الصراط في الوحي..ومناقشة منكريه
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
الإيمان بالبعث والنشور علامة فارقة بين المؤمن وغيره، والاهتمام بالترغيب والترهيب بما في اليوم الآخر هو سمة المؤمنين حقًّا في كل زمان، فهو جزء لا يتجزأ من الإيمان بالغيب؛ ولذلك نجد المولى سبحانه وتعالى يؤكِّد في أوائل القرآن الكريم على هذه السِّمة؛ فبمجرد ذكر المتقين والكشف عن صفاتهم أكَّد أنهم: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3]، قال قتادة: “آمنوا بالجنة والنار، والبعث بعد الموت، وبيوم القيامة، وكل هذا غيب”([1])، والإيمان بالصراط هو أحدُ شُعَب الإيمان بيوم القيامة.
وفي هذه الورقة العلمية ننقب عمَّا قررته النصوص في الصراط عامة وفي الصراط الأخروي خاصة، وننظر: في ذكره في القرآن الكريم، وحال الأحاديث التي وردت فيه، وموقف السلف منها، ومتى ظهر إنكاره في التاريخ؟ وهل اختلفت حجج منكريه في السابق عن حججهم اليوم؟.
معنى الصراط في اللغة:
ورد الصراط في القرآن والسنة في مواضع كثيرة جدًّا، وقبل التنقيب عن معناه الشرعي نتأمَّل في معانيه في اللغة؛ فمن أبرز معانيه في اللغة:
- الطريق الواضح([2]) يقول الإمام الطبري (310هـ) رحمه الله: “أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعا على أن الصراط المستقيم هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، وكذلك ذلك في لغة جميع العرب”([3]).
- الاستراط، أي: الابتلاع، وسمي الطريق سراطًا؛ لأنه يبتلع من يسلكه([4]).
معنى الصراط في القرآن:
وردت مفردة الصراط في القرآن فيما يربو على أربعين موضعًا، وورد عن السلف في معناه أقوال كثيرة متنوعة لا متضادة، ومن تلك الأقوال:
- الإسلام، وقد ورد عن جملة من الصحابة منهم ابن عباس وابن مسعود وجابر رضي الله عنهم([5])، وبذلك فسره الإمام الطبري في بعض المواضع كقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} [يونس: 25]([6])، وغيره من المفسرين([7]).
- القرآن، وقد ورد عن علي بن أبي طالب وابن مسعود رضي الله عنهما([8]).
- العبادة وإخلاصها لله، وبذلك فسر الإمام الطبري قوله تعالى: {وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس: 61]([9])، وابن كثير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [آل عمران: 51]([10]).
- الطريق القويم أو الطريق المستقيم، وبه فسَّر الإمام الطبري قوله تعالى: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142]([11]).
- طريق الجنة، وبه فسر القرطبي قوله تعالى: {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج: 24]([12]).
- ملة إبراهيم، وبه فسَّر ابن كثير قوله تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 161]([13]).
وهذه المعاني المختلفة هي في الحقيقة تعود إلى اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد كما يذكر السيوطي حيث قال عن ماهية هذا الاختلاف أنه: “يعبر واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه، تدل على معنى في المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى؛ كتفسيرهم الصراط المستقيم؛ بعض بالقرآن، أي: اتباعه، وبعض بالإسلام، فالقولان متفقان؛ لأن دين الإسلام هو اتباع القرآن، ولكن كل منهما نبه على وصف غير الوصف الآخر، كما أن لفظ صراط يشعر بوصف ثالث. وكذلك قول من قال: هو السنة والجماعة، وقول من قال: هو طريق العبودية، وقول من قال: هو طاعة الله ورسوله، وأمثال ذلك، فهؤلاء كلهم أشاروا إلى ذات واحدة، لكن وصَفها كل منهم بصفة من صفاتها”([14]).
وبقريب من هذا الشمول للمعاني التي وردت عن السلف نجد الإمام الطبري رحمه الله يعبر حيث قال: “والذي هو أولى بتأويل هذه الآية عندي -أعني: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المسْتَقِيمَ}- أن يكون معنيا به: وفقنا للثبات على ما ارتضيته ووفقت له من أنعمت عليه من عبادك، من قول وعمل، وذلك هو الصراط المستقيم؛ لأن من وفق لما وفق له من أنعم الله عليه من النبيين والصديقين والشهداء فقد وفق للإسلام، وتصديق الرسل، والتمسك بالكتاب، والعمل بما أمر الله به، والانزجار عما زجره عنه، واتباع منهج النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهاج أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وكل عبد لله صالح، وكل ذلك من الصراط المستقيم”([15]).
وهنا نكاد نكون وقفنا على معاني الصراط في اللغة وفي القرآن، ولكننا لم نقف على لبِّ موضوعنا في هذه الورقة وهو الصراط الأخروي؛ فلم نجد له ذكرًا في المعاني اللغوية، ولا تلك المعاني القرآنية التي بحثنا فيها بلفظة (صراط)؛ ومن هنا انطلق جملة من الناس إلى إنكار الأخرويّ، وظنوا أن عدم وروده بلفظه في القرآن يمنع العلم به، مع أن عدم ورود الشيء بلفظه صراحة لا يدلّ على عدم وروده بمعناه دون لفظه، وهو ما سنبحثه في المبحث التالي.
الصراط الأخروي في القرآن والسنة:
إلى جانب المعنى السابق الذي كثر وروده في القرآن الكريم ورد في النصوص أيضا ذكر الصراط الأخروي، وهو: جسر ممدود على متن جهنم، يمر عليه جميع الناس، ويتفاوتون في سرعة مرورهم بحسب أعمالهم، وهو طريق أهل المحشر لدخول الجنة، يقول الإمام أحمد (241هـ) رحمه الله: “وأن لله تعالى صراطا يعبر عليه الناس، وأن عليه حياتٍ تأخذ بالأقدام، وأن العبور عليه على مقادير الأعمال مشاةً وسُعاةً وركبانا وزحفًا”([16]).
وليس بصحيح أن هذا الصراط لم يرد ذكره في القرآن الكريم، بل قد ورد، ولكن لم يرد ذكره بلفظة الصراط، وإنما ورد بغيرها مما يدل على الصراط الأخروي، وذلك في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم: 71]، فالمقصود بالورود في هذه الآية هو العبور على الصراط يوم القيامة، أي: “{وَإِنْ مِنْكُمْ} -أيها الناس- إلا وارد جهنم، {كَانَ عَلَى رَبِّكَ} يا محمد قضاء {مَقْضِيًّا}، قد قضى ذلك وأوجبه في أم الكتاب”([17])، كما ورد ذلك عن السلف كابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما اللذين فسَّرا الصراط في غير هذا الموضع بغير هذا التفسير، يقول الإمام الطبري رحمه الله: “وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: قول من قال: يردها الجميع ثم يصدر عنها المؤمنون، فينجيهم الله، ويهوي فيها الكفار، ووُرودُهُموها هو ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من مرورهم على الصراط المنصوب على متن جهنم، فناجٍ مسلَّم ومكدس فيها”([18]).
إذن تبيَّن أن الصراط الأخروي لم يرد في القرآن بلفظه، ولكن ورد ذكر الورود عليه دون التصريح بلفظة الصراط؛ وهو كافٍ في وجوب الإيمان به، فإن أهل السنة والجماعة يتميَّزون كما أخبر الله بالإيمان بالغيب والانقياد التام والتسليم المطلق لكل ما ورد عن الله سبحانه وتعالى، فهم يصدِّقون بكل الأخبار الواردة عنه سبحانه وتعالى، ولا يتكلَّفون في إنكارها التأويلات، ويمتثلون لكل الأوامر التي يأمرهم الله تعالى بها، ولو ورد مرة واحدة في القرآن الكريم، ولو لم يرد إلا مرَّة واحدة في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف وقد ورد الصراط في السنة المتواترة في أحاديث كثيرة جدًّا؟! ونحن نورد هنا بعضها:
- روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فيدعوهم، فيضرب الصراط بين ظَهرانَي جهنم، فأكون أولَ من يجوز من الرسل بأمَّته، ولا يتكلّم يومئذ أحد إلا الرسل، وكلام الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم، وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان، هل رأيتم شوك السعدان؟»، قالوا: نعم، قال: «فإنها مثل شوك السعدان، غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله، تخطف الناس بأعمالهم، فمنهم من يوبق بعمله، ومنهم من يخردل ثم ينجو»([19]).
- وروى الإمام البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكر شيئا من أهوال القيامة قال: «ثم يؤتى بالجسر فيجعل بين ظهري جهنم»، قلنا: يا رسول الله، وما الجسر؟ قال: «مدحضة مزلة، عليه خطاطيف وكلاليب، وحسكة مفلطحة، لها شوكة عقيفاء تكون بنجد، يقال لها: السعدان، المؤمن عليها كالطرف وكالبرق وكالريح، وكأجاويد الخيل والركاب، فناج مسلم، وناج مخدوش، ومكدوس في نار جهنم، حتى يمر آخرهم يسحب سحبًا»([20]).
- وروى الإمام مسلم في صحيحه عن ثوبان رضي الله عنه أن يهوديًّا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أين يكون الناس يوم تُبدَّل الأرض غير الأرض والسماوات؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هم في الظلمة دون الجسر»، قال: فمن أول الناس إجازة؟ قال: «فقراء المهاجرين»([21]).
- وروى الإمام مسلم في صحيحه عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فيأتون محمدا صلى الله عليه وسلم، فيقوم فيؤذن له، وترسل الأمانة والرحم، فتقومان جنبتي الصراط يمينا وشمالا، فيمر أولكم كالبرق»، قال: قلت: بأبي أنت وأمي، أي شيء كمر البرق؟ قال: «ألم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين، ثم كمر الريح، ثم كمر الطير، وشد الرجال؟ تجري بهم أعمالهم، ونبيكم قائم على الصراط يقول: رب سلم سلم، حتى تعجز أعمال العباد، حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفًا»، قال: «وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة، مأمورة بأخذ من أمرت به، فمخدوش ناج، ومكدوس في النار»([22]).
وقد أجمعت الأمة على إثبات الصراط، يقول أبو الحسن الأشعري (324هـ) رحمه الله: “وأجمعوا على أن الصراط جسر ممدود على جهنم، يجوز عليه العباد بقدر أعمالهم، وأنهم يتفاوتون في السرعة والإبطاء على قدر ذلك”([23])، وقال النووي (676هـ) رحمه الله: “ومذهب أهل الحق إثباته، وقد أجمع السلف على إثباته، وهو جسر على متن جهنم، يمر عليه الناس كلهم، فالمؤمنون ينجون على حسب حالهم أي: منازلهم، والآخرون يسقطون فيها، أعاذنا الله الكريم منها”([24]).
نصوص السلف في إثبات الصراط:
على هذا الذي رأيناه في النصوص تضافرت كلمات السلف، فأكَّدوا على الإيمان بالصراط، ونبَّهوا على إجماع الأمة على إثباته، وأنه صحيح ثابت كما ورد في القرآن والسنن، ومن أهم أولئك الأئمة:
- سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: “يوضع الصراط يوم القيامة، وله حد كحد الموسى، فتقول الملائكة: يا رب، من يمر على هذا؟! فيقول: من شئت من خلقي، فيقولون: يا ربنا، ما عبدناك حق عبادتك”([25]).
- وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: “بلغني أن الجسر أدق من الشعرة، وأحد من السيف”([26]).
- وقال الإمام أحمد رحمه الله: “والصراط حقّ، يوضع على سواء جهنم، ويمر الناس عليه، والجنة من وراء ذلك، نسأل الله السلامة”([27]).
- وقال خشيش بن أصرم (253هـ) رحمه الله([28]): “والآثار جاءت بتكذيب جهم في إنكاره أن الله يجيز على الصراط عباده”([29]).
- وقال الطحاوي (321هـ) رحمه الله: “ونؤمن بالبعث وجزاء الأعمال يوم القيامة، والعرض والحساب، وقراءة الكتاب، والثواب والعقاب، والصراط والميزان”([30]).
- وقال البربهاري (329هـ) رحمه الله: “والإيمان بالصراط على جهنم، يأخذ الصراط من شاء الله، ويجوز من شاء الله، ويسقط في جهنم من شاء الله، ولهم أنوار على قدر إيمانهم”([31]).
- وقال ابن أبي زمنين (399هـ) رحمه الله: “وأهل السنة يؤمنون بالصراط، وأن الناس يمرون عليه يوم القيامة على قدر أعمالهم”([32]).
- وقال أبو عمرو الداني (444هـ) رحمه الله: “وقد ذكر الله تعالى الصراط في غير موضع من كتابه، وتواترت الأخبار فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يلحق الناس عليه من الأهوال”([33]).
المنكرون للصراط المخالفون للوحي والسلف:
بعث الله نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم، فآمن به الصحابة والتابعون من بعدهم، ومما آمنوا به الصراط الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته في أكثر من حديث وأكثر من موضع، ولم يظهر بين الصحابة ولا أتباعهم من ينكر الصراط ولا غيره مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أمور الغيب والآخرة، ولكن ظهرت الجهمية أول ما ظهرت بهذا الإنكار، ثم تبعتهم المعتزلة، ثم تبعهم في زماننا بعض من تلبَّس لبوسهم.
لقد أنكرت الجهمية جملة كبيرة من الغيبيات، وخاصة ما يتعلق بالغيبيات الأخروية، ونجد الإمام خشيش بن أصرم رحمه الله يرصد لنا هذا الإنكار من الجهمية -وهو من أوائل من ردَّ على الجهمية- حيث يقول: “ومنهم صنفٌ أنكروا الميزان، أنكروا أن يكون لله ميزان يزن فيه الخلق أعمالهم، وأنكروا الصراط أن يكون الله عز وجل يجيز على الصراط أحدا… والآثار جاءت بتكذيب جهم في إنكاره أن الله يجيز على الصراط عباده”([34]).
وقد رصد ذلك أيضا الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في نقضه على بشر المريسي الجهمي أنه يقول: “القرآن مخلوق… وأن الصراط باطل، وأن الساعة باطل، وأن الميزان باطل، مع كلام كثير”([35]).
وقال البغدادي: “هذا الأصل في إثبات الحوض والصراط والميزان وسؤال الملكين، وأنكر ذلك الجهمية”([36]).
ثم جاءت المعتزلة وأخذت كثيرًا مما قالته الجهمية من البدع، فمنهم من أنكر الصراط صراحة، ومنهم من أنكر الأحاديث الواردة فيه، ونفى عن الصراط كل الصفات الواردة فيه ورفضها لأنها من تخيُّلات الحشوية بزعمهم؛ يقول القاضي عبد الجبار: “هو طريق بين الجنة والنار، يتسع على أهل الجنة، ويضيق على أهل النار إذا راموا المرور عليه… فلسنا نقول في الصراط ما يقوله الحشوية من أن ذلك أدق من الشعر وأحد من السيف، وأن المكلفين يكلفون اجتيازه والمرور به، فمن اجتازه فهو من أهل الجنة، ومن لم يمكنه ذلك فهو من أهل النار؛ فإن تلك الدار ليست هي بدار تكليف حتى يصحّ إيلام المؤمن وتكليفه المرور على ما هذا سبيله في الدقة والحدة، وأيضا فقد ذكرنا أن الصراط هو الطريق، وما وصفوه ليس من الطريق بسبيل كلامهم فيه”. ثم ردَّ القاضي قول من نسب الإنكار المطلق للصراط إلى المعتزلة فقال: “وقد حُكِي عن كثير من مشايخنا أن الصراط إنما هو الأدلة الدالة على هذه الطاعات التي من تمسك بها نجا وأفضى إلى الجنة، والأدلة الدالة على المعاصي التي من ركبها هلك واستحق من الله تعالى النار. وذلك مما لا وجه له؛ لأن فيه حملًا لكلام الله تعالى على ما ليس يقتضيه ظاهره، وقد كررنا القول في أن كلام الله تعالى مهما أمكن حمله على حقيقته فذلك هو الواجب دون أن يصرف عنه إلى المجاز، وعلى أنا لا نعرف من الأصحاب من ذكر ذلك إلا شيئًا يحكى عن عبَّاد”([37]).
ولذا نجد أبا الحسن الأشعري لا ينسب إلى المعتزلة إنكار الصراط مطلقًا، بل بيَّن أن الخلاف في الصراط خلافٌ في أوصافه الواردة، لا في أصل ثبوته، حيث قال: “واختلفوا في الصراط، فقال قائلون: هو الطريق إلى الجنة وإلى النار، ووصفوه فقالوا: هو أدق من الشعر، وأحد من السيف، ينجي الله عليه من يشاء، وقال قائلون: هو الطريق، وليس كما وصفوه بأنه أحد من السيف وأدق من الشعر، ولو كان كذلك لاستحال المشي عليه”([38]).
وقد أطلق بعضهم القول بأن جمهور المعتزلة ينكرون الصراط كما قال العمراني: “وأن الصراط حق، وأن حوض النبي صلى الله عليه وسلم حق، وأنكرت المعتزلة والقدرية وأهل الزيغ ذلك كله”([39])، وهو غير دقيق؛ ولعل ذلك لكون من أثبت منهم الميزان أنكر صفاته الواردة في السنة، ولا يوجد شيء لا وصفَ له إلا العدم، كما نفهم ذلك من قول السفاريني حيث قال: “اتَّفقت الكلمة على إثبات الصراط في الجملة، لكن أهل الحق يثبتونه على ظاهره، من كونه جسرا ممدودا على متن جهنم، أحدّ من السيف، وأدقّ من الشعر، وأنكر هذا الظاهر القاضي عبد الجبار المعتزلي وكثير من أتباعه؛ زعمًا منهم أنه لا يمكن عبوره، وإن أمكن ففيه تعذيب، ولا عذاب على المؤمنين والصلحاء يوم القيامة، وإنما المراد طريق الجنة المشار إليه بقوله تعالى: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} [محمد: 5]، وطريق النار المشار إليه بقوله تعالى: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الجَحِيمِ} [الصافات: 23]. ومنهم من حمله على الأدلة الواضحة والمباحات والأعمال الرديئة ليسأل عنها ويؤاخذ بها. وكل هذا باطل وخرافات؛ لوجوب حمل النصوص على حقائقها، وليس العبور على الصراط بأعجبَ من المشي على الماء أو الطيران في الهواء والوقوف فيه”([40]).
وختامًا:
ما أشبهَ الليلة بالبارحة! فلئن أنكرتِ الجهمية وغيرُهم الصراط وما ورد فيه من أوصاف وأهوال؛ لأنها من دعاوى الحشوية، فنجد في عصرنا الحاضر من ينكر الصراط أيضًا بدعوى أنها عقيدة النصيِّين الجامدين الذي يتعصَّبون للنصوص ولا يأبهون للعقليات والأدلة والعلوم والمكتشفات الحديثة! فهل كان الإيمان والانقياد لكلام الله ورسوله جمودًا أو بلادة عقل وانغلاق فكر؟!
والعجب أنهم يقحمون عقولهم وفهومهم فيما يعترف العقل بالعجز عن إدراكه، فأي عقل ذاك الذي يدَّعي علم الغيوب؟! وأي عقل يمكنه أن يعلم ما أخفاه الله عن الخليقة أجمع من علوم الغيب؟!
وصلَّى الله وسلم على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) ينظر: جامع البيان (1/ 236).
([2]) ينظر: الصحاح للجوهري (3/ 1139)، مقاييس اللغة (3/ 349)، تاج العروس (19/ 437).
([4]) ينظر: العين (7/ 211)، المفردات في غريب القرآن (ص: 407)، تفسير القرطبي (1/ 148).
([5]) ينظر: جامع البيان (1/ 173 وما بعدها)، تفسير ابن كثير (1/ 138).
([7]) ينظر: تفسير القرطبي (12/ 31).
([8]) ينظر: تفسير ابن كثير (1/ 138).
([9]) ينظر: جامع البيان (20/ 542).
([10]) ينظر: تفسير ابن كثير (7/ 237).
([11]) ينظر: جامع البيان (3/ 140).
([12]) ينظر: تفسير القرطبي (12/ 31).
([13]) ينظر: تفسير ابن كثير (2/ 77).
([14]) الإتقان في علوم القرآن (4/ 203).
([16]) العقيدة رواية أبي بكر الخلال (ص: 121).
([19]) صحيح البخاري (806)، وصحيح مسلم (182).
([23]) رسالة إلى أهل الثغر (ص: 163).
([24]) شرح النووي على صحيح مسلم (3/ 20).
([25]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (6/ 1251).
([27]) ينظر: طبقات الحنابلة (1/ 27).
([28]) هو أحد أئمة السلف في القرن الثالث، وصاحب كتاب الاستقامة في السنة والرد على أهل البدع والأهواء، وهو من أوائل من ردَّ على الجهمية. ينظر: تهذيب الكمال في أسماء الرجال (8/ 251)، سير أعلام النبلاء (12/ 250).
([29]) ينظر: التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع (ص: 98 وما بعدها).
([30]) متن الطحاوية بتعليق الألباني (ص: 72).
([33]) الرسالة الوافية (ص: 203).
([34]) التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع (ص: 98 وما بعدها).
([35]) نقض عثمان بن سعيد على المريسي (1/ 61).
([36]) أصول الدين (ص: 245 وما بعدها)، وينظر: جهم بن صفوان ومكانته في الإسلام، لخالد العلي (ص: 243).
([37]) شرح الأصول الخمسة (ص: 737 وما بعدها).
([38]) مقالات الإسلاميين (ص: 472).
([39]) الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار (3/ 720). وينظر: المواقف للإيجي (3/ 523)، شرح المقاصد للتفتازاني (2/ 223)، أصول الدين للبغدادي (ص: 245).