نصوص ذمِّ الدنيا والتحذير من المحدَثات..هل تُعارِض العلم؟
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
صفَةُ الإنسان الحقيقيَّةُ عند المناطقة هي الحياة والنُّطق، ومتى ما انعَدَمت الحياةُ انعَدَم الإنسان، وصار في عِداد الأمواتِ، لكنَّ أطوارَ حياة الإنسان تمرُّ بمراحلَ، كلُّ مرحلة تختلف عن الأخرى في الأهميَّة والأحكام، وأوَّل مرحلة يمر بها الإنسان عالم الذَّرِّ، وهي حياة يعيشها الإنسان وهو غير مدرك لها، وتجري عليه الأقدار فيها؛ لكنها تحكم حياته الأخرى بعد ذلك، ويستقي فيها معارفَ خاصَّة به، وقد تحدَّث النبي صلى الله عليه وسلم عن جزء من هذه الحياة وعن تأثيرها في حياة الإنسان فقال عليه الصلاة والسلام: «الأرواح جنودٌ مجنَّدَة، فما تعارف منها ائتلفَ، وما تناكرَ منها اختَلَف»([1]).
وهذه الأرواحُ موجود قبل وجود الأجسامِ، بل قبل أن يأمُر الله الملائكةَ بالسجود لآدم عليه الصلاة والسلام، قالَ أَبُو مُحَمَّد ابن حزم: “وهي العاقلة الحسَّاسة، وأخذ عز وجل عهدها وشهادتها وهي مخلوقة مصوَّرة عاقلة قبل أن يأمر الملائكة بالسجود لآدم -على جميعهم السلام-، وقبل أن يُدخلَها في الأجساد، والأجساد يومئذ تراب وماء، ثم أقرَّها تعالى حيث شاء؛ لأن الله تعالى ذكر ذلك بلفظة (ثم) التي توجب التعقيب والمهلة، ثم أقرها عز وجل حيث شاء، وهو البرزخ الذي ترجِع إليه عند الموت، لا تزال يبعث منها جملةً بعد الجملة، فينفخها في الأجسادِ المتولِّدة من المنيِّ المتحدِّر من أصلاب الرجال وأرحام النساء”([2]).
وقد نقل ابن القيم عن ابن منده أنه روى عَن سَالم بن عبد الله عَن أَبِيه قَالَ: لقي عمر بن الخطاب عليّ بن أَبى طَالب فقال له: يا أبا الحسن، ربما شهدتَ وغبنا، وشهدنا وغِبتَ، ثلاثٌ أسألك عنهن، عندك منهن علم، فقال علي بن أبي طالب: وما هن؟ فقال: الرجل يحبّ الرجل ولم ير منه خيرًا، والرجل يبغض الرجل ولم ير منه شرًا، فقال عليّ: نعم، سمعت رسول الله يقول: «إنَّ الأرواحَ جنودٌ مجنَّدة، تلتقي في الهواء فتشامّ، فما تعارف منها ائتلفَ، وما تناكر منها اختلف»، فقال عمر: واحدة. قال عمر: والرجل يحدِّث الحديث إذ نسيه، فبينا هو وما نسيه إذ ذكره، فقال: نعم، سمعت رسول الله يقول: «ما في القلوب قلبٌ إلا وله سحابة كسحابة القمر، بينا القمر مضيءٌ إذ تجلَّلته سحابة فأظلَم، إذ تجلَّت فأضاء، وبينا القلب يتحدَّث إذ تجلَّلته سحابةٌ فنسي، إذ تجلَّت عنه فيذكر»، قال عمر: اثنتان. قال: والرجل يرى الرؤيا، فمنها ما يصدق، ومنها ما يكذب، فقال: نعم، سمعت رسول الله يقول: «ما من عبد ينام يمتلئ نومًا إلا عرج بروحه إلى العرش، فالذي لا يستيقظ دون العرش فتلك الرؤيا التي تصدق، والذي يستيقظ دون العرش فهي التي تكذب»، فقال عمر: ثلاث كنت في طلبهنَّ، فالحمد لله الذي أصبتُهنَّ قبلَ الموت([3]).
والمرحلة الثانية: مرحلة الأرحام التي تتخلَّق فيها الأجساد، وفيها يُكتب للإنسان ما يجري عليه فيما بعدها من خير وشرٍّ، من شقاء وسعادة، فقد قال عليه الصلاة والسلام: «إنَّ أحدكم يُجمَع خلقُه في بطن أمِّه أربعين يومًا، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يَبعث الله ملكًا، فيُؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقيّ أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإنَّ الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع، فيسبق عليه كتابُه، فيعمل بعمل أهل النار، ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة»([4]).
والمرحلة الثالثة: هي هذه الحياة الدنيا التي نعيش فيها، وهي دار التكليف ومحلُّ الابتلاء وفعل الخير والشرِّ، وهي تُعَدّ مؤشِّرا حقيقيًّا على حياتنا فيما بعدها، وهو البرزخ والآخرة حين يقوم الناس لربِّ العالمين، وهذه الحياة التي نعيشها ما قبلها غيبٌ، وما بعدها غيبٌ، وهي التي تسمَّى عالم الشهادة، وليس عندنا من أخبار ما قبلها وما بعدها إلا القدر الذي عرَّفنا به الوحي، وقد أخبر القرآن عن أهمية ما بعدها من الحياة وعن العمل لأجله، وعدم الاستكفاء بهذه الحياة والركون إليها ونسيان دار المقام، ومن هنا تأتي نصوص الوحي مؤنِّبة لكلِّ من رضي بالحياة الزائلة وقدَّمها على الباقية، قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُون أُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُون} [يونس: 8]، وقال سبحانه: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون} [يونس: 24]، في آيات قرآنية كثيرة.
وهذا المعنى المطروق في القرآن بكثرة لم يَرُق لكثير ممن رضوا بالحياة الدنيا واطمأنّوا بها، فجعلوا الوحي عدوًّا للحياة وقابلوا بين المادة والروح وبين الوحي ومنجزات العقل، وصدَّق عليهم إبليس ظنّه وأغراهم بأفعال بعض المتديِّنين ممن لم يستطيعوا الجمع بين العمل للآخرة وأخذ الحظِّ من الدنيا، كما نصح الصالحون قارون فقالوا له: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِين} [القصص: 77].
وفي عالمنا اليومَ -وهو عالم الوقوف عند الظواهر- طغت هذه الفكرةُ حتى دعا بعض الناس إلى الاستغناء بعلوم الدنيا عن علوم الآخرة، وجعل هذه الحياة هي المحطة الأخيرة في حياة الإنسان، وأغفل ما بعدها، فكان لزامًا على الدعاة إلى الله وعلى المؤمنين كذلك أن يقوموا بأمر الله في بيان الحقّ للناس، ولعلنا نناقش هذا الموضوع ونجلِّيه في مباحث تشملها هذه الورقة العلمية.
المبحث الأول: نصوص ذم الدنيا وسياقها ومجالها:
لا يشكُّ قارئ للقرآن الكريم أنَّ فيه ذمًّا للحياة الدنيا، ووصفًا لها باللهو واللعب ودار الغرور، وقد ضرب الله الأمثلة لزوالها وانقطاع نعيمها وغرور أهلها، وهذا كثير في القرآن والسنة، وفي هذا المبحث نبيِّنه ونورد بعضه.
قال الله سبحانه وتعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُور} [الحديد: 20]، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُور} [لقمان: 33]، وقال سبحانه: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون} [العنكبوت: 64]، وقال سبحانه: {اللّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاع} [الرعد: 26]، وقال سبحانه: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَاب} [البقرة: 212].
ومن السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدنيا ملعونةٌ، ملعونٌ ما فيها، إلا ذكرَ الله وما والاه، أو عالمًا، أو متعلِّمًا»([5])، وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناحَ بعوضة ما سقى كافرًا منها شربةَ ماء»([6]).
وحين ننظر في هذه النصوص وفي نصوص أخرى تُعارضها نجد أنَّ سياق النصوص ليس واحدًا، فالنصوص التي تذمُّ الدنيا إنما تذمُّها حين يُستغنى بها عن الآخرة، أو تكون بديلًا وملهاةً عن الطاعة، فهي بهذا الاعتبار لهو ولعب، وبالمقارنة مع الحياة الآخرة لا تكون إلا مجرَّد متاع؛ لأن الحياة الآخرة في نصوص الوحي هي الحياة الحقيقية؛ لدوام نعيمها ودوام عذابها.
ودونك تفصيلَ سياق الآيات والأحاديث وكلام العلماء فيها:
فقوله سبحانه: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُور} [الحديد: 20] علق عليه العلماء وبيَّنوا معناه، فقال ابن عطية رحمه الله: “والْحَياةُ الدُّنْيا في هذه الآية عبارة عن الأشغال والتصرفات والفكر التي هي مختصة بالحياة الدنيا، وأما ما كان من ذلك في طاعة الله وسبيله، وما كان من الضرورات التي تقيم الأود وتعين على الطاعات، فلا مدخل له في هذه الآية. وتأمَّل حال الملوك بعد فقرهم يَبِن لك أنَّ جميع نزوتهم لَعِبٌ وَلَهْوٌ. والزينة: التحسين الذي هو خارج من ذات الشيء، والتفاخر: هو بالأنساب والأموال وغير ذلك، والتكاثر: هو الرغبة في الدنيا وعددها لتكون العزة للكفار على المذهب الجاهلي”([7]).
وقال ابن كثير رحمه الله: “وَقَوْلُهُ: {أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} أي: يعجب الزراع نبات ذلك الزرع الذي نبت بالغيث، وكما يعجب الزراع ذلك كذلك تعجب الحياة الدنيا الكفار، فإنهم أحرص شيء عليها وأميل الناس إليها، {ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} أَي: يهيج ذلك الزرع فتراه مصفرًّا بعدما كان خضرًا نضرًا، ثم يكون بعد ذلك كله حطاما، أي: يصير يبسًا متحطِّما، هكذا الحياة الدنيا تكون أولا شابَّة، ثم تكتهل، ثم تكون عجوزًا شوهاء. ولما كان هذا المثل دالا على زوال الدنيا وانقضائها وفراغها لا محالة، وأن الآخرة كائنة لا محالة، حذَّر من أمرها ورغَّب فيما فيها من الخير، فَقَالَ: {وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ} أي: وليس في الآخرة الآتية القريبة إلا إما هذا وإما هذا: إما عذاب شديد، وإما مغفرة من الله ورضوان. وَقَوْلُهُ: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ} أَيْ: هي متاع فانٍ، غارّ لمن ركن إليه، فإنه يغترّ بها وتعجبه حتى يعتقد أنه لا دار سواها ولا معاد وراءها، وهي حقيرة قليلة بالنسبة إلى الدار الآخرة”([8]).
فسياق الآيات التي تذُمُّ الدنيا لا تخرج عن أحد أمرين: إما بمقارنتها بالآخرة، أو الاستكفاء بها عنها والرضا بها، فيأتي الذمُّ على هذا الوجه، وتبيين أن هذا الاستكفاءَ مخالف للعقل السليم ومخالف لحرص الإنسان على مصالحه التي يريد تحصيلها في العاجل والآجل، وهي في الترتيب ينبغي تقديم الدائم منها على الزائل، وقد أحسن الإمام ابن رجب الحنبلي التفصيل في المسألة فقال: “وليس الذم راجعًا إلى مكان الدنيا الذي هو الأرض التي جعلها الله لبني آدم مهادًا وسكنًا، ولا إلى ما أودع الله فيها من الجبال والبحار والأنهار والمعادن، ولا إلى ما أنبته فيها من الشجر والزرع، ولا إلى ما بثَّ فيها من الحيوانات وغير ذلك، فإن ذلك كله من نعمة الله على عباده بما لهم فيه من المنافع، ولهم به من الاعتبار والاستدلال على وحدانية صانعه وقدرته وعظمته، وإنما الذمُّ راجع إلى أفعال بني آدم الواقعة في الدنيا؛ لأن غالبها واقع على غير الوجه الذي تحمد عاقبته، بل يقع على ما تضر عاقبته”([9]).
ويؤكِّد هذا المعنى قوله سبحانه: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون} [العنكبوت: 64]. فهذا ذمّ للدنيا بمقارنتها بالآخرة، وليس ذمًّا مطلقا، قال ابن القم رحمه الله معلقا على قوله تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون}: “فيحتمل قوله تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} معنيين:
أحدهما: أن الحياة الآخرة هي الحياة؛ لأنها لا تنغيص فيها ولا نفاد لها، أي: لا يشوبها ما يشوب الحياة في هذه الدار، فيكون الحيوان مصدرا على هذا.
والثاني: أن يكون المعنى أنها الدار التي لا تفنى ولا تنقطع ولا تبيد كما يفنى الأحياء في هذه الدنيا، فهي أحقّ بهذا الاسم من الحيوان الذي يفنى ويموت”([10]).
فالحياة الدنيا تُذَمّ حين تقارَن بالآخرة، وهذا المعنى المجمل في بعض الآيات مبيَّن في آيات أُخَرَ، منها: قوله سبحانه: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [الأعلى: 16]، وقوله: {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 17]، وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُون} [يوسف: 109]، وقال سبحانه: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِين} [النحل: 30].
فالمدح هنا والذمّ هو بالمقارنة مع الآخرة، إما بالتسوية أو التفضيل، فتأتي النصوص مؤكِّدة على فضل الآخرة وتفاهة الدنيا بالمقارنة مع الآخرة، وليست الآخرة أمرًا متوهَّمًا بالنسبة للمتديِّنين، بل هي حقيقة مثل نطقهم، وفيها من النعيم ومن الكمال البشريّ ما ليس في الدنيا، فكما أنَّ حياة الإنسان في الدنيا أفضل بكثير من حياته في بطن أمِّه من حيث كثرة المعارف والكمال الذي يحظَى به بعد ولادته، فكذلك حياة الآخرة فهي أكمل وأفضل، والعلوم والمعارف والملذات فيها أكثر وأكمل، فلا يشوبها نقص ولا ينغصها فناء.
وهذه الآيات التي ذكرنا تأويلَ بعضها عند العلماء مثلُها الأحاديث الواردة في الباب، مما يوضح ذلك ذكر الوجه الآخر للدنيا في القرآن.
المبحث الثاني: طبيعة الأشياء في الدنيا:
التعبير بالأشياء أدقُّ من التعبير بالحياة الدينا؛ لأن الحياة تختلف من شخصٍ إلى شخص، وهذا يستدعي كلامًا مشتَّتًا في اتجاهات متعدِّدة، لكن الأشياء -ومن بينها المنجزات البشرية، والموجودات الدنيوية- من نظر فيها يجد أن القرآن لا يقدِّمها للناس بصورة مرفوضة، بل تكلَّم عن السرِّ فيها، وعن المقاصد التي ينبغي أن تتلمَّس في وجودها، وهذه الحياة الدنيا وما فيها مخلوقةٌ من أجل مقاصدَ عظيمة، منها الدلالة على الله سبحانه وتعالى، ومنها التفضُّل على العباد بهذه النعم الموجودة فيها من مال ورزق.
والمعنى الأول -وهو الدلالة على الله سبحانه وتعالى- مبثوث في القرآن الكريم، دلَّت عليه آيات كثيرة، منها قوله سبحانه وتعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12]، وقال سبحانه: {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوج} [ق: 6]، {أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُون} [الأعراف: 185].
وقد دلَّ الله عبادَه بعظمةِ الخلق على قدرتِه وعلى كمال قيّوميته سبحانه، فكلُّ المخلوقات العظيمة هي دليل على هذا المعنى، بما فيها السماء والأرض والجبال والإبل وغيرها.
والمعنى الثاني: الإنعام على العباد بالموجودات؛ بتسخيرها لهم وتوفيرها على وجه لو لم تكن عليه لما كانت حياتهم مستقيمة، فيأتي القرآن الكريم مبيِّنًا للطيِّبات، ولما أحلَّه الله على العباد مما تقوم به مصالحهم دنيا وأخرى، ومن هذا المعنى قوله سبحانه وتعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُون} [البقرة: 22]. وقوله سبحانه: {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون} [القصص: 73].
وتحدَّث عن عجائب المخلوقات وتسخيرها للإنسان فقال: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُون وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُون وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيم} [النحل: 7]، وقال سبحانه: {وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِين} [النحل: 80]، وقال سبحانه: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُون ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون} [النحل: 69].
وبيَّن المقصد من الأرض ووجود ما عليها وهو مصلحة الإنسان، فقال سبحانه وتعالى: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَام فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَام وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَان} [الرحمن: 12]. قال ابن كثير رحمه الله: “أي: كما رفع السماء وضع الأرض ومهَّدها وأرساها بالجبال الراسيات الشامخات؛ لتستقرَّ لما على وجهها من الأنام، وهم الخلائق المختلفة أنواعهم وأشكالهم وألوانهم وألسنتهم في سائر أقطارها وأرجائها”([11]).
فهذه هي النعمُ الأصليَّة، وهي المقاصد التي من أجلها خُلِقَت هذه النعم، فإذا صرفها الناس في عبادة الله سبحانه وتعالى وشكروها ازدادوا فيها، وإذا اشتغلوا بها عن الآخرة ضربت لهم الأمثال المبيِّنة لحقيقتها من مقصدها، وأنه إذا لم تحقّق هذه المقاصد تكون قد زالت حكمتها، ولم تعد كما هي في الحقيقة، فكانت مجرَّد لهو ولعب وغرور ومتاع لا ينبغي الالتفات إليه، ولا الوقوف عنده؛ لأنه بالمقارنة مع ما بعدَه ليس ذا بال، فهو كسراب بقيعة أو كرماد اشتدَّت به الرياح في يوم عاصف، أما إذا أمنت كلّ هذه الأمور، ولم تشغل الدنيا العبدَ ولم تلهِهِ، فإنَّ هذه الأشياء الأصلُ فيها أنها له، ومخلوقة من أجله، قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُون} [الأعراف: 32].
ولك أن تتأمل قوله تعالى: {قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، قال أكثر المفسرين -وهو قول الضحاك-: “فيه حذف، وتقديره: هي للذين آمنوا وللمشركين في الحياة الدنيا، خالصة للمؤمنين يوم القيامة، وقيل: معناه: خالصة يوم القيامة من التنغيص والغم، فإنها لهم في الدنيا مع التنغيص والغم”([12]).
وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيم} [المؤمنون: 51]، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُون} [البقرة: 172]، وقال سبحانه: {رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [الإسراء: 66]. فعَدَّ طلبَ الدنيا فضلا، كما عدَّ حبَّ الإيمان وبغض الكفر فضلا.
وقد لخَّص الشاطبي رحمه الله ما مرَّ من الأدلة في ذمّ الدنيا تارة وجعلها نعمةً تارة أخرى فقال: “والشريعة منزَّهة عن التضادِّ، مبرَّأة عن الاختلاف؛ فلزم من ذلك أنَّ توارد الوصفين على جهتين مختلفتين، أو حالتين متنافيَتَين، بيانه أن لها نظرين:
أحدهما: نظر مجرَّد من الحكمة التي وُضِعت لها الدنيا من كونها متعرَّفًا للحق، ومستحقًّا لشكر الواضع لها، بل إنما يعتبر فيها كونها عيشًا ومقتنصًا للذات ومآلا للشهوات انتظاما في سلك البهائم؛ فظاهر أنها من هذه الجهة قِشر بلا لبّ، ولعب بلا جدّ، وباطل بلا حقّ؛ لأن صاحب هذا النظر لم ينَل منها إلا مأكولا ومشروبا وملبوسا ومنكوحا ومركوبًا، من غير زائد، ثم يزول عن قريب، فلا يبقى منه شيء؛ فذلك كأضغاث الأحلام، فكلّ ما وصفته الشريعة فيها على هذا الوجه حق، وهو نظر الكفار الذين لم يبصروا منها إلا ما قال تعالى من أنها لعب ولهو وزينة وغير ذلك مما وصفها به؛ ولذلك صارت أعمالهم {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور: 39].
والثاني: نظر غير مجرّد من الحكمة التي وُضِعت لها الدنيا؛ فظاهر أنها ملأى من المعارف والحكم، مبثوث فيها من كلِّ شيء خطيرٍ مما لا يقدر على تأدِيَة شكر بعضه؛ فإذا نظر إليها العاقل وجد كلَّ شيء فيها نعمةً يجِب شكرُها، فانتدب إلى ذلك حسب قدرته وتهيئته، وصار ذلك القشر محشوًّا لبًّا، بل صار القشر نفسُه لبًّا؛ لأن الجميع نعمٌ طالبة للعبد أن ينالها فيشكر لله بها وعليها، والبرهان مشتمل على النتيجة بالقوة أو بالفعل؛ فلا دقَّ ولا جلَّ في هذه الوجوه إلا والعقل عاجز عن بلوغ أدنى ما فيه من الحكم والنعم، ومن هاهنا أخبر تعالى عن الدنيا بأنها جدّ وأنها حق؛ كقوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُون} [المؤمنون: 115]؛ ولأجل هذا صارت أعمال أهل هذا النظر معتبرة مثبتة؛ حتى قيل: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون} [التين: 6].
فالدنيا من جهة النظر الأول مذمومة، وليست بمذمومة من جهة النظر الثاني، بل هي محمودة؛ فذمها بإطلاق لا يستقيم، كما أن مدحَها بإطلاق لا يستقيم، والأخذ لها من الجهة الأولى مذموم، يسمَّى أخذه رغبة في الدنيا وحبًّا في العاجلة، وضدّه هو الزهد فيها، وهو تركها من تلك الجهة، ولا شكَّ أن تركها من تلك الجهة مطلوب، والأخذ لها من الجهة الثانية غير مذموم، ولا يسمَّى أخذه رغبة فيها، ولا الزهد فيها من هذه الجهة محمود، بل يسمَّى سفها وكسلا وتبذيرا”([13]).
المبحث الثالث: تشجيع النصوص الشرعية على العمل والتكسُّب:
مما يدفع دعوى أنَّ نصوصَ ذمِّ الدنيا كانت سببًا في إعراض الناس عن العلم ومعاداة العمَل النصوصُ المتواترة في التشجيع على العمل والتكسُّب، بل في طلب الدنيا إلى ما لا نهاية، فهذا سليمان وهو نبيٌّ من أنبياء الله يقول في دعائه: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّاب} [ص: 35]، ويوسف عليه الصلاة والسلام يقول: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيم} [يوسف: 55].
قال الماوردي: “وفي هذا دليلٌ على جواز أن يخطب الإنسان عملًا يكون له أهلًا، وهو بحقوقه وشروطه قائم. فيما حكى ابن سيرين عن أبي هريرة قال: نزعني عمر بن الخطاب عن عمل البحرين، ثم دعاني إليها فأبيت، فقال: لم وقد سأل يوسف العمل؟!”([14]).
وقد استعاذ النبيُّ صلى الله عليه وسلم من العجز والكسل، فكان يقول في دعائه: «اللهم إني أعوذ بك من الهمِّ والحزن والعجز والكسل والبخل والجبن وضَلَع الدَّين وغَلَبة الرِّجال»([15])، ونهى عليه الصلاة والسلام أمَّته عن العجز وكلِّ ما يؤدِّي إلى ضعف وحاجةٍ إلى الناس، فقال: «المؤمن القويُّ خيرٌ وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرِص على ما ينفعك، واستَعِن بالله ولا تعجَز، وإن أصابك شيءٌ فلا تَقُل: لو أنِّي فعلتُ كان كذا وكذا، ولكن قل: قدَرُ الله وما شاء فعل، فإنَّ لو تفتحُ عملَ الشيطان»([16]).
ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله «الإمام العادل… ورجل تصدَّق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه»([17]). والنصوصُ الداعية إلى الإنفاق كلها محرِّمَة للكسل والاتِّكال على الناس والقعود عن طلب الرزق.
وأما بالنسبة للاستفادة من العلوم الدنيوية فذلك أمر واضح وضوحَ الشمس، فكلُّ العلوم النافعة هي محلُّ إشادة من الشرع إذا وجِّهت إلى ما يخدم المقاصدَ العامَّةَ، قال سبحانه: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيب} [هود: 61]. قال زيد بن أسلم: “أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه فيها من بناء مساكن، وغرس أشجار. وقيل: المعنى ألهمكم عمارتها من الحرث والغرس وحفر الأنهار وغيرها”([18]).
وقدا استثنى الله ما أمسكته الحيوانات المعلَّمة من المحرمات، فقال سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَاب} [المائدة: 4]. قال الماوردي: “{تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا علَّمَكُمُ اللَّهُ} أي: تعلمونهن من طلب الصيد لكم مما علمكم الله من التأديب الذي أدَّبكم وصفات التعليم التي بيَّن حكمها لكم”([19]).
فكلُّ ما يفيد البشر وينفعهم من العلوم هو محلُّ اعتبار من الشرع وإشادة؛ لأن ميزة الإنسان الحقيقية في الدنيا هي العلم، وهذا يأتي في القرآن في معرض المنة والنعمة من الله عز وجل، قال الله: {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم} [العلق: 5]. وهذا التعليم شاملٌ لكلِّ ما جهله الإنسان من العلوم([20]).
وقد تكلَّم العلماءُ في علاقة العلوم بالشرع، وجعلوها من قبيل الأدلة المركَّبة، والتي لا تستعمَل مستقلةً، وإنما تأتي أحكام الشرع مبنيةً عليها وعلى نتائجها، وهذا شامل للأدلة التالية:
التواتر: وهو رواية الخبر من جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب، وكان مستندهم في ذلك الحسّ.
والحدس: وهو التخمين في الشيء للتوصل إلى الظن.
والتجريب: وهو ما يخضع لتجارب الناس مثل الأدوية.
قال ابن عاصم رحمه الله:
والحدس والتجريب من مركَّب ومعهما تواترا له انسبِ([21])
وبين العلماء بناءَ الأحكام على نتائج التجارب، قال ابن العربي: “هذا الذي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من التداوي والأدوية ذكَر العلماء أنه خرج على أحد قِسمَي الطِّبِّ، والطب عندهم قسمان: الطب القياسيّ وهو يوناني، والطب التجاربي وهو طب الهند والعرب، فخرجت أجوبة النبي صلى الله عليه وسلم على مذاهب أهل التجربة لتأتي العرب بما كانت تعتاده دنوًّا منها وتقريبًا للمرام عليها”([22]).
وهذه التجربة جاريةٌ في أمور السياسة والحكم والأدوية والأغذية وكلِّ ما ينفع الناس، فعن عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري قال: سألتُ عن قوله: (لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم) يريد: لا يزال الناس بخير ما كان علماؤهم المشايخ، ولم يكن علماؤهم الأحداث؛ لأن الشيخ قد زالت عنه ميعَة الشباب وحِدَّته وعَجَلَته وسَفَهه، واستصحب التجربةَ والخبرةَ، فلا يدخل عليه في علمه الشبهة، ولا يغلب عليه الهوى، ولا يميل به الطمع، ولا يستزلّه الشيطان استزلال الحدَث، ومع السِّنِّ الوقار والجلالة والهيبةُ، والحدث قد يدخل عليه هذه الأمور التي أُمٍنت على الشيخ، فإذا دخلت عليه وأفتى هلك وأهلك([23]).
وقد بنى الفقهاء أحكام الحلال والحرام على التجاربِ، فما ثبت نفُعه بالتجربة فهو حلال، وما ثبت ضررُه بالتجربة فهو حرام، وهذا جارٍ في أبواب الصوم والطهارة والصلاة والنكاح، فالضرر الموجب للتيسير فيه مبنيٌّ على خبر الطبيب الحاذق أو تجربة الموافق في المزاج كما يقول الفقهاء.
وأما علوم الفلك والحساب فهي منصوصة الاعتبار في الشرع، قال سبحانه: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُون} [النحل: 16]. وَقَالَ قَتَادَةُ: “إِنَّمَا خَلْقَ اللَّهُ النُّجُومَ لِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: لِتَكُونَ زِينَةً لِلسَّمَاءِ، وَمَعَالِمَ لِلطُّرُقِ، وَرُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ، فَمَنْ قَالَ غَيْرَ هَذَا فَقَدْ تَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ”([24]).
وهذه العلوم كلها معِينَة على فهم مراد الشارع وتطبيقه، فالله حين أمر بالتوجُّه إلى القبلة لم يكن من سبيل إلى ذلك إلا معرفة هذه العلوم والدلائل التي تدلّ عليها، فهي مرتبطة بالشرع ارتباط الشيء بشرطه، قال الشافعي رحمه الله في تفسير الآية التي مرت: “فَخَلَقَ لهم العلامات، ونصب لهم المسجد الحرام، وأمرهم أن يتوجهوا إليه. وإنما توجههم إليه بالعلامات التي خلق لهم، والعقول التي ركَّبها فيهم، التي استدلوا بها على معرفة العلامات. وكل هذا بيان ونعمة منه جل ثناؤه”([25]).
وقال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُون} [الأنعام: 97]. قال ابن رشد: “يتعلم من أحكام النجوم ما يستدلُّ به على القبلة وأجزاء الليل، وما مضى منه وما يهتدي به في ظلمات البر والبحر، وتعرف مواضعها من الفلك وأوقات طلوعها وغروبها، وهو مستحبّ”([26]).
ثم قس على ذلك سائر العلوم، فالشرع لا يعادي ما ينفع الناس، ولا يذمّ الحياة الدنيا لأنها الحياة الدنيا، وإنما ذمَّها في سياق معيَّن ومحدَد، ولم يقل أحد من علماء المسلمين قديما أو حديثا بترك العلوم النافعة والزهد فيها، ولم يدعُ أحد منهم إلى الفقر ولا شجَّع عليه؛ لأن هذا يناف مقاصدَ الشرع التي جاء بها، والمصالح التي سعَى إليها، والمفاسد التي جاء لدرئها، وقد فسر العلماء المصالح والمفاسد فقالوا: المصالح: اللذّات وأسبابها والأفراح وأسبابها، والمفاسد: الآلام وأسبابها والغموم وأسبابها([27]).
ومن العجيب أن مدَّعي هذه الدعوى على الشريعة إذا رأى أهلَ الشريعة يعتنون بعلوم الدنيا جعلهم مجردَ انتهازيّين ونفعيّين، ودعا إلى عزلهم عن شؤون الحياة وعن التأثير العام، وهذه التصرفات منه دليل على أن الدّين ليس معاديًا للعلم ولا للحياة ولا للرفاهية؛ لأنه لو كان كذلك ما لقي معتنقوه عنتًا من مجابهة من يريد عزل الدين عن الحياة وتأخيره عن التطور.
والله الموفق، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([2]) الفصل بين أهل الملل والنحل (4/ 59).
([4]) رواه البخاري (3036)، ومسلم (2643).
([5]) أخرجه الترمذي (2322)، وابن ماجه (4112) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: “حسن غريب”، وحسنه ابن القيم في عدة الصابرين (1/ 260)، وابن مفلح في الآداب الشرعية (2/ 38).
([6]) أخرجه الترمذي (2320)، وقال الترمذي: “صحيح غريب من هذا الوجه”، وهو في السلسلة الصحيحة (686، 943).
([8]) تفسير ابن كثير (8/ 24-25) بتصرف.
([9]) جامع العلوم والحكم (2/ 177).
([10]) حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح (ص: 99).
([11]) تفسير ابن كثير (7/ 458).
([12]) تفسير السمعاني (2/ 178).
([13]) الموافقات (5/ 366) بتصرف يسير.
([20]) ينظر: المحرر الوجيز (7/ 166).
([23]) الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (2/ 156).
([24]) ينظر: تفسير البغوي (5/ 14).