الحَجر على ذوي الحِجر..العلاقة بين الوحي ومصادر المعرفة
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
المقدمة:
يختصُّ الدين الإسلامي بجملة من المعارف اليقينية التي لا توجد في غيره من الأديان الباطلة والمنسوخة والفلسفات والعلوم والحقول المعرفية جمعاء؛ ذلك أن الله سبحانه وتعالى ميَّزه بالوحي المبين مصدرًا من مصادر المعرفة إضافة ما تملكه البشرية من مصادر معرفية أخرى، فالعلاقة بين الوحي وغيره من المصادر المعرفية علاقة توافق وتكامل، لا تعارض وتضادّ، فالمسلم يدرك ويعلم كل ما تؤمن به البشرية من معارف ناتجة عن الحس أو العقل، ثم هو أيضا يؤمن بما أخبره به الله سبحانه وتعالى وأخبر به نبيه من علوم ومعارف في الوحي المبين، “فاختصاص الإسلام بالوحي المعصوم يقتضي أن يكونَ للمعرفة في الإسلام مجالات تختصّ بها؛ إذ لا يمكن الاستناد فيها إلى الكتب السابقة؛ لوقوع التحريف فيها، كما أنها تجاوز حدود المعرفة البشرية، وذلك أن أصحاب المذهب الحسيّ في المعرفة يدَّعون أن المعرفة اليقينية لا تجاوِز المحسوس، كما أن أصحاب المذهب العقليّ وإن سلَّموا بإمكان الاستدلال العقلي على الغيبيات لا يمكن أن يستدلّوا على جميع الحقائق الغيبية؛ لأن من المعارف الغيبية ما لا يمكن إدراكه إلا من جهة دلالة الوحي عليه. ومما يختص الوحيُ بالدلالة عليه ما يتعلق بالتشريع؛ إذ لا يمكن للبشر أن يشرِّعوا لأنفسهم ما فيه صلاحُهم، لغلبة الجهل والهوى عليهم، وإنما يتوقَّف ذلك على التشريع بالوحي، فاليقين في الغيبيات والهداية في التشريعات مما تختصّ به المعرفة في الإسلام عن جميع الأديان والمذاهب الفلسفية”([1]).
فدين الإسلام يعطي الصورةَ الكاملة المتناسقة المنسجمة للمعرفة، أما غيره من الملل الباطلة والنحل والفلسفات والمذاهب والأهواء فلم تحظ بالصورة الكاملة للمعرفة، بل مارست حجرًا على ذوي الحجا والعقول؛ فنجد عند كل نحلة بابًا من أبواب العلم والمعرفة قد أغلق دونهم، لا لشيء إلا لأنهم لم يدركوا ذلك الباب، فأنكروه وحجروا على عقول الناس كلهم لمجرد أنهم لم يعرفوه، وتارة لكونهم أعجبوا بما أدركوا من الأبواب، فغَلوا فيه وأنكروا ما سواه من الأبواب المعرفية.
وفي هذه الورقة العلميّة نستعرضُ شيئًا من تلك الاتجاهات التي أغلقت جانبًا من الجوانب المعرفية؛ ليتجلّى للمرء نصاعة المنهج المعرفي الإسلامي.
تمهيد:
أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من الأنبياء نبيّ إلا أُعطي ما مثلُه آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أُوتيت وحيًا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرَهم تابعًا يوم القيامة»([2]).
هذا الحديث يحمِل في طياته جانبًا من ذلك الاختصاص الذي خصَّ الله به دين الإسلام الذي جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو كون الوحي يحمل في نفسه الدليل على صحته، بالإضافة إلى ما في الوحي المبين من علوم وتشريعات لا يمكن للبشر بمصادرهم المعرفية المحدودة الوصولُ إليها، فالإسلام دين محكَم من حيث الدلائل والمسائل، ودلائله ومسائله مجتمعة في المصدر المعرفي الذي يمتاز به وهو الوحي؛ وهذا وجه من وجوه إعجاز القرآن الكريم الذي هو {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة: 80]، فكل ما في الدين الإسلامي من مسائل فالتسليم بها قائم على البرهان العقلي، سواء من جهة دلالة صدق النبي صلى الله عليه وسلم، فعلينا التسليم بكل ما أخبر، أو من جهة دلالة الوحي على أفراد المسائل ذاتها.
وكما يختص المنهج المعرفي الإسلامي بالوحي فهو يمتاز بكونه ينظر إلى المصادر المعرفية كلها على أنها تمثل نوعًا من التكامل فيما بينها بما يحقّق الانسجام والتواؤم المعرفي التامّ، ولا يتعارض جزء منها مع جزء آخر، فالعقل والوحي كلاهما مصدران من مصادر المعرفة في الإسلام، ولا يمكن أن يتعارض الوحي الصحيح الثابت بما في العقل الصريح، بل كل ما ورد في الوحي فيجب التسليم به؛ لأن ما دلّ عليه لا بد وأن يكون حقًّا، وما كان كذلك لا يمكن أن يدلّ العقل على استحالته وعدم إمكانه، فإما أن يكون حقًّا فلا يكون باطلا، وإما يكون باطلا فلا يكون حقًّا، والدلائل القطعية لا تتعارض([3]).
وكما أن التعارض بين الوحي والعقل ممنوع في الإسلام، فكذلك التعارض بين الحسّ والعقل ممنوع؛ لأن كلًّا منهما هو مقتضى الفطرة البشرية السوية، فالمدركات الحسية للجزئيات الواقعية لا بد أن تكون صحيحةً؛ لأنها مقتضى الفطرة، والمدركات العقلية الضرورية هي أيضا مقتضى الفطرة، فلا تعارض بينهما، وإنما “يستند إثبات هاتين الدلالتين مع الجزم بعدم تعارضهما إلى أنّ لكل منهما وجهًا من الدلالة يختص به لا يعارض الوجه الآخر، فالحواسّ إنما تدرك الوقائع الجزئية في الخارج، ولا يمكن أن تدلّ على التصورات والأحكام الكليّة الضرورية، كما أنه لا يمكن إدراك الوقائع الجزئية في الخارج بمجرد الغريزة العقلية وما تقتضيه من التصورات والأحكام الضرورية، وبذا يكون الشك في أحدهما مقتضيًا للشك في الآخر”([4]).
ولكن البشرية لم تنعم بهذا التكامل المعرفي في كلّ عصورها، بل على العكس ابتُليت في كثير من العصور بمن يغلون في باب من أبواب المعرفة ويغلقون بابًا آخر، ودونك نماذج من أولئك.
إغلاق المناطقة أبواب المعرفة غير بابهم الذي سموه عقليًّا:
من أبرز الأمثلة على الحَجر على ذوي الحِجر ما فعلته المناطقة من تضييق سبل المعرفة وزعم أنه لا يمكن تصوّر شيء من الأشياء تصوّرًا تامًّا إلا بما سمَّوه بالحد التامّ، وأما غيره من طرق المعرفة فليست معرفة حقّة ولا يقينية، وكذلك الحال في التصديقات، فلا يمكن إدراك شيء منها إلا ما سموه بالقياس البرهاني، وهذا ما نصّ عليه ناصر المنطق الأوّل بين علماء الإسلام أبو حامد الغزالي (505هـ) رحمه الله حيث قال في أول المستصفى: “بيان حصر مدارك العلوم النظرية في الحدّ والبرهان، نذكر في هذه المقدمة مدارك العقول وانحصارها في الحد والبرهان، ونذكر شرط الحدّ الحقيقي وشرط البرهان الحقيقي وأقسامهما… والمطلوب من المعرفة لا يقتنص إلا بالحدّ، والمطلوب من العلم الذي يتطرّق إليه التصديق والتكذيب لا يقتنص إلا بالبرهان، فالبرهان والحدّ هو الآلة التي بها يقتنص سائر العلوم المطلوبة. فلتكن هذه المقدمة المرسومةُ لبيان مدارك العقول مشتملة على دعامتين: دعامة في الحد، ودعامة في البرهان”([5]).
وبيَّن أن ذلك ما هو إلا تنوير لطريق العلم وتبصير لأهله؛ ولذا ألف كتابه “معيار العلم” وقال: “إن الباعث على تحرير هذا الكتاب الملقب بمعيار العلم غرضان مهمان: أحدهما تفهيم طرق الفكر والنظر، وتنوير مسالك الأقيسة والعبر؛ فإن العلوم النظرية لما لم تكن بالفطرة والغريزة مبذولة وموهوبة كانت لا محالة مستحصَلَة مطلوبة، وليس كل طالب يحسن الطلب، ويهتدي إلى طريق المطلَب، ولا كلّ سالك يهتدي إلى الاستكمال، ويأمن الاغترار بالوقوف دون ذروة الكمال، ولا كل ظانّ الوصول إلى شاكلة الصواب آمن من الانخداع بلا مع السراب. فلما كثر في المعقولات مزلّة الأقدام ومثارات الضلال، ولم تنفك مرآة العقل عما يكدّرها من تخليطات الأوهام وتلبيسات الخيال، رتّبنا هذا الكتاب معيارا للنظر والاعتبار، وميزانا للبحث والافتكار، وصيقلا للذهن، ومشحذا لقوة الفكر والعقل، فيكون بالنسبة إلى أدلة العقول كالعروض بالنسبة إلى الشعر، والنحو بالإضافة إلى الإعراب؛ إذ كما لا يعرف منزحف الشعر عن موزونه إلا بميزان العروض، ولا يميز صواب الإعراب عن خطئه إلا بمحكّ النحو، كذلك لا يفرق بين فاسد الدليل وقويمه وصحيحه وسقيمه إلا بهذا الكتاب. فكل نظر لا يتّزن بهذا الميزان ولا يعير بهذا المعيار فاعلم أنه فاسد العيار غير مأمون الغوائل والأغوار”([6]).
ومن الملاحظ على الغزالي رحمه الله هنا أنه جعل باب المعرفة منحصرًا فيما حصره فيه المناطقة، والمنطق بشقّيه التصورات والتصديقات -باعتراف أهله- هو من أصعب العلوم وأدقها، فكيف تغلق على العقول جميع أبواب المدارك حتى يدرك ذلك المنطق الأرسطي الذي لا يدرَك إلا بجهد جهيد وتعب وجدّ في حفظ مصطلحاتهم وفهم فروقاتهم، وهذا تضييق على المعرفة والعقول البشرية ليس إلا، فعلى النقيض مما يدّعيه الغزالي من كون المنطق معيارًا للعلم أصبح مِغلاقًا لطرقه ومصادرِه وحجَر عثرة أمام سُبله ومسالكه، وهذا هو “الذي بينه نظار المسلمين… فإن ما ذكروه من صور القياس ومواده مع كثرة التعب العظيم ليس فيه فائدة علمية، بل كل ما يمكن علمه بقياسهم المنطقي يمكن علمه بدون قياسهم المنطقي، وما لا يمكن علمه بدون قياسهم لا يمكن علمه بقياسهم، فلم يكن في قياسهم لا تحصيل العلم بالمجهول الذي لا يعلم بدونه، ولا حاجة به إلى ما يمكن العلم به بدونه، فصار عديم التأثير في العلم وجودا وعدما، ولكن فيه تطويل كثير متعِب، فهو مع أنه لا ينفع في العلم فيه إتعابُ الأذهان وتضييع الزمان وكثرة الهذيان. والمطلوب من الأدلة والبراهين بيان العلم وبيان الطرق المؤدية إلى العلم، وقالوا([7]): هذا لا يفيد هذا المطلوب، بل قد يكون من الأسباب المعوقة له؛ لما فيه من كثرة تعب الذهن”([8]).
ولا شك أن مِن أوضح الأمور التي تبيّن بطلان تضييق الإمام الغزالي للعلم بزعمه هذا أن البشرية من قبله ومن بعده كانت وما زالت تنال العلوم والمعارف تصوراتٍ وتصديقات ولم تسمع ولم تقرأ ما حصروه فيه، وفي هذا يقول ابن الصلاح: “ففي تواليفه أشياء لم يرتضها أهل مذهبه من الشذوذ، منها قوله في المنطق: هو مقدمة العلوم كلّها، ومن لا يحيط به فلا ثقة له بمعلوم أصلا. قال: فهذا مردود؛ إذ كل صحيح الذهن منطقيٌّ بالطبع، وكم من إمام ما رفع بالمنطق رأسا”([9]).
وحال المناطقة في تعسيرهم طريقَ العلم وتضييقهم على البشرية وإلزامهم الناسَ بطريقتهم كحال من سئِل عن الطريق من جدة إلى مكة، فبدلَ أن يصف الطريق السريع المعروف دلَّ على طريق ساحل البحر الأحمر وصولًا للشعيبة ليسلك بعد ذلك طريقَ مكة من هناك، ليس لشيء إلا لأنه معجَب بهذا الطريق وحَسب، أو لأنه لا يعرف غيرَ ذلك الطريق ولا يعرف الطريق السريع الممهَّد، فمثل هذا “إذا سلك الطريق المستقيم المعروف وصل في مدة قريبة بسعي معتدِل، وإذا قيض له من يسلك به التعاسيف… بحيث يدور به طرقا دائرة ويسلك به مسالك منحرفة، فإنه يتعب تعبًا كثيرًا حتى يصل إلى الطريق المستقيمة إن وصل، وإلا فقد يصل إلى غير المطلوب، فيعتقد اعتقادات فاسدة، وقد يعجز بسبب ما يحصل له من التعب والإعياء، فلا هو نال مطلوبه، ولا هو استراح، هذا إذا بقى في الجهل البسيط، وهكذا هؤلاء”([10]).
ولا عجبَ بعد هذا التضييق والتعسير للمسالك المعرفية أن نجد الضحايا المدركين لذلك يشتكون من هذا التضييق ومن عدم وصولهم للهدف الذي كانوا ينشدونه، وعلى رأسهم الغزالي نفسه حيث يقول عن نفسه عندما سار على نهج تعظيم العقل والغلوّ فيه: “فأقبلت بجدّ بليغ أتأمل المحسوسات والضروريات، وأنظر هل يمكنني أن أشكّك نفسي فيها، فانتهى بي طول التشكيك إلى أن لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضًا… فلما خطر لي هذه الخواطر وانقدحت في النفس حاولت لذلك علاجًا فلم يتيسر؛ إذ لم يكن دفعه إلا بالدليل، ولم يمكن نصب دليل إلا من تركيب العلوم الأولية. فإذا لم تكن مسلّمة لم يمكن تركيب الدليل، فأعضل الداء، ودام قريبًا من شهرين، أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال، لا بحكم النطق والمقال”([11]). فقد أدى به غلوُّه في العقل إلى إلغاء العقل كما ترى، وهذا حال عامة من غلا في العقل وحكَّمه في غير مجاله من مجالات البحث والمعرفة كما أخبر الغزالي نفسه حيث قال: “فلم يحصل منه ما يمحو بالكلية ظلمات الحيرة في اختلافات الخلق، ولا أبعدُ أن يكون قد حصل ذلك لغيري، بل لست أشكّ في حصول ذلك لطائفة، ولكن حصولًا مشوبًا بالتقليد في بعض الأمور التي ليست من الأوليات”([12]).
والخونجي -وهو إمام المناطقة في وقته- أفصحَ عن هذه الحال حيث كان يقول عند موته: “أموت وما علمت شيئا إلا علمي بأن الممكن يفتقر إلى الواجب. ثم قال: الافتقار وصف سلبي، أموت وما علمت شيئا”([13]).
يقول ابن تيمية (728هـ) رحمه الله معلقًا: “فهذا حالهم إذا كان منتهى أحدهم الجهل البسيط، وأما من كان منتهاه الجهل المركب فكثير، والواصل منهم إلى علم يشبّهونه بمن قيل له: أين أذنك فأدار يده فوق رأسه ومدّها إلى أذنه بكلفة، وقد كان يمكنه أن يوصلها إلى أذنه من تحت رأسه، فهو أسهل وأقرب”([14]).
وبعد أن حرر ابن تيمية أنه لا طائل من قياسهم وأنه عديم الفائدة قال: “فعلى هذا التقدير لا يفيد البرهان العلم بشيء موجود، بل بأمور مقدّرة في الأذهان، لا يعلم تحققها في الأعيان، وإذا لم يكن في هذا علم بشيء موجود لم يكن في البرهان علم بموجود، فيكون قليل المنفعة جدّا، بل عديم المنفعة. وهم لا يقولون بذلك، بل يستعملونه في العلم بالموجودات الخارجة الطبيعية والإلهية. ولكن حقيقة الأمر… أن المطالب الطبيعية التي ليست من الكليات اللازمة بل الأكثرية، فلا تفيد مقصود البرهان. وأما الإلهيات فكلياتهم فيها أفسد من كليات الطبيعة، وغالب كلامهم فيها ظنون كاذبة، فضلا عن أن تكون قضايا صادقة يؤلَّف منها البرهان… فهذا أمر يعرفه كل من خبرهم، ويعرف أنهم أجهل أهل الأرض بالطرق التي ينال بها العلوم العقلية والسمعية، إلا من علم منهم علما من غير الطريق المنطقية، فتكون علومه من تلك الجهة لا من جهتهم، مع كثرة تعبهم في البرهان الذين يزعمون أنهم يزنون به العلوم، ومن عُرف منهم بشيء من العلوم لم يكن ذلك بواسطة ما حرروه في المنطق”([15]).
إغلاق غالب المتكلمين طرق معرفة النبوة إلا المعجزات:
ومن الأمثلة على الحَجر على ذوي الحِجر ما فعله غالب المتكلمين في أصل من أصول الدين الإسلامي وهو الإيمان بنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، حيث زعموا أنه لا طريق إليه إلا بالاستدلال عليه بالمعجزات، فحين أراد الباقلاني أن يبين دلائل النبوة قال: “يجب أن يعلم أن صدق مدِّعي النبوة لم يثبت بمجّرد دعواه، وإنما يثبت بالمعجزات، وهي أفعال الله تعالى الخارقة للعادة المطابقة لدعوى الأنبياء، وتحديهم للأمم بالإتيان بمثل ذلك”([16]).
فنلاحظ أن الباقلاني نصّ صراحة على أن النبوة إنما تثبت بالمعجزات، وفي عبارة أصرح منها يصدر أبو المعالي الجويني الفصل بقوله: “فصل: لا دليل على صدق النبي غير المعجزة”. ثم يورد على نفسه سؤالًا متبادرًا إلى الذهن فيقول: “فإن قيل: هل في المقدور نصب دليل على صدق النبي غير المعجزة؟ قلنا: ذلك غير ممكن”([17])، ثم برر لقوله ذلك.
وفي الحقيقة تسبّب المتكلمون هنا بإطفاء أنوار وطمس طريق من طرق الدين وباب كبير من أبواب الدين وأصل عظيم من أصوله، فزعموا أن النبوة لا تُعلم إلا بالمعجزة، ولو سمع بذلك من أيقن بنبوته صلى الله عليه وسلم من الصحابة وممن عاصر النبيّ لما آمن به، فهم قد أيقنوا بالنبوة بدون أن يروا المعجزة التي يتكلّمون عنها.
وإلا فكيف عرف هرقل صدق النبي صلى الله عليه وسلم ونبوته دون أن يرى شيئًا من المعجزات التي يتكلّمون عنها، وقال بكل صراحة لأبي سفيان وهما غيرُ مسلمين: “فإن كان ما تقول حقّا فسيملك موضعَ قدميّ هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشّمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه”([18])، فما الذي سأله عنه؟ هل سأله عن المعجزات وعن حصولها للنبي صلى الله عليه وسلم؟!
لم يسأل هرقل عن شيء من ذلك، وإنما سأله عن أمور يعرف بها النبيّ من غيره من الكذابين الأفاكين، فإنّ حال النبي لا يشتبه مع حال الكاذب، وكان مما سأله هرقل فيما حكى أبو سفيان: “قال: كيف نسبه فيكم؟ قلتُ: هو فينا ذو نسب، قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت: لا، قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا، قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم، قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون، قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا، قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا، قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها، قال أبو سفيان: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة، قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم، قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا وننال منه، قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والزكاة والصدق والعفاف والصلة. فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها، وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول؟ فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلتُ: رجل يأتسي بقول قيل قبله، وسألتك: هل كان من آبائه من ملك، فذكرت أن لا، قلتُ: فلو كان من آبائه من ملك قلت: رجل يطلب ملك أبيه، وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فقد أعرفُ أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله، وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم، فذكرت أن ضعفاءهم اتّبعوه، وهم أتباع الرسل، وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم، وسألتك: أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، وسألتك: هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر، وسألتك: بما يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقّا فسيملك موضع قدميّ هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظنّ أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشّمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه”([19]).
لقد استدلّ هرقل على صدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم بمعرفة أحواله وأموره دون أن يرى أو يعرف شيئا من الخوارق المعجزة قد حصلت له، وإنما حال الأنبياء وأصولهم معروفة، ودلائل النبوة كثيرة متضافرة، لا تتوقف على نوع أو نوعين من الأدلة، ولسنا نزعم أن المعجزة ليست دالة على النبوة، ولكن الإشكال هنا هو حصر طرق النبوة في المعجزة وإلغاء غيرها من الطرق والدلائل الكثيرة التي بمثلها آمن البشر.
وإلى هذا الإشكال الجوهري أشار ابن تيمية رحمه الله بقوله: “ومن لم يجعل طريقها إلا المعجزة اضطر لهذه الأمور التي فيها تكذيب لحقّ أو تصديق لباطل، ولهذا كان السلف والأئمة يذمون الكلام المبتدع، فإن أصحابه يخطئون إما في مسائلهم وإما في دلائلهم، فكثيرا ما يثبتون دين المسلمين في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله على أصول ضعيفة بل فاسدة، يلتزمون لذلك لوازم يخالفون بها السمع الصحيح والعقل الصريح”([20]).
فالسلف ذمّوا علم الكلام، ليس لأنه علم جديد حادث أو لم يكن معروفًا، بل لما ترتب عليه من إغلاق أبواب من أبواب المعرفة وصدّ الناس عنها بدعوى أنه لا طريق للعلم بها إلا طريقهم الذي سلكوه.
إغلاق العلموية لأبواب العقل والخبر المعرفية:
لقد عاش الرجل الأبيض الغربي قرونًا من الضنك بين طغيان رجال الدين النصراني وظلم الإقطاعيين والأمراء والأسياد، حتى جعله ينفر من الدين كلّه، بل لقد وصل الطغيان برجال الكنيسة أن اعتلوا تيجان الملوك، ولم يقف أمام سطوتهم ملك فضلًا عن وزير، وقصة الملك هنري الرابع والبابا جريجوري السابع الشهيرة شاهدةٌ على ذلك؛ حيث هدد الأخير الأول بالحرمان وهو الإمبراطور إن لم يخضع له، وبالفعل اضطر إلى الخضوع له، “فكانت الكنيسة قد بلغت من التنظيم حدًّا جعل من الناس جميعًا في أوروبا الغربية في متناول أحكامها وقراراتها، وقد وضعت الكنيسة بصماتها على كل شأن من شؤون الحياة، وتدخلت حتى في أبسط وأخص الخصوصيات، ولم تحظ منظمة أخرى بمثل ما حظيت به الكنيسة آنذاك”([21]).
هذه قصة واحدة من مئات قصص الطغيان الكنسي النصراني الذي ساد في العصور المظلمة؛ حيث كان بيدهم حقّ الاطلاع والإقرار بالمصدر المعرفي المقبول والمردود، فغلوا في قبول مصدرهم المعرفي الخبري وهو الإنجيل، بل احتكروا حق قراءة الإنجيل وشرحه للناس؛ وأغلقوا الطريق على كل مصدر معرفي غيره، فلا محل لنقد ما تقرره الكنيسة أو التباحث معها فضلا عن معارضتها، فدون ذلك تُهَم الهرطقة ومحاكم التفتيش والموت دون أن تراق منه قطرة دم([22])، ومن هنا بات بيد الكنيسة ملَّاك المصدر المعرفي الخبري الأوحد مباركة من شاؤوا وما شاؤوا متى شاؤوا، فلم ولن ينبس أحد ببنت شفة حيال ما تفعل، فهي مالكة المصدر المعرفي الأوحد!
وبذلك غدا واقعًا مفروضًا على النصراني أن رجال الكنيسة هم مصادر المعرفة لا الوحي الإلهي، فقد دخلت الأهواء حلبة النزاع على المصدرية المعرفية، وانزوى العقل الصريح والخبر الصحيح والحس السليم جانبًا، حتى غدا من العبارات المشتهرة: “لست أسعى للفهم لكي أعتقد، بل إني أعتقد لكي أفهم”([23]).
تقول القديسة كاترينا السيانية: “إنك أينما وليت وجهك -سواء نحو القساوسة، أو الأساقفة، أو غيرهم من رجال الدين، أو الطوائف الدينية المختلفة، أو الأحبار من الطبقات الدنيا أو العليا، سواء كانوا صغارا في السن أو كبارا- لم تر إلا شرّا ورذيلة، تزكم أنفك رائحة الخطايا الآدمية البشعة؛ إنهم كلهم ضيقو العقل، شرهون، بخلاء، تخلّوا عن رعاية الأرواح… اتخذوا بطونهم إلها لهم، يأكلون ويشربون في الولائم الصاخبة، حيث يتمرغون في الأقذار، ويقضون حياتهم في الفسق والفجور”([24]).
بل أصبحت مشرّعةً لما تمليه الأهواء والرغبات وحسب، وهذا باعتراف زمرة من علماء مقارنة الأديان من الغربيين أنفسهم، ومن أوائل من صرخ ونادى بالتنقيب عن الأصول الوثنية في اليهودية والنصرانية (إرنست رينان) الذي أثار ضجة كبيرة في أوساط النصارى في القرن التاسع عشر إبان إبرازه نتيجة بحثه، ومفادها: “أن الدراسات التاريخية للمسيحية وأصولها تثبت أن كل ما ليس له أصل في الإنجيل مقتبس من أسرار الوثنية”([25])، وعلق نايتون على ذلك قائلا: “ونحن لا نبالغ إذا قلنا: إن ما يعرف بالأسرار الدينية في المسيحية مستوحى من الأديان الوثنية القديمة”([26])، بل لقد صرَّح نايتون في عبارة أوضح قائلًا: “إننا لا نستطيع أن نفهم مسيحيتنا حق الفهم إذا لم نعرف جذورها الوثنية، فقد كان للوثنية قسط وافر في تطور الدين المسيحي، وهو قسط غير مباشر ولا منظور إذا صح أن لليهودية تأثيرا على المسيحية، وكانت أساسا جوهريا للنظرة المسيحية؛ فإن علينا أن ننبه أن اليهودية نفسها أصيبت بالتأثيرات الوثنية في فارس وبابل، وخضعت لنفوذهما عندما كان اليهود في المنفى، غير أن هناك تأثيرا خاصًّا مباشرا أصاب المسيحية -وهو جوهر موضوعنا-. لقد كان للوثنية اليونانية والفارسية هيمنة على المسيحية، وكذلك كان للوثنية في عموم الشرق، هكذا تألف دين جديد، لملم أشتاته من هنا وهناك، وكان كمن يصبّ خمرا عتيقا في جرار جديدة”([27]).
ويقول ول ديورانت: “إن المسيحية لم تقض على الوثنية، بل تبنّتها؛ ذلك أن العقل اليوناني المتحضر عاد إلى الحياة في صورة لاهوت الكنيسة وطقوسها”([28])، وعلى مثلها أكد برتراند رسل أيضا([29]).
وكردة فعل طبيعية لمقاومة هذا الطغيان والانحراف عن الحقائق المعرفية قامت الثورة ضد الكنيسة وضد الدين ورجاله؛ للتحرر من قيود الظلم والطغيان والاضطهاد للعقول البشرية واحتكار معارفهم وقصرها على ما تمليه الكنيسة. فارتفعت الأصوات بالتخلص من القديم، وقرروا القطيعة عن كل ما هو ماضٍ وكل ما هو تراثيّ، وبدؤوا يتشكّكون في كل ما ورثوه عن الكنيسة، وبدؤوا يثيرون الريبة حول كل مسألة وقضية من قضايا الدين أو الكهنوت النصراني.
ولكن من ينادي بذلك أصبح كالتائِه في بيداء قاحِلة، لا مَعلم فيها فيسير به، ولا لوحات إرشادية توضّح له الطريق، ولا نجم قطبيّ يبين له الشمال من الجنوب، ولا شمس في حياته ليعرف الشرق من الغرب، فهو من شك إلى شك، على التشكيك في أصول الدين يصبح، وعلى التشكيك في رجاله وأعلامه يمسي، ولكن كان في وسط هذا الظلام من انتصر للمعرفة الحقة، وكشف كل زيف وبهرج، وأطلع الرجل النصراني على المصادر المعرفية الأخرى، فكان من أبرز أولئك في عصر النهضة الأوربية (كوبرنيكوس)، حيث أعلن تمرده على المصادر المعرفية الكنسية وضرورة مراجعتها وإعادة النظر فيها، وأجلى صورة لذلك استبدالُه نظرية بطليموس القائلة بمركزية الأرض بنظرية كوبرنيكوس التي ترى مركزية الشمس؛ حيث توصّل إلى ذلك بالأدوات العلمية التجريبية، لا المصادر الخبرية الكنسية، ولكنه أبرزها في كتاب له لم يظهره إلا عند موته على أنها نظرية علمية تحتاج إلى بحثها، وطالب بإعادة النظر في هذه القضية ودراستها من جديد([30]).
وبالفعل تتابع المفكرون في بحث ذلك، وناصروا هذا الرأي، وأحدثوا الثورة الكوبرنيكية، ومن أبرزهم (جيوردانو برونو) الذي أعلن اعتناقه لتلك النظرية وغيرها من الآراء التي رأتها الكنيسة هرطقة وتمردًا، وأدانته محاكم التفتيش، وحكمت بقتله دون أن تراق منه قطرة دم! و(جاليليو) الذي أعلن تبنيه لها، فجُرِّم ونوقش نقاشات طويلة، وطالت الجلسات معه حتى تراجع عن القول بنظرية كوبرنيكوس المخالفة لما تمليه المصادر المعرفية الكنسية([31]).
وبذلك رجحت كفّة الميزان الأخرى في العقل الغربي، فأصبحت المصادر الأخرى غير مصدر العقل مهمّشة، وربط الناس كل ما كانوا فيه من التخلف والجهل والفقر بالكنيسة وأنظمتها بشكل عام، ومنظومتها المعرفية بشكل خاص، فأصبحت لا تثق بها، بل بما تمليه عليها العقول، يقول ول ديورانت: “إن تأثير العلم على الدين أو على الأصح على المسيحية مميت، إن الناس كانوا سيمضون ولا ريب في تكوين أو تحبيذ مفاهيم عن العالم تمنح الأمل والعزاء، والمغزى والكرامة للنفوس المعذبة القصيرة الأجل… وما الذي لا مناص من حدوثه للدين الذي يتحداه على هذا النحو علم ينمو يوما بعد يوم في رقعته ومنجزاته ومكانته؟ وما الذي لا مناص من حدوثه لحضارة قائمة على ناموس أخلاقي قائم على ذلك الدين؟”([32])، وزاد الطين بلة أن الكنيسة وقفت موقفًا صارمًا لمواجهة هذا الاستيقاظ العلمي، فكان أن خسرت بذلك ثقة الشعوب خاصة مع صعود نجم العقل والعلم.
يقول جعفر شيخ إدريس: “قد كانت الكنيسة جزءا من المشكلة، جزءا من المرض الذي كان يصيب كل معرفة بالله، لا جزءا من العلاج؛ لقد كانت الكنائس الأرض التي أنبتت الإلحاد”([33]).
وساد بعد ذلك الصراعُ على أي المصادر المعرفية يُعتمد، حتى صرنا نسمع اليوم من يقول بقول العلموية التي تدعو إلى حجر العقول البشرية على ما يتوصّل إليه العلم التجريبي وحسب، ومحو جميع المصادر المعرفية الأخرى من وحي وخبر وعقل، وكأنه لا وجود لمصادر يُوثق بها سوى العلم التجريبي([34]).
ويبرز لنا صاحب موسوعة لالاند العلموية بقوله: “مصطلحان مولّدان استعملا بادئ الأمر للدل:
- إما على فكرة أن العلم يعرِّف الأشياء كما هي، ويحلّ كل المشاكل الواقعية، ويكفي لإشباع كلّ حاجات العقل البشرية المشروعة.
- وإما للدل على فكرة أن على العقل والمناهج العلمية أن تشمل كلّ ميادين الحياة العقلية والأخلاقية بلا استثناء”([35]).
ومن الملاحظ هنا أن العلموية فعلت ما فعلته الكنيسة تمامًا، فكما أن الكنيسة أغلقت على العقول البشرية كلّ سبل العمل وطرق التفكير غير طريقها، فكذلك تريد العلموية أن تفعل، فأغلقت طرق العلم إلا طريقها، فالعلموية في الحقيقة اعتقاد بأن العلم والمعرفة الممكنة هي العلم التجريبي، وما يستطيع أن يتوصل إليه العلم التجريبي، وكل ما وراء ذلك فليس بعلم ولا معرفة أصلا.
ولا يحتاج المرء العاقل إلى كبير عناء لردّ هذا التضييق على عقول البشر بأن هذا القول غير مبني على العلم التجريبي؛ فهو قول غير علميّ بناء على العلموية نفسها؛ فالعلموية رؤية غير علموية، فهي فكرة تنقض نفسها بنفسها.
هذا فضلًا عن أن مجال العلم التجريبي هو العالم المادي المحسوس، ولا يتجاوز إلى غير ذلك من مجالات العالم الفسيح الذي يدرك بالعقل والذي يدرك بالخبر، وإلى ذلك يشير إروين شرودنجر بقوله: “الصورة التي يقدّمها العلم عن الواقع من حولي صورة ناقصة جدًّا… إنه (أي: العلم الطبيعي) لا يتكلم ببنتِ شفة عن الأحمر والأزرق، المرّ والحلو، الألم واللذة، إنه لا يعرف شيئًا عن الجميل والقبيح، الحسن والسيئ، الله والخلود؛ يتظاهر العلم أحيانًا بأنه يجيب على أسئلة في هذه المجالات، ولكن غالبًا ما تكون إجاباته سخيفة للغاية، إلى درجة أننا لا نميل إلى أخذها على محمل الجد”([36]).
وهذه الفكرة ليست سوى إطاحةٍ لقسم مهمّ من أقسام الفلسفة، وهو فلسفة الوجود (الأنطولوجيا) وحصره في فلسفة العلوم (الإبستمولوجيا) وإعدام فلسفة الوجود من الوجود تمامًا مع أنه هو الأصل الذي منه ولدت فلسفة العلوم([37]).
بل إن هؤلاء بإنكارهم الضرورات العقلية يهدمون منهجهم القائم على اكتشاف الأسباب واطِّرادها، بحيث إن “التجريبيين ينكرون الضرورة العقلية مطلقا؛ بناء على قولهم بأن الحواس هي المصدر الوحيد للمعرفة؛ إذ لو سلموا بالضرورة العقلية لالتزموا أن العقل هو مصدر تلك الضرورة، وهذا يتناقض مع مذهبهم الحسي في مصدر المعرفة”([38]).
الخاتمة:
لا توجَد منظومة معرفية أنجع ولا أنفع ولا أتقن ولا أمتن من المنظومة المعرفية الإسلامية التي جعلت لكل مصدر معرفي مكانته ومنزلته ومجالاته، واختصت بالوحي الإلهي الذي هو أول تلك المصادر في الدين الإسلامي، وله مجالاته التي لا يُتوصل إليها بغيره، ولكنه في نفس الوقت لا يتعارض مع المصادر المعرفية الأخرى، ولا يلغيها، ولا يحكم عليها بالموت والإعدام، ولا يتعامل معها بمبدأ التهميش والانتقام، بل علاقتها بمصدر العقل والحس هي علاقة تواؤم وانسجام وتكامل واتّفاق، فالوحي هو الذي دعا المسلمين إلى النظر والتفكر في السماوات والأرض بالحسّ والعقل لاكتشاف أسراره ومكنوناته؛ وهذا جانب من جوانب جمال الدين الإسلامي وكماله.
بينما عانت البشرية مع غيره من الفلسفات والأديان والمنظومات حَجرا على ذوي الحِجر.
وصلَّى الله وسلم على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) المعرفة في الإسلام، عبد الله القرني (ص: 25).
([2]) صحيح البخاري (4981)، صحيح مسلم (152).
([3]) ينظر: المعرفة في الإسلام، عبد الله القرني (ص: 23).
([4]) ينظر: المعرفة في الإسلام، عبد الله القرني (ص: 24).
([5]) المستصفى (ص: 10 وما بعدها).
([6]) معيار العلم في فن المنطق (ص: 59).
([7]) أي: نُظار المسلمين (ص: 248).
([8]) الرد على المنطقيين (ص: 248).
([9]) ينظر: سير أعلام النبلاء (19/ 329).
([10]) الرد على المنطقيين (ص: 248).
([11]) المنقذ من الضلال (ص: 112 وما بعدها).
([12]) المنقذ من الضلال (ص: 124 وما بعدها).
([13]) الرد على المنطقيين (ص: 248).
([14]) الرد على المنطقيين (ص: 248).
([15]) الرد على المنطقيين (ص: 114).
([20]) شرح العقيدة الأصفهانية (ص: 137).
([21]) تاريخ المسيحية في العصور الوسطى، جاد المنفلوطي (ص: 71).
([22]) وكانوا يقصدون به الإعدام حرقًا.
([23]) تاريخ الفلسفة الغربية، برتراند رسل (1/ 182).
([24]) ينظر: قصة الحضارة، ول ديورانت (٢١/ ٨٥).
([25]) نقلًا عن: الأصول الوثنية للمسيحية، أندريه نايتون ورفاقه، ترجمة: سميرة عزمي الزين (ص: 20).
([26]) الأصول الوثنية للمسيحية، أندريه نايتون ورفاقه، ترجمة: سميرة عزمي الزين (ص: 20).
([27]) الأصول الوثنية للمسيحية، أندريه نايتون ورفاقه، ترجمة: سميرة عزمي الزين (ص: 20).
([29]) ينظر: تاريخ الفلسفة الغربية (1/ 418).
([30]) ينظر: تاريخ الفلسفة الغربية، برتراند رسل (3/ 58 وما بعدها).
([31]) ينظر: تاريخ الفلسفة الغربية، برتراند رسل (3/ 66 وما بعدها).
([32]) قصة الحضارة، ول دیورانت (27/ 263).
([33]) الفيزياء ووجود الخالق (ص: ٢٥).
([34]) ينظر: ظاهرة نقد الدين، سلطان العميري (2/ 460).
([35]) موسوعة لالاند (2/ 1256).
([36]) نقلا عن محاضرة: العلموية، د. سامي عامري، وهي منشورة على شبكة الإنترنت على الرابط:
https://youtu.be/cP2TMrCtekg