ترجمة الإمـام محمد بن عبدالوهـاب للشيخ عبد المتعال الصعيدي المتوفى بعد 1377هـ
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَن لا نبي بعده، وبعدُ:
فإنَّ سيرة الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب ودعوته الإصلاحية وكذلك الدولة السعودية الأولى التي رفعت لواء دعوة التوحيد، تعرَّضت لتشويهٍ كبيرٍ من خصومها، وأُلِّفت ولا تزال تُؤلَّف الكثير الكثير من الكتب لصدِّ الناس عنها وإثارة الشبهات حولها، مثلها كمثل جميع الدعوات التي تنجح في إعادة الناس للدِّين الحق الذي جاء به المصطفى ﷺ.
والتشويه من أعداء الدعوة وخصومها ليس مستغربًا، والردود عليه -ولله الحمد- كثيرةٌ وقوية سواءٌ أكان ذلك في المجال التاريخي أم العقدي أم الفقهي.
ويبقى الإشكالُ في كتاباتٍ تُحسب على أناسٍ محبين للدعوة أو محايدين، وهذه الكتابات تتضمن شبهات من أجناس أُخر تأتي في صورة نقد المحب ونصيحته، ولكنه مع ذلك نقدٌ فيه نظرٌ، بل هو نقدٌ خاطئٌ مبنيٌّ على كلامٍ مُرسَل لا يستند إلى حقائق علمية وإنما الحقائق العلمية بخلافه.
ومن هذا النوع: ذلك النقد الذي نجده في كتابات بعض علماء ومفكري عصر النهضة في مصر، منهم في الجملة مرحبون بالدعوة السلفية لكنهم حين يكتبون عنها تجدهم متأثرين كثيرًا بما قيل عنها من الباطل، فيأتي المبطلون وينقلون كلامهم وكأنه حُجَّة في وجه السلفيين لكون هؤلاء الكُتَّاب عُرفوا بمناصرة الدعوة أو الحياد معها.
ونحن هنا ننقل هذا النص في ترجمة الشيخ محمد بن عبدالوهاب دون أي تغيير، ونعلِّق على ما نراه فيه من الزلل تعليقًا مختصرًا يبين وجه الحق، ويرد الأمورَ إلى نصابها.
وصاحب النص من مواليد عام 1313هـ، وتُوفِّي بعد عام 1377هـ وفق الزركلي، وكما هي ترجمته في كتاب الأعلام:
عبدالمتعال الصعيدي؛ عالمٌ إصلاحي من شيوخ الأزهر بمصر، وُلد في قرية كفر النجبا من الدقهلية، ومات أبوه وهو ابن شهر فربّته أمه، وتخرّج بالجامع الأحمدي سنة 1336هـ، ودرَّس فيه، ثم كان أستاذًا بكلية اللغة العربية بالأزهر 1368، وألَّف كتبًا كثيرة طُبعت كلها([1]).
وإليكم النص والتعليق، ورحم الله الشيخ محمد بن عبدالوهاب والشيخ عبدالمتعال الصعيدي وغفر له.
من الملاحظات العامة على النص: وصف الكاتب رحمه الله دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب بـ «الوهابية» وأتباع هذه الدعوة يغلب عليهم رفض هذا الوصف، لأن الشيخ محمد لم يأتِ بدعوة جديدة غير دعوة السلف الصالح، ولأن هذا الوصف صُنِع في الأغلب لدى خصوم الدعوة لصرف الناس عنها، واتهامها بأنها مذهبٌ جديدٌ مُبتدَعٌ .
محمـــد بن عبــدالوهـــــــاب([2])
هو محمد بن عبدالوهاب النجدي الحنبلي([3])، وُلد في بلدة العُيَينة بنجد سنة 1115هـ = 1703م، وأخذ دروسه الأولى على فقهاء الحنابلة، وهم معرفون من قديم بتمسكهم بالسنَّة، ونفرتهم من البدعة، فتأثر بهم في نشأته، ونظر إلى ماضيهم في محاربة البدع، فوجَّهه إلى الوجهة التي سيكون فيها جهاده. وكان ابن تَيميَّة من سلف الحنابلة هو الذي سيجلعه قدوته، ولكنه أراد أنْ يحصِّل دراسة أوسع من دراسته بنجد، فرحل إلى المدينة ومكث فيها مدة من الزمن، حتى أتم تعليمه فيها، ثم رحل إلى البصرة فأقام فيها أربع سنين، يستزيد فيها من العلم، ثم رحل إلى بغداد فأقام فيها خمس سنين، ثم أراد بعد رحلته إلى المدينة والبصرة وبغداد أنْ يُبعد في الرحلة، ويجاوز بلاد العرب إلى غيرها من البلاد، فرحل إلى كردستان وأقام بها سنة، ثم رحل إلى همدان وأقام بها سنتين، ثم رحل إلى أصفهان ودرس فيها فلسفة الإشراق والتصوف، ثم رحل إلى قُمَّ وأقام بها مدةً من الزمن([4]).
ثم رجع إلى بلده بنجد بعد هذه الرحلة العلمية الطويلة، وقد تهيأ له بها ما لمْ يتهيأ لغيره من علماء نجد، فكان أوسعَ منهم علمًا، وأعرف بالعلماء السابقين الذين كانت لهم جولة في الإصلاح، ولم يقعوا في ذلك الجمود والركود الذي وقع فيه علماء عصره، حتى أَلِفُوا ما فيه من البدع، وأخذوها على أنها من أصول الدِّين وأركانه، ولكن هذه الثقافة التي امتاز بها على علماء نجد كانت ثقافةً محدودةً([5])، لأنه لم يجاوز البلاد الإسلامية في رحلته، حتى يتأتى له أنْ يعرف الحركات الإصلاحية الخطيرة التي ظهرت في غير البلاد الإسلامية، وقلبت الدنيا من العالم القديم إلى العالم الحديث، ويعرف ما يترتب من النتائج السيئة على إهمال المسلمين الاعتبار بهذه الحركات الخطيرة([6]).
فلما عاد إلى بلده لم يرضَ بما رضى به علماء نجد من السكوت على تلك البدع، وأراد أنْ يعيدَ في محاربتها عهدَ أسلافه من الحنابلة، ولاسيما ابن تيميَّة، وكان قد درس كتبه ورسائله الإصلاحية فيما درسه في نشأته، ويُوجد في المتحف البريطاني بلندن بعض رسائل لابن تيمية بخطه([7])، وهذا مما يؤيد دراسته لها، فلما أراد ذلك اعتكف في داره عن أهل بلده نحو ثمانية أشهر([8])، ثم أخذ يدعو إلى مثل ما دعا إليه ابن تيمية قبله، من التوجه بالعبادة لله تعالى وحده، وإنكار التوجه إلى أصحاب القباب والقبور، وإنكار التوسل بالأولياء والأنبياء إلى الله تعالى في قضاء الحاجات، وما إلى هذا من البدع التي سبقه ابن تيمية إلى إنكارها([9])، وقد سبق أن رجلًا تركيًّا قام بإنكارها قبله في هذا القرن (1123هـ = 1711م)([10]) ولكن كان من سوء حظه أنه قام بها في مصر حيث يوجد الأزهر وعلماؤه، فقاموا بإنكار دعوته كما سبق، ومن يمكنه أنْ يقف في طريق الأزهر إذا أنكر شيئًا في الدين أو أقره؟… أما محمد بن عبدالوهاب فقد قام بدعوته في بادية نجد، وفي بيئة الحنابلة المعروفة قديمًا بإنكار البدع، والبدو لا يجمدون على علم كما يجمد الحضر، فتكون زحزحتهم عن الجمود أسهل من زحزحة غيرهم ممن يجمد على علمٍ.
وقد بدأ محمد بن عبدالوهاب دعوته في بلده بلينٍ ورفق، ثم أخذ يرسل بها إلى أمراء الحجاز وغيره من الأقطار، فلما رأى أهل بلده مثابرته على دعوته قاموا باضطهاده فتركهم إلى بلدة الدرعيَّة بنجد، وكان أميرها محمد بن سعود، فعرض عليه دعوته فقبلها، وقام بحمايتها ونشرها في بلاد العرب، واستخدم في هذا قوته في تأييدها، حتى أخذ بها كثيرٌ من بلاد العرب، ودخل أهلها في حكمِ آل سعود، ولم يزل محمد بن عبدالوهاب يقوم بدعوته في حماية هذه الإمارة، إلى أنْ مات سنة 1206هـ = 1791م.
فأدرك محمد بن عبدالوهاب من النجاح في هذا القرن ما لم يدركه ابن تيمية قبله، والفضل في نجاحه أنه قام بدعوته في أهل البدو، وأنه قام بها في إمارة عربية، أما ابن تيمية فقد قام بدعوته في أهل الحضر، وفي دولة المماليك التي لم تكن في الحقيقة دولة عربية، فلم يتأتَّ له من النجاح مثل ما تأتى لابن عبدالوهاب في تلك الإمارة البدوية العربية؛ لأن من جمد في دينه على علم من أهل الحضر أبعد عن الإصلاح ممن جمد في دينه على جهل، لأن جهل الأول بسيط تسهل زحزحته عنه، وجهل الثاني مركب يصعب تركه له([11]).
ولكن هذا النجاح الذي أدركته الدعوة الوهابية لم يكن له الأثر المطلوب بين المسلمين في هذا القرن؛ لأن الإصلاح الذي نادت به كان إصلاحًا ضئيلًا جدًّا، وكان الغرض منه دينيًّا محضًا، مع إن الإصلاح المطلوب للمسلمين في هذا القرن لم يكن إصلاحًا دينيًّا فقط، بل كان إصلاحًا دينيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا وعلميًّا، يصل به المسلمون إلى ما وصلت إليه أوربا في هذا القرن، نعم كان المطلوب أنْ يصل المسلمون إلى ما وصلت إليه أوربا في نهضتها، ولم يكن هدم القباب ومنع التوسل بالأنبياء والأولياء ليوصِّل وحده إلى هذه النهضة([12])، على أن طابع الدعوة الوهابية كان متأثرًا بطابع دعوة ابن تيمية، وقد كانت دعوة ابن تيمية تنافر أو تهمل الفلسفة وعلومها، وكان هذا نقصًا كبيرًا فيها، وهو في الدعوة الوهابية أشد ضررًا؛ لأن الفلسفة في عهد ابن تيمية كانت فلسفةً قديمةً ليست لها قيمة كبيرة في الحياة العملية، أما الفلسفة في عهد الدعوة الوهابية فقد صارت فلسفةً عمليةً ظاهرة النفع في هذه الحياة([13])، فلا يصح لدعوة إصلاحية أنْ تنكرَ فائدتها أو تتجاهلها، وقد تعذر الدعوة الوهابية في هذا بنشأتها في أمةٍ بدوية، وإنه ليكفي هذه الأمة البدوية أنْ تقومَ في هذا القرن بذلك القدر في الإصلاح، وإنه ليقبل عذرها في الاكتفاء به إذا نظرنا لموقف الأمم الإسلامية المتحضرة منه، فإنها لم تقم بمناصرته وطلب المزيد من الإصلاح، بل وقفت منه موقفًا غيرَ كريم، وقاومته بكل ما فيها من قوة جمود على القديم، حتى وصل الأمر في هذا إلى قيام حروب زادت في تفريق كلمة المسلمين.
ومع هذا يقع على الدعوة الوهابية أيضًا شيء من التبعة في الحروب التي قامت بسببها، لأنها لمْ تكن دعوة سلمية محضة، يقصد منها دعوة مخالفيها إليها بالموعظة الحسنة، وإدخال الناس فيها بالتي هي أحسن، بل أعلنت في سبيل تأييدها جهادًا دينيًّا لحمل مخالفيها على الدخول فيها، فمَن آمنَ بها سلم، ومَن خالف وعاند فقد حل دمه وماله، وعلى هذا الأساس كانت غزواتهم في نجد وخارج نجد، من اليمن والحجاز وأطراف الشام والعراق، فكان كل بلد يدخلونه منهًا حربًا حلالًا لهم، إذا أمكنهم البقاء فيه ألحقوه بإمارتهم، وإذا لم يمكنهم البقاء فيه اكتفوا بما يصل إلى أيديهم من الغنائم([14]).
ولا شك أن الدعوة الوهابية تخرج بهذا على سماحة الإسلام؛ لأن الدعوة الإسلامية سلمية محضة، ولا تلجأ إلى القتال إلا عند الضرورة، وإلا إذا كان في سبيل الدفاع عن نفسها، فلا يُباح فيها ابتداء أعدائها بالقتال، لأنه لا إلجاء فيها على الدخول في الإسلام؛ وهذا معلوم منها الآن بالضرورة، ولكن الوهابيين كانوا كغيرهم من جمهور المسلمين في ذلك الوقت، يرون أن الإسلام لم يقم إلا بالسيف، فلتقم دعوتهم بالسيف أيضًا، وإذا كان الإسلام قد عامل مخالفيه هذه المعاملة السمحة، وهم يكفرون به كفرًا صريحًا، فإنه كان على الدعوة الوهابية أنْ تعاملَ مخالفيها بمثل ما عامل الإسلام به مخالفيه، وهم ليسوا في الكفر مثلهم قطعًا، لأنهم يؤمنون بالله ورسوله، وإن كانوا مع هذه يدعون الموتى ويستغيثون بهم، ويسألونهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، لأن هذا لو سُلِّم أنه شرك، فإنه لا يبلغ شرك مَن لا يؤمن بالله ورسوله.
وكان في حماية آل سعود للدعوة الوهابية ما يكفيها عن إعلان الجهاد على مخالفيها، وكان في الوسائل السلمية ما يضمن لها أنْ تنتشر أكثر مما وصلت إليه بالقوة، لأن استعمالها القوة ألجأ مخالفيها إلى استعمال القوة مثلها([15])، وإلى المغالاة في تشويهها وصرف الناس عنها، فلمْ يؤمن بها إلا قليلٌ جدًّا في بلاد العرب([16])، لأنها لم تصل إليهم على حقيقتها، وإنما وصلت إليهم محرَّفة مشوَّهة، ولو أنها وصلت بوسائل سلمية لآمنَ كثير منهم بها، ولاسيما بعد انتشار التعليم الحديث بين المسلمين، لأنها أقرب إلى عقول المثقفين بهذا التعليم من غيرها، ولا يمنعهم الآن من الإيمان بها إلا عُنجهية القائمين بالدعوة إليها، وأنهم لا يزالوا متأثرين بشيء من أساليب الشدة التي كانت تتخذها في أول أمرها([17]).
وكذلك يُؤخذ على الدعوة الوهابية أنها مع دعوتها إلى فتحِ باب الاجتهاد وقفت جامدةً على تقليد مذهب ابن حنبل، ولم تأخذ مما دعا إليه ابن تيمية إلا ما يتعلق بالعقائد، فلم تأخذ شيئًا مما ذهب إليه في الطلاق الثلاث ونحوه، مع أنه قد أُخذ بهذا أخيرًا في بعض الحكومات التي لم تتأثر مثلها به، ولا يذكر لابن عبدالوهاب في الاجتهاد إلا بعض مسائل ليست بذات شأنٍ، كجعله دية المسلم ثمانمائة ريال بدلًا من مائة ناقة، مع أن المسلمين في حاجة الآن إلى اجتهادٍ كبيرٍ لا يقف عند ما وقف عنده ابن تيمية، بل يرفع عنهم آثار الجمود التي مرّت عليهم في تلك القرون، وألجأتهم إلى اتخاذ ما وضعوه من القوانين([18]).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([2]) المجددون في الإسلام من القرن الأول إلى الرابع عشر، تأليف: عبد المتعال الصعيدي. ص٣٣٠ مكتبة الآداب ١٤١٦هـ.
([3]) هو محمد بن عبدالوهاب بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد بن بريد بن محمد بن بريد بن مشرف التميمي [تاريخ بن غنام 81]، أما نسبته رحمه الله إلى المذهب الحنبلي فقليلٌ ذِكرها في سياق نسبه رحمه الله؛ مع أنه أقرَّ عدة مرات في رسائله أنه لمْ يأتِ بمذهبٍ جديد وأنه على مذهب الإمام أحمد [الدرر السنية، 1/57]، لكن ذكر عبدالمتعال الصعيدي لهذه النسبة أراه مناسبًا للبيئة التي ظهر فيها الكتاب، حيث كانت فرية أن الإمام محمد بن عبدالوهاب مبتدع وأنه جاء بمذهبٍ جديدٍ، هي الفرية الرائجة في مصر وفي العالَم الإسلامي.
([4]) رحل الشيخ رحمه الله تعالى إلى مكة ثم المدينة ثم البصرة، وأخذ العلم عن علماء كل بلد، وفي البصرة أظهر رحمه الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فشق ذلك على بعض أهلها فأذوه وأخرجوه، وأراد الذهاب إلى الشام فانقطعت نفقته، فعاد إلى بلده نجد، ومر في طريقه بالأحساء، ثم اتجه إلى حريملاء في نجد وكان أبوه انتقل إليها من العيينة وذلك سنة 1139هـ [تاريخ ابن غنام 83]، وأما ما ذكره المؤلف من رحلته لبغداد وكردستان وهمدان، ودراسته للفلسفة الإشراقية، فكل ذلك غيرُ صحيحٍ، ولمْ يُوجد لمَن ادَّعاه أي مستندٍ صحيح، وقد تناقله بعضُ الرحالة المستشرقون، ولمْ يذكروا له مصدرًا، ويُرجِّح الشيخ سليمان الحقيل أن جميع مَن تداول هذه المعلومة مصدره فيها صاحب كتاب لمع الشهاب [حياة الشيخ محمد بن عبدالوهاب وحقيقة دعوته، ص33]، وصاحب كتاب لمع الشهاب [ص58] لمْ يُقدِّم ما يثبت هذه الدعوى؛ وعلى افتراض صحتها فإنَّ العلوم التي درسها حسب هذه الرواية لم يكن لها أثرٌ على سلوك الشيخ العقدي، فقد كان سلفيًّا ضد علم الكلام وضد البدع بجميع أشكالها.
([5]) لا يمكن أنْ تكون ثقافة الشيخ محمد التي تميَّز بها على علماء نجد ثقافةً محدودةً؛ بل لا يمكن أنْ يكون تميزه على سائر علماء المسلمين في عصره محدودًا، كيف يكون ذلك وقد تميز رحمه الله عنهم جميعًا بالانعتاق من ربقة التقليد في العقائد، وعاد بما وهبه الله تعالى من علمٍ وحكمة إلى الإسلام الذي جاء به رسول الله ﷺ، وفَهِمه عنه السلف الصالح مُنَحِّيًا عنه أكداسًا من التصورات الخرافية للدين والعلاقة بين الخالق والمخلوق أبعدتِ الأمةَ عن حقيقة الدين حتى أصبح الشركُ هو الغالب على أمرها والمُهيمن على عبادتها، وأصبح دعاة الخرافة هم محركوا ضمائرها؛ لا يسلم من ذلك بلدٌ من بلاد العالَم الإسلامي حتى جاء هذا المُصلح العظيم فأزاحَ ليل الجهل بكلكله، وأنارَ اللهُ به سراجَ التوحيد، وأماتَ ثعابين البدعة وسحرة الخرافة؛ ثم يأتي أمثال هذا الكاتب ليقول: إنه لمْ يتميز…
([6]) ما هي الحركات الإصلاحية التي ظهرت خارج العالَم الإسلامي وكان ينقص الشيخ محمد بن عبدالوهاب معرفتها ليُكمل بها دعوته؟!
هل كان يريد منه أنْ يعرفَ عن حركة مارتن لوثر [1546م – 952هـ]؟! وما الذي ستفيدنا به حركة لوثر التي كانت انقلابًا على الدين المسيحي المُحرَّف لِتُقِرَّ صيغةً أخرى من تحريف الدين؛ ولمْ تذهب بالناس إلى توحيد الخالق الذي جاء به المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام.
أم كان يريد من الشيخ أنْ يستفيد من الثورة الإنجليزية [1688م – 1100هـ] والتي كانت ثورةً سياسيةً على مملكة كبيرة كان من نتائجها تغيير نظام الحكم وتغيير المذهب الديني للدولة، وليس فيها أي شيء يمكن أنْ تستفيدَ منه دعوة الشيخ، فلا تشابه في الزمان ولا في المكان ولا في الدين ولا في الظروف.
لمْ يكن هناك أي حركة إصلاحية لا داخل العالَم الإسلامي ولا خارجه كانت ستضيف لدعوة الشيخ شيئًا؛ فالشيخُ انطلق في دعوته من إرثه الديني الصحيح، ومن تاريخه وواقعه؛ وقد حقَّق من النجاح ما لمْ يطرأ على مَن قبله ولا على مَن بعده، ولا زالت الأمَّة الإسلامية بأسرها وليس المملكة العربية السعودية وحسب تعيش آثار نجاح هذه الدعوة ونجاح دولتها التي قامت بها وعليها.
([7]) المعروف أن هناك مخطوطات بخط الشيخ محمد بن عبدالوهاب في مكتبة جامعة ليدن بهولندا، وهي ضمن مكتبة أحد علماء المدينة المنورة وهو الشيخ أمين حسن الحلواني [ت 1316هـ] ومنها كتاب التوحيد بخط المؤلف، ولعل منها ما هو لابن تيمية؛ ومع ذلك فعلاقة فكر الشيخ محمد بن عبدالوهاب بابن تيمية لسنا في إثباته بحاجة إلى وجود مخطوطات لابن تيمية بخط الشيخ، فعلاقة فكر الشيخ الأصولي بابن تيمية ليست محل نقاش، بل يعتبر ابن تيمية رحمه الله رائد المدرسة السلفية التي أسسها الشيخ محمد رحمَ الله الجميع.
([8])ليس واردًا في الصحيح من سيرته رحمه الله أنه اعتكفَ ثمانية أشهر قبل الجهر بالدعوة، وإنما الصحيح ما وردَ في ابن بشر: أن الشيخ وصل إلى حريملاء بعد رحلته ليلتقي بأبيه هناك، وأخذ يقرأ عليه كتب العلم، وبدأ في إنكار بعض أفعال الجهال، وكثر منه الإنكار حتى وقع بينه وبين أبيه كلام، ووقع بينه وبين آخرين، فأقام على ذلك مدة سنين حتى توفي والده سنة 1153هـ ثم أعلن بالدعوة والإنكار والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. عنوان المجد (1/37).
([9])نعم، سبق ابنُ تيمية في إنكار هذه البدع نظرًا لسبق عصره رحمه الله، وإلا فإنَّ إنكارها هو الدين الذي جاء به رسول الله ﷺ، وهو الذي نقله السلف عنه ﷺ؛ فقد أمرَ تبارك وتعالى بإفراده بالعبودية وأعمالها من دعاءٍ وحجٍّ وذبحٍ، ولم يجعل للناس أنْ يشركوا به في هذه العبادات أو غيرها أحدًا، قال تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ [غافر:60]، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ [المؤمنون:117]، والآياتُ في ذلك كثيرة. وقال تعالى في تحريم الابتداع في الدين: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ۗ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الشورى:21]، ومن الحديث: قوله ﷺ: «مَن أَحْدَثَ في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو ردٌّ»، وقال: «مَن عملَ عملًا ليس عليه أمرنا، فهو ردٌّ»، وقال: «ألا وإنَّ كل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة»، فكل هذه النصوص وغيرها كثير جدًّا تؤكد أن الدين إنما هو اتباعٌ وليس ابتداعًا، سواءٌ أكان ذلك في العقائد كالاستغاثة والتوسل أم في العبادات كاستحداث عبادات لم ترد فيها نصوص كالموالد وأنواع الصلوات والزيارات التي لم يأمر بها اللهُ تعالى ولا رسوله الكريم.
([10]) ظهر في التاريخ الإسلامي عددٌ من دعوات الإصلاح بالعودة إلى منهج السلف، ومنها دعوة الشيخ محمد أفندي البركوي [ت 981هـ]، والشيخ محمد أفندي بن مصطفى الطوغاني المعروف بقاضي زادة [ت 1045هـ]، انظر ترجمتهما في كتاب دعوة جماعة قاضي زادة الإصلاحية، تأليف محمد داود كوري، ومقدمة الكتاب لعبدالحق التركماني؛ وكذلك الشيخ محمد بن سليمان الروداني [ت 1094هـ]، انظر ترجمته في المرجع السابق ص118.
أما التركي الذي ذكره الكاتب فهو من جماعة قاضي زادة، وقد أنكر المنكرات العقدية في القاهرة، وذلك سنة 1123هـ، وحدث بسبب إنكاره ضوضاء أدت إلى هربه إلى سوريا، انظر المرجع السابق ص123؛ وقد ذكر الجبرتي الحادثة في تاريخه 1/50؛ وقد وقف الأزهر في مواجهته وردَّ عليه وحرَّض عليه العامة.
([11]) ما ذكره الكاتب من أسباب نجاح دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب مقارنة بما سبقتها من دعوات الإصلاح صحيح؛ لكن أبلغ هذه الأسباب وأقواها هو نصرة إمارة الدرعية للشيخ ودعوته، فقد كانت الدعوات السابقة يُقضى عليها بالقوة العسكرية إذ لم تكن هناك قوى عسكرية تحميها؛ لكن الدولة السعودية كانت قوةً لهذه الدعوة وحاميةً لها، كما أصبحت الدعوة بمثابة العصبية والفكرة التي يجتمع الناس تحت لواء الدولة لأجلها.
([12]) يُثبت الكاتب هنا أنه لم يكن على وعيٍ صحيحٍ بأسباب التخلف العلمي للأمة الإسلامية، ولا بأسباب النهضة الأوروبية، ولا بالاحتياجات الحقيقية للأمة، ولذلك قال ما قال؛ وهذا الجهل والاغترار بالتقدم الأوروبي كان سِمَةً عامةً لكُتَّاب عصر النهضة في مصر، بل حتى مُن يعتبرون من جيل التنوير من العلماء الشرعيين من أمثال محمد عبده والمراغي وطنطاوي جوهري؛ لذلك غلب عليهم في توجهاتهم الإصلاحية الافتتان بالحضارة الأوروبية ونقد التراث من معايير غربية، والتوجه نحو الفلسفة الأوروبية، ودراسة التاريخ الأوروبي؛ ولأن توجهاتهم تلك كانت خاطئةً وغير مبنية على معرفة صحيحة بأسباب الانحدار عند المسلمين ولا بأسباب النهضة الأوروبية، ولا بحاجات الأمة؛ أقول: لأن دعواتهم الإصلاحية كانت فقيرةً في هذه الزوايا المهمة لم يحصل منها للأمة أدنى إصلاح؛ وتتعجب كيف يصفون أثر دعوة الشيخ بكونه ضعيفًا مع أنهم بمجموعهم لم يحققوا في بلادهم معشار ما قدَّمه محمد بن عبدالوهاب والدولة السعودية، ولا نصيف ذلك ولا أقل.
والذي لمْ يَعْرِفْه المؤلِّف هو أنَّ سبب ضَعْف الأمة الإسلامية في مجال العلوم والسياسة والعسكرة هو انحرافها الديني الذي جاء الشيخ محمد بن عبدالوهاب بعلاجه، وتوضيح ذلك: أن الإسلام جاء إلى العالمين يأمرهم بالعلم والتفكر في كل ما حولهم من مخلوقات الله تعالى من عالَم الشهادة، وينهاهم عن الجدل فيما لا يعلمون من عالَم الغيب، لكنهم بعد القرن الرابع عصوا أمر ربهم فانشغلوا أول الأمر عن العلم التجريبي بالتنازع في عالَم الغيب، وهذا ما جناه عليهم علماء الكلام من الجهمية والمعتزلة والكلابية والأشعرية والماتريدية؛ وقامت معهم الدول إذ ذاك فناصرتهم وأيدتهم على تركِ دين الله الحق ومنهج السلف الصالح في فهم الإسلام والانشغال في الجدل الكلامي الذي لا ينفع الإنسان في دينه ولا دنياه؛ ثم تبع هذا الانحراف انحرافٌ آخر وذلك بغرق المسلمين في التصوف بجميع أشكاله وما تبعه من فهمٍ خاطئ لمهمة الإنسان في هذه الحياة؛ وضياع لتوحيد الله تعالى وأصبح قصارى هم المسلم حين يتدين أنْ تصبحَ تنبلًا أو هائمًا، وانتقل خوفُ المسلمين ورجاؤهم وحبهم لله تعالى إلى الخوف من الأولياء وأصحاب القبور ورجائهم وحبهم، وكلُّ ذلك من دون الله تعالى؛ الأمر الذي جعل المماليك يتسلطون على العرب ويتسيدون في بلادهم، وجعل الغزاة من الإفرنج لا يبالون أيَّ بلاد من بلاد المسلمين يغزون؛ فكان العلاج الحق هو إعادة الناس إلى دينهم الذي تركهم عليه رسول الله ﷺ؛ ذلك الدين الذي يُعيد إليهم عقولهم ويحررهم من استخفاف أهل الخرافات، ويجعلهم يعودون لتعظيم العلم والجماعة، وهذا -ولله الحمد- ما كان من أمر ودعوة الشيخ محمد، فقد أنقذَ اللهُ تعالى بها جزيرة العرب من الجهل، وأصبح أهلها أعلم المسلمين وأكثرها وعيًا، وأنقذهم من الفرقة ووحَّد كلمتهم وجماعتهم تحت راية الدولة السعودية، وأصبحوا بها شعبًا مأبوهًا به، بعدما كانوا أعرابًا يغزو بعضهم بعضًا.
أما قوله: إنَّ هدم القباب لم يكن ليوصل المسلمين إلى ما وصلت إليه أوروبا، فباطلٌ من وجهين: الأول: أن طموح المسلمين الأول هو الاستعباد لله اختيارًا كما هم عبيد له سبحانه اضرارًا؛ وإذا تحققت عبودية المسلم لله تعالى وأدَّى دينه كما أمره به فاطرُ السماوات والأرض عملًا بقوله تعالى: ﴿فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ ۖ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ۖ ﴾ [الشورى:15] فإذا سلمَ للمؤمن دينه، فكل علمٍ في الأرض بعد ذلك تبعٌ.
الوجه الآخر: أن الأوروبين إنما نهضوا بعد الإصلاح الديني؛ فقد كانت الكنيسة تفعل في عقولهم ما يفعله التصوف في عقول المسلمين من الجمود وتجريم التفكير وتحريم العمل وتقديس آراء الأسلاف؛ فانقلبوا على الكنيسة وحرروا عقولهم من ربقتها؛ لكن الإصلاح السلفي يحرر العقول من ربقة التصوف والخرافة لكنه يُقيِّدها بقيود الدين الصحيح الذي يرفع من متسوى العبد وعقله وعلمه لكنه يبقيه تحت شرع الله وصحيح ما جاء عن رسول الله وينهاه عن الاستعباد حتى لهواه.
وأما حديثه عن النظام السياسي: فإنَّ من أعظم ما نجحت فيه الدعوة هو تأسيسها نظامًا سياسيًّا عظيمًا كان نتاج البيئة العربية الإسلامية مستقلًّا في سياسته عاملًا بما يُصلح أحوال رعيته من إقامة الدين وإصلاح الدنيا، حتى لمْ يكن له نظير لا في طوره الأول الذي أسَّسه الإمام محمد بن سعود ولا في طوره الثاني الذي أسَّسه الإمام تركي بن عبدالله ولا في طوره الثالث الذي أسَّسه الإمام السلطان الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن.
([13]) ما يسميه الكاتب الفلسفة العملية هي علومٌ كانت في داخل الفلسفة اليونانية يوم كان الفلاسفة اليونان يكتفون بالأسئلة والأجوبة المجردة؛ ومن هذه العلوم التاريخ والجغرافيا والفلك والطب والرياضيات والفيزياء وعلم النفس، كل هذه العلوم كانت ضمن الفلسفة اليونانية، وكانت علومًا مستقلةً لدى الهنود والصينيين ومن ثَمَّ العرب والمسلمون؛ ثم تبعهم في ذلك الأوروبيون، فانفصلت كل هذه العلوم عن الفلسفة وأصبحت علومًا تجريبيةً مستقلةً ليس لها علاقة بالفلسفة إلا أنها كانت يومًا ما تُعَدُّ ضمنها في تاريخ الفكر الأوروبي وحده، أما في تاريخ الفكر العربي والإسلامي فهي علومٌ مستقلة منذ النشأة؛ وهذه العلوم لم ينكرها ولم يقف ضدها ابن تيمية ولا مَن كان قبله ولا مَن جاء بعده من علماء المنهج السلفي، ومنهج الشيخ محمد بن عبدالوهاب ومَن جاء بعده من أتباع الدعوة السلفية؛ بل كانوا يجيزون تعلمها وتعليمها ويرونها من فروض الكفايات التي يأثم المسلمون جميعًا إنْ فرَّطوا في تعلمها.
والذي يُحرِّمه ابن تيمية ومحمد بن عبدالوهاب ومَن كان قبلهم أو بعدهم من علماء المنهج السلفي هو ما يُسمى بعلم ما وراء الطبيعة أو الميتافيزيقا؛ وهو فرع الفلسفة المتعلق بمناقشة ما يتعلق بأجوبه ما يُسمى بالأسئلة الخمسة، وهي السؤال عن الخالق ومَن هو، وعن عِلم الخالق وقدرته وصفاته وحقيقة وجوده ومكانه وزمانه؛ والسؤال عن العالَم ومصيره والفائدة من وجوده وإلى أين منتهاه، والسؤال عن الإنسان ودوره في هذه الحياة وعلاقته بالكون وعلاقته بالإنسان ذاته، وعن الخير الذي يفعله والشر وما عاقبتهما، وكذلك عن الخير الذي يصيب الأمم والشرور التي تقع عليها وأسباب هذا الخير وتلك الشرور، إلى غير تلك الأسئلة التي مردُّها ومبدؤها ومنتهاها إلى السؤال عن الله تعالى وحقيقة وجوده وأثره في خلقه؛ وهذا الفرع من الفلسفة هو الذي غلب عليها؛ وهو الذي يُحرِّم السلفيون تعلمه وتعليمه؛ ولا فرقَ فيه بين الفلسفة القديمة والفلسفة الحديثة إلا في تنوع المذاهب واختلاف أساليب الكتابة؛ وسبب تحريمه: أن كل هذه الأسئلة وما اقترب منها قد أجاب عنها كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله ﷺ بأوضح جواب وأيسره، وليس على العبد في كل ذلك إلا الإيمان المطلق بما جاء به الكتاب والسُّنة من حقائق في ذلك، فاللهُ عز وجل هو مَن يخبر عن نفسه وعن مقاديره وحكمته الخاصة والعامة، وكل ما يفعله الفلاسفة ليس سوى اتباع الظن ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ۚ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ ۖ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَىٰ ﴾ [النجم:23].
واتباعُ الأهواء في البحث في هذه القضايا لا يُورِد الحقيقةَ، ولا يُوجَد أحدٌ وصَلَ إلى الحق في ذات الله تعالى وأسمائه وصفاته وقضائه وقدره عن طريق الفلسفة، بل الفلاسفة في كل هذه القضايا متشاجرون متباينون، ولا حقَّ إلا ما قاله الله تعالى وما جاء به رسوله ﷺ.
وأيُّ نقصٍ يصيب الدعوة حينما لا تقرر فلسفة ديكارت وكانت وسبينوزا وشوبنهور وبرانارد رسل وغيرهم؟! وهل هؤلاء انتهى بهم الأمر إلى إصلاح ذواتهم أو مجتماعتهم؟ الجوابُ: لا؛ وبه يتأكد أن واجب الدعوة ليس إغراق الناس في هذه الفلسفات بل إرجاعهم إلى القول الحق الذي تطمئن به النفوس وهو كلامُ الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. راجع في الفلسفة الأوروبية: قصة الفلسفة لول ديورانت؛ وتاريخ الفكر الأوروبي لرونالد سترومبرج؛ وكتاب الفلسفة الحديثة عرض ونقد للدكتور أحمد السيد علي رمضان.
([14]) كلامٌ بعيد عن الحق، والمؤسف أنه هو الشائع لكن شيوعه لا يعني صحته؛ فالدولة السعودية حالفتِ الدعوة عام 1157هـ، وكانت حدودها لم تتجاوز الدرعية، ومع ذلك شُنَّت عليها الحروب من القرى المجاورة، كأمثال الرياض فكانت في حالة دفاع عن النفس، ثم لما تكاثرت الأحلاف ضدها ولم تزل لا تتجاوز حدودها الدرعية اتخذت مبدأ الهجوم كوسيلة من وسائل الدفاع، ولم تهاجم إلا مَن أعلن الحرب عليها أو حالف محاربيها؛ ثم تعرضت وهي في حدودها الصغيرة لحلف دولي يتكون من الشريف مسعود الذي دعته الدولة العثمانية بعشرين كيسًا من المال من أجل القضاء على الدعوة ومن أمير قبائل المنتفق بتمويل من والي العراق ومن أمير الأحساء ابن عريعر أيضًا بتحريض من والي بغداد ومن قبائل نجران بدعم وتحريض من والي الأحساء، وكان ذلك سنة 1163هـ، والدعوة لم تتجاوز الدرعية، وحالف هؤلاء بعض قرى نجد، فلما نصر اللهُ الدولةَ على هذا الحِلف عاقبت مَن تعاون معه من قرى نجد، وبدأ عند ذلك توسعها؛ وشنّت عليها ولاية العراق العثمانية أربع حملات أو خمس، كما شنّت عليها ولاية اليمن العثمانية حملتان، وشنّت عليها ولاية الحجاز أربع حملات؛ فلم يكن لهذه الدولة من بُد في أنْ تقاتلَ خصومها طورًا بالدفاع المحض وطورًا باتخاذ الهجوم أولى وسائل الدفاع، أَضِفْ إلى ذلك أن الدولةَ العثمانية وأجهزتها العلمية آمنت بتكفيرها واستباحة دماء أهلها؛ وتم لها ذلك في ثلاث حملات شنتها من مصر حتى قضت على الدعوة في طورها الأول؛ ثم يأتي بعض الكتبة ويتحدثون عن الدولة السعودية وعدوانيتها وعدم سلميتها، واللهُ غالب على أمره. راجع بحث: دفاع عن الدولة السعودية الأولى ودعوتها، من إصدارات مركز سلف، منشور إلكتروني.
([15]) هذا الكلام كله مُرسَلٌ لا دليلَ عليه، بل الأمرُ كما قدّمنا، فالدولة السعودية لم تقاتل أحدًا قبل أنْ يبدأوا بقتالها؛ ودفاع الكاتب عن خصوم الدولة السعودية وزعم أنهم ألجئوا لقتالها كلامٌ فيه جهلٌ كبير، ومَن يذهب هذا المذهب فعليه أنْ يثبتَ أنَّ حربًا واحدةً شنّتها الدولة السعودية على الدولة العثمانية أو إحدى ولاياتها ابتداءً من تلقاء نفسها، فهذا كلامٌ لا سبيل إليه؛ وليراجع القارئ كتاب: الدولة السعودية الأولى والدولة العثمانية، تأليف محمد بن سليمان الخضيري، من منشورات ديوانية التربية الرياض.
([16]) هذا الكلامُ غيرُ صحيحٍ، فقد اعتنقها ملوك المغرب ودعاة الهند وملوك غرب إفريقيا وبنجلادش، وحالت الدولة العثمانية دون بروزها في مصر والشام والعراق، ومع ذلك كان التأثر بها عظيمًا في كل مكان، أما اليوم فقد أصبحت هي الدعوة الأولى الأشد انتشارًا في العالَم. انظر: كتاب دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب وأثرها في العالَم الإسلامي، د. محمد بن عبدالله السلمان.
([17]) من فضائح الكتاب: الكلام المُرسَل الذي يناقض بعضه بعضًا؛ فقد أرسل أئمة آل سعود رسائل في بيان حقيقة الدعوة إلى علماء العراق والشام ومصر وتونس والمغرب والحجاز وإسطنبول؛ فلم يجدوا إلا الرد بالتكفير وتكوين الجيوش لغزو هذه الدولة، اللهم إلا ملوك المغرب فقد كانوا خير رجال في الاستجابة لهذه الدعوة والاستيضاح عنها؛ وأرسلوا العلماء للحجاز لبيان دعوتهم، فكان مصيرهم السجن والحكم عليهم بالكفر، كما ذكر ذلك زيني دحلان في كتابه فتنة الوهابية؛ وكذلك أرسلوا العلماء إلى مصر كما ذكره المؤرخ المصري الجبرتي، ولم يحفل بهم أحد؛ هذا مقدار ما يستطيعونه من السلمية؛ وكيف يستطيعون غير ذلك وقد جُرِّدت لقتالهم الجيوش الجرارة من كل مكان؛ والكاتب لا يعبأ بمثل هذه المعلومات، ويظل مصرًّا على إرسال الكلام على عواهنه.
([18]) بل محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى وإن أعلن أنه حنبليٌّ فلم يجمد -كما زعم الكاتب- على مذهب أحمد بل كان يجتهد في مواطن كثيرة، قال الشيخ عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب: «مذهبنا في أصول الدين: مذهب أهل السنة والجماعة، وطريقتنا: طريقة السلف، التي هي الطريق الأسلم، بل والأعلم والأحكم. ونحن أيضًا في الفروع، على مذهب الإمام أحمد ابن حنبل، ولا ننكر على مَن قَلَّد أحد الأئمة الأربعة، ولا نستحق مرتبة الاجتهاد المطلق، ولا أحد لدينا يدَّعيها، إلا أننا في بعض المسائل إذا صحَّ لنا نصٌّ جليٌّ من كتاب أو سُنَّة، غير منسوخٍ ولا مُخصَّص ولا مُعارَض بأقوى منه، وقال به أحدُ الأئمة الأربعة- أخذنا به وتركنا المذهبَ». الدرر السنية (1/226).
أمَّا ما ذَكَره الكاتب من أنَّ الجمود على المذهب الحنبلي هو ما ألجأ السعوديين إلى اتخاذ ما اتخذوه من قوانين، فهي كلمة أخذها الكاتب من حافظ وهبة في كتابه جزيرة العرب في القرن العشرين ص318؛ والحقيقة: أنَّ الكاتب نزع هذه الكلمة من سياقها، فحافظ وهبة كان يدعو إلى توسيع أبواب الفقه وإدخال المعاملات الحديثة فيها بدلًا من استحداث قوانين لها؛ وهذا أمرٌ لا بأس به، وهو ما تم بعد وفاة حافظ وهبة وبعد انتشار المجامع الفقهية، ودخول هذه المعاملات في أبواب الفقه لا يعني عدم إنشاء أنظمة مستقلة بها، فلا مانع من وجود المسألة في كتب الفقه ومن إنشاء نظام بخصوصها؛ وقد جعلَ الكاتب ذلك موضع نقدٍ، والقصورُ حقًّا من فهمه هو رحمه الله، لأن النوازل الفقهية في كل عصرٍ تأخذ وقتًا في تدارسها قبل أنْ يدرجها الفقهاء في مُصنفاتهم.
ومن محاسن الدعوة السلفية وعلمائها: أنهم لمْ يقفوا من كثير من هذه الأنظمة موقفًا مضادًّا، وما عارضوه فإنما كان ذلك لأسبابٍ شرعية صحيحة كاشتباهها بأمورٍ محرمة قطعًا كالربا والمكوس وغيرها.