هل كلُّ مجتهد مصيب؟ومداخل القراءة التأويلية للنص
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
مِن نِعَم الله على الأمَّة أن جعلَ في فهومها الحقَّ ووفَّقها لإصابته ويسَّر عليها أمر دينها، فشرع الاجتهادَ لأهل العلم واستنباطَ الأحكام وتنزيلها، وأوكل إليهم تنفيذَ الشرائع، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَام} [المائدة: 95]، وقال سبحانه: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلا} [النساء: 83].
وهذه خصوصيّة لهذه الأمة ومنقَبة لها، وهو من تمام حفظِ كتاب الله الذي عجزت عنه الأمَم السابقة، ولهذا المعنى -وهو مشروعيّة الاجتهاد- رفعت الشريعة الحرجَ عن المجتهد المخلص الذي بذل وسعَه في طلب الحقّ، فلم تحرمه الأجر وإن فاتَه الصواب؛ لأنه مكلَّف بطلب الحق لا بإصابته، وما دام قد بذل وسعَه واستفرغ جهدَه لمعرفة مراد الله فإنه يثاب على هذا السعي ولا يضره مخالفته ما لم يتعمَّد المخالفة. وقد تكلّم الأصوليون في الاجتهاد وحكم المجتهد هل هو مصيب بمجرد اجتهاده أم أن هناك مصيبًا ومخطئًا؟ وإذا وجد مخطئ في الاجتهاد فما حكمه؟ هل هو الإثم أم الأجر؟ وقد حاول كلّ قائل بقول أن يستند إلى ما يدعمه من ظاهر الأدلة الشرعية، وقد كان هذا البحث بحثًا علميّا شرعيّا بحتًا، لكنه في العصور الأخير وكثرة الأهواء وتفرّقها استُغلّ هذا المناخُ العلميُّ لتسويغ الشيء ونقيضه، ولوجود أكثر من تفسير للشريعة، وصُوِّبت كلُّ التفسيرات مع أن فيها الصحيح الذي لا امتراء فيه والباطل الذي لا حقَّ فيه وتفسيرات برزخيَّة تأخذ من كلٍّ بطرف، وعَمِيت الأنباء على الناس، وحاول آخرون تصحيح الديانات السماوية وجعلَ نصيب من الحق لها، ومشتركة في أصل الإيمان، ونظرا لأن العبارة حُمِّلت ما لم تتحمَّل والبحث خرج به أهل الأهواء عن مورده لزِم بيان الاجتهاد ومعناه، وبيان العبارة وهي قولهم: “كل مجتهد مصيب”، أو “هل كل مجتهد مصيب؟”، وعرض كل ذلك عرضًا موضوعيًّا على النصوص الشرعية، وكلام أهل العلم؛ ليندفع به تأويل الغالين وتحريف الجاهلين، ونبين ذلك بعون الله في المباحث التالية:
المبحث الأول: تعريف الاجتهاد.
المبحث الثاني: حقيقة الاجتهاد وحكمه.
المبحث الثالث: هل كل مجتهد مصيب؟ وما معنى هذه القاعدة؟
المبحث الأول: تعريف الاجتهاد:
مادة الكلمة في اللغة تدلّ على معنى الوُسع والطاقة، فالجُهْدُ بالضم: الوُسْعُ والطاقَةُ، قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَاّ جُهْدَهُمْ} أي: إلا طاقتهم. والجَهدُ بالفتح: المشقةُ والمبالغةُ، تقولُ: بلغتُ ذلك بجَهدٍ، أي بمشقةٍ. ويقالُ في هذا المعنى: الجُهْدُ بالضم أيضًا لغة فيه([1]).
قال ابن الأثير: “فأما في المشقة والغاية فالفتح لا غير… ومن المضموم حديث الصدقة: أي الصدقة أفضل؟ قال: «جُهد المقل» أي: قدر ما يحتمله حال القليل المال. ومن المفتوح حديث الدعاء: «أعوذ بك من جَهد البلاء» أي: الحالة الشاقة”([2]).
ويرى بعض الأصوليين أن الاجتهاد ينحصر معناه اللغوي في بذل الوسع، وعليه لا يكون إلا فيما فيه مشقة([3]).
وليس المعنى الاصطلاحي بعيدًا من المعنى اللغوي، فقد روعيت العلاقة بينهما وخصّص المعنى الاصطلاحي بالشرع، وقيّد بقواعد وضوابط.
وقبل ذكر الاجتهاد لا بد أن يُعلم أن هناك اصطلاحات متقاربة معه وأحيانا تطلق عليه، منها القياس والعقل([4])، قال الشافعي رحمه الله: “ولم يحتمل المِثل من النَّعَم القيمةَ فيما له مِثلٌ في البدن من النعم: إلا مستكرهًا باطنًا. فكان الظاهر الأعمُّ أولى المعنيين بها. وهذا الاجتهاد الذي يطلبه الحاكم بالدلالة على المثل. وهذا الصنف من العلم دليلٌ على ما وصفْتُ قبلَ هذا على أنْ ليس لأحد أبدًا أن يقول في شيء حلَّ ولا حرُم إلا من جهة العلم. وجهةُ العلم الخبرُ: في الكتاب، أو السنة، أو الإجماع، أو القياس. ومعنى هذا البابِ معنى القياس؛ لأنه يُطلب فيه الدليل على صواب القبلةِ والعَدلِ والمِثل.
والقياس ما طُلب بالدلائل على موافقة الخبر المتقدم من الكتاب أو السنة؛ لأنهما عَلَمُ الحق المفتَرَضِ طَلَبُهُ، كطلب ما وَصَفتُ قبله، من القبلة والعدل والمثل.
وموافقته تكون من وجهين:
أحدهما: أن يكون الله أو رسوله حرّم الشيء منصوصًا، أو أحله لمعنى، فإذا وجدنا ما في مثل ذلك المعنى فيما لم يَنُصَّ فيه بعينه كتابٌ ولا سنة أحللناه أو حرمناه؛ لأنه في معنى الحلال أو الحرام.
أو نجد الشيء يشبه الشيءَ منه، والشيءَ من غيره، ولا نجد شيئًا أقربَ به شَبَهًا من أحدهما، فنلحقه بأَولى الأشياء شَبَهًا به، كما قلنا في الصيد”([5]).
فالقياس غير الجليّ يحتاج إلى جهد وتأمل يعبِّر عنه كثير من أهل العلم بالاجتهاد، والقياس في الأصل عمل المجتهد، والمجتهد كلّف بطلب الحق لا بإصابته، ومن ثم فإن الاجتهاد لا يكون في المعلوم الواضح ولا في الأخبار، وإنما يكون في المسائل المبنية على غالب الظن، قال أبو بكر الجصاص الحنفي: “وأما الاجتهاد فهو بذل المجهود فيما يقصده المجتهد ويتحراه، إلا أنه قد اختصَّ في العرف بأحكام الحوادث التي ليس لله تعالى عليها دليل قائم يوصل إلى العلم بالمطلوب منها؛ لأن ما كان لله عز وجل عليه دليل قائم لا يسمى الاستدلال في طلبه اجتهادًا، ألا ترى أن أحدا لا يقول: إن علم التوحيد وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم من باب الاجتهاد، وكذلك ما كان لله تعالى عليه دليل قائم من أحكام الشرع لا يقال: إنه من باب الاجتهاد؛ لأن الاجتهاد اسم قد اختص في العرف وفي عادة أهل العلم بما كلف الإنسان فيه غالب ظنه ومبلغ اجتهاده، دون إصابة المطلوب بعينه، فإذا اجتهد المجتهد فقد أدى ما كلّف، وهو ما أداه إليه غالب ظنه”([6]).
ومن ثم جاءت التعاريف مراعية لهذا المعنى أو للخلاف فيه على الأصح، وقد تعددت عبارات العلماء في تعريفه، فعرفه السمعاني بقوله: “بذلُ الجهدِ في استخراجِ الأحكامِ مِنْ شواهدِها الدالّةِ عليها، بالنظرِ المؤدي إليها”([7])، وعرفه الغزالي بقوله: “بذلُ المجهودِ في طلبِ العلمِ بأحكامِ الشريعةِ”([8]).
وكل تعريفاته الأخرى ترجع إلى نفس المعنى، ولا يخلو بعضها من اعتراض، وحاصلها طلب الأحكام الشرعية الظنية من طريق الاستدلال والأمارات التي وضعها الشارع معرفة للأحكام دالة عليها.
فإذا عرف الاجتهاد من حيث الاصطلاح سهل معرفة حقيقته وحكمه، وقد أفردناهما في البحث لأن المناطقة لا يحبّذون دخول الأحكام في الحدود، وهو ما سنتناوله في المبحث الآتي.
المبحث الثاني: حقيقة الاجتهاد وحكمه:
لا شك أن معرفة حقيقة الاجتهاد تحتاج اجتهادا وبذل وسع، ولكي يُعرف لا بد من استقراء الألفاظ المتصلة به والتي يعبر بها عنه ومنها:
الرأي: “وهو اعتقاد النفس أحد النقيضين عن طريق غلبة الظن”([9]).
ومنه الفتوى، وهو بيان المبهم أو بيان الحكم الشرعي المنوط بالمكلف؛ ولذا يطلق الأصوليون على المجتهد: المفتي، وعلى غيره: المستفتي أو المقلد.
وحقيقة الاجتهاد تتبين بأمور، منها بشروط الاجتهاد ومعرفة مراتب المجتهدين:
شروط الاجتهاد:
لا يكون المجتهد مجتهدا حتى تتوفر فيه ستة شروط لا يتخلف منها واحد:
أولا: أن يكون عارفا بلسان العرب من لغة وإعراب، وموضوع خطئهم في الحقيقة والمجاز، ومعاني كلامهم في الأوامر والنواهي والعموم والخصوص.
والمقصود بمعرفة لسان العرب في حقّ المجتهد أن يكون محيطًا بأكثر كلام العرب، ويرجع فيما عزب عنه إلى غيره، وهو كما أن جميع السبب لا يحيط به أحد من العلماء وإنما يحيط به جميع العلماء، فإذا كان المجتهد محيطا بأكثرها صح اجتهاده، ويرجع فيما عزب عنه إلى من يعلمه.
ثانيا: أن يكون عارفًا بما تضمنه الكتاب من الأحكام الشرعية من عموم وخصوص ومبين ومجمل وناسخ ومنسوخ بنص أو فحوى أو ظاهر أو مجمل؛ ليستعمل النص فيما ورد، والفحوى فيما يفيده، والظاهر فيما يقتضيه، والمجمل يطلب المراد منه.
ولا يشترط الحفظ على الصحيح، بل يكفي الاطلاع والأهلية.
ثالثا: معرفة ما تضمنته السنة من الأحكام، وعليه فيها خمسة شروط.
أحدها: معرفة طرقها من تواتر وآحاد؛ ليكون المتواتر معلومة والآحاد مظنونة.
والثاني: معرفة صحة طرق الآحاد ومعرفة رواتها؛ ليعمل بالصحيح منه ويعدل عما لا يصح منه.
والثالث: أن يعرف أحكام الأفعال والأقوال؛ ليعلم بما يوجبه كل واحد منهما.
والرابع: أن يحفظ معاني ما انتفى الاحتمال عنه ويحفظ ألفاظ ما دخله الاحتمال، ولا يلزمه حفظ الأسانيد وأسماء الرواة إذا عرف عدالتهم.
والخامس: ترجيح ما يعارض من الأخبار؛ ليأخذ ما يلزم العمل به.
رابعا: معرفة الإجماع والاختلاف وما ينعقد به الإجماع وما لا ينعقد به، وما يعتد به في الاجماع ومن لا يعتد به؛ ليتبع الإجماع ويجتهد في الاختلاف.
خامسا: معرفة القياس والاجتهاد، والأصول التي يجوز تعليلها وما لا يجوز تعليلها، والأوصاف التي يجوز أن يعلل بها وما لا يجوز أن يعلل بها، وترتيب الأدلة بعضها على بعض، ومعرفة الأولى فيها، فيقدم الأولى ويؤخر ما لا يكون أولى، ويعرف وجوه الترجيح ليقدم الراجح على المرجوح.
سادسا: أن يكون ثقة مأمونا غير متساهل في أمر الدين([10]).
وهذا الشرط الأخير شرط في اتباعه في قوله، وليس شرطا في صحة اجتهاده على الصحيح، وذلك أن شرط الفتيا عند الفقهاء أغلظ من شرط الاجتهاد.
والمجتهد هو من توفرت فيه هذه الشروط وانتصب للفتيا، لكن من نظر في كلام الفقهاء يجد أنهم في الأصول يتكلمون غالبا عن المجتهد المطلق، أما عند التطبيق فيقسمون المجتهدين إلى مراتب:
النوع الأول: المجتهد المطلق، وهو الذي يستقلّ بأصوله.
النوع الثاني: مجتهد مقيد في مذهب منِ ائتَمَّ به، فهو مجتهد في معرفة فتاويه وأقواله ومأخذه وأصوله، عارف بها، متمكن من التخريج عليها، وقياس ما لم ينص مَنِ ائتمَّ به عليه على منصوصه، من غير أن يكون مقلِّدًا لإمامه، لا في الحكم ولا في الدليل، لكن سلك طريقه في الاجتهاد والفتيا، ودعا إلى مذهبه ورتَّبه وقرَّره، فهو موافق له في مقصده وطريقه معًا، مثل القاضي أبي يعلى من الحنابلة.
النوع الثالث: من هو مجتهد في مذهب من انتسب إليه، مقرر به بالدليل، متقن لفتاويه، عالم بها، لكن لا يتعدى أقواله وفتاويه ولا يخالفها، وإذا وجد نص إمامه لم يعدل عنه إلى غيره البتة، وهذا شأن أكثر المصنفين في مذاهب أئمتهم، وهو حال أكثر علماء الطوائف([11]).
وقد تنوعت مراتب المجتهدين بحسب تقسيمهم ومستوياتهم، والذي يعيننا هنا منهم هو المجتهد الذي يجتهد في نصوص الوحي وفهمها، أما إصابة قول الإمام من عدمه فأمرها يسير، وليست جارية على موضوع الورقة العلمية التي بين أيدينا.
أما حكم الاجتهاد فإنه لا يمكن إطلاق القول فيه دون تفصيل؛ إذ لو كان واجبا بإطلاق لحرم التقليد بإطلاق، وهو قول متعذّر شرعا وعادة، ولو حرم بإطلاق لوجب التقليد بإطلاق، فلم يبق إلا التفصيل:
فحكمه الأصلي الوجوب الكفائي؛ لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون} [التوبة: 122].
وهو واجب وجوبا كفائيا في حالتين:
الحالة الأولى: يجب وجوبا كفائيا على كلّ جماعة من المسلمين منفصلة أو بعيدة عن جماعة فيها مجتهدون.
الحالة الثانية: يجب وجوبا كفائيا إذا كان في البلد أكثر من مجتهد، فإن قيام البعض به يسقطه عن البعض الآخر.
ويكون واجبا وجوبا عينيا في ثلاث حالات:
أولا: على كل من تأهل له من الأمة.
ثانيا: على المجتهد إذا نزلت به نازلة وخاف فواتها.
ثالثا: إذا توجه إليه مستفت في حادثة ترتب عليها العمل، وكانت مما يقع أو منزلا منزلة الواقع.
ويجوز للمجتهد في النوازل التي يتوقع وقوعها ولم تنزل بالناس، ويحرم مع النص الدال على بطلانه([12]).
بقي لنا أن نعرف معنى قول العلماء: “كل مجتهد مصيب”، أو حكايتهم الخلاف في المسألة هل كل مجتهد مصيب؟ وذلك في المبحث الآتي.
المبحث الثالث: هل كل مجتهد مصيب؟ وعلاقتها بالقراءة التأويلية:
لقد ناقش الفقهاء والمتكلمون العبارة في سياق النصوص الشرعية وما تقرره، ولم يكونوا يرومون من خلال ذلك تصويب المؤمن والكافر في آن واحد؛ لمصادمة ذلك لظاهر النص ومحل الإجماع في المسألة، وإنما ناقشوها في سياقين مختلفين:
الأول: حكم تأثيم من لم يقصد مخالفة الحق.
الثاني: حكم المجتهد الذي اجتهد واستدل على قوله بالوحي وخالفه غيره.
وقد وردت نصوص شرعية ظاهرها تصويب المجتهد في الفروع، منها حديث ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لنا لما رجع من الأحزاب: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة»، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي؛ لم يرد منا ذلك، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدا منهم([13]).
وهذه النصوص تعرَّض العلماء لمعناها، فمنهم من حملها على تصويب كل مجتهد، ومنهم من حملها على جواز الاجتهاد وعدم الإنكار فيه إذا كان في الفروع، ولا يلزم من ذلك أن القولين المتناقضين كليهما صواب عند الله، لما يلزم عن ذلك من القول ببطلان العبادة وصحتها في آن واحد، وقد نصوا من غير خلاف بينهم أن أصول الشرائع لا يسوغ فيها الخلاف ولا يصوَّب فيها المجتهد؛ لما يلزم من ذلك من تصحيح الملل وقبول أقوال أرباب البدع، وإنما الخلاف بينهم في التأويل السائغ الذي يدفع الكفر عن صاحبه في أصول الديانة، ويمنع مخالفة الإجماع في الفروع، قال الجصاص: “من قال: إن كل مجتهد مصيب، ألا ترى أنهم: قد سوغوا الاجتهاد في ميراث الجد، واختلفوا فيه على وجوه قد عرفت؟! فأوجب بعضهم الشركة بينه وبين الأخ، وجعل بعضهم الجد أولى، فلو قال بعدهم قائل: إني أجعل المال للأخ دون الجد، كان مخطئا في قوله، مخالفا لإجماعهم، ولو ساغ ما قال هذا السائل لساغ مخالفة إجماعهم الواقع عن اجتهاد؛ لأنهم حين اجتهدوا في المسألة فقد سوغوا الاجتهاد فيها، ولم يكن ذلك مبيحا لمن بعدهم مخالفتهم فيما أداه إليه اجتهادهم، كذلك إذا اختلفوا فيها على وجوه معلومة، وإن كان اختلافهم عن اجتهاد، فغير جائز لمن بعدهم الخروج عن أقاويلهم إذا كان إجماعهم على أن لا قول في المسألة إلا ما قالوه مانعا من تسويغ الاجتهاد في الخروج عنه”([14]).
وقد رد العلماء تصويب المجتهدين في الفروع لما يؤدّي إليه من قول بالشيء وضده، وحملوا العبارة على إصابة الأجر، وبينوا ما يترتب عليه من تخصيص عموم الشريعة بكل قول للمجتهدين، بغض النظر عنه أكان صوابا أم خطأ، والشريعة جاءت لرفع الخلاف بين الناس وإظهار الحق، فلم يكن بد من وضع علامة من الشارع يتميز بها الراجح عن المرجوح والصواب من الخطأ.
وكما أسلفنا فإن تفصيل المسألة يتبين بالكلام على مقامين:
المقام الأول: مقام طلب الحقّ وهو مطلوب من كل مجتهد، وإن هو فعله فقد سقط عنه التكليف، ولا يضرّه أصاب الحق أم أخطأه، وهو متعبَّد بما أداه إليه اجتهاده. وهذا المسلك معلوم للمسلمين، لم يقع فيه خلاف، ويشهد له “أن الصحابة اجتهدوا واختلفوا، وأقر بعضهم بعضًا على قوله، وسوّغ له أن يعمل به، وإن كان مخالفا لقوله ومؤدَّى اجتهاده، وسوَّغوا للعامة أن يقلدوا من شاؤوا منهم”([15]).
المقام الثاني: مقام إصابة الحق، وهو متعذّر في جميع الفروع، وإن كان في بعضها أظهر من بعض، ومحل الاجتهاد هو الطلب لا الإصابة، وقد رتبت الشريعة الأجر على الطلب وجعلت في الإصابة أجرين كما في الحديث، والإنسان مكلَّف بطلب الحقّ لا بإصابته، فبطلب الحقّ يقع العذر ويثبت الأجر ويزول الإثم.
ومن المعلوم أن الكلام عن الاجتهاد هو كلام عن الاستنباط وفهم النصوص ومحاولة العمل بها، فيخرج صاحب الهوى ويخرج المبتغي للفتنة بالتأويل الباطل المعرض عن الوحي الظاهر والعقل الصريح، ومن هنا نصَّ العلماء على بطلان قول المتكلّم في أصول الديانات وواضحات البينات إذا تكلم بالباطل، وقد ناقش الجوينيُّ العنبريَّ في قوله بتصويب المجتهدين في أصول الدين فقال: “فإن زعم أن كلّ مُجتَهد مُصيب في الأصول بمَعنى أنه لم يُكَلف الاجتهَاد فأما العثور على الحقّ فَلم يتَعَلق به تَكليف لصعوبة مدركه وَاختلَاف الآراء وغموض طرق الأدلة فإن سلك هَذَا المسلك في القَول بالتصويب، وَقَالَ مَعَ ذَلك بطرد مذهبه في الكفر، فقد انسَلّ من الدين حين عذر الكفار في الإصرار على الكفر.
فإن قَالَ ذَلك في الذين تجمعهم الملة كَانَ الكَلَام عَلَيه من وَجهَين:
أحدهما: أن نقُول: مَا الذي حجزك عَن القَول بَأن المُصيب وَاحد؟ فإن تمسك بغموض الأدلة قيل لَهُ: فالكلام في النبوات والإحاطة بصفات المعجزات وتمييزها عن المخاريق والكرامات أغمض عند العارفين بأصول الديانات من الكلام في القدر وغيره مما اختلف فيه أهل الملة، فهلا عذرت الكفرة بما ذكرت؟! وهذا ما لا محيص له عنه”([16]).
وفي الأثر: (من فسّر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار)، قال السرخسي: “يعني قطع القول بأن المراد هذا برأيه، فإن من فعل ذلك فكأنه نصب نفسه صاحبَ الوحي، فليتبوأ مقعده من النار. وبهذا تبين خطأ المعتزلة أن كلّ مجتهد مصيب لما هو الحق حقيقة، فالاجتهاد عبارة عن غالب الرأي، فمن يقول: إنه يستدرك به الحقّ قطعا بلا شبهة، فإنه داخل في جملة من تناولهم هذا الحديث”([17]).
والمتكلمون قد اتفقوا على التخطئة في القطعيات والتأثيم فيها، والقطعيات عندهم ثلاثة أقسام: كلامية وأصولية وفقهية: “أما الكلامية فهي العقليات المحضة، والحق فيها واحد، ومن أخطأ الحقّ فيها فهو آثم، ويدخل فيه حدوث العالم، وإثبات المحدِث وصفاته الواجبة والجائزة والمستحيلة، وبعثة الرسل وتصديقهم بالمعجزات، وجواز الرؤية وخلق الأعمال وإرادة الكائنات، وجميع ما الكلام فيه مع المعتزلة والخوارج والروافض والمبتدعة.
وأما الأصولية فهي كون الإجماع حجّة، وكون القياس حجّة، وكون خبر الواحد حجة، ومن جملته خلاف من جوز خلاف الإجماع المنبرم قبل انقضاء العصر، وخلاف الإجماع الحاصل عن اجتهاد، ومنع المصير إلى أحد قولي الصحابة والتابعين عند اتفاق الأمة بعدهم على القول الآخر، ومن جملته اعتقاد كون المصيب واحدًا في الظنيات، فإن هذه مسائل أدلتها قطعية والمخالف فيها آثم مخطئ.
وأما الفقهية فالقطعية منها: وجوب الصلوات الخمس والزكاة والحج والصوم وتحريم الزنا والقتل والسرقة والشرب، وكل ما علم قطعا من دين الله، فالحق فيها واحد وهو المعلوم، والمخالف فيها آثم.
ثم ينظر فإن أنكر ما علم ضرورة من مقصود الشارع -كإنكار تحريم الخمر والسرقة ووجوب الصلاة والصوم- فهو كافر؛ لأن هذا الإنكار لا يصدر إلا عن مكذب بالشرع، وإن علم قطعا بطريق النظر لا بالضرورة -ككون الإجماع حجة وكون القياس وخبر الواحد حجة وكذلك الفقهيات المعلومة بالإجماع فهي قطعية- فمنكرها ليس بكافر، لكنه آثم مخطئ”([18]).
وحاصل القول الذي تلتئم به نصوص الشرع ويدفع به التعارض أن محلّ الإصابة هو في الأجر ومطلق الطلب، أما إذا قلنا بمطلق الإصابة بمجرد الاجتهاد دون تفصيل فهو قول بعصمة المجتهد، ويؤدي إلى إبطال الشرع واعتبار كلّ خلاف، وهو ما تردّه النصوص ويخالف الإجماع المستقر عند الأمة، وقد فصل ابن تيمية حقيقة العبارة فقال: “من قال: كل مجتهد مصيب بمعنى أنه مطيع لله فقد صدق، ومن قال: المصيب لا يكون إلا واحدًا، وإن الحق لا يكون إلا واحدًا، ومن لم يعلمه فقد أخطأ، بمعنى أنه لم يعلم الحق في نفس الأمر فقد صدق”([19]).
والإمام بن القيم رحمه الله أطال النفس في الرد على هذا الاستعمال العبثي لهذه العبارة، ورد عليها من وجوه ملخصها: “أن التأويل بغير دليلٍ وبغير قواعدَ لا يُبيحه ولا يَسلكه أحدٌ من عقلاء الناس المنتسبين إلى العلم، سواء كانوا كفّارًا أو مؤمنين، متسنّنة أو مبتدعة”([20]).
ومن صوّب اجتهاد جميع المجتهدين لا شكّ أنه يخطّئ من يخالفه في هذا التصويب، وفي ذلك نقض لقوله.
والله ولي التوفيق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) الإبانة في اللغة العربية (2/ 365).
([2]) النهاية في غريب الحديث (1/ 320).
([3]) ينظر: روضة الناظر (3/ 953)، الإحكام في أصول الأحكام (4/ 162)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 575).
([4]) ينظر: قواعد الأصول ومعاقد الفصول (ص: 149)، الفصول في الأصول للرازي (ص: 215).
([6]) الفصول في الأصول (4/ 11).
([9]) المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني (ص: 375).
([10]) ينظر: قواطع الأدلة (2/ 305) وما بعدها.
([11]) إعلام الموقعين عن رب العالمين (4/ 163).
([12]) ينظر: المستصفى للغزالي (ص: 368)، الاجتهاد لأبي المعالي الجويني (ص: 124)، شرح مختصر الروضة (3/ 636).
([14]) الفصول في الأصول (3/ 333).
([15]) الفقيه والمتفقة (2/ 116).