حديثُ “طوافِ النبيّ ﷺ على نسائه بغُسْلٍ واحد”..ورد المطاعن المعاصرة عليه
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
يزعُم كثيرٌ من خصوم السنّةِ أنّ بعض الأحاديث قد صوّرت النبي صلى الله عليه وسلم بصورة لا تليق بمقام النبوة؛ ولذا فالواجب في زعمهم هو ردّ هذه الأحاديث؛ صيانة لمقام النبوة مما يدنِّسها ويسيء إليها، خاصة أن هذه الأحاديث بزعمهم تعارض العقل أو القرآن أو الأحاديث الأخرى.
والمتأمل لعامة هذه الأحاديث التي يستنكرونها يجد أن عامتها لا يخرج عن نوعين:
الأول: ما لا إساءة فيه أصلا بوجهٍ من الوجوه، بل قد يكون كمالا.
الثاني: أن يحمّل الحديث ما لا يحتمله، ويفسر تفسيرًا معيبًا على غير طريقة العلماء الراسخين.
ومن الأحاديث التي جعلها هؤلاء المغرضون غرضًا لسهامهم حديث طواف النبي صلى الله عليه وسلم على نسائه بغسل واحد، حيث زعموا أن في هذا الحديث إساءةً لمقام النبوة، حيث يصور النبي صلى الله عليه وسلم بصورة لا تليق بمقامه، تنافي ما ثبت من زهده وتقلّله من الدنيا وشهواتها.
وطعن بعضهم من جهة أنّ هذا مناف للنظافة المعروفة عنه صلى الله عليه وسلم.
وطعن آخرون من جهة مخالفته للعقل، فكيف يمكن جماع تسع نسوة أو إحدى عشر في ساعة واحدة مع كون هذا مما لا يقدر عليه أحدٌ عادة؟!
وطعن بعضهم من جهة كيفية اطلاع الراوي على ذلك، مع كونه من الأمور الخاصة التي يحرم إفشاؤها، ويُسْتحى من ذكرها.
فهذا عامة ما طُعِن به في هذا الحديث، ونستعين بالله تعالى على الجواب عن هذه المطاعن في النقاط الآتية:
أولا: تخريج الحديث وبيان صحَّته:
هذا الحديث رواه ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم: أنس، وعائشة، وأبو رافع رضي الله عنهم.
فرواه الإمام البخاري في صحيحه في كتاب النكاح، باب من طاف على نسائه في غسل واحد، من طريق قتادة عن أنس بن مالك حدثهم أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ فِي اللَّيْلَةِ الوَاحِدَةِ، وَلَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعُ نِسْوَةٍ([1]).
وفي رواية أخرى عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُورُ عَلَى نِسَائِهِ فِي السَّاعَةِ الوَاحِدَةِ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُنَّ إِحْدَى عَشْرَةَ. قَالَ: قُلْتُ لِأَنَسٍ: أَوَكَانَ يُطِيقُهُ؟! قَالَ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّهُ أُعْطِيَ قُوَّةَ ثَلاَثِين([2]).
ورواه هو والإمام مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ، ثُمَّ يُصْبِحُ مُحْرِمًا يَنْضَخُ طِيبًا([3]).
ورواه الإمام أحمد وأبو داود من حديث أبي رافع أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ عَلَى نِسَائِهِ، جَمَعَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَاغْتَسَلَ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ غُسْلًا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا تَجْعَلُهُ غُسْلًا وَاحِدًا؟ فَقَالَ: «إِنَّ هَذَا أَزْكَى وَأَطْهَرُ وَأَطْيَبُ»([4]).
فالحديث في أعلى درجات الصحة، فكيف يمكن التشكيك فيه دون حجة أو برهان، سوى منافاته لأهواء بعض من انتكست فطرتهم وفسد ذوقهم؟!
فالأزمة المصطنعة ليست مع صحيح البخاري وحده، بل إن فتحنا باب التشكيك في هذه الأحاديث التي هي في أعلى درجات الصحة؛ فهل سيستقيم لنا شيء بعد ذلك؟! وهل ستبقى هناك ثقة بعد ذلك في سائر السنن؟!
وقد يقول قائل: ولكن هؤلاء الحفاظ لا ينظرون إلا للسند فقط، ولا ينقدون المتن؟
والجواب: أن الحفاظ لا ينقدون السند فقط كما يصوِّر بعض الجهال والمغرضين ممن لا علم عندهم بالحديث ولا بطرائق المحدثين والحفاظ؛ فمن شروط الحديث الصحيح كما هو معلوم: خلوُّه من العلة والشذوذ، وهذان الوصفان مشروطان في السند والمتن معًا، فمن أسباب ضعف الحديث: اشتمال متنه على مخالفة أو نكارة، وكثيرًا ما يضعِّف المحدثون مروياتٍ بسبب نكارة متنها، بل يردّون رواية الثقة إذا روى ما يخالف رواية من هو أوثق منه، وهو ما يُسمَّى في علم الحديث بالشذوذ، كما استدركوا على رواية شريك بن أبي نمر حديثَ المعراج مع كونها في صحيح البخاري، ومع ذلك انتقدها بعض الحفاظ؛ لأنّ فيها بضع عشرة مخالفة للأحاديث التي هي أصحُّ من رواية شريك، وقد تفرد شريك بذكر أحداث مخالفة لما رواه من هو أوثق منه.
وليس غرضنا هنا مناقشة هذه الاعتراضات، ولا تحرير القول فيها، فقد أفاض فيها الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح الصحيح في مواضع متعددة([5])، وإنما غرضنا بيان أن العماء لم يدفعوا بالصدر الانتقادات الموجَّهة على الصحيح، ولا أنهم تجاهلوها على سبيل عصمة البخاري، وإنما ناقشوها مناقشة علمية هادئة، وخرجوا بالنتيجة المشهورة، وهي أن أحاديث هذا الكتاب في أعلى درجات الصحة.
ولكن الفرق بين العلماء الراسخين وهؤلاء العابثين أنّ العلماء يصدرون عن قواعد علمية راسخة ودقيقة، ويُعملون قواعد الجمع والترجيح وفق منهجيّة منضبطة، ويستغرقون جهدهم في توضيح المشكل ورد المتشابه للمحكم ونحو ذلك، خلافًا لما عليه المشككون من المسارعة لتكذيب الأحاديث لمجرَّد توهُّم المخالفة للعقل أو القرآن.
والملاحظ على عامة الذين يثيرون المطاعن على الأحاديث أنهم أجانبُ عن العلم الشرعي عمومًا، وعلم الحديث خصوصًا، وعامتُهم يردِّدون شبهات المستشرقين وأعداء الإسلام، ويريدون محاكمة النصوص للذوق الغربي المنتكس وقيم الحضارة الغربية الزائفة. هذا في حد ذاته كاف للإعراض عن حديثهم وعدم الاشتغال به، لولا دخول الشبهة على كثير من المسلمين وعوامهم، فلزم البيان.
ثانيًا: مناقشة الشبهات المثارة على الحديث:
1- شبهة أن هذا التلذُّذ بالنساء بهذه الطريقة منافٍ لمقام النبوة:
ومنشأ هذه الشبهة هو التصوُّر النصراني عن رجال الدين ومَن يريدون الخلاص، وذلك عندهم بالتبتُّل والرهبانية ومجافاة الملذات والشهوات؛ ولذلك ينزهون رهبانهم عن الزواج، ويرون المبالغة في حرمان النفس من ملذّاتها التي هي في الحقيقة من حقوقها، مع كون التوراة -وهي العهد القديم للنصارى- تثبت أن أنبياء الله داود وسليمان -عليهما السلام- كانا متزوجين من نساء كثيرات كما سيأتي.
ولذلك فإن أول من أثار هذه الشبهات على النبي صلى الله عليه وسلم هم هؤلاء المستشرقون ومن تأثر بهم، بخلاف العرب وأمثالهم من الأمم، فإنهم لم يروا في هذا الأمر عيبًا أصلا؛ ولذلك رغم شدة عداوة مشركي قريش ومن جاء بعدهم من الكفار والمشركين والمنافقين لم يطعنوا في النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الباب، ولم يروا في زواجه من عائشة وهي صغيرة ولا في كثرة زيجاته صلى الله عليه وسلم ولا في قوة جماعه عيبا أصلا.
والجواب عن هذه الشبهة:
أن هذا الذي ذكروه ليس عيبًا أصلًا، بل هو في حقيقته كمال يُمتدَح به الرجل عند أصحاب الفطر المعتدلة والذوق السليم، فإن العرب تمتدح الرجل بكثرة جماعه وقوَّته، مع قلة طعامه واكتفائه بالقدر اليسير منه، وتذمُّ الرجلَ بعكس ذلك، أن يكون نهما رغيبًا في الطعام، ضعيفًا في أمر النساء.
قال الخطابي رحمه الله: “ومعلوم بحكم المشاهدة وبالامتحان من جهة دلائل عِلْم الطب أن من صَحَّت خِلقته وقويت بِنْيتُه, فاعتدل مِزاج بَدنِه حتى أن يكون من نُعوتِه ما نطقت به الأخبار المتواترة من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما نُعت به فيها من صلاح الجسم ونضارة اللون وإشراب الحُمرة وإشعار الذراعين والصدر, مع قوة الأسر وشِدّة البطش؛ كان دواعي هذا الباب له أغلب, ونِزاع الطبع منه إليه أكثر؛ لأن هذه الفطرة التي لا أفضل منها في كمال الخِلقة، ولا أقْوم منها في اعتدال البِنْية، وكان ما عداها مِن الخِلَقِ وخالفها من النعوت منسوبًا إلى نقص الجبلَّة وضعف النحِيزة, وكانت العرب خصوصا تتباهى بقوة النكاح وكثرة الولادة، ويُذَمّ من كان بخلاف هذا النعت من عدم النكاح وقصر الشُّبْر… وكان قلة الرُّزء من الطعام والاجْتِزاء بالعُلْقة من ذلك والاكتفاء باليسير منه في مذهب الحَمْد عِندهم والثناء والمدْح به مضاهيًا لمذْهَبِهم في المدحِ بالقوَّة على النكاح وكثرة النَّسل والوِلادِ وعلى العكس منه أن يكون رَغيبا أكولًا… فهذا مذهبهم في هذا الشأن ومعانيهم في هذا الباب, فتأمل كيف اختار الله لنبيه صلى الله وعليه وسلم في كل واحد من الأمرين, فجمع له الفضائل التي يزداد من أجلها في نفوسهم جلالة وفي عيونهم قدْرًا وفخامة, ومن النَّقائض التي يُزدرى بها أهلها نزاهة وبراءة، ومعلوم من شأنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يطوي الأيام ولا يأكل ويصومها, فيواصل بالليل ويُقلُّ الطعم إذا أكل وكان يتجوَّع حتى يتهشَّم من الخواء بطنه, فينحني لذلك عمود ظهره، فيشدّ الحجر على بطنه، ويعمده به، كل ذلك مشهور عنه بأخبار التواتر التي لا يعرض الوهم فيها ولا يجوز الغلط عليها, هذا إلى ما بعثه الله به من الشريعة الحنيفية الهادمة لما كان عليه الأمر في دين النصارى من التبتل والانقطاع عن النكاح وهجران النساء, فدعا إلى المُناكحة والمواصلة وحَضَّ عليهما… فكان صلى الله عليه وسلم أولاهم بإتيان ما دعا إليه واستيفاء الحظ منه؛ ليكون داعية للاقتداء به ووسيلة للايتِسَاء بفعله” اهــ([6]).
وقال القاضي عياض رحمه الله: “الضرب الثاني ما يتفق التمدّح بكثرته والفخر بوفوره كالنكاح والجاه. أما النكاح فمتفق فيه شرعا وعادة، فإنه دليل الكمال وصحة الذكورية، ولم يزل التفاخر بكثرته عادة معروفة والتمادح به سيرة ماضية، وأما في الشرع فسنة مأثورة، وقد قال ابن عباس: أفضل هذه الأمة أكثرها نساء، مشيرا إليه صلى الله عليه وسلم”([7]).
“فإن قيل: كيف يكون ذلك محمدةً وقد مدح الله تعالى يحيى بن زكريا بأنه كان حصورًا، وهذا عيسى ابن مريم عليه السلام تبتّل من النساء؟!
فالجواب: أن معنى الحصور ليس كما قال بعضهم أنه كان عِنينا، أو لا ذَكَرَ له، بل قد أنكر هذا حُذاق المفسرين ونقاد العلماء، وقالوا: هذا نقيصة وعيب ولا يليق بالأنبياء عليهم السلام، وإنما معناه: أنه معصوم من الذنوب، أي: لا يأتيها كأنه حُصِر عنها، وقيل: مانعًا نفسه من الشهوات. فعدم القدرة على النكاح نقص، وإنما الفضل في كونها موجودة ثم تقمّع بالمجاهدة كعيسى ابن مريم، أو بالكفاية من الله كيحيى عليه السلام.
ثم هي في حقّ من أُقْدِر عليها وملكها وقام بالواجب فيها ولم يشغله عن ربّه درجة علياء، وهي درجة نبينا صلى الله عليه وسلم الذي لم تشغله كثرتهن عن عبادة ربه، بل زاده ذلك عبادة لتحصينهن وقيامه بحقوقهن وهدايته إياهن”([8]).
فتبين بما ذكرنا أن قوةَ جماعه صلى الله عليه وسلم ليست منقصةً أو مذمَّة وعيبًا كما توهَّم بعض من فسدت تصوراتهم، حتى غن بعض من أراد الجواب عن هذا زعم أن المقصود بالطواف هنا غير الجماع، مستدلّا بحديث عَائِشَةَ، قَالَتْ “كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مِنْ يَوْمٍ إِلَّا وَهُوَ يَطُوفُ عَلَيْنَا جَمِيعًا امْرَأَةً امْرَأَةً، فَيَدْنُو وَيَلْمِسُ مِنْ غَيْرِ مَسِيسٍ، حَتَّى يُفْضِيَ إِلَى الَّتِي هُوَ يَوْمُهَا، فَيَبِيتَ عِنْدَهَا”([9]).
وهذا غلط؛ فهذان حديثان مختلفان، لا يُحمَل أحدهما على الآخر، فحديث عائشة هذا يخبر عن هديه الدائم صلى الله عليه وسلم مع زوجاته، وأنه لا يخلو يوم من مروره عليهن جميعًا دون جماع؛ لأن الجماع حقٌّ لصاحبة النوبة -كما سيأتي-، وغالبا ما يكون مروره هذا في الساعة التي بعد العصر، كما دلّ على ذلك حديث عائشة: “كان رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى الله عليه وسلم إِذَا انْصَرَفَ مِنَ العَصْرِ دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ، فَيَدْنُو مِنْ إِحْدَاهُنَّ…” الحديث([10]). فهذه عادته الدائمة المتكررة، وأما جماعه لجميع نسائه في ساعة واحدة فلم تكن عادته الدائمة، وإنما كان يفعله أحيانًا، كما في حديث عائشة: “كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ، ثُمَّ يُصْبِحُ مُحْرِمًا يَنْضَخُ طِيبًا”([11])؛ وذلك إيناسًا لهنّ لانشغاله بالإحرام والنسك بعد ذلك، أو ربما يكون عند قدومه من سفر أو نحو ذلك من الأحوال التي تقتضي منه تطييبَ قلوب جميع زوجاته، وإيناسهن جميعًا -رضي الله عنهن-، وهذا من محاسن أخلاقه صلى الله عليه وسلم وقيامه بحقّ أزواجه، مع اجتهاده الشديد في العبادة، ورعاية أصحابه والنظر في شؤونهم، وهذا -والله- لا يطيقه إلا الأنبياء، فالحديث عند التأمل من دلائل نبوته الظاهرة.
وقد نص أكثر الشراح على أن الطواف في حديث أنس كناية عن الجماع.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “قوله: (فيطوف) كناية عن الجماع، وبذلك تظهر مناسبة الحديث للترجمة، وقال الإسماعيلي: يحتمل أن يراد به الجماع، وأن يراد به تجديد العهد بهن. قلت: والاحتمال الأول يرجحه الحديث الثاني؛ لقوله فيه: (أعطي قوة ثلاثين) ويطوف في الأول مثل يدور في الثاني”([12]).
وهذا الذي ذكره الإسماعيلي لا وجه له في رواية أنس؛ فإنها لا تحتمل إلا الجماع، وجميع الشراح على هذا.
2- شبهة منافاة ذلك للعدل بين الزوجات:
وجواب هذا سهل، ذكره عامة شراح الحديث، وخلاصته: أنه قد اختلف في وجوب القسم عليه صلى الله عليه وسلم على قولين([13])، فعلى القول بعدم وجوب القسم عليه فلا إشكال أصلا.
وعلى القول بوجوب القسم عليه: فيحمل على أن ذلك كان برضاهن، أو أن ذلك كان في وقت لا نوبةَ فيه لأحد، كقدومه من سفر مثلا قبل ابتداء القسم من جديد، أو أن ذلك كان قبل وجوب القسم، وأغرب ابن العربي فزعم أن للنبي صلى الله عليه وسلم ساعة لم يكن لأحد من زوجاته فيها حق، فكان أحيانا يدور على جميع نسائه في تلك الساعة، ورده ابن حجر لعدم الدليل على ما ذكر([14]).
3- شبهة منافاة ذلك للنظافة:
والجواب عن ذلك من وجوه:
أولا: أنه صلى الله عليه وسلم كان يغتسل تارة عند كلّ جماع، كما في حديث أبي رافع أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ عَلَى نِسَائِهِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَاغْتَسَلَ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ غُسْلًا، قال: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا تَجْعَلُهُ غُسْلًا وَاحِدًا؟ فَقَالَ: «إِنَّ هَذَا أَزْكَى وَأَطْهَرُ وَأَطْيَبُ»([15]).
وكان يترك ذلك تارة أخرى؛ إما لبيان الجواز، أو لمشقته عليه، أو لضيق الوقت ونحو ذلك من الأعذار، قال النووي رحمه الله: “وأما طوافه صلى الله عليه وسلم على نسائه بغسل واحد فيحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان يتوضّأ بينهما، أو يكون المراد بيان جواز ترك الوضوء، وقد جاء في سنن أبي داود أنه صلى الله عليه وسلم طاف على نسائه ذات ليلة يغتسل عند هذه وعند هذه، فقيل: يا رسول الله، ألا تجعله غسلا واحدا؟ فقال: «هذا أزكى وأطيب وأطهر»، قال أبو داود: والحديث الأول أصح. قلت: وعلى تقدير صحته يكون هذا في وقت وذاك في وقت، والله أعلم”([16]).
ثانيا: ليس في الحديث أنه ترك الوضوء، بل يحتمل كما مرّ من كلام النووي أنه توضأ بينهما.
وأما الاستنجاء فاللائق بحاله وهديه صلى الله عليه وسلم أنه كان يفعله، قال ابن هبيرة رحمه الله: “الظاهر أنه كان صلى الله عليه وسلم يتوضأ بين الوطأَين أو يستنجي؛ لأنه هو الذي يليق بمكارمه وطهارته”([17]).
ثالثا: أن من يتصوّر تأذّي زوجاته بذلك فهو جاهل بقدر النبي صلى الله عليه وسلم ومكانته في قلوب أصحابه وزوجاته، وهو صلى الله عليه وسلم الطيب المطيَّب.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: دَخَلَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عِنْدَنَا، فَعَرِقَ، وَجَاءَتْ أُمِّي بِقَارُورَةٍ، فَجَعَلَتْ تَسْلِتُ الْعَرَقَ فِيهَا، فَاسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا أُمَّ سُلَيْمٍ، مَا هَذَا الَّذِي تَصْنَعِينَ؟» قَالَتْ: هَذَا عَرَقُكَ نَجْعَلُهُ فِي طِيبِنَا، وَهُوَ مِنْ أَطْيَبِ الطِّيبِ([18]).
وإذا كان الصحابة في يوم الحديبية يتبركون بنخامته صلى الله عليه وسلم ويدلكون بها وجوههم وأيديهم([19])، مع جريان العادة بالنفرة من ذلك في حق من سواه من البشر؛ فكيف يظن تأذي زوجاته منه فيما هو دون ذلك؟!
4- شبهة كيفية معرفة أنس رضي الله عنه لمثل هذا مع كونه مما يحرم إفشاؤه:
والجواب من وجوه:
أولا: يحتمل أن عائشة رضي الله عنها أخبرته بذلك، وقد كانت أمهات المؤمنين يخبرن بنحو ذلك مما لا يطّلع عليه الرجال غالبا؛ نشرًا للعلم، وليتأسّى بذلك المسلمون، وهذا من فوائد كثرة زيجاته صلى الله عليه وسلم.
كما أخبرت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرها فتأتزر فيباشرها وهي حائض([20])، وأخبرت أنه كان يغتسل معها في إناء واحد([21])، وكان يقبل وهو صائم([22])، وغير ذلك مما فيه تعليم للأمة.
ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أخبر بذلك؛ ليخبرهم ببعض ما منحه الله تبارك وتعالى، أو لغير ذلك مما يستنبطه الفقهاء من الأسرار من مثل هذه الأخبار.
ثانيا: أن الإفشاء المنهي عنه هو ما كان فيه حديث عن تفاصيل الجماع، وحال الرجل والمرأة في الفراش ونحو ذلك، وأما مجرد الإخبار عن ذلك لحكمة ومصلحة فلا يدخل في المنهي عنه.
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: إِنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرَّجُلِ يُجَامِعُ أَهْلَهُ ثُمَّ يُكْسِلُ: هَلْ عَلَيْهِمَا الْغُسْلُ؟ وَعَائِشَةُ جَالِسَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لأَفْعَلُ ذَلِكَ أَنَا وَهذِهِ، ثُمَّ نَغْتَسِلُ»([23]).
قال القاضي عياض رحمه الله: “وفيه أن ذكر مثل هذا على جهة الفائدة غير منكر من القول، وإنما ينكر منه الإخبار منه بصورة الفعل، وكشف ما يتستر به من ذلك، ويُحْتَشَمُ من ذكره”([24]).
5- شبهة الاستحالة العقلية من جهة القدرة على هذا الجماع، وجماع إحدى عشرة امرأة في ساعة واحدة:
والجواب عن هذا:
أولا: أنه ليس في هذا مستحيل عقلا، فإن الله تعالى الذي أقدر على وطء واحدة قادر على التمكين من أكثر من ذلك.
ثانيا: أنه لو كان المقصود عدَم جريان العادة بذلك فلا وجه للاستنكار؛ فإن الله تعالى يهب أنبياءه ورسله وأولياءه مالم تجر به العادة عند أغلب البشر، وإذا كان عدم سوغان ذلك لمجرد مخالفته للعادة مبررًا لرده؛ فكيف سنتعامل مع نصوص القرآن التي أخبرت أن الله تعالى سخّر لسليمان الجن والطير والريح وعلمه لغات الطيور؟! وكيف سنتعامل مع معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء، وأدلة كل منهما متكاثرة متواترة في الكتاب والسنة؟!
فالواجب قبول هذه الأخبار ما دامت وصلتنا من طريق صحيح، ولم تخالف شيئا من الحق الثابت عقلا أو نقلا.
ثالثا: أنه ليس المقصود بذلك الساعة الزمنية المعروفة اليوم، بل المقصود مقدار من الزمان. قال الحافظ ابن حجر: “قوله: (في الساعة الواحدة) المراد بها قدر من الزمان، لا ما اصطلح عليه أصحاب الهيئة”([25]).
رابعًا: أن ذلك ليس خاصًّا بنبينا صلى الله عليه وسلم، بل جاء في الصحيح «أن نبي الله سليمان قال: “لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ -أَوْ: تِسْعٍ وَتِسْعِينَ-، كُلُّهُنَّ يَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»([26]).
وهذا الذي جاء في الصحيح أقلّ بكثير مما جاء في الإسرائيليات عن نبي الله سليمان عليه السلام، وأنه كانت له سبع مئة من النساء السيدات، وثلاث مئة من السراري([27]).
وعليه، فلا وجه لتشنيع بعض النصارى على نبينا صلى الله عليه وسلم بذلك، فإن هذا جاء مثله وأكثر عن داود وسليمان -عليهما السلام-، وذلك لو ثبت لا نقيصة فيه عندنا؛ لما سبق تقديمه أن هذا من كمالات النبوة وفضائل الصفات.
6- شبهة اضطراب الرواية في الحديث:
ففي روايةٍ قال أنس: “تسع نسوة”، وفي رواية أخرى قال: “إحدى عشرة نسوة”، والاضطراب مما يضعف به الحديث.
والجواب:
أولا: ليس كل اختلاف في الرواية يكون اضطرابًا يضعف به الحديث، وإنما ذلك إذا تعارضت الروايات وتكافأت ولا مرجح، أما إذا أمكن الجمع أو الترجيح فلا اضطراب ولا ضعف. وهذا معروف عند المحدثين.
قال الحافظ السخاوي في شرحه لألفية العراقي رحمهما الله تعالى: “(أما إن رجح بعض الوجوه) أو الوجهين على غيره بأحفظية أو أكثرية ملازمة للمروي عنه، أو غيرهما من وجوه الترجيح، (لم يكن) حينئذ (مضطربا والحكم للراجح منها)”([28]).
ثانيا: يحتمل أن ذلك محمولًا على حالتين. ذكره ابن حبان في صحيحه، ووهمه الحافظ في قوله أن الأولى كانت في أول قدومه المدينة؛ وذلك لأنه لما قدم المدينة لم يكن تحته سوى سودة، ثم دخل على عائشة بالمدينة، ثم دخل بعد ذلك بسائر زوجاته، ولم يجتمع عنده من الزوجات أكثر من تسع.
الثاني: تحمل رواية الإحدى عشرة، على أنه ضم مارية وريحانة إليهن، وأطلق عليهن لفظ نسائه تغليبًا([29]).
وعلى ذلك فالحديث – بفضل الله – صحيح لا مطعن فيه بوجه من الوجوه، لا من جهة السند ولا من جهة المتن.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
“المراجع”
([3]) صحيح البخاري (267)، صحيح مسلم (1192).
([4]) مسند أحمد (23862)، سنن أبي داود (219)، وقال أبو داود: “حديث أنس أصح من هذا”.
([6]) أعلام الحديث (3/ 2014) باختصار يسير.
([8]) الشفا، للقاضي عياض (1/ 87) باختصار وتصرف يسير.
([9]) رواه أحمد (24765) وأبو داود (2135) والحاكم (2/ 186) وقال: “صحيح الإسناد”، وأقره الذهبي، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1852).
([10]) رواه البخاري (5216)، ومسلم (1474).
([13]) انظر في ذلك: تفسير القرطبي (14/ 215) وتفسير ابن كثير (6/ 445).
([14]) انظر: فتح الباري (1/ 379)، وذخيرة العقبى، لمحمد آدم الإثيوبي (4/ 554).
([16]) شرح صحيح مسلم (3/ 218).
([19]) رواه البخاري (2731، 2732).
([20]) رواه البخاري (302)، ومسلم (293).
([21]) رواه البخاري (295)، ومسلم (319).
([22]) رواه البخاري (1826)، ومسلم (1106).
([27]) سفر الملوك الأول 11: 1-13.