الاثنين - 28 جمادى الآخر 1446 هـ - 30 ديسمبر 2024 م

تميُّز الإسلام في إرساء العدل ونبذ العنصريَّة “كلُّكم من آدم”

A A

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

تمهيد:

افتتح إبليس تاريخ العنصريَّة عندما أعلن تفوُّق عنصره على عنصر التُّراب، فأظهر جحوده وتكبُّره على أمر الله حين أمرَه بالسُّجود، فقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12].

كانَ هذا البيان العنصري المقيت الذي أدلى به إبليس في غَطرسته وتكبره مؤذنًا بظهور كثيرٍ ممن يتبعونه في ذلك التكبر وتلك العنصرية، ومنذ ذلك الحين استشرى هذا الدَّاء في البشرية، فيحتقر أحدهم الآخر من أجل لون بشرته أو عرقه أو شكله.

وكان من محاسن الإسلام ومميزاته العظام أن جاءَ بإلغاء هذه الطبقيَّة، وسعى حثيثًا إلى استئصال هذا الداء، فحذَّر من تبعاته، وشرع تشريعاتٍ عديدةً لتجريمه وتحريمه، ومن تأمَّل في المبادئ التي جاء بها الإسلام لمحاربة العنصرية وإلغاء الطبقيّة يعرف كيف أنَّ هذه القضية كانت من ضمن القضايا الكبرى التي عالجها الدِّين الحنيف.

وفي ظلِّ هذه الأمواج العاتية من التكبر والعنصرية في واقعنا المعاصر يحسن بنا أن نقف قليلًا عند مرافئ الحسن والجمال الذي جاء به الإسلام في هذا الباب، فقد ساهم الإسلام في إرساء المساواة العادلة في الحقوق الأساسية الفطرية، كما سعى إلى إلغاء العنصريَّة وتحريمها، وليس ذلك بتحريم العنصرية فحسب، بل بمنظومة أخلاقية متكاملة ينتشل الإنسان من أوحال العنصريَّة، ويشيع في الناس حب الآخرين ومودتهم، ويمكننا معرفة ذلك من خلال المسالك الآتية:

المسلك الأول: الدعوة إلى المساواة العادلة بين كلِّ البشر، وإلغاء الاعتماد على الفوارق الطبيعية كاللون والعِرق والإقليم:

فقد جاء الإسلام مخاطبًا البشريةَ كلَّها بأنَّها متساوية في الحقوق الإنسانية التي كفلتها الشريعة، فلم تُفضِّل فيها جنسًا أو لونًا أو عرقًا أو نسبًا، بل كفل للجميع تلك الحقوق، ويظهر ذلك من خلال المظاهر الآتية:

المظهر الأول: بيان أصل الخلقة والتساوي فيها:

بيَّن الإسلام مرات عديدة طبيعةَ الإنسان، ووحدة خلقته؛ ليدرك الإنسان مكانته في مسارات الحياة، بدءًا من أسرته المحيطة به، ووصولًا إلا تعامله مع مجتمعه الواسع في الدُّنيا كلها. ومعرفة هذه الحقيقة التي قرَّرها القرآن مرارًا تُعين على نقل الإنسان من ظنِّه تفوُّق عنصره أو لونه إلى إدراك أنَّ الجميع من أصلٍ واحد، فلا فضل لأحد على أحد من هذه الناحية.

وقد جاء في فاتحة سورة النساء قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، وقد بيَّنت هذه الآية بوضوح الأصل الذي صدرت منه البشرية، وهو آدم وزوجته حواء عليهما السلام، واقتضى ذلك أن يعرف النَّاس أنهم كلهم إنما يرجعون إلى أبٍ واحد وأمٍّ واحدة، وأنَّ الرَّابط الذي يجمع النَّاس على اختلاف ألوانهم ولغاتهم إنما هو رحمٌ واحد ووشيجة واحدة، يقول الطبري: “ثمَّ وصف -تعالى ذكره- نفسه بأنَّه المتوحّد بخلق جميع الأنام من شخصٍ واحد، معرفًا عباده كيف كان مبتدأ إنشائه ذلك من النَّفس الواحدة، ومنبههم بذلك على أنَّ جميعهم بنو رجل واحد وأم واحدة، وأنَّ بعضهم من بعض، وأنَّ حق بعضهم على بعض واجب وجوب حقّ الأخ على أخيه؛ لاجتماعهم في النسب إلى أب واحد وأم واحدة، وأنَّ الذي يلزمهم من رعاية بعضهم حقّ بعض -وإن بَعُدَ التَّلاقي في النسب إلى الأب الجامع بينهم- مثلُ الذي يلزمهم من ذلك في النَّسب الأدنى، وعاطفًا بذلك بعضهم على بعض، ليتناصفوا ولا يتظالموا، وليبذل القوي من نفسه للضعيف حقه بالمعروف على ما ألزمه الله له، فقال: {الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} يعني: من آدم”([1]).

وقد تكرَّر ذكر هذه الحقيقة مرات عديدة في كتاب الله، يقول تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 98]، ويقول تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189]، وقال تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الزمر: 6].

وتذكيرُ الناس بهذه الحقيقة كفيلٌ بإلغاء الفروقات التي تنسجها أفعالُ بعض الناس، كما أنَّه كفيل بإلغاء الصراع العنصري الذي يجرع الناسَ بعضهم بأس بعض وظلمهم، يقول الرازي: “النَّاس إذا عرفوا كون الكلّ من شخصٍ واحد تركوا المفاخرة والتكبُّر، وأظهروا التَّواضع وحسن الخلق“([2]).

بل حتى حين أخبرنا الله بتكريم الجنس البشري أخبرنا بتكريم جميع بني آدم، ولم يخص جنسًا بعينه، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70]، ومن هنا نعرف أنَّ التكريم الإلهي عامٌّ للبشرية جمعاء، وليس خاصًّا بالمسلمين وحسب، بل النُّصوص الشرعيَّة شديدة الوضوح في هذه النُّقطة، فتارةً تتحدَّث عن النَّاس، وتارة بلفظ بني آدم، وهذا التعميم لا تخفى دلالته على كل عاقلٍ منصفٍ مدركٍ للغة الخطاب القرآني، يقول ابن عاشور: “جاء الخطاب بـ{يَا أَيُّهَا النَّاسُ} ليشمل جميع أمَّة الدعوة الذين يسمعون القرآن يومئذ وفيما يأتي من الزمان، فضمير الخطاب في قوله: {خَلَقَكُمْ} عائدٌ إلى النَّاس المخاطَبين بالقرآن، أي: لئلا يختص بالمؤمنين -إذ غير المؤمنين حينئذ هم كفار العرب- وهم الذين تلقوا دعوة الإسلام قبل جميع البشر؛ لأنَّ الخطاب جاء بلغتهم، وهم المأمورون بالتَّبليغ لبقيَّة الأمم، وقد كتب النبيُّ صلى الله عليه وسلم كتبه للروم وفارس ومصر بالعربية لتترجم لهم بلغاتهم، فلمَّا كان ما بعد هذا النِّداء جامعًا لما يؤمر به الناس بين مؤمن وكافر نودي جميع النَّاس، فدعاهم الله إلى التَّذكر بأن أصلهم واحد إذ قال: {اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ}”([3]).

المظهر الثاني: إقرار الاختلاف بين البشر، ونبذ التَّفرقة القائمة على مجرَّد هذا الاختلاف:

فالله سبحانه وتعالى قد بيَّن أنَّ اختلافَ أعراق الناس وألوانهم وقبائلهم اختلافٌ طبيعيّ، وهو من آيات قدرته وحكيم صنعته، والله قد خلق الناس بهذا الاختلاف، وقد وضح الله الحكمة من ذلك فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13]، اختلافٌ وتنوعٌ في العرق واللون واللغة والقبائل؛ كلُّ ذلك لتقريب النَّاس بعضهم من بعض، لا لتفريقهم، ومن أعجب الأمور أن يُتَّخذ ما جعله الله للتقارب وسيلة للافتراق والتعصب ونبذ الآخر!

يقول الطبري مبينًا أنَّ هذا الاختلاف ليس لفضيلة فئةٍ على أخرى: “يقول تعالى ذكره: إنَّما جعلنا هذه الشعوب والقبائل لكم -أيها النَّاس- ليعرف بعضكم بعضًا في قرب القرابة منه وبعده، لا لفضيلةٍ لكم في ذلك“([4])، ويقول البغوي: “{لِتَعَارَفُوا}: ليعرف بعضكم بعضًا في قرب النسب وبعده، لا ليتفاخروا“([5]).

وفي هذه الآية إشارة لطيفة في قوله تعالى: {خَلَقْنَاكُمْ} إلى أنَّ هذا الاختلاف إنَّما هو من خلق الله، وليس من اختيار الإنسان، فلا وجه أصلًا للتفاضل بأمر ليس للإنسان يدٌّ فيه، وليس هو من كسبه، يقول الرازي: “قوله تعالى: {خَلَقْنَاكُمْ} و{جَعَلْنَاكُمْ} إشارة إلى عدم جواز الافتخار؛ لأن ذلك ليس لسعيكم، ولا قدرة لكم على شيء من ذلك، فكيف تفتخرون بما لا مدخل لكم فيه؟!”([6])، ويقول الزمخشري: “خلقنا كل واحد منكم من أبٍ وأم، فما منكم أحدٌ إلا وهو يدلي بمثل ما يدلي به الآخر، سواء بسواء، فلا وجه للتَّفاخر والتفاضل في النسب”([7]).

ولذا قطع الله سبحانه وتعالى هذا الوهم، أي: أن يهم أحدٌ بأنَّه يفضل غيره لمجرد كونه من عرقٍ أو لونٍ أو جنس معين، فقال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، فهذا هو المعيار الحقيقي لكون الإنسان أفضل من غيره، أن يكون فاضلًا بالتقوى الذي فَعَله باختياره، يقول الزمخشري: “ثمَّ بيَّن الخصلةَ التي بها يفضل الإنسان غيره، ويكتسب الشَّرف والكرم عند الله تعالى، فقال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}”([8]) ويقول ابن كثير: “فجميع الناس في الشَّرف بالنِّسبة الطينية إلى آدم وحواء سواء، وإنما يتفاضلون بالأمور الدينية، وهي طاعةُ الله ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال تعالى بعد النَّهي عن الغيبة واحتقار بعض الناس بعضًا، منبهًا على تساويهم في البشرية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13]، أي: ليحصل التَّعارف بينهم، كلٌّ يرجع إلى قبيلته”([9])؛ ولذلك أكَّد النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ الله إنما ينظر إلى محل التقوى وهو القلب، يقول عليه الصلاة والسلام: «إنَّ الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبِكم وأعمالِكم»([10])، فهذا هو المعيار الحقيقي الصحيح لكون الإنسان أفضل من غيره، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: «انظر، فإنَّك ليس بخيرٍ من أحمر ولا أسود إلا أن تفضلَه بتقوى»([11]).

فالمعيار الوحيد للتَّفاضل هو المعيار الرباني، وهو التقوى، وهو ما أكَّده النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته في أيام التشريق أمام الناس كلهم، ليئِد العنصرية والعصبية والتَّفرقة إلى الأبد، ويؤكِّد للنَّاس كلهم أنَّ هذا الدين إنما جاء جامعًا لا مفرِّقًا، وليرسي دعائم المحبة وحب الخير بين الناس كلهم، يقول النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم: «يا أيها النَّاس، ألا إنَّ ربَّكم واحد، وإنَّ أباكم واحد، ألا لا فضل لعربيٍّ على عجمي، ولا لعجمي على عربيٍّ، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتَّقوى، أبلَّغت؟»، قالوا: بلَّغ رسول الله([12]).

فالاختلاف بين البشر في الخلقة إذن أمرٌ طبيعيّ، بل جعله الله تعالى آية من آياته العظيمة في هذا الكون، فقال سبحانه: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾ [الروم: 22]، وليس هو مجالًا للعنصرية والتفرّق والتَّفاضل كما بيَّنَّا.

المظهر الثالث: عالميَّة الرسالة:

من أظهر ما يبين أنَّ الإسلام إنَّما جاء بالتساوي بين البشر وعدم التَّفضيل بينهم: أنَّ هذه الرسالة رسالة عالمية، فهي جاءت للعربي والعجمي، والأبيض والأسود، والذكر والأنثى، إلى الصغير والكبير، والغني والفقير، والحاكم والخفير، إلى الشُّعوب والقبائل كلها، وإنَّك أول ما تقرأ في كتاب الله في سورة الفاتحة قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] لا رب العرب وحدهم أو العجم، أو الأبيض أو الأسود فحسب، وإنَّما هو ربُّ العالمين، وتقرأ في آخر سورةٍ من القرآن قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ} [الناس: 1-3]، وبين أوَّل سورة وآخر سورة آيات عديدة تتحدَّث عن عالميَّة هذا الدين، كما في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1] وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28]، يقول ابن عاشور: “هذا الدِّين يدعو الناس كلهم إلى متابعته، ولم يخصَّ أمة من الأمم، أو نسبًا من الأنساب، فهو جديرٌ بأن يكونَ دين جميع البَشر، بخلاف بقيَّة الشرائع، فهي مصرِّحة باختصاصها بأممٍ معيَّنة“([13]).

وعالميَّة الرسالة التي أتى بها محمد صلى الله عليه وسلم لا تسمح بالتمييز العنصريّ بين الناس على أساس العرق أو اللون.

ومن مظاهر المساواة في هذا الدين من حيث كونه عالميًّا: أنَّ الله سوَّى بين الناس كلهم في الخطاب، وحين يكلِّف الله بشرائعه لا يخص قبيلةً أو عِرقًا أو لونًا بتشريعٍ دون الآخر، فالحلال في الإسلام حلالٌ على العرب والعجم، والأبيض والأسود والأحمر والأصفر، وكذلك الحرام حرامٌ على كل النَّاس، والعقوبات المترتبة على ارتكاب المحرم عقوباتٌ تنطبق على الجميع ولو كان من أشرف الناس نسبًا.

كما سوَّى بين النَّاس كلهم في الجزاء، وقد أكَّد الله سبحانه وتعالى على ذلك في مواضع كثيرة من كتابه العزيز فقال: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 195]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 124]، وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]، وقال تعالى: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر: 40].

فهذه ثلاثة مظاهر من خلالها نرى كيف أن الدين الإسلامي إنما جاء ليعدل بين الناس، ويساوي بينهم في حقوقهم الطبيعية الفطرية، ويلغي الطبقيَّة بين الناس، ويذيب الفوارق التي من خلالها يدَّعي البعض تفوقهم على الآخرين، ولم يفرق بين الناس بهذه المفرِّقات التي يتخذها بعض الناس، المفرقات العرقية، والإقليمية، واللسانية، والطبقية، كلها ألغاها الدين الإسلامي، وأعلن القرآنُ بصراحةٍ واضحةٍ بأنَّ التفاضل بين البشر لا يكون بما لم يكتسبوه بأفعالهم كألوانهم وأعراقهم وألسنتهم، بل وتوعَّد من اعتمد على هذه المعايير وفرَّق من أجلها الناس كما سيأتي بيانه.

المسلك الثاني: نبذ العنصرية في الإسلام:

لا شكَّ أنَّ المظاهر التي سبق عرضها تحمل في طيَّاتها نبذ العنصرية؛ إذ إنَّ الدعوة إلى المساواة العادلة، وعدم التَّفريق بين النَّاس في الحقوق الأساسيَّة، إنَّما هي دعوة إلى تفعيل ذلك في سائر شؤون الحياة بنبذ ما يضادُّها من العنصرية، ومع ذلك نرى في الشَّريعة حزمة كبيرة من المظاهر في نبذ العنصرية بالخصوص، وتحريم التفرقة على أساس العرقِ واللون، وهي كلها تؤكد على ما نروم بيانه من نبذ الإسلام للعنصرية، ويمكن تلخيص تلك المظاهر في الآتي:

المظهر الأول: ذمُّ التَّفاخر بالأنساب والتَّعصب الباطل للعرق واللون:

من أجلِّ مظاهر إلغاء العنصرية وأبينها في الإسلام أنَّه جاء بإلغاء التَّعصب الباطل للعرق أو اللون أو القبيلة، وقد كان هذا التَّعصب شائعًا قبل البعثة المحمَّدية، وكان شعار: “انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا” بمعناه الباطل هو السائد والمنتشر، وقد سبق بنا الحديث عن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13]، وأكَّد القرآن الكريم في مواطن أخرى بأنَّ الأنساب ليست هي المعيار التي تحدِّد منزلة الإنسان الدنيوية والأخروية، بل ستزول يوم القيامة، ولن يكون لها أي اعتبار، يقول تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101].

ويظهر ذلك واضحًا وجليًّا في تعامل النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته، فإنَّه بين لأقربائه أنَّ قرابتهم للنَّبي صلى الله عليه وسلم -وهو أفضل الخلق وسيدهم- لا تنفعهم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]: «يا معشَر قريش، اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئًا. يا بني عبد المطلب، لا أغني عنكم من الله شيئًا. يا عباس بن عبد المطلب، لا أغني عنك من الله شيئًا. يا صفية عمَّة رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئًا. يا فاطمة بنت رسول الله، سليني بما شئت، لا أغني عنك من الله شيئًا»([14])، كما بين صلى الله عليه وسلم أنَّ هذه الأنساب ستزول، وأنَّها ليست ممَّا تُقدم الإنسان عند الله سبحانه وتعالى، فقال: «ومن بطَّأ به عمله لم يسرع به نسبه»([15]). فالمعيار الحقيقي في الإسلام إنما هو التَّقوى، وبه يتفاضل الناس.

ومن أشدِّ ما نهت عنه الشريعة في هذا الباب: التفاخر بالأنساب، وكم فرَّق هذا التفاخر بين النَّاس، وأورث في قلوبهم الضَّغائن، وأوغر صدورهم على إخوانهم! لذا جاءت الشَّريعة وسدَّت هذا الباب، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله عز وجل قد أذهب عنكم عبِّيَّة الجاهلية وفخرها بالآباء؛ مؤمنٌ تقي، وفاجرٌ شقي، أنتم بنو آدم، وآدم من تراب، ليدعنَّ رجالٌ فخرهم بأقوام، إنَّما هم فحم من فحم جهنَّم، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن»([16]). فانظر كيف أرجعهم إلى أصلهم، وأسقط راية التَّعصب للأنساب بما يعمي عن الحق ويدعو إلى الباطل، فكلُّ الناس في شريعة الله سواء، وما الناس إلا مؤمن وفاجر، ذلك هو معيار دين الإسلام.

وقد أكَّد النَّبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر مرَّات عديدة، وبصيغٍ مختلفة، يقول صلى الله عليه وسلم: «إنَّ أنسابكم هذه ليست بسبابٍ على أحد، وإنَّما أنتم ولد آدم، طفُّ الصاع لم تملؤوه، ليس لأحد على أحد فضلٌ إلا بالدِّين أو عمل صالح»([17])، ويقول عليه الصلاة والسلام: «أربعٌ في أمَّتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة»([18]).

يقول ابن تيمية رحمه الله: “ذمَّ في الحديث من دعا بدعوى الجاهلية، وأخبر أنَّ بعض أمر الجاهلية لا يتركه النَّاس كلهم؛ ذمًّا لمن لم يتركه، وهذا كلُّه يقتضي أنَّ ما كان من أمر الجاهليَّة وفعلهم فهو مذموم في دين الإسلام، وإلا لم يكن في إضافة هذه المنكرات إلى الجاهلية ذمٌّ لها، ومعلوم أنَّ إضافتها إلى الجاهلية خرج مخرج الذم”([19]).

وليس القصد أن لا ينتسب الإنسان إلى قبيلته، أو عرقه، أو إقليمه وبلاده، بل ذلك ممدوح محمود إن لم يكن على سبيل التَّعصب الباطل، وغرس العنصرية، وإثارة الفتنة بين الناس، ولذلك كان النبي صلى الله عليه سولم ينتسب إلى عشيرته في أجلِّ المواطن: موطن الجهاد، فصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال في غزوة حنين: «أنا النَّبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب»([20]والإنسان مفطورٌ على حب أسرته، وقبيلته، وبلاده، وكل ذلك أمرٌ طبيعي، فالإسلام لم يأت ليناقض الفطر الإنسانية، والنبي صلى الله عليه وسلم حينما أخرج من مكة -موطنه- قال: «ما أطيبَكِ من بلدٍ وأحبَّكِ إليَّ! ولولَا أنَّ قومِي أخرجُوني مِنكِ ما سَكَنْتُ غيرَكِ»([21]فحبُّ الوطن والقبيلة والعشيرة أمرٌ طبيعي مقبولٌ محمود، وإنَّما المذموم العصبيَّة الجاهلية بالتَّفاخر بالأنساب الذي يؤدي إلى باطل، وإلى نصرة الظالم على المظلوم لمجرد الملاقاة في النسب، وهو ما بيَّنه ابن مسعود رضي الله عنه بقوله: “من نصر قومه على غير الحق فهو كالبعير الذي ردي، فهو ينزع بذنبه”([22]).

بل إذا ظهرت العصبيَّة فإنَّه يُذمُّ الانتساب لها حتى لو كان انتسابًا شرعيًّا، فعن جابر رضي الله عنه قال: كنَّا في غزاة، فكسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرين! فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما بال دعوى الجاهلية؟!» قالوا: يا رسول الله، كسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار، فقال: «دعوها؛ فإنها منتنة»([23])، وعند مسلم عن جابر قال: اقتتل غلامان: غلامٌ من المهاجرين، وغلامٌ من الأنصار، فنادى المهاجر -أو: المهاجرون-: يا للمهاجرين! ونادى الأنصاري: يا للأنصار! فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «ما هذا؟ دعوى أهل الجاهلية؟!» قالوا: لا يا رسول الله، إلا أنَّ غلامين اقتتلا، فكسع أحدهما الآخر، قال: «فلا بأس، ولينصر الرجل أخاه ظالمًا أو مظلومًا، إن كان ظالمًا فلينهه فإنَّه له نصر، وإن كان مظلومًا فلينصره»([24]).

وقد بينَّا أنَّ مطلق الانتساب إلى القبيلة ليس بمذموم، بل يكون محمودًا، وهو مباح في الأصل، أمَّا الانتساب إلى الأسماء الشرعية كالمهاجرين والأنصار فمستحبّ، ومع ذلك فإن هذا الانتساب بمجرد أن يصبح مدعاةً للتَّعصب القوميّ فإنَّه يُذم ويمنع، يقول ابن تيمية رحمه الله معلقًا على هذا الحديث: “فهذان الاسمان -المهاجرون والأنصار- اسمان شرعيان، جاء بهما الكتاب والسنة، وسمَّاهما الله بهما كما سمَّانا المسلمين من قبل، وانتساب الرجل إلى المهاجرين أو الأنصار انتسابٌ حسنٌ محمودٌ عند الله وعند رسوله، ليس من المباح الذي يقصد به التَّعريف فقط كالانتساب إلى القبائل والأمصار، ولا من المكروه أو المحرم كالانتساب إلى ما يفضي إلى بدعة أو معصية أخرى، ثمَّ مع هذا لمَّا دعا كل منهما طائفة منتصرًا بها أنكرَ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وسمَّاها دعوى الجاهلية حتى قيل له: إنَّ الداعي بها إنَّما هما غلامان لم يصدر ذلك من الجماعة، فأمر بمنع الظَّالم وإعانة المظلوم؛ ليبين النَّبي صلى الله عليه وسلم أن المحذور إنما هو تعصّب الرجل لطائفته مطلقًا فعلَ أهل الجاهلية، فأما نصرها بالحق من غير عدوان فحسَن واجبٌ أو مستحبٌّ”([25]).

وخلاصة هذا أنَّ الإسلام لم ينظر إلى اختلاف الأجناس والألوان، ولم يمنع الناس من الانتساب الصحيح بل دعا إليه، لكنَّه منع الناس من التَّعصب الأعمى للقبيلة، أو العرق، أو اللون، أو الطائفة، التَّعصب الذي يعمي عن الحق، ويدفع إلى الباطل، وهكذا قضى الإسلام على كل صور العنصريَّة والطبقيَّة التي كانت سائدةً قبل زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذا نجد أن الإسلام جمع بين سلمان الفارسي وبلال الحبشي وأبي بكر القرشي، بل فضَّل هؤلاء على العرب في أمور، وكل ذلك دليل على أنَّ الإسلام لم ينظر أبدًا إلى قضية العرق واللون والنسب في الاستحقاقات الشرعية والحقوق الأساسية.

وكم هو مقيت أن يظنَّ الإنسان نفسه أنه في درجة أعلى من النَّاس لمجرد لونه أو عرقه أو نسبه، فيتعامل مع الناس بناءً على ذلك، فكان من محاسن الإسلام أن أسقط تلك الراية الباطلة، وجعل محلها المساواة والمحبة والألفة والمودة والرحمة، وقد أغلق بذلك بابًا عظيمًا من أبواب الشر والتفرق.

المظهر الثاني: ذم تفضيل الناس من أجل العرق واللون:

ذمَّت الشَّريعة تفضيل بعض الناس في الحقوق الأساسية بناءً على مجرَّد العرق أو اللون أو غير ذلك، وقد بيَّنت الشريعة ذلك حتى مع أفضل البشر محمد صلى الله عليه وسلم، فعن سعد رضي الله عنه قال: كنَّا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال المشركون للنَّبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا، قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست أسميهما، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه فأنزل الله عز وجل: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52]([26]). أنزل الله سبحانه وتعالى قرآنًا يتلى من أجل أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يتألف قومًا من كبار كفار قريش، فبين الله أنَّ الضعفاء لهم نفس الحق في رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن أن يغمط شيء من هذا الحق لمجرد أنسابهم أو أعراقهم، ومثل ذلك أيضا حين كان عند النبي صلى الله عليه وسلم عظماء قريش، وكان يحب أن يتألفهم ويسلموا؛ لأن ذلك يعني إسلام كثيرٍ من أقوامهم، فجاءه عبد الله بن أم مكتوم، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم مقبلًا على هؤلاء الكفار، فعاتبه الله سبحانه وتعالى في كتابه منبهًا لأمته من بعده أنَّ هذا الدين جاء يقضي على هذا التمايز بين الخلق على أساس الأنساب والأعراق، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: أنزل: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} في ابن أمِّ مكتوم الأعمى؛ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول: يا رسول الله أرشدني، وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ من عظماء المشركين، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعرض عنه ويُقبل على الآخر، ويقول: «أترى بما أقول بأسًا؟ فيقول: لا، ففي هذا أنزل([27]).

ومن أعظم ما يُذكر في هذا الباب: ما كان متفشّيًا عند الكفار في زمن النَّبي صلى الله عليه وسلم من التَّفريق بين الناس في العقوبات حسبَ أنسابهم، فأبطل ذلك الإسلامُ، فعن عائشة رضي الله عنها أنَّ قريشا أهمَّهم شأنُ المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: ومن يكلِّم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فكلَّمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟!» ثم قام فاختطب، ثم قال: «إنَّما أهلك الذين قبلكم أنَّهم كانوا إذا سرق فيهم الشَّريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضَّعيف أقاموا عليه الحد. وايم الله، لو أنَّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»([28])، فمهما علا نسبُ الإنسان فإنَّه أمام شرع الله مثله مثل غيره، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ هذه العنصرية والتَّفريق بين الضعفاء والأقوياء والأغنياء والفقراء كان سببًا في هلاك الأمم؛ لذلك أقسم على أنَّ ابنته فاطمة رضي الله عنها لو فعلت ما يوجب الحد لأقامه عليها، مبينًا نبذ هذه العنصرية في التعامل، بادئًا في ذلك بأهل بيته رضوان الله عليهم.

المظهر الثالث: ذم تعيير الناس من أجل العرق واللون:

إن كانت الشَّريعة قد ذمَّت تفضيل النَّاس بحسب العرق أو اللون، فكذلك ذمَّت التعيير بحسب العرق واللون، فعن المعرور بن سويد قال: لقيت أبا ذر بالربذة وعليه حلَّة وعلى غلامه حلَّة، فسألته عن ذلك، فقال: إني ساببت رجلًا فعيرته بأمِّه، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أبا ذر، أعيرته بأمِّه؟! إنك امرؤٌ فيك جاهليَّة، إخوانكم خَوَلُكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه ممَّا يأكل، وليلبسه ممَّا يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم»([29])، فبيَّن له النبي صلى الله عليه وسلم أن من كان تحته من العبيد فإنَّما هم إخوانه، ولا شكَّ أن تلك مرتبة سامية جاءت بها الشريعة لنبذ العصبية والعنصرية.

ومن أجل ذلك جاءَ الأمر الإلهي في القرآن الكريم بالنَّهي عن السخرية من الإنسان أيًّا كان، وعن التَّنابز بالألقاب؛ لما فيه من تحقيرٍ للآخر، وهو عين العنصرية التي تمارس في كثير من الأحيان، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11]، فالسخرية من الآخرين لأعراقهم أو ألوانهم أو أحوالهم أو طبقتهم في المجتمع هو من السخرية التي نهى عنها الله ورسوله، يقول الضَّحاك: “نزَلَت في وفد بني تميم الذي ذكرناهم، كانوا يستهزئون بفقراء أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم مثل عمَّار وخباب وبلال وصهيب وسلمان وسالم مولى أبي حذيفة؛ لما رأوا من رثاثَةِ حالهم”([30])، ويقول السعدي رحمه الله: “وهذا أيضًا من حقوق المؤمنين بعضهم على بعض، أن لا يسخر قومٌ من قوم بكل كلامٍ وقولٍ وفعلٍ دالٍّ على تحقير الأخ المسلم، فإن ذلك حرام لا يجوز، وهو دالٌّ على إعجاب الساخر بنفسه، وعسى أن يكون المسخور به خيرًا من الساخر كما هو الغالب والواقع، فإنَّ السخرية لا تقع إلا من قلبٍ ممتلئٍ من مساوئ الأخلاق، متحَلٍّ بكل خلقٍ ذميم”([31]).

ومثل السخرية في التَّحريم: التَّنابز بالألقاب، يقول الطَّبري: “عنى بها الألقاب التي يَكرَهُ النبزَ بها الملَقَّبُ، وقالوا: إنَّما نزلت هذه الآية في قوم كانت لهم أسماء في الجاهلية، فلما أسلموا نُهُوا أن يدعُوَ بعضهم بعضًا بما يكره من أسمائه التي كان يُدعى بها في الجاهلية”([32])، وقال ابن كثير: “وقوله: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} أي: لا تتداعَوا بالألقاب، وهي التي يسوء الشخصَ سماعُها”([33]).

وممَّا يحزن القلبَ ما يراه الإنسان في مواقع التواصل والمنتديات من تنابزٍ بالألقاب بين المسلمين أنفسِهم، بل بين أهل البلاد الواحدة، وهو -فضلًا عن كونه محرمًا في الشريعة- له آثار سيئة على التماسك المجتمعي، وإيثارٌ للفتن، وتفريقٌ للكلمة؛ ولذا سدَّت الشريعة هذا الباب بالتحريم الصريح.

تطبيق لا مجرَّد تنظير:

حين شرَّع الإسلام العدل بين النَّاس، وكفل لهم حقوقهم المشروعة، وحرَّم العنصرية وكل ما يؤدِّي إليها من قولٍ أو فعل، لم يكن ذلك مجرد تنظير، بل كان الجانب التطبيقي حاضرًا وبارزًا في تعامل الإسلام مع العنصرية، فلم يكتف الإسلامُ بوضع حلٍّ نظري لمشكلة العنصرية وتأكيد المساواة والإخاء والعدل، وإنَّما وضع نظامًا عمليًّا لمحاربة العنصرية، ويمكننا أن نرى ذلك في موضعين:

الموضع الأول: حرصُ الشَّريعة على كل ما يحفظ هذا التنظير وينقله من هذه الخانة إلى خانة التطبيق:

فلم تكتف الشَّريعة بأن نظَّرت لتحريم العنصرية ومبدأ العدل بين الناس فحسب، وإنما جاءت الأحكام الإسلامية أيضًا متضمنةً لنبذ العنصرية، وتقرير العدل والمساواة الحقة، بل تكاد تكون جميع العبادات الكبرى متضمنة لهذا المعنى.

فالصَّلاة مثلًا من أكثر ما يغرس في الإنسان المساواة ونبذ العنصرية، ليس هناك أي تخصيص لأي فئة في الصلاة، فلا عبرة بكون الإنسان وزيرًا أو أميرًا أو غنيًّا أو فقيرًا، أو أبيض أو أسود، بل من أتى إلى المسجد وقف في الصف، ووقف بجانبه من جاء بعده مهما كانت منزلته، فتجد الفقير بجانب الوزير، والأبيض يحاذيه الأسود، وأستاذ الجامعة يقف بجانبه عامل النَّظافة، فترى في المساجد المساواة ونبذ العنصرية في صورتها العملية التطبيقية.

وهذا المعنى في الحج أظهر وأبيَن، حين يتخلَّص الجميع من كلِّ لباس إلا الإزار والرداء، فيتفق فيهما الجميع، يلغي الحج كل الفوارق الطبقية واللّونية والعرقية والإقليمية، ويفرض على الجميع شعارًا واحدًا، ولباسًا واحدًا، وأحكامًا يشترك فيها الجميع.

الموضع الثاني: حال النبي صلى الله عليه وسلم في نبذ العنصرية وتحقيق ذلك في بلاد الإسلام:

فمن يتأمَّل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام يجد أروع الأمثلة للمساواة والعدل ونبذ العنصريَّة، فلا عبرة باللون أو العرق أو القبيلة أو الوضع الاجتماعي أو الاقتصادي حينما يختار النبي صلى اله عليه وسلم صحابته لمهامِّه، وعندما يجالسونه، ويؤاكلونه، ويسمعون منه، ويأتمُّون به في الصف، بل كان بلال الحبشي مؤذنَ النَّبي صلى الله عليه وسلم وهي منزلة رفيعة بلا ريب، بل حين فتح الله لرسوله وللمسلمين مكَّة المكرمة أمر النَّبي صلى الله عليه وسلم بلالًا أن يرقى الكعبة ليؤذِّن في مشهدٍ مهيب، وأمام عظماء وأشراف قريش، واضعًا بذلك الميثاق الأعظم للأخوَّة بين النَّاس والتعامل فيما بينهم، فلا لون ولا عرق ولا إقليم يحدِّد أفضلية الشخص، يقول مقاتل وهو يحكي سبب نزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]: “لَمَّا كان يوم فتح مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالًا حتى علا ظهر الكعبة وأذَّن، فقال عتاب بن أسيد بن أبي العيص: الحمد لله الذي قبَض أبي حتى لم يرَ هذا اليوم، وقال الحارث بن هشام: أمَا وجَد محمَّدٌ غير هذا الغراب الأسود مؤذِّنًا؟! وقال سهيل بن عمرو: إن يردِ الله شيئا يغيّره، وقال أبو سفيان: إنِّي لا أقول شيئًا؛ أخاف أن يخبِر به ربُّ السماء، فأتى جبريل فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قالوا، فدعاهُم وسألهُم عمَّا قالوا فأقرُّوا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وزجرهم عن التَّفاخر بالأنساب والتَّكاثر بالأموال والإزراء بالفقراء”([34]).

فالمعيار في الإسلام إذًا لا يكون باللون أو العرق أو الإقليم؛ ولذلك حين أرسل النَّبي صلى الله عليه وسلم سرية إلى الروم في غزوة مؤتة أمَّر عليهم زيد بن حارثة رضي الله عنه وكان من الموالي، وفي الجيش جعفر بن أبي طالب.

فالإسلام أزال وأذاب الفوارقَ التي تقومُ على أساسٍ من الجنس أو العِرق أو اللون، وبذلك تعامل الصحابة الكرام، فهذا بلال رضي الله عنه يقول عنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا”([35])، هذه هي المساواة التي طبقها الإسلام ليكون مبنيًّا على التَّقوى؛ ولذا لم يشفع لأبي لهب أن كان من أشراف قريش، أو كان عمًّا للنَّبي صلى الله عليه وسلم، بينما سمع النبي صلى الله عليه وسلم خشخشة في الجنَّة، فنظر فإذا هو بلال بن رباح رضي الله عنه([36]).

وقفات:

مع إيمان الجميع بأن الإسلام يجرِّم العنصرية، وأن تعاليمه وتشريعاته قد جاءت بالعدل والإنصاف، وبتحريم العنصرية ونبذها، إلا أن هناك من يطرح بعضَ الأسئلة حول تميّز الإسلام في هذا الباب، أو احتوائه على بعض العنصرية، ومن أشهر هذه الاعتراضات:

الاعتراض الأول: أنَّ العنصريَّة موجودة في التَّنظير الإسلامي، وعند المسلمين، فقد روى عبد الرزاق في مصنَّفه عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه أنَّه كان لا يأكل ذبيحة الزنجي، قال: فقلت لابن طاوس: لم؟ قال: كان أبي يقول: “وهل رأيت في زنجيٍّ خيرًا قط؟!”([37])، فهذه عنصريَّة موجودة عند طاوس وهو من كبار فقهاء التَّابعين، ما يعني أنَّه أخذ ذلك من المنظومة الإسلامية([38]).

وقبل أن أبيِّن الجواب عن هذا الإشكال أودُّ أن أنبِّه إلى أنَّ هذا لم يُنسب إلى طاوس فحسب، وإنَّما نسب ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقد وردت أحاديث في ذمِّ الزنوج مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الزنجي إذا جاع سرق، وإذا شبع زنى»([39])، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا خير في الحبش؛ إذا جاعوا سرقوا، وإن شبعوا زنوا، وإن فيهم لخلتين حسنتين: إطعام الطعام، وبأس عند البأس»([40]وهذه الأحاديث كلها غير صحيحة، بل موضوعة.

وهذه الأحاديث أوردها ابن الجوزي في الموضوعات([41])، بل ذكر عدة نصوص أخرى تتعلَّق بهذا المعنى، وبيَّن أنها كلها موضوعة مكذوبة على النَّبي صلى الله عليه وسلم. وأورد ابن القيم رحمه الله عددًا من تلك الأحاديث وبيَّن وضعها، بل ذكر لذلك قاعدةً في كتابه الشهير “المنار المنيف” فقال: “ومنها: أحاديث ذم الحبشة والسودان كلها كذب”([42]).

أمَّا ما أُورِد عن طاوس فيُجاب عنه بأنَّ عبد الرزاق قد اختلط في آخر عمره، وهذا الإسناد ظاهره الصحة؛ لكن ينبغي أن نقف معه وقفةً فاحصةً، ونقارن هذا النَّص بالنصوص الأخرى لطاوس ومواقفه الأخرى، والسبب في ذلك أنَّ عبد الرزاق كان ممن اختلط في آخر عمره كما بينَّا وإن كان هو في الأصل حافظًا ضابطًا.

فعبد الرزاق له أحاديث أخطأ فيها، خاصَّة فيما روى عن معمر، كما في السند الذي بين أيدينا، يقول أبو الحسن الدارقطني عنه: “ثقة يخطئ على معمر في أحاديث لم تكن في الكتاب”([43])، ويقول البخاري حين سُئل عن حديثٍ: “لا أعرف أحدًا روى هذا الحديث عن معمر غير عبد الرزاق، وعبد الرزاق يهم في بعض ما يحدّث به”([44])، ومن النُّصوص المهمَّة في بيان حاله ما قاله الإمام أحمد بن حنبل إذ قال: “عمِي في آخر عمره، وكان يُلقَّن فيتلقَّن، فسماع من سمع منه بعد المئتين لا شيء“([45])، ويقول ابن حجر واصفًا سبب تغيره: “ثقة حافظ مصنف شهير، عمي في آخر عمره فتغير”([46]فوجب التوقف في هذا النص الذي نقله عن طاوس، بل هو نصٌّ منكر لا يصح؛ وذلك لعدد من الاعتبارات منها:

1- أنَّ طاوسًا نفسه قيل: إنَّه من الموالي، وإنَّ أباه فارسيّ، قال ابن سعد في سيرته: “كان طاوس مولى بحير بن ريسان الحميري، وكان ينزل الجَنَد. وقال الفضل بن دكين وغيره: هو مولى لهمدان. وقال عبد المنعم بن إدريس: هو مولى لابن هوذة الهمداني. وكان أبو طاوس من أهل فارس وليس من الأبناء، فوالى أهل هذا البيت”([47])، وقال الذهبي في سيرته: “طاوس بن كيسان الفارسي، الفقيه القدوة، عالم اليمن، أبو عبد الرحمن الفارسي، ثم اليمني، الجَنَدي، الحافظ. كان من أبناء الفرس الذين جهَّزهم كسرى لأخذ اليمن له. فقيل: هو مولى بحير بن ريسان الحميري. وقيل: بل ولاؤه لهمدان”([48])، وقال ابن كثير: “وهو من أبناء الفرس الذين أرسلهم كسرى إلى اليمن”([49])، والشاهد من هذا أنه إن كان هو نفسه من الموالي فمن المستبعد أن يتحدَّث عن شخصٍ آخَر بسبب عِرقِه، وإن كان هذا ليس بمستحيل.

2- أن بعض كبار أصحاب طاوس ليسوا عربًا بل موالي، وبعضهم وصفُه يقترب ممَّن ورد عنهم هذا النص، كعطاء بن أبي رباح، فقد كان أسود أعور أعرج أشلَّ، وهو من كبار جلَّاسه وأصحابه، ومع ذلك لم تؤثر عن طاوس كلمة واحدة فيه، ولا في غيره.

3- حتى إن تنزَّلنا وقلنا: إنَّ هذا قد ثبت عنه بإسناد صحيح، فالإسلام ليس محصورًا في طاوس، ولم يعز طاوس فعله إلى نصٍّ قرآني، ولا حديثٍ نبوي، بل ولا فعلِ صحابي، وإنَّما هو مجرد رأي منه، نقول: قد أخطأ فيه، وقد وقع الصحابة في ذنوب كبيرة ولم نعز ذلك إلى الإسلام، بل وقع أبو ذر في نفس ما وقع فيه طاوس حين عيَّر رجلًا بأمه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إنك امرؤ فيك جاهلية»([50])، فبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك خطأ منه، ونقول مثله في طاوس إن ثبت ذلك منه، فالحجة في النُّصوص الشرعية لا في أخطاء الأتباع.

الاعتراض الثاني: أنَّ العنصرية في الواقع تحدث في بلاد المسلمين وغيرهم، وكما أنَّ الإسلام جاء بتحريم العنصرية ونبذها، فكذلك الدول كلها تجرِّم العنصرية، وتجعلها مخالفة للقانون، فلا ميزة للإسلام عن سائر القوانين الوضعية!

والجواب: أنَّ ثمة فرقًا جوهريًّا بين ما جاء به الإسلام في باب العنصرية وتحريمها، وبين تجريم العنصرية في القوانين الوضعية، ويتمثل هذا الفرق في أمور:

1- أنَّ الإسلام لا يجرم حالات معيَّنة فحسب، بل هو نظامٌ شاملٌ يحرمُ فعلًا ويبين مدلولات خطئه، ويقدم الصحيح فيه كمعيار التَّقوى في التفاضل بعد تحريم التفاضل بالأنساب والأعراق.

2- أنَّ الإسلام جاء بمنظومة شاملة في إصلاح الأخلاق والأعمال، فلا يكتفي بإصدار عقوبة تجاه الفعل العنصري فحسب؛ وإنَّما يُصلح المشكلة من جذورها، فليست تشريعات الإسلام في تحريم العنصرية فقط، وإنما في غرس المساواة الحقة والعدل، وتهذيب النفوس، وإرساء الأخوة والمودة بين المسلمين، وبيان تواد المسلمين وتراحمهم، وبالمقارنة مع القانون الوضعي نجد أن القانون يجرم الفعل وحده فحسب، فما في الإسلام في هذا الباب هو أعمق وأوفر بكثير من بضع المواد التي تجرم الفعل وحده وتعاقب عليه.

3- وجود نماذج لممارسة العنصرية في بلاد المسلمين لا يعني وجود قصور في التَّصور الإسلامي، وإنما ضعف في التمسك به، ومع ذلك فالأصول التي قدمها الإسلام في هذا الباب لا يوازيها أي أصول ضمن تشريعات وضعية أخرى، فليس الحديث عن مجرد وقوع العنصرية هنا أو هناك، وإنما عن الأصول والتنظيرات التي تقدمها المنظومة الإسلامية والوضعية عن هذا الأمر، فهل ثمة تشريعات مؤسِّسة للعدل والمساواة الحقة، ومجرِّمة للعنصرية، وغارسة لقيم التسامح والإخاء والمحبة والمودة مثل التشريعات الإسلامية؟! الجواب: كلا؛ فليس في تلك الثقافات ما يوازي ما هو موجود في الثقافة الإسلامية، بل ولا يدانيه.

4- القانون إجراءٌ محدَّدٌ، لفعلٍ محدد، في زمنٍ محدد، وغيابه يعني الوقوع في المحظور من فئة كبيرة من الناس، نعم؛ ليس بالضرورة عند غياب القانون أن يرتكب الجميع الممنوع الذي جرَّمه القانون، ولكن عند المقارنة بين وجود قانون فقط لتجريم فعل محدد وبين وجود قانون ووازع وضمير واستشعار مراقبة الله ومنظومة متكاملة من الأخلاق السابقة واللاحقة للفعل، نجد أنَّ المجتمعات التي تتمسك بالثاني أكثر تفوقًا في الامتناع عن الفعل المحظور، ولك في كثير من حالات غياب القانون في الدول غير المسلمة خير مثال([51]).

وأخيرًا: للعنصريَّة آثار وخيمة على الفرد والمجتمع، وكم ألحقت من أذى نفسي واجتماعي واقتصادي بالأفراد والدول، وما شاعت في مجتمع إلى تفرَّق وتشظى؛ لذا جاء الإسلام بسدّ كل بابٍ يؤدّي إليها، وحفِظَ للنَّاس حقوقهم، وذكَّرهم بأصلهم، ثم جعل كثيرًا من العبادات إنما تحقّق وحدة الصف التي يريدها الإسلام، فليس داخل الإسلام إلا الحبّ والود والرَّحمة بين النَّاس؛ لأنَّ راية الإسلام التي رفعها هي راية الإخاء والمودة والمساواة الحقة والعدل، لا راية العصبية والعنصرية والتفريق بين الناس.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) تفسير الطبري (7/ 513-514).

([2]) تفسير الرازي (9/ 477).

([3]) التحرير والتنوير (4/ 214).

([4]) تفسير الطبري (22/ 312).

([5]) تفسير البغوي (4/ 265)، وانظر: تفسير الزمخشري (4/ 375).

([6]) تفسير الرازي (28/ 113).

([7]) تفسير الزمخشري (4/ 374).

([8]) تفسير الزمخشري (4/ 375).

([9]) تفسير ابن كثير (7/ 385).

([10]) أخرجه مسلم (2564).

([11]) أخرجه أحمد (21407)، قال المنذري في الترغيب والترهيب (4/ 61): “رواته ثقات مشهورون، إلا أن بكر بن عبد الله المزني لم يسمع من أبي ذر”، وحسنه لغيره الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2963).

([12]) أخرجه أحمد (23489)، وصححه إسناده ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 412).

([13]) التحرير والتنوير (4/ 215).

([14]) أخرجه مسلم (206).

([15]) أخرجه مسلم (2699).

([16]) أخرجه أبو داود (5116) واللفظ له، والترمذي (3955)، وحسن إسناده المنذري في الترغيب والترهيب (4/ 62)، وصححه ابن تيمية في الاقتضاء (1/ 247).

([17]) أخرجه أحمد (17313) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، وهو في صحيح الترغيب والترهيب (2962).

([18]) أخرجه مسلم (934).

([19]) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/ 235).

([20]) أخرجه البخاري (2864)، ومسلم (1776).

([21]) أخرجه الترمذي (3926) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقال: “حسن غريب من هذا الوجه”، وصححه ابن حبان (3709)، وقال ابن عبد البر في التمهيد (6/ 33): “من أصح الآثار”.

([22]) أخرجه أبو داود (5117).

([23]) أخرجه البخاري (4905).

([24]) أخرجه مسلم (2584).

([25]) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/ 241).

([26]) أخرجه مسلم (2413).

([27]) أخرجه الترمذي (3331)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي.

([28]) أخرجه البخاري (3475)، ومسلم (1688).

([29]) أخرجه البخاري (30) واللفظ له، ومسلم (1661).

([30]) انظر: تفسير البغوي (4/ 261).

([31]) تفسير السعدي (ص: 801).

([32]) تفسير الطبري (22/ 299).

([33]) تفسير ابن كثير (7/ 376).

([34]) انظر: تفسير البغوي (7/ 347).

([35]) أخرجه البخاري (3754).

([36]) انظر: صحيح مسلم (2457).

([37]) مصنف عبد الرزاق (8565).

([38]) أورد هذا الإشكال بعض الحسابات في مواقع التواصل على سبيل نقد التصور الإسلامي للعنصرية.

([39]) أورده السرخسي في المقاصد الحسنة (ص: 189)، وهو مروي في جزء فيه حديث أبي سعيد الأشج (52).

([40]) أورده الطبراني في المعجم الكبير (12213).

([41]) الموضوعات (2/ 233).

([42]) المنار المنيف في الصحيح والضعيف (ص: 101).

([43]) ينظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (36/ 182).

([44]) ينظر: العلل الكبير للترمذي (ص: 199).

([45]) ينظر: المختلطين للعلائي (ص: 74).

([46]) تقريب التهذيب (ص: 354).

([47]) الطبقات الكبرى (6/ 66).

([48]) سير أعلام النبلاء (5/ 38).

([49]) البداية والنهاية (9/ 235).

([50]) أخرجه البخاري (30) واللفظ له، ومسلم (1661).

([51]) طرح الدكتور فهد العجلان هذا الإشكال في حسابه على تويتر، وأجاب عنه، واستفدت من مقالته في بعض الأوجه المذكورة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جديد سلف

التحقيق في موقف ابن الزَّمْلَكَاني من ابن تيّمِيَّة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: يُعتَبَر ابن الزَّمْلَكَاني الذي ولد سنة 667هـ مُتقاربًا في السنِّ مع شيخ الإسلام الذي ولد سنة 661هـ، ويكبره شيخ الإسلام بنحو ست سنوات فقط، وكلاهما نشأ في مدينة دمشق في العصر المملوكي، فمعرفة كلٍّ منهما بالآخر قديمة جِدًّا من فترة شبابهما، وكلاهما من كبار علماء مذهبِه وعلماء المسلمين. […]

الشَّبَهُ بين شرك أهل الأوثان وشرك أهل القبور

مقدمة: نزل القرآنُ بلسان عربيٍّ مبين، وكان لبيان الشرك من هذا البيان حظٌّ عظيم، فقد بيَّن القرآن الشرك، وقطع حجّةَ أهله، وأنذر فاعلَه، وبين عقوبته وخطرَه عليه. وقد جرت سنة العلماء على اعتبار عموم الألفاظ، واتباع الاشتقاق للأوصاف في الأفعال، فمن فعل الشرك فقد استوجب هذا الاسمَ، لا يرفعه عنه شرعًا إلا فقدانُ شرط أو […]

هل مُجرد الإقرار بالربوبية يُنجِي صاحبه من النار؟

مقدمة: كثيرٌ ممن يحبّون العاجلة ويذرون الآخرة يكتفون بالإقرار بالربوبية إقرارًا نظريًّا؛ تفاديًا منهم لسؤال البدهيات العقلية، وتجنُّبا للصّدام مع الضروريات الفطرية، لكنهم لا يستنتجون من ذلك استحقاق الخالق للعبودية، وإذا رجعوا إلى الشرع لم يقبَلوا منه التفصيلَ؛ حتى لا ينتقض غزلهم مِن بعدِ قوة، وقد كان هذا حالَ كثير من الأمم قبل الإسلام، وحين […]

هل كان شيخ الإسلام أبو عثمان الصابوني أشعريًّا؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: مِن مسالك أهل الباطل في الترويج لباطلهم نِسبةُ أهل الفضل والعلم ومن لهم لسان صدق في الآخرين إلى مذاهبهم وطرقهم. وقديمًا ادَّعى اليهود والنصارى والمشركون انتساب خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام إلى دينهم وملَّتهم، فقال تعالى ردًّا عليهم في ذلك: ﴿‌مَا ‌كَانَ ‌إِبۡرَٰهِيمُ يَهُودِيّا وَلَا نَصۡرَانِيّا وَلَٰكِن كَانَ […]

هل علاقة الوهابية بالصوفية المُتسنِّنة علاقة تصادم؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: تعتبر الصوفيةُ أحدَ المظاهر الفكرية في تاريخ التراث والفكر الإسلامي، وقد بدأت بالزهد والعبادة وغير ذلك من المعاني الطيِّبة التي يشتمل عليها الإسلام، ثم أصبحت فيما بعد عِلمًا مُستقلًّا يصنّف فيه المصنفات وتكتب فيه الكتب، وارتبطت بجهود عدد من العلماء الذين أسهموا في نشر مبادئها السلوكية وتعدَّدت مذاهبهم […]

مناقشة دعوى بِدعية تقسيم التوحيد

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة    مقدّمة: إن معرفة التوحيد الذي جاء به الأنبياء من أهم المهمّات التي يجب على المسلم معرفتها، ولقد جاءت آيات الكتاب العزيز بتوحيد الله سبحانه في ربوبيته وأنه الخالق الرازق المدبر، قال تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]، كما أمر الله تبارك وتعالى عباده […]

اتفاق علماء المسلمين على عدم شرط الربوبية في مفهوم العبادة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدّمة: كنّا قد ردَدنا في (مركز سلف) على أطروحة أحد المخالفين الذي راح يتحدّى فيها السلفيين في تحديد ضابط مستقيم للعبادة، وقد رد ردًّا مختصرًا وزعم أنا نوافقه على رأيه في اشتراط اعتقاد الربوبية؛ لما ذكرناه من تلازم الظاهر والباطن، وتلازم الألوهية والربوبية، وقد زعم أيضًا أن بعض العلماء […]

هل اختار السلفيون آراءً تخالف الإجماع؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: كثير من المزاعم المعاصرة حول السلفية لا تنبني على علمٍ منهجيٍّ صحيح، وإنما تُبنى على اجتزاءٍ للحقيقة دونما عرضٍ للحقيقة بصورة كاملة، ومن تلك المزاعم: الزعمُ بأنَّ السلفية المعاصرة لهم اختيارات فقهية تخالف الإجماع وتوافق الظاهرية أو آراء ابن تيمية، ثم افترض المخالف أنهم خالفوا الإجماع لأجل ذلك. […]

الألوهية والمقاصد ..إفراد العبادة لله مقصد مقاصد العقيدة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: مما يكاد يغيب عن أذهان بعض المسلمين اليوم أن العبودية التي هي أهمّ مقاصد الدين ليست مجرد شعائر وقتيّة يؤدّيها الإنسان؛ فكثير من المسلمين لسان حالهم يقول: أنا أعبدُ الله سبحانه وتعالى وقتَ العبادة ووقتَ الشعائر التعبُّدية كالصلاة والصيام وغيرها، أعبد الله بها في حينها كما أمر الله […]

تحقيق القول في زواج النبي ﷺ بأُمِّ المؤمنين زينب ومعنى (وتخفي في نفسك ما الله مبديه)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة لهج المستشرقون والمنصّرون بالطعن في مقام النبي صلى الله عليه وسلم بسبب قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم بأم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها، حتى قال الشيخ رشيد رضا رحمه الله: (دُعاة النصرانية يذكرون هذه الفرية في كل كتابٍ يلفِّقونه في الطعن على الإسلام، والنيل من […]

جُهود الشيخ صالح بن أحمد الْمُصَوَّعي في نشر الدعوة السلفية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الشيخ صالح بن أحمد الْمُصَوَّعي من العلماء البارزين في القرن الرابع عشر الهجري، وقد برزت جهوده في خدمة الإسلام والمسلمين. وقد تأثر رحمه الله بالمنهج السلفي، وبذل جهودًا كبيرة في نشر هذا المنهج وتوعية الناس بأهميته، كما عمل على نبذ البدع وتصحيح المفاهيم الخاطئة التي قد تنشأ في […]

صيانة الشريعة لحق الحياة وحقوق القتلى، ودفع إشكال حول حديث قاتل المئة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: إنّ أهلَ الأهواء حين لا يجدون إشكالًا حقيقيًّا أو تناقضًا -كما قد يُتوهَّم- أقاموا سوق الأَشْكَلة، وافترضوا هم إشكالا هشًّا أو مُتخيَّلًا، ونحن نهتبل فرصة ورود هذا الإشكال لنقرر فيه ولنثبت ونبرز تلك الصفحة البيضاء لصون الدماء ورعاية حقّ الحياة وحقوق القتلى، سدًّا لأبواب الغواية والإضلال المشرَعَة، وإن […]

برهان الأخلاق ودلالته على وجود الله

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ قضيةَ الاستدلال على وجود الله تعالى، وأنه الربّ الذي لا ربّ سواه، وأنه المعبود الذي استحقَّ جميع أنواع العبادة قضية ضرورية في حياة البشر؛ ولذا فطر الله سبحانه وتعالى الخلق كلَّهم على معرفتها، وجعل معرفته سبحانه وتعالى أمرًا ضروريًّا فطريًّا شديدَ العمق في وجدان الإنسان وفي عقله. […]

التوظيف العلماني للقرائن.. المنهجية العلمية في مواجهة العبث الفكري الهدّام

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة     مقدمة: حاول أصحاب الفكر الحداثي ومراكزُهم توظيفَ بعض القضايا الأصولية في الترويج لقضاياهم العلمانية الهادفة لتقويض الشريعة، وترويج الفكر التاريخي في تفسير النصّ، ونسبية الحقيقة، وفتح النص على كلّ المعاني، وتحميل النص الشرعي شططَهم الفكري وزيفَهم المروَّج له، ومن ذلك محاولتُهم اجترار القواعد الأصولية التي يظنون فيها […]

بين عُذوبة الأعمال القلبية وعَذاب القسوة والمادية.. إطلالة على أهمية أعمال القلوب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: تعاظمت وطغت المادية اليوم على حياة المسلمين حتى إن قلب الإنسان لا يكاد يحس بطعم الحياة وطعم العبادة إلا وتأتيه القسوة من كل مكان، فكثيرا ما تصطفُّ الجوارح بين يدي الله للصلاة ولا يحضر القلب في ذلك الصف إلا قليلا. والقلب وإن كان بحاجة ماسة إلى تعاهُدٍ […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017