([20]) مقال بعنوان: (خطأ العقلاء)، منشور في صحيفة الوقائع المصرية (4/ 4/ 1881م)، العدد (1079)، الأعمال الكاملة لمحمد عبده (1/ 323-325).
([21]) مقال بعنوان: (خطأ العقلاء)، منشور في صحيفة الوقائع المصرية (7/ 4/ 1881م)، العدد (1082)، الأعمال الكاملة لمحمد عبده (1/ 327-330).
([22]) ينظر: الأعمال الكاملة لياسين الحافظ (ص: 1154)، تاريخ الإصلاح في الأزهر (ص: 226)، رسالة إلى الدعوات الإسلامية من دعوة العمل الإسلامي (ص: 226، 235).
([23]) أبو الأعلى المودودي والصحوة الإسلامية (ص: 8).
([25]) الاستقلال الحضاري (ص: 41-43)، الطريق إلى اليقظة الإسلامية (ص: 166-167)، الوسيط في المذاهب (ص: 112-118).
([26]) تيارات الفكر الإسلامي (ص: 257-258). وانظر: تاريخ الإصلاح في الأزهر (ص: 226)، رسالة إلى الدعوات الإسلامية من دعوة العمل الإسلامي (ص: 235).
([27]) تيارات الفكر الإسلامي (ص: 253).
([28]) الصحوة الإسلامية والتحدي الحضاري (ص: 19).
([29]) الإسلام في القرن العشرين (ص: 58).
([30]) المجددون في الإسلام (ص: 331).
([31]) ومن الدراسات التي اهتمت بهذا المبحث كتاب: (انتشار دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب خارج الجزيرة العربية) لمحمد كمال جمعة، وكتاب: (دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأثرها في العالم الإسلامي) لمحمد عبد الله السلمان، وكتاب: (عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي) للدكتور صالح العبود.
([32]) مجلة المنار (5/ 157) عدد بتاريخ (24/ 5/ 1902م).
([33]) وذلك في كتابه: الآيات البينات في عدم سماع الأموات عند الحنفية السادات.
([34]) الدين في المجتمع العربي (ص: 334-335).
([35]) الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي في التاريخ المعاصر (ص: 6، 53).
([36]) زعماء الإصلاح في العصر الحديث (ص: 25).
([37]) الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي في التاريخ المعاصر (ص: 6-7).
([38]) ينظر: تاريخ السلفية في العراق.
([39]) آثار عبد الحميد بن باديس (5/ 270-271).
([40]) انظر كتاب: (صفحات من تاريخ الأحزاب السياسية في سورية القرن العشرين وأجواؤها الاجتماعية/ الفصل الثالث).
([41]) مقال بعنوان: (الحشوية والوهابية)، في مجلة المقتطف (34/ 223-227) (العدد 3 مارس 1909م).
([42]) عبد الرحمن الشهبندر حياته وجهاده (ص: 139).
([43]) الأسس الفكرية للثورة الإسلامية الإيرانية (ص: 134)، كشف الأسرار للخميني (ص: 35-37)، المصلح الديني الكبير آية الله شريعت سنكلجي مؤسس المدرسة الإصلاحية التوحيدية في إيران للدكتور سعد رستم.
([44]) كشف الأسرار (ص: 35-37).
([45]) الدولة التسلطية في المشرق العربي (ص: 324)، الدين في المجتمع العربي (ص: 334).
([46]) دراسة في طبيعة المجتمع العراقي (ص: 76-77).
([47]) الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي في التاريخ المعاصر (ص: 54).
([48]) منهم طه حسين وعبد الكريم الخطيب.
([49]) منهم مسعود ضاهر في كتابه: المشرق العربي المعاصر (ص: 272-273)، وعلي الوردي كما في كتابه: دراسة في طبيعة المجتمع العراقي (ص: 76-77)، وكتابه: منطق ابن خلدون (ص: 254-255).
([50]) من الذين تعرضوا بالنقد لنظرية ابن خلدون حول البداوة الدكتور سعد الصويان في دراسته: الصحراء العربية.. ثقافتها وشعرها عبر العصور قراءة أنثروبولوجية (ص: 321).
([51]) علم الجَمَال (3/ 151) النسخة الفرنسية، باريس 1944م، نقلا عن كتاب: هيجل والإسلام دراسة تحليلية ونقدية، أطروحة دكتوراه بجامعة وهران الجزائر (2005-2006).
([52]) الاستشراق.. الاستجابة الثقافية الغربية للتاريخ الإسلامي (ص: 71).
([53]) فيليب حتي عصر النبوة والخلافة الراشدة دراسة نقدية (ص: 351).
([54]) دراسة عن الوهابية للدكتور علي الوردي (ص: 14، 16-17)، المجددون في الإسلام (ص: 330-331)، رسالة إلى الدعوات الإسلامية من دعوة العمل الإسلامي (ص: 228).
([55]) وانظر مقالا بعنوان: (لوثيروس وابن تيمية) في مجلة المقتطف (1902م، العدد 10، 27/ 937-943).