التفصيل في الصفات..ودعوى أن ابن تيميّة لم يُسْبَق إليه
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
التأليف في العقائد بات من الأمور العظيمة التي تهابها الأقلام، وتكلّ عنها الأفهام، ويُطرد الوارد عن حياضها طردَ الضّوالّ الهمل؛ وذلك لما حظي به هذا الفن من التعقيد الكلامي والإيراد الفلسفي الذي لا يترك محكما إلا شوش عليه ولا متشابها إلا حام حوله وردده حتى تسمعه الآذان وتتعاوره الأفهام كل بحسبه، فتسمع الجواب عن الشيء ونقيضه، وكلٌّ يسمى إيمانا واعتقادا وأصلا، وقد تزامنت هذه الحالة مع الافتراق الحاصل في الأمة، فنشبت حروب بين الطوائف كان أولُها متعلقا بالإيمان ومفهومه، ثم توسعت إلى أبواب الصفات، حتى عميت على الأمة وصار أمر الخاصة في أمر مريج، فكيف بالعامة؟! ولم يزل في كل عصر ومصر طوائف من أهل الحقّ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُون، قاموا بمدافعة الباطل بكل ما أوتوا، وفصلوا المحكمات عن المتشابهات، ونفوا عن الشرع تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.
وفي محاولة من بعض خصوم منهج السلف في باب الصفات حصر الكلام فيها في تفصيل ابن تيمية لسحب المصداقية عن المنهج وقطع سنده وجعله توجّها عقديا على غرار مناهج المتكلمين وتفصيلاتهم المبتدعة، وكان ابن تيمية هو مرمى سهام القوم، فرموه بالابتداع، وادَّعوا أن تفصيله في العقائد لم يكن على منهج السلف ولم يُسبق إليه، وقوله فيه ليس جاريًا على سنتهم. ونحن -بعون الله- نبين تأليف العلماء في الأسماء والصفات قبل ابن تيمية وتفصيلهم فيها وحملهم لها على المعاني الظاهرة بقيد عدم التشبيه وإثبات التنزيه، ولتبيين هذا الموضوع وتفصيله فإننا نتناوله في مباحث:
المبحث الأول: تفصيل الكتاب في الأسماء والصفات:
الكتاب والسنة أصلان لكلّ أمر شرعيّ، وإليهما يرجع كل أمر تنوزِع فيه، وإذا فصلا في شيء فلا معقب لتفصيلهما ولا زيادة عليه. والمستقرئ للكتاب والسنة يجد تفصيلا في الإثبات وإجمالا في النفي؛ لأن القرآن في مدحه درج على سنة العرب في الخطاب، والنبي صلى الله عليه وسلم رجل من العرب، تكلم بلسانهم ونطق بطريقتهم، وقد فصّل القرآن في الصفات وصرف القول فيها بما لا يدع مجالا للشك أن هذا الطَّرْق والتفصيل لا يمكن أن يحيل ظاهره إلى معنى غير مراد، ولا أن يفهم منه معنى غير لائق بالله سبحانه وتعالى، ولا يمكن تتبع آحاد الأسماء والصفات؛ لأن ذلك يخرج الورقة العلمية عن موضوعها، وقد يحتاج قدرا من المعلومات يخرجها عن حجمها، ولكن حسبنا من ذلك ما ينازع فيه خصوم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهو الصفات الخبرية التي توجب عندهم معاني يجب تأويل النص بسببها، ومن ذلك الاستواء على العرش وكون الله فوق السماوات، فهذه القضية وحدها ورد ما يدل عليه من القرآن بما يزيد على مئة دليل، بعضها بالتصريح وبعضها بالتضمن، ومن الآيات المصرحة بالاستواء في القرآن الكريم قوله سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِين} [الأعراف: 54]، وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُون} [يونس: 3]، وقوله تعالى: {اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُون} [الرعد: 2]، وقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59]، وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُون} [السجدة: 4]، وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} [الحديد: 4].
وأخبر سبحانه بعلوه على خلقه فقال: {أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك: 17]، وقال سبحانه: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِير} [الأنعام: 18]، قال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُون} [الأنعام: 61]، وقال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون} [النحل: 50].
وغيرها من الآيات الدالة على علو الله سبحانه وتعالى على خلقه، ومثلها في ذلك صفة اليد، فإنك تجدها في القرآن مذكورة في مقام التعظيم والتنزيه، فالله حين أراد تشريف آدم وبيان فضله على المخلوقات خلقه بيده، واحتج على إبليس بذلك فقال: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِين} [ص: 75]، وقال سبحانه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون} [الزمر: 67]، وقال سبحانه: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء} [المائدة: 64]، وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 10].
ولا يمكن أن يكون هذا السياق -وهو في مقام الإخبار- مجرد كناية أو تعمية على المخاطب، ولو فرض أنه يحيل إلى معنى غير لائق فلماذا لم يستشكله أكابر المجرمين من المنافقين وكفار قريش، أو يشتبه على أكابر المؤمنين وفضلاء الصحابة ممن يتدبرون القرآن؟! فعدم وجود استشكال من المنافقين واشتباهٍ على المؤمنين يزيل عن الآيات دعوى الشبهة، كما أن سياقها كله يدل على التعظيم والتنزيه، فلا وجه لحملها على غير ذلك، وقد تكلم السلف الصالح في معاني هذه الآيات والأحاديث وشرحوها قبل ابن تيمية، وهذا ما نتناوله في المبحث الآتي.
المبحث الثاني: تفصيل السلف في آيات الصفات وتفسيرهم لها:
هذه الصفات التي ذكرنا تكلم عليه السلف رحمهم الله، لكن كلامهم كان على طريقتهم وليس على طريقة المتكلمين، فهم لم تعرض لهم شبهات تشوِّش فكرهم، ولا عرضت عليهم كذلك، فكان كلامهم جاريا على عقائد أهل الإيمان، بعيدا عن التكلّف والتعمّق، يأتي من المعنى بأيسره وأسهله، وقد تمثل السلف الصالح معاني القرآن ونطقوا بها، فهذا عبد الله بن رواحة ينشد على مرأى ومسمع من رسول الله فيقول:
شهدت بأن وعد الله حقٌّ … وأن النار مثوى الكافرينا
وأن العرش فوق الماء طاف … وفوق العرش رب العالمينا
ويحمله ملائكةٌ كرامٌ … ملائكة الإله مقربينا([1])
ومن نظر في كلام السلف وجد أنهم تعرضوا لآيات الصفات، وفسروها على الوجه اللائق بالله، ولم يدَّعوا أنها من المتشابه، وكانوا يتكلّمون بمعناها. من ذلك تفسيرهم للاستواء بالعلو فقالوا في قوله : {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]: “الرَّحْمَنُ عَلَى عَرْشِهِ ارْتَفَعَ وَعَلَا”([2])، وعن عمر أيضًا أنه مر بعجوز، فاستوقفته فوقف يحدثها، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين، حبست الناس على هذه العجوز! فقال: ويلك! أتدري من هذه؟! هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سموات، هذه خولة التي أنزل الله فيها: {قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ اَلتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا}([3]).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: “ما بين السماء القصوى والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء كذلك، والعرش فوق الماء والله فوق العرش، ولا يخفى عليه شيء من أعمالكم”([4]).
وعن يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ وَقِيلَ لَهُ: مَنِ الْجَهْمِيَّةُ؟ فَقَالَ: “مَنْ زَعَمَ أَنَّ الرَّحْمَنَ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى عَلَى خِلَافِ مَا يَقِرُّ فِي قُلُوبِ الْعَامَّةِ فَهُوَ جَهْمِيُّ”([5]).
وهذا مبثوث معروف في كلام السلف، لم ينقل عنهم تأويل، ولا توقفٌ في الباب، وسيأتي لهذا مزيد بيان في المبحث التالي.
المبحث الثالث: ذكر من فصل في الصفات قبل ابن تيمية:
قد تكلم أئمة الحديث قبل ابن تيمية في الصفات، وفصلوا فيها، وردوا على أهل التعطيل. ونحن ننقل أقوال بعضهم وبعض أئمة اللغة والتفسير في أمهات المسائل التي خالف فيها ابن تيمية المتكلمين، وادعوا عليه أنه مخالف لمنهج السلف.
وأول ذلك جمع الصفات في باب واحد وتأليفها في كتاب والرد على من خالف فيها، وممن سبقه لذلك:
الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل المتوفى سنة 241هـ في كتابه (الرد على الجهمية والزنادقة).
والإمام البخاري المتوفى سنة 256هـ في (الجامع الصحيح) وفي (خلق أفعال العباد).
وأبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة المتوفى سنة 276هـ في كتابيه (تأويل مختلف الحديث)، و(الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية).
وعثمان بن سعيد الدارمي السجستاني المتوفى سنة280هـ، ألف كتابه (الرد على الجهمية)، وفصل فيه مسائل الصفات وأبطل التأويلات.
وابن خزيمة المتوفى سنة311هـ في كتابه (التوحيد).
والآجري المتوفى سنة 366هـ في كتابه (الشريعة).
وأبو الحسين الملطي العسقلاني المتوفى سنة 377هـ في كتابه (التنبيه في الرد على أهل الأهواء والبدع).
وابن بطة العكبري المتوفى سنة 387هـ في كتابه (الإبانة الكبرى).
وابن أبي زمنين المتوفى سنة 399هـ في كتابه (أصول السنة).
واللالكائي المتوفى سنة 418هـ في (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة).
وأبو القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل الطليحي الملقب بقوام السنة المتوفى سنة 535هـ في كتابه (الحجة في بيان المحجة).
والإمام أبو النصر عبيد الله بن سعيد بن حاتم الوائلي السجزي المتوفى سنة 620هـ في كتابه (الرسالة إلى أهل زبيد في الرد على من أنكر الحرف والصوت).
وغيرهم من أئمة الإسلام ممن لا يسع المقام لذكرهم، وحسبك بهؤلاء في الدين والعلم والإمامة، ودونك بعض أقوالهم وأقوال من قبلهم بالتفصيل:
قال الإمام أبو حنيفة في تقرير صفات الباري تعالى: “وله يد ووجه ونفس كما ذكره الله تعالى في القرآن، فما ذكره الله تعالى في القرآن من ذكر الوجه واليد والنفس فهو له صفات، بلا كيف، ولا يقال: إن يده قدرته أو نعمته؛ لأن فيه إبطال الصفة، وهو قول أهل القدر والاعتزال، ولكن يده صفته بلا كيف، وغضبه ورضاه صفتان من صفات الله تعالى بلا كيف”([6]).
وقال الإمام مالك رحمه الله: “الله عز وجل في السماء، وعلمه في كل مكان، لا يخلو منه شيء”، وتلا هذه الآية: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة: ٧]، وَعَظمَ عَلَيْهِ الْكَلَامَ فِي هَذَا وَاسْتَشْنَعَهُ([7]).
أما الإمام أحمد فكلامه كثير في هذا الباب، وفي كتابه الرد على الجهمية والزنادقة إثبات علو الله عز وجل وفوقيته على جميع خلقه([8])، وفصل في بقية الصفات، واستدل لها، ويمكن مراجعة تفصيله في الكتاب، وقد فصل في معنى الأول والآخر، وطريقة الكتاب مليئة بعين ما ينتقده خصوم ابن تيمية عليه، ففي الكتاب يقول: “وقلنا للجهمية حين زعموا أن الله في كل مكان لا يخلو منه مكان، فقلنا: أخبرونا عن قول الله جل ثناؤه: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} [الأعراف: ١٣٤]، لِمَ يتجلى للجبل إن كان فيه بزعمهم؟! فلو كان فيه كما تزعمون لم يكن يتجلى لشيء هو فيه، ولكن الله -جل ثناؤه- على العرش، وتجلى لشيء لم يكن فيه، ورأى الجبل شيئًا لم يكن رآه قبل ذلك. وقلنا للجهم: فالله نور؟ فقال: هو نور كله، فقلنا: فالله قال: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر: ٦٩]، فقد أخبر الله -جل ثناؤه- أن له نورًا. فقلنا: أخبرونا حين زعمتم أن الله في كل مكان وهو نور، فلِمَ لا يضيء البيت المظلم من النور الذي هو فيه إن زعمتم أن الله في كل مكان؟! وما بال السراج إن أدخل البيت يضيء؟! فعند ذلك تبين للناس كذبهم على الله تعالى. فرحم الله من عقل عن الله، ورجع عن القول الذي يخالف الكتاب والسنة، وقال بقول العلماء وهو قول المهاجرين والأنصار، وترك دين الشيطان ودين جهم وشيعته”([9]).
والإمام أبو سعيد الدارمي يرى أن باب الصفات ليس من المشكل، ولا من المجهول لأمة محمد، فبعد تفصيله فيه قال ما نصه: “فهذه الأشياء التي اقتصصنا في هذا الباب قد خلص علم كثير منها إلى النساء والصبيان، ونطق بكثير منها كتاب الله تعالى، وصدقته الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه والتابعين، وليس هذا من العلم الذي يشكل على أحد من العامة والخاصة، إلا على هذه العصابة الملحدة في آيات الله، لم يزل العلماء يروون هذه الآثار ويتناسخونها، ويصدقون بها على ما جاءت، حتى ظهرت هذه العصابة، فكذبوا بها أجمع، وجهلوهم، وخالفوا أمرهم، خالف الله بهم”([10]). وأفرد بابا للاستواء فقال: “باب استواء الرب تبارك وتعالى على العرش وارتفاعه إلى السماء وبينونته من الخلق، وهو أيضا مما أنكروه”([11]).
والإمام البخاري بوب في كتابه الصحيح للصفات وسردها كما في كتاب التوحيد من الجامع الصحيح، فقد بوب: باب قول الله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وأورد فيه حديث أنس: «يا آدم، أمَا ترى الناسَ؟! خلقك الله بيده»([12])، وحديث: «يد الله ملأى، لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار»، وقال: «أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض، فإنه لم يغض ما في يده»، وقال: «عرشه على الماء، وبيده الأخرى الميزان، يخفض ويرفع»([13]) وحديث: «إن الله يمسك السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر والثرى على إصبع، والخلائق على إصبعٍ»([14]). وباب لا شخص أغير من الله، وأورد فيه الأحاديث الدالة على ذلك. وبوب: باب قول الله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ}، وأورد فيه عدة أحاديث، منها حديث أنس وفيه قول زينب: (زوجكن أهاليكن، وزوجني الله تعالى من فوق سبع سموات)([15]).
وهذا الإمام ابن قتيبة يؤلّف في الرد على من تأول الصفات، فيأتي للصفات ويفصل فيها، ويرد تأويلات المتأولين، فرد عليهم في تأويل اليد بالنعمة فقال: “وفعلوا في كتاب الله أكثر مما فعل الأولون في تحريف التأويل عن جهته، فقالوا في قول الله: {وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ}: إن اليد ههنا النعمة، وما ننكر أن اليد قد تتصرّف على ثلاثة وجوه من التأويل:
أحدها: النعمة.
والآخر: القوة من الله: {أُولِي الأَيْدِ وَالأَبْصَارِ}، يريد: أولي القوة في دين الله والبصائر، ومنه يقول الناس: (ما لي بهذا الأمر يد) يعنون: ما لي به من طاقة.
الوجه الثالث: اليد بعينها.
ولكنه لا يجوز أن يكون أراد في هذا الموضع النعمة؛ لأنه قال: {وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ} والنعم لا تُغَلّ، وقال: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} معارضة بمثل ما قالوا، ولا يجوز أن يكون أراد: غُلَّت نِعَمُهم. ثم قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} ولا يجوز أن يريد: نعمتاه مبسوطتان.
وكان مما احتجوا به للنعمة قوله: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} لو أراد اليد بعينها لم يكن في الأرض يهودي غير مغلول اليد، فما أعجب هذا الجهل والتعسف في القول بغير علم! ألم يسمعوا بقول الله تعالى: {قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ}، وبقوله: {قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}، وقوله: {لُعِنُوا بِمَا قَالُوا} واللعن الطرد؟! فهل قتل الله الناس جميعًا؟! وهل قتل قومًا وطرد آخرين؟! ولم يسمعوا بقول العرب: قاتله الله ما أبطشه! وأخزاه الله ما أشعره! وبقول النبي صلى الله عليه وسلم لرجل: «تربت يداه» أي: افتقر ولم يفتقر؟!”([16]). وهكذا تكلم في بقية الصفات كالأصابع والاستواء وغيرها.
وهذا ابن خزيمة يؤلف في الصفات كتابه الموسوم بـ(كتاب التوحيد)، ويبين فيه أن الذي حداه على تأليفه هو نفي بعض الناس للصفات([17])، ويبين إثباته للصفات فيقول: “أقول وبالله توفيقي وإياه أسترشد: قد بين الله عز وجل في محكم تنزيله الذي هو مثبت بين الدفتين أن له وجهًا وصَفَه بالجلال والإكرام والبقاء، فقال جل وعلا: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}، ونفى ربنا جل وعلا عن وجهه الهلاك في قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}، وزعم بعض جهلة الجهمية أن الله عز وجل إنما وصف في هذه الآية نفسه التي أضاف إليها الجلال بقوله: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}، وزعمت أن الرب هو ذو الجلال والإكرام لا الوجه. قال أبو بكر: أقول وبالله توفيقي: هذه دعوى يدعيها جاهل بلغة العرب؛ لأن الله جل وعلا قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}، فذكر الوجه مضمومًا في هذا الموضع مرفوعًا، وذكر الرب بخفض الباء بإضافة الوجه، ولو كان قوله: {ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} مردودًا إلى ذكر الرب في هذا الموضع لكانت القراءة: ذي الجلال والإكرام، مخفوضًا كما كان الباء”([18]). وجعل يفصّل في الصفات كالعين والنفس، ويرد كل تأويل لها تأوله المعطلة، كما هو مفصل في الكتاب.
والآجري في كتابه (الشريعة) ختمه بعقيدة نقلها عن أبي بكر بن أبي داود يقول فيها:
وَقُلْ: يَتَجَلَّى اللَّهُ لِلْخَلْقِ جَهْرَةً … كَمَا الْبَدْرُ لَا يَخْفَى وَرَبُّكَ أَوْضَحُ
وَلَيْسَ بِمَوْلُودٍ وَلَيْسَ بِوَالِدٍ … وَلَيْسَ لَهُ شِبْهٌ تَعَالَى الْمُسَبَّحُ
وَقَدْ يُنْكِرُ الْجَهْمِيُّ هَذَا وَعِنْدَنَا … بِمِصْدَاقِ مَا قُلْنَا حَدِيثٌ مُصَرِّحُ
رَوَاهُ جَرِيرٌ عَنْ مَقَالِ مُحَمَّدٍ … فَقُلْ مِثْلَ مَا قَدْ قَالَ فِي ذَاكَ تَنْجَحُ
وَقَدْ يُنْكِرُ الْجَهْمِيُّ أَيْضًا يَمِينَهُ … وَكِلْتَا يَدَيْهِ بِالْفَوَاضِلِ تَنْضَحُ
وَقُلْ: يَنْزِلُ الْجَبَّارُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ … بِلَا كَيْفٍ جَلَّ الْوَاحِدُ الْمُتَمَدَّحُ
إِلَى طَبَقِ الدُّنْيَا يَمُنُّ بِفَضْلِهِ … فَتُفْرَجُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَتُفْتَحُ
يَقُولُ: أَلَا مُسْتَغْفِرٍ يَلْقَى غَافِرًا … وَمُسْتَمْنِحٌ خَيْرًا وَرِزْقًا فَيُمْنَحُ
رَوَى ذَاكَ قَوْمٌ لَا يُرَدُّ حَدِيثُهُمْ … أَلَا خَابَ قَوْمٌ كَذَّبُوهُمْ وَقُبِّحُوا
ثم قال لنا أبو بكر بن أبي داود: “هذا قولي وقول أبي وقول أحمد بن حنبل وقول من أدركنا من أهل العلم ومن لم ندرك ممن بلغنا عنه، فمن قال علي غير هذا فقد كذب”.
وعلق الآجري قائلا: “وبهذا وبجميع ما رسمته في كتابنا هذا وهو كتاب (الشريعة) نَدين الله عز وجل، وننصح إخواننا من أهل السنة والجماعة، من أهل القرآن وأهل الحديث وأهل الفقه، وجميع المستورين في ذلك؛ فمن قبل فحظه من الخير إن شاء الله، ومن رغب عنه أو عن شيء منه فنعوذ بالله منه”([19]).
وأبو الحسين الملطي في كتابه (التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع) عقد فصولا للرد على المبتدعة، وفصَّل القول في الرد عليهم في الأسماء والصفات، ومن ذلك قوله: “وأنكر جهم أن الله استوى إلى السماء، والله تبارك وتعالى يقول: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، وعن عكرمة قال: إن الله تعالى خلق آدم بيده كرامة لابن آدم، وغرس الجنة بيده كرامة لابن آدم، وكتب التوراة بيده، وخلق السموات والأرضين وكل شيء خلقه في ستة أيام، فبدأ في خلقهم يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة، ثم استوى على العرش في ثلاث ساعات بقين من يوم الجمعة”([20]).
وبعد ذكره لبعض عقائد المتكلمين وتفصيلاتهم ختم بقوله: “وَالَّذِي عِنْدِي من ذَلِك أَن تلْزم الْمنْهَج الْمُسْتَقيم وَمَا نزل بِهِ التَّنْزِيل وَسنة الرَّسُول، وَمَا مضى عَلَيْهِ السّلف الصَّالح، فَعَلَيْك بِالسنةِ وَالْجَمَاعَة ترشد إِن شَاءَ الله”([21]).
ومثله الإمام ابن بطة في كتابه (الإبانة الكبرى)، فصل في الصفات جميعها، وفي صفة الكلام خصوصا، ونقل عن السلف تفصيلهم وقال: “فمن أنكر أن الله كلم موسى كلاما بصوت تسمعه الآذنان وتعيه القلوب، لا واسطة بينهما، ولا ترجمان ولا رسول، فقد كفر بالله العظيم وجحد بالقرآن، وعلى إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن تاب ورجع عن مقالته وإلا ضرب عنقه، فإن لم يقتله الإمام وصح عند المسلمين أن هذه مقالته ففرض على المسلمين هجرانه وقطيعته، فلا يكلمونه، ولا يعاملونه، ولا يعودونه إذا مرض، ولا يشهدونه إذا مات، ولا يصلى خلفه، ومن صلى خلفه أعاد الصلاة، ولا تقبل شهادته، ولا يزوّج، وإن مات لم ترثه عصبته من المسلمين إلا أن يتوب”([22]).
والإمام المالكي ابن أبي زمنين قرر عقيدة السلف وفصل فيها في كتابه (أصول السنة) فقال: “ومن قول أهل السنة: أن الله عز وجل خلق العرش واختصه بالعلو والارتفاع فوق جميع ما خلق، ثم استوى عليه كيف شاء، كما أخبر عن نفسه في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى}… فسبحان من بعد فلا يرى، وقرب بعلمه وقدرته فسمع النجوى!”([23]).
ويقول أيضا: “واعلم أن أهل العلم بالله وبما جاءت به أنبياؤه ورسله يرون الجهل بما لم يخبر به تبارك وتعالى عن نفسه علمًا، والعجز عما لم يدع إيمانا، وأنهم إنما ينتهون من وصفه بصفاته وأسمائه إلى حيث انتهى في كتابه وعلى لسان نبيه، وقد قال وهو أصدق القائلين: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهَ}، {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبِرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}، وقال: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ}، وقال: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي}، وقال: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا}… وقال: {وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}… وقال: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}، وقال: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}… ومثل هذا في القرآن كثير، فهو تبارك وتعالى نور السماوات والأرض، كما أخبر عن نفسه، وله وجه ونفس وغير ذلك كما وصف به نفسه، ويسمع ويرى ويتكلّم، الأول لا شيء قبله، والآخر الباقي إلى غير نهاية لا شيء بعده، والظاهر العالي فوق كل شيء مما خلق، والباطن بطن علمه بخلقه تعالى، وهو بكل شيء عليم، حي قيوم، لا تأخذه سنة ولا نوم”([24]).
وكلام اللالكائي أشهر من أن يعاد في الصفات.
وأبو القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل الطليحي في كتابه (الحجة في بيان المحجة) نقل عن ابن منده قوله: “إن الأخبار في صفات الله عز وجل جاءت متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم موافقة لكتاب الله عز وجل، فنقلها الخلف عن السلف قرنا بعد قرن من لدن الصحابة والتابعين إلى عصرنا هذا على سبيل إثبات الصفات لله والمعرفة والإيمان به، والتسليم لما أخبر الله به في تنزيله وبينه الرسول عن كتابه، مع اجتناب التأويل والجحود وترك التمثيل والتكييف، وأنه عز وجل أزلي بصفاته وأسمائه التي وصف بها نفسه ووصفه الرسول صلى الله عليه وسلم، غير زائلة عنه ولا كائنة دونه، فمن جحد صفة من صفاته بعد الثبوت كان بذلك جاحدا، ومن زعم أنها محدثة لم تكن ثم كانت على أي معنى تأوله دخل في حكم التشبيه بالصفات التي هي محدثة في المخلوق زائلة بفنائه غير باقية، وذلك أن الله عز وجل امتدح نفسه بصفاته تعالى، ودعا عباده إلى مدحه بذلك، وصدق المصطفى صلى الله عليه وسلم، وبين مراد الله فيما أظهر لعباده من ذكر نفسه وأسمائه وصفاته”([25]).
والإمام أبو النصر عبيد الله بن سعيد بن حاتم الوائلي السجزي في كتابه إلى أهل زبيد في الرد على من أنكر الحرف والصوت، وهذه الرسالة رد فيها على الأشعرية والمعتزلة والكلابية، وهي من خلال عنوانها معروفة المنبع.
وغير هؤلاء خلائق لا يحصَون من المتقدمين، تكلَّموا بكل ما أُنكر على ابن تيمية، وفصَّلوا تفصيلا في المسائل أشدَّ من تفصيله، وهو لهم تبع، ولطريقهم مقتفٍ، وبهداهم مقتدٍ، وهذه النقول عنهم على اختصارها تنسِف الدعوى، وتنقض أصلها، وتبين أنها لم تبن على استقراء، ولا أسِّست على يقين وعلم.
والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) ينظر: العلو للذهبي (ص: 42).
([2]) ينظر: تفسير الطبري (11/ 16).
([3]) أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (7/ 245).
([4]) ينظر: الأسماء والصفات للبيهقي (751).
([5]) ينظر: السنة لعبد الله بن أحمد (1/ 123).
([6]) ينظر: الفقه الأكبر (ص: 27).
([7]) ينظر: السنة لعبد الله بن الإمام أحمد (11).
([8]) الرد على الجهمية والزنادقة (ص: 151).
([10]) الرد على الجهمية (ص: 66).
([16]) الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية (ص: 40).
([17]) التوحيد لابن خزيمة (ص: 9).
([20]) التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع (ص: 134).