الاستدلال بالمجرَّبات بين أهل السنة والصوفية
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
من المعلوم أنَّ البحثَ في مصادر الاستدلال لدى الفرق المخالفة لأهل السنة هو من أهمّ ما يوقف المرءَ على أسباب الانحراف المنتشِر عندهم سواء في الاعتقاد أو العمل؛ ولذا اعتنى علماء أهل السنة بضبط مصادر الاستدلال ومناهجه التي تميزهم عن غيرهم من الفرق المنحرفة.
ومما يتعلّق بهذا الاستدلالُ بـ (المجرَّبات) أو (تجريبات السالكين) على مشروعية عمل معيَّن، خاصَّة عند الصوفية، فكثيرًا ما تكون الحجَّة على شرعية وِرْدٍ أو ذكر معيَّن أو صلاة مبْتَدَعَةٍ محدَثةٍ أو مجاهدة ورياضة صوفية كالجوع المفرط والسهر الطويل والخلوة في الكهوف والمغارات تكون من المجرَّبات التي جرّبها الصالحون، ووجدوا أثرها ونفعها.
وهذا لا يعني أن الاستدلال بالمجرَّبات مقتصِر على الصوفية، فكثير من العلماء استندوا في بعض ما استحسنوه على التجربة -وسوف نورد في هذه الورقة بعضًا من ذلك-، ولكن الصوفية يغالون في هذا الأمر جدًّا، حتى جعلوه أصلًا لكثير من البدع التي لا يشكّ عالم في قُبحها ومنافاتها للشريعة، كما سنبيّن بعضا منها إن شاء الله.
ولذلك كان الغرض من هذه الورقة بيان منزلة التجربة من الاستدلال عند أهل العلم، ونقد توسع الصوفية في هذا الأمر، وذلك عبر المباحث التالية:
أولا: معنى التجربة:
التجربة لغة: مصدر (جرَّبَ)، يقال: جَرَّبَ الرجلَ تجْرِبَةً بمعنى: اختبره، وَرَجُلٌ مُجَرَّب: قد بُليَ مَا عِنْدَهُ. ومُجَرِّبٌ: قَدْ عَرفَ الأُمورَ وجَرَّبها؛ والمُجَرَّب: الذي قد جُرِّبَ في الأُمور وعُرِفَ مَا عِنْدَهُ([1]).
والتجربة اصطلاحا: لا يخرج معناها الاصطلاحي -سواء عند الفقهاء أو الأصوليين والمناطقة- عن المعنى اللغوي لها، فهي تعني: اختبار الشيء مرة بعد أخرى([2]).
وإن كانت التجربة عند المناطقة تعني تجربة خاصة بشرائط معينة.
ثانيًا: التجربة عند المناطقة والأصوليين، وهل تفيد العلم؟
يشيع استعمال مصطلح (التجربة) في المباحث المنطقية، والفلسفية، وأصول الفقه كذلك، حيث يبحثون في إفادة التجربة للعلم، وعلاقة التجربة بمصادر المعرفة، وهل تفيد القطع واليقين أم الظن؟ وهل إفادتها العلم خاص بالمجرِّب فقط أم تفيد غيره كذلك؟
ويعنون بالتجربة هنا: “ما اطردت فيه العادات، كالحكم بأن النار محْرِقةٌ، والخبز مشْبِعٌ، والماء مُروٍ، والخمر مُسكر، وجميع المعلومات بالتجربة عند من جرّبها، وهذا غير المحسوسات؛ لأن مدرك الحس هو أن هذا الحجر هوى إلى الأرض، فأما الحكم بأن كل حجر هاو إلى الأرض فهو قضية عامة لا قضية في عين، والحكم الثاني هو حكم العقل بواسطة الحس، وبتكرر الإِحساس مرة بعد أخرى؛ إذ المرة الواحدة لا تحصل العلم”([3]).
فمصطلح التجربة، “يستعمل فيما جربه الإنسان بعقله وحسه”([4]).
فالتجربة هنا يقصد بها: ما اقترن فيه إدراك الحس، ثم إعمال العقل وقياس هذه الحالة على نظائرها، بشرط صحة القياس، حيث يدرك الوصف المناسب المؤثر في الأثر، ويستخدم السبر والتقسيم الذي ينفي الأوصاف غير المؤثرة والمزاحمة، “وإلا فمتى حصل الأثر مقرونًا بأمرين لم تكن إضافته إلى أحدهما دون الآخر بأولى من العكس، ومن إضافته إلى كليهما”([5]).
فالتجربة المفيدة للعلم هي المبنية على قانون قياس العلة، الذي يلزم لصحته ما يعرف بتنقيح المناط واستخراجه، وطرائق ذلك معروفة في كتب أصول الفقه.
وهذا بالطبع لا يعني أن التجربة بهذا المعنى لا يتطرق إليها الوهم، فقد يحدث خلل فيها ناشئ عن عدم ضبط القياس.
والمقصود: أن التجربة المعتمدة على الحس والقياس تفيد العلم إذا كانت مقدماتها صحيحة قطعا، وقد تفيد الظن إذا كان القياس فيها ظنيا.
وقد ردّ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على المناطقة في زعمهم أن القضايا المعلومة بالتواتر والتجربة والحدس يختص بها من علمها بهذه الطريق، فلا تكون حجة على غيره، وذلك لما يفضي إليه هذا الكلام من إنكار المتواترات من النبوات والمعجزات وسائر الأخبار المتواترة، فيرى أن هذا الإنكار هو من أصول الإلحاد والكفر([6]).
ولكن غرضنا هنا بيان أن هذه التجربة التي تفيد العلم ليست هي المجرَّبات عند الصوفية.
ثالثًا: التجربة عند الصوفية:
التجربة عند الصوفية -أو المجرَّبات- لا تنطبق على المجربات بالمعنى المنطقي الذي أشرنا إليه سابقًا، ولا تنطبق عليها شرائطه، وإنما يقصد بها: وجود الأثر النافع المرجو من المجاهدة أو الرياضة أو الورد أو الدعاء، كظهور الكرامات والخوارق، والكشف والإلهام، والوصول للأحوال والمقامات التي يتدرج في منازلها المريد، طمعًا في الوصول لأعلى هذه المقامات عندهم، وهو مقام (الفناء) أي: الفناء عن شهود ذاته، والفناء في ذات الله، وهو ما يعبرون عنه بقولهم: الفناء عن شهود السِّوى، أي: ما سوى الله تعالى، وأعلى منه عندهم: الفناء عن وجود السوى، وهو مقام (وحدة الوجود) وهو غاية التحقيق عندهم.
والتجربة بهذا المعنى تقترب من معنى (الذوق)، وهو من أهم مصادر الاستدلال عند التصوف الذي يحكمون به على الأشياء، وهو كما عرفه القشيري بقوله: “الذوق والشرب: ويعبرون بذلك عما يجدونه من ثمرات التجلي، ونتائج الكشوفات”([7]).
وعرفه غيره بقوله: “نور عرفاني، يقذفه الحق بتجليه في قلوب أوليائه، يفرقون به بين الحق والباطل، من غير أن ينقلوا ذلك من كتاب أو غيره”([8]).
فجعلوه مفرقًا بين الحق والباطل، حاكمًا لا محكومًا بالشرع.
ولما عدَّدَ السراج الطوسي جملةً من أحوال الصوفية وألفاظهم المشكِلة قال بعدها: “فالصوفية مخصوصون من أولي العلم القائمين بالقسط بحلّ هذه العُقَدِ، والوقوف على المشكل من ذلك، والممارسة لها بالمنازلة والمباشرة، والهجوم عليها ببذل المهج، حتى يخبرون عن طعمها وذوقها”([9]).
فالتصوف في حقيقته عبارة عن تجربة روحية فردية، يسلكها المريد بتلقين من شيخه، أملا في الوصول لغاية التصوف ومقاماته وأحواله، وغايتها كما أشرنا (الفناء)، وليس علمًا يستفاد من الوحي المنزل كتابًا وسنة.
فالصوفي حينما يتحدَّث لا يتحدَّث بالعلم المستفاد من الكتاب والسنة، وإنما يعبر عن تجربته، أو كما يقول الغزالي: “لا يتكلم إلا عن حاله”([10])، خلافا للعالم الذي يصف الأمر على ما هو عليه في نفس الأمر.
ومن القصص التي تبرز هذا المعنى: ما يُروى أن تلميذًا لابن عربي قال له: إن الناس ينكرون علينا علومنا، ويطالبوننا بالدليل عليها، فقال ابن عربي ناصحًا: إذا طالبك أحد بالدليل والبرهان على علوم الأسرار الإلهية فقل له: ما الدليل على حلاوة العسل؟ فلا بد أن يقول لك: هذا علم لا يحصل إلا بالذوق، فقل له: هذا مثل ذلك([11]).
ومعنى هذا أن التجربة الصوفية لا يصحّ نقدها، لا بالعقل ولا بالشرع، فإنها تعبير عما ذاقه، ولا يمكن لأحد الحكم على ذلك مهما كانت النتائج مستغرَبة ومنكَرة.
يقول أبو حامد الغزالي: “ومهما أشار عليه المعلِّم بطريق في التعلم فليقلّده، وليدع رأيه؛ فإن خطأ مرشده أنفع له من صوابه في نفسه؛ إذ التجربة تطلع على دقائق يستغرب سماعها مع أنه يعظم نفعها”([12]).
وهذا هو سرّ الصراع القديم بين الصوفية والفقهاء، فالصوفي يأبى أن يحدَّه الفقيه المتشرّعُ بحدود الشريعة، ويرى دومًا المتشرعَ ينكر عليه ما لم يفهمه ولم يجرِّبه، بل يشبّههم ابن عربي بالفراعنة مع الرسل!!
يقول ابن عربي: “وما خلق الله أشقَّ ولا أشدَّ من علماء الرسوم على أهل الله المختصين بخدمته العارفين به من طريق الوهب الإلهي، الذين منحهم أسراره في خلقه، وفهَّمَهُم معاني كتابه وإشارات خطابه، فهم لهذه الطائفة مثل الفراعنة للرسل عليهم السلام”([13]).
ومن الطبيعي إذا كان التصوف تجربة شخصية أن أصحابها يختلفون جدًّا في التعبير عما ذاقه ووجده كل واحد في طريق تجربته، وفي شرح آثارها ونتائجها.
ولعل هذا يفسّر لنا تعدُّد الطرق الصوفية، وكثرتها جدًّا، وتنوّع أورادها وأحوالها، فكل طريقة تلتزم بما يأمر به الشيخ الذي يأمرهم بخلاصة تجربته وذوقه.
يقول أبو حامد الغزالي: “ولذلك لا نرى اثنين منهم يُثبت أحدهما لصاحبه قدما في التصوف أو يثني عليه، بل كل واحد منهم يدَّعي أنه الواصل إلى الحقِّ والواقف عليه؛ لأن أكثر ترددهم على مقتضى الأحوال التي تعرض لقلوبهم”([14]).
رابعًا: احتجاج الصوفية بالتجربة:
احتجاج الصوفية بالتجربة أمرٌ مشهورٌ معلوم، وكما سبق فإن حقيقة التصوُّف قائمة على التجربة وطلب آثارها، ومن أمثلة احتجاجهم بالتجربة:
1- إباحتهم السماع، وتحسينهم لأمره؛ اعتمادًا على التجربة، وما يثمره السماع من المواجيد والأحوال التي يحتاجها المريد في طريق سلوكه، ولهذا يعتبر السماع عملًا أساسيًّا من أعمال التصوّف، فالسماع يُثْمِرُ (الوجد) الذي هو من أهم مصادر الاستدلال عند الصوفية، ويمكن أن يكون سببًا في الكشف والإلهام، الذي يعتبر أحد الغايات لدى الصوفي، ولذلك فخَّم الغزالي من شأنه جدًّا، وأفرد له بابًا كاملا في إحيائه([15]).
وقد أنكر ابن القيم رحمه الله على الصوفية احتجاجهم بالذوق على إباحة السماع، فقال: “وهذا الاحتجاج قد سلكه أرباب السماع المحدَث الشيطاني، الذي هو محض شهوة النفس وهواها، واحتجوا على إباحة هذا السماع بما فيه من الذوق والوجد واللذة”([16]).
2- تسويغهم لكثير من البدع والأذكار المحدثة؛ بحجة أنها من المجرَّبات.
فمن ذلك: الذكر باللفظ المفرد (الله الله) أو بضمير الغيبة (هو هو) أو بالحروف التي لا معنى لها، كالذكر بـ(أهم سقك حلع يصو)، وغيرها من الطلاسم التي يزعمون أنها أحرف نورانية، جرّبها الصالحون فوجدوا نفعها!([17]).
وكذلك ذكر الله بأمساء معينة، بأرقام محددة، بلا أي دليل من الشرع سوى الاعتماد على المجربات.
وللصوفية كتب جمع فيها أصحابها هذه المجرَّبات، ومن أشهرها: كتاب (فتح الملك المجيد المؤلف لنفع العبيد وقمع كل جبّار عنيد)، والمشتهر بمجرَّبات الديربي الكبير، لأحمد بن عمر الديربي (ت1151هـ)([18])، “وهو ستة وثلاثون بابا في خواص الآيات والسور، وفي ذكر حجب مجربة تنفع -بزعمه- لكثير مما عجز عنه الطب الحديث، وفي رقى مشهورة النفع للحيات والعقارب، وطرد البق والبرغوث وجلب الحمام والسمك، وختامه شعوذة بحيل لإمساك النار وإدخال بيضة في قمقم، وإشعال النار في شمعة طين، ثم فيه فائدة للمقامرين ليتعرفوا على البيضة التي تكسر جميع البيض!! إلى آخر ما فيه من مجربات يحث عليها أهلها”([19]).
وهذا كله يبيّن خطر التوسّع في أمر المجرّبات، وأنه فتَح الباب لكثير من البدع والتحريفات، بل والدجَل والزندقة.
خامسًا: موقف أهل السنة من الاستدلال بالمجرَّبات:
1- لا يختلف أهل السنة أن التجربة لا تعتبر مصدرًا مستقلًّا للاستدلال في الأمور الدينية الشرعية، وإنما يستأنس بها في المواضع التي تصلح لذلك، كما سنبينها قريبا.
فلا يجوز الاستناد في شرعية عبادة على كونها من المجرَّبات، ما لم يثبت دليلها من المصادر المعتبرة، وهي الكتاب والسنة وغيرهما من مصادر الاستدلال التابعة لهما.
وكل عبادة لا دليل عليها من الشرع فهي بدعة محدثة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ»([20]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “ولا يجوز أن يقال: إن هذا مستحبّ أو مشروع إلا بدليل شرعيّ، ولا يجوز أن يُثبت شريعة بحديث ضعيف، لكن إذا ثبت أن العمل مستحبّ بدليل شرعيّ وروي له فضائل بأسانيد ضعيفة جاز أن تروَى إذا لم يعلم أنها كذب”([21]).
وقال الشوكاني رحمه الله: “السنة لا تثبت بمجرد التجربة، ولا يخرج بها الفاعل للشيء معتقدًا أنه سنة عن كونه مبتدِعًا، وقبول الدعاء لا يدلّ على أن سبب القبول ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد يجيبُ الله الدعاءَ من غير توسّل بسُنَّةٍ، وهو أرحم الراحمين، وقد تكون الاستجابة استدراجا”([22]).
وفيه تنبيه مهم على أن ظهور بعض النفع لا يدل على شرعية العبادة، وسوف يأتي بيان ذلك.
فإن قيل: أليست التجربة والحسّ يفيدان العلم كما سبق، ودلائل الحق لا تتعارض؟! فإذا دلت التجربة على شيء وجب أن يكون الشرع موافقا لها.
فالجواب من وجهين:
الوجه الأول: أن التجربة التي تفيد العلم هي التجربة المبنية على قانون العلية، والمركبة من الحس والنظر العقلي والقياس الصحيح، الذي استخرج فيه الوصف المناسب المؤثر بالسبر والتقسيم، دفعا للمزاحم والأوصاف غير المؤثرة، والتجربة المبنية على التكرار المطّرد، وأين التجربة الصوفية من هذا كله؟!
الوجه الثاني: أن التجربة إنما تفيد في ثبوت الحكم الكلي، مثل قولنا: كل من شرب كذا حصل له كذا، أو من فعل كذا أو استمع لكذا وجد أثر كذا، أما أن تحكم على هذا الشيء بحل أو حرمة، أو قبول أو رد، فهذا يعرف من الشرع.
ولذلك كانت التجربةُ مستعملةً في أبواب الطبّ والأمور الطبيعية والعلوم التجريبية، بل هي عمدة الاستدلال في هذه الأبواب، ولا يصحّ استعمالها في الأمور الشرعية، إلا على وجه الاستئناس، كما سنبين.
فهذا هو الضابط الأول في هذا الباب.
2- ظهور بعض النفع لعبادة معينة لا يدل على مشروعيتها، فالتجربة محكوم عليها بالشرع، لا حاكمة عليه، والنفع قد يكون لسبب غير السبب المخالف للشرع، وقد يكون استدراجًا أو لغير ذلك من الأسباب.
ولو صحَّحنا العبادة أو الطريقة -لظهور نفعها، أو أنها جُرِّبت فنفعت- لصحَّحنا عبادة الأوثان، وعبادة الصلبان، وسائر أهل الضلال والبدع.
قال ابن القيم رحمه الله: “ولو كان ذلك كذلك [أي: الاحتجاج بالذوق] لاحتجَّ كلُّ مبطلٍ على باطله بالذوق والوجد، كما تجده في كثير من أهل الباطل والإلحاد، فهؤلاء الاتحادية -وهم أكفر الخلق- يحتجّون بالذوق والوجد على كفرهم وإلحادهم… وكل معتقد لأمر جازم به مستحسن له يذوق طعمه، فالملحد يذوق طعم الاتحاد والانحلال من الدين، والرافضي يذوق طعم الرفض ومعاداة خيار الخلق، والقدري يذوق طعم إنكار القدر ويعجب ممن يثبته، والجبري عكسه، والمشرك يذوق طعم الشرك حتى إنه ليستبشر إذا ذكر إلهه ومعبوده من دون الله، ويشمئزّ قلبه إذا ذكر الله وحده”([23]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “ومن هنا يغلط كثير من الناس، فإنهم يبلغهم أن بعض الأعيان من الصالحين عبدوا عبادة، أو دعوا دعاء، ووجدوا أثر تلك العبادة وذلك الدعاء، فيجعلون ذلك دليلا على استحسان تلك العبادة والدعاء، ويجعلون ذلك العمل سنة كأنه قد فعله نبي، وهذا غلط لما ذكرناه، خصوصا إذا كان ذلك العمل إنما كان أثره بصدق قام بقلب فاعله حين الفعل، ثم يفعله الأتباع صورة لا صدقًا، فيضرّون به؛ لأنه ليس العمل مشروعا فيكون لهم ثواب المتبعين، ولا قام بهم صدق ذلك الفاعل الذي لعله بصدق الطلب وصحة القصد يُكَفّرُ عن الفاعل”([24]).
3- التجربة يستأنس بها فيما له أصل شرعي، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: “أما التجربة، فإن كان المجرب له أصل، فإن التجربة تكون تصديقًا له، وإن لم يكن له أصل، فإن كانت هذه التجربة في أمور محسوسة، فلا شك أنها عمدة، وإن كانت في أمور شرعية فلا”([25]).
ومما يدخل في ذلك:
– أن التجربة إذا جاءت وفقًا للدليل الشرعي فإن ذلك يزيد المؤمن طمأنينة، وقد يجعل العلم به يقينيا بعد أن كان ظنيا، أو يزيد فيه اليقين.
ومن أمثلة ذلك، قوله تعالى {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]، وكذلك قوله تعالى {وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 259].
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ؛ فَإِنَّ فِي إِحْدَى جَنَاحَيْهِ دَاءً وَالْأُخْرَى شِفَاءً»([26]).
فإن التجارب الحديثة([27]) تؤكد هذا المعنى وتقويه، بل ذكر ابن القيم رحمه الله ذلك عن بعض أطباء زمانه([28]).
ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أَمَا إِنَّكَ لَوْ قُلْتُ حِينَ أَمْسَيْتُ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ مَا ضَرَّكَ عَقْرَبٌ حَتَّى تُصْبِحَ»، قَالَ أَبُو صَالِحٍ: فَعَلَّمْتُهَا ابْنَتِي وَابْنِي، فَلَدَغَتْهُمَا فَلَمْ يَضُرَّهُمَا بِشَيْءٍ([29]).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من نزل منزلا ثم قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق؛ لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك»([30]).
قال أبو العباس القرطبي: “هذا خبر صحيح، وقول صادق، علمنا صدقه دليلا وتجربة، فإني منذ سمعت هذا الخبر عملت عليه، فلم يضرني شيء إلى أن تركته، فلدغتني عقرب بالمهدية ليلا، فتفكّرت في نفسي، فإذا بي قد نسيت أن أتعوّذ بتلك الكلمات”([31]).
ويخبر ابن القيم عن تجربته في الاستشفاء بالفاتحة وماء زمزم، فيقول: “وأما شهادة التجارب بذلك فهي أكثر من أن تذكر، وذلك في كل زمان، وقد جربت أنا من ذلك في نفسي وفي غيري أمورا عجيبة، ولا سيما مدة المقام بمكة، فإنه كان يعرض لي آلام مزعجة، بحيث تكاد تقطع الحركة مني، وذلك في أثناء الطواف وغيره، فأبادر إلى قراءة الفاتحة، وأمسح بها على محل الألم، فكأنه حصاة تسقط، جربت ذلك مرارا عديدة، وكنت آخذ قدحا من ماء زمزم فأقرأ عليه الفاتحة مرارا، فأشربه فأجد به من النفع والقوة ما لم أعهد مثله في الدواء، والأمر أعظم من ذلك، ولكن بحسب قوة الإيمان وصحة اليقين، والله المستعان”([32]).
والأمثلة على ذلك من كلام العلماء كثيرة، وفيما ذكرنا كفاية.
– ومما يستأنس به في التجربة أيضا: ردّ الحديث الباطل المخالف للتجربة؛ فإن من علامات ضعف الحديث أن يكون مشتملًا على ما يخالف الحسّ.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله أمثلةً لبعض الأحاديث التي يشهد الحسّ بتكذيبها، مثل: “الباذنجان لما أُكِل له”، و”الباذنجان شفاء من كل داء”، ثم قال: “قبّح الله واضعهما؛ فإن هذا لو قاله يوحنس -أمهر الأطباء- لسخِر الناس منه، ولو أُكِل الباذنجان للحمى والسوداء الغالبة وكثيرٍ من الأمراض لم يزدها إلا شدَّة، ولو أكله فقير ليستغني لم يفِده الغنى، أو جاهلٌ ليتعلّم لم يفده العلم”([33]).
إلا أنه ينبغي التحرّز من تضعيف الأحاديث الثابتة الصحيحة؛ لتوهم مخالفتها للحس والتجربة كما هو ديدن كثير من المبتدعة من المعتزلة قديما، وأفراخهم العقلانيين حديثًا.
ومن ذلك ردّ بعضِهم للحديث المتَّفق عليه: «مَنْ تَصَبَّحَ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعَ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً لَمْ يَضُرَّهُ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ سُمٌّ وَلاَ سِحْرٌ»([34]) بدعوى مخالفته للحسّ والتجربة، مع أنه يمكن توجيه الحديث بما لا يخالف الحسّ، وهذا كثير في كلام أهل العلم، فمنهم من خصّه بنوع نخل معين لا يُعْرف الآن، ومنهم من جعل ذلك ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من جعلها خاصية لتمر المدينة، ولكن عدم وجود الأثر لا يدلّ على كذب الكلام، فقد يكون تخلّفه لفقد شرط أو لوجود مانع([35]).
وقد ذكر أبو العباس القرطبي أنه يُرجع في فهم الحديث للتجربة؛ فيستعان بها في فهم المراد من الحديث، فقال: “الذي ينبغي أن يقال: إن ذلك خاصة عجوة المدينة، ثم هل ذلك مخصوص بزمان نطقه أو هو في كل زمان؟ كل ذلك محتمل، والذي يرفع هذا الاحتمال التجربة المتكررة، فإن وجدنا ذلك كذلك في هذا الزمان علمنا أنها خاصة دائمة، وإن لم نجده مع كثرة التجربة علمنا أن ذلك مخصوص بزمان ذلك القول”([36]).
وهذا أحد وجود العمل بالتجربة، وهو ترجيح أحد المعاني أو الأحكام؛ استئناسا بالتجربة.
والمقصود أنه ينبغي استفراغ الوسع في توجيه الدليل الشرعي على معنى مناسب، وعدم التسرع برده بزعم مخالفته للحس أو التجربة.
سادسًا: التجربة والأذكار:
من أكثر الأبواب التي يُسْتَدَلُّ فيها بالمجربات: باب الأذكار، وهناك من يكون استدلاله بها منضبطًا، ومنهم من يتوسّع توسّعًا لا يشكّ الناظر فيه أنه بدعة وانحراف، وبين هذا وذاك درجات، وبيان ذلك في النقاط التالية:
النقطة الأولى: ذكرنا قبل ذلك أن التجربة إذا كانت تستند إلى أصل شرعي جاز العمل بها، ومن ذلك أبواب (الأذكار والدعاء)، فإن الأصل جواز الدعاء بغير المأثور، كما دل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «ثم يتخيّر من الدعاء أعجبَه إليه فيدعو»([37])، ولعموم حديث: «لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم»([38]).
النقطة الثانية: جواز الدعاء بغير المأثور مشروط بأن يكون الذكر أو الدعاء ذكرًا شرعيّا، فلا يجوز أن يذكر الله بذكر مبتدع، كالذكر باللفظ المفرد (الله) أو بضمير الغيبة (هو) أو بالطلاسم التي لا يفهم معناها؛ فإن الله عز وجل ونبيه صلى الله عليه وسلم لم يشرعا مثل هذا النوع من الأذكار التي لا تفيد معنى تامّا، فإن اللفظ المفرد أو الضمير لا يفيد معنى إلا إذا كان مع كلام تامّ يحسن الوقف عليه، كالذكر بكلمة التوحيد: (لا إله إلا الله) و(الله أكبر) ونحو ذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “فأما الاسم المفرد مظهرا مثل (الله، الله) أو مضمرًا مثل (هو، هو)، فهذا ليس بمشروع في كتاب ولا سنَّة، ولا هو مأثور أيضًا عن أحد مِن سلف الأمة، ولا عن أعيان الأمة المُقْتدى بهم، وإنما لهج به قوم من ضلال المتأخرين، وربما اتبعوا فيه حالَ شيخ مغلوب فيه مثلما يروى عن الشبلي أنه كان يقول: (الله، الله) فقيل له: لم لا تقول: لا إله إلا الله؟ فقال: أخاف أن أموت بين النفي والإثبات! وهذه مِن زلات الشبلي التي تُغفر له لصدق إيمانه وقوة وجْده وغلبة الحال عليه([39])؛ فإنه كان ربما يجنُّ، ويُذهب به إلى المارستان، ويَحلق لحيته، وله أشياء من هذا النمط التي لا يجوز الاقتداء به فيها وإن كان معذورًا أو مأجورًا، فإن العبد لو أراد أن يقول: لا إله إلا الله ومات قبل كمالها لم يضرّه ذلك شيئًا؛ إذ الأعمال بالنيات، بل يكتب له ما نواه”([40]).
وقد نص العلماء في مواطن كثيرة على عدم جواز الدعاء بما لا يعرف معناه، قال الخطابي رحمه الله: “فأما الرقى فالمنهي عنه هو ما كان منها بغير لسان العرب، فلا يدرى ما هو؟ ولعله قد يدخله سحر أو كفر، فأما إذا كان مفهوم المعنى، وكان فيه ذكر الله تعالى، فإنه مستحب متبرك به، والله أعلم”([41]).
فإن قيل: ولكنها جربت فنفعت؟
فالجواب: كما سبق، فإن حصول المنفعة لا يدل على إباحة الشيء، والكهان والعرافون تحصل لهم منفعة من الاتصال بالشياطين، فيخبرونهم ببعض المغيَّبات النسبية، ولا يكون ذلك دليلا على صحة ما يفعلونه.
وقد يكون الدعاء في ذاته مشتمِلا على كراهة شرعية، ولكن يستجيب الله تعالى لصاحبه، إما لضرورة وقعت في قلبه، فيجيبه الله لهذه الضرورة وهذا الالتجاء، وإن كان ما دعا به في ذاته مكروها، فلا يكون النفع على الدعاء.
وهذا لا يحدث فقط لأهل الإسلام، بل يحدث كذلك لغيرهم من النصارى واليهود والمشركين، فقد يدعون الله تعالى بإخلاص واضطرار، فيجيبهم الله تعالى، وقد تحدث لهم الخوارق العلمية والعملية، ولا يكون ذلك دليلا على صحة ما هم عليه، أو ما يدعون ويتعبدون به.
وقد سبق أن بيَّنّا أن التجربة لكي تفيد العلم لا بد فيها من التكرار المطّرد، ثم السبر والتقسيم لاستخراج الوصف المؤثّر واستبعاد المزاحم، وهذا ما لا ينتبه له من يحتجّ بالتجارب في تجويز مثل هذا.
النقطة الثالثة: أنه لا يجوز تخصيص مكان أو زمان أو اعتقاد فضيلة معينة لذكر بغير دليل شرعي؛ فإن التخصيص حكم شرعي يتوقف على الدليل، وإذا لم يوجد الدليل كان التخصيص بدعة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “وليس لأحدٍ أنْ يَسُنَّ للنَّاسِ نوعًا من الأذكار والأدعية غير المسنون، ويجعلها عبادةً راتبةً يواظب الناس عليها كما يواظبون على الصلوات الخمس، بل هذا ابتداعُ دينٍ لم يأذن الله به”([42]).
وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: “ويحتمل أن يقال: إن هذه الخصوصيات بالوقت أو بالحال والهيئة، والفعل المخصوص يحتاج إلى دليل خاص يقتضي استحبابه بخصوصه. وهذا أقرب”([43]).
والنصوص في ذلك عن أهل العلم كثيرة جدا([44])، وهي تدل على بدعة تخصيص عبادة بعدد أو زمان أو مكان معين بلا دليل شرعي.
مناقشة كلام ابن القيم في ذلك:
قال ابن القيم رحمه الله: “ومن تجريبات السالكين التي جربوها فألفوها صحيحة أن من أدمن: (يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت) أورثه ذلك حياة القلب والعقل. وكان شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- شديد اللهج بها جدًّا، وقال لي يوما: لهذين الاسمين وهما الحي القيوم تأثير عظيم في حياة القلب، وكان يشير إلى أنهما الاسم الأعظم، وسمعته يقول: من واظب على أربعين مرة كل يوم بين سنة الفجر وصلاة الفجر: (يا حي يا قيوم، لا إله إلا أنت، برحمتك أستغيث) حصلت له حياة القلب، ولم يَمُتْ قلبُه”([45]).
وهذا النقل من أكثر ما يحتجّ به المتوسّعون في أمر المجرّبات، وهذا النقل فيه أمران:
الأمر الأول: الذكر بالحيّ القيوم، وكلمة التوحيد، وهذا ذكر مشروع لا إشكال فيه.
الأمر الثاني: تخصيصه وقتًا معينًا، وهو بين سنة الفجر وصلاة الفجر، وتحديده بأربعين مرة، وهذا بلا شكّ مُشْكِل؛ لما سبق، فكيف يمكن فهمه؟! نقول:
أولا: المقرر المحكم من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه لا يجوز التخصيص في العبادة بغير دليل، قال رحمه الله: “شرع الله ورسوله للعمل بوصف العموم والإطلاق لا يقتضي أن يكون مشروعا بوصف الخصوص والتقييد”([46]).
ثم ضرب أمثلة لذلك بالذكر الذي ورد الترغيب فيه عامّا، فلا يشرع تقييده بغير دليل. ولا شكّ أن كلام العالم المحكم مقدَّم على ما يُحْكى عنه من وقائع وأفعال تكون مخالفة لتقريراته.
ثانيا: يحتمل أن يكون لابن تيمية دليل في ذلك، وإن كان ضعيفًا، إلا أنه رأى الاستئناس به في ذلك.
ثالثا: إذا لم يكن دليل على التخصيص، فإن الصحيح ردّ هذا الكلام مع جلالة قائله، ولا عصمة لأحد كائنا من كان.
وقد سئل الشيخ عبد الرحمن البراك عن هذا فأجاب بقوله، بعد أن بيَّن فضل هذين الاسمين: “وأما تعيينُ ثواب للتَّوسل بهما وتعيينُ زمان وعدد فهذا يحتاج إلى دليل عن الصَّادق المصدوق المعصوم صلَّى الله عليه وسلَّم، قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59]. والشرائع لا تثبت بالتَّجربة ولا بالاستحسان، بل بنصٍّ مِن كتاب أو سنَّة، ومَن جرَّب شيئًا مِن الأدعية الصَّحيحة وانتفعَ به في دينه أو دنياه فذلك مِن فضل الله، ولا بأس أن يتحرَّاه ويدعو به، لكن لا يدَّعي أنَّه واجبٌ أو مستحبٌّ أو أنَّه سنَّة، فيدعو إليه ويرغِّبُ غيرَه فيه، ولعلَّ ما حصل مِن أحوال باطنة في قلبه لم تكن بسبب هذا التَّوسّل وحده، بل لِمَا قامَ بالقلب مِن صدق التَّوجه واللَّجأ، لذلك لا أرى ما ذهبَ إليه شيخُ الإسلام وابنُ القيم -رحمهما الله- مِن خصوصية هذا التَّوسل زمانًا وعددًا، وإنَّما يدعو به المسلم كما يشاء، دون تقييد بزمان ولا عدد، نسأله تعالى أن يحيي قلوبنا بالعلم والإيمان، والله أعلم”([47]).
وذكر الشاطبي رحمه الله في معرض إبطال احتجاج الصوفية بالمنامات على كثير من هذه التقييدات في الأذكار، إلا إذا كانت تستند على أصل شرعي، فقال: “كما يُحْكى عن الكتاني رحمه الله قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت: ادع الله أن لا يميت قلبي، فقال: قل كل يوم أربعين مرة: يا حي يا قيوم!لا إله إلا أنت)، فهذا كلام حسن لا إشكال في صحته، وكون الذكر يحيي القلب صحيح شرعا، وفائدة الرؤيا التنبيه على الخير، وهو من ناحية البشارة، وإنما يبقى الكلام في التحديد بالأربعين، وإذا لم يوجد على اللزوم استقام”([48]).
ولعل هذه الجملة الأخيرة تضبط الباب بالكلية، فمثل هذه المجربات التي تستند إلى أصل شرعي، إذا لم تفعل على اللزوم والدوام واعتقاد فضيلة مخصوصة، ولم تجعل وردًا مسنونًا استقام الأمر، ولم يكن ممنوعًا، مع الاتفاق على أن الذكر بالمأثور الوارد أفضل وأنفع وأسلم.
سابعًا: التجربة والرقى:
من أكثر ما حدث فيه التوسع كذلك اعتمادًا على المجربات: باب الرقى، وقد أفضى التوسع في ذلك لصور من الدجل والشعوذة التي لا ينبغي الاختلاف في المنع منها، وهذا ما دفع بعض العلماء لتضييق هذا الباب وعدم التوسّع فيه، والاقتصار على ما ورد دليله، إغلاقا لباب الدجل والابتداع([49]).
وبيان ذلك في النقاط التالية:
النقطة الأولى: أن العلماء توسعوا في باب الرقية، اعتمادًا على قوله صلى الله عليه وسلم: «لا بأس بالرقى ما لم تكن شركًا»([50]).
ونقل الحافظ ابن حجر رحمه الله الإجماع على جواز الرقية إذا توفرت فيها ثلاثة شرائط:
1- أن تكون بالكتاب والسنة أو بأسماء الله وصفاته.
2- أن تكون باللسان العربي أو بما يفهم معناه.
3- أن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها([51]).
وقد ورد وصف القرآن كله بأنه شفاء ورحمة، فإذا تم تخصيص بعض الآيات بالرقية بها لمناسبة تقتضي ذلك فظاهر النصوص وصنيع أكثر العلماء جواز ذلك.
النقطة الثانية: أنه في باب الرقى لا بد من التفريق بين الأسباب الظاهرة والباطنة، والأسباب الظاهرة هي التي تكون العلاقة فيها بين السبب والمسبب ظاهرة، بخلاف الأسباب الباطنة.
ومن ادعى في شيء أنه سبب للشفاء مثلا، فإما أن يكون هذا سببًا ظاهرًا، فوجب أن يثبت ذلك بالتجربة، وإما أن يكون سببًا باطنًا فوجب أن يثبت دليله من الشرع.
وما سوى ذلك، فهو كذب على الشرع وعلى القدر.
فالرقية دعاء مع تطبّب، وقد يستخدم الراقي فيها الأسباب الكونية مع الشرعية.
فالأسباب الظاهرة الكونية: مردّها إلى التجربة.
والأسباب الباطنة الشرعية: مردُّها إلى الدليل الشرعي.
وبهذا ينضبط الباب، والله أعلم.
النقطة الثالثة: مع ما سبق تقريره من جواز الرقية بالآيات الواردة في القرآن، والمجرب نفعها في الرقية، فإن الواجب عدم اعتقاد فضيلة مخصوصة لا دليل عليها، فإن هذا من القول على الله بلا علم.
فما يصنّفه البعض في باب (خصائص السور والآيات) جاعلا لكل سورة فضيلة وعلاجًا لمرض معين مخصوص به، لا يشك أنه من البدع المحدثة.
وفرق بين أن يرقي المسلم بآيات جرب نفعها، وأن يجعل هذا النفع المجرب الخاصّ نفعًا عامّا لكل الناس، ويقلّد الناس بعضهم بعضًا فيه.
وقد يتسامح في الشيء اليسير، ولا يتسامح مع التوسع الكثير الذي يفضي إلى صور منكرة.
الخاتمة والخلاصة:
– أن المجرّبات عند الصوفية ليست هي المجربات التي يبحث المناطقة والأصوليون في إفادتها العلم من عدمه، ولا تنطبق عليها شروطها، ولا تقاربها في ذلك.
– أنه لا يجوز إحداث عبادة لا دليل عليها اعتمادًا على التجربة، وهذا بإجماع العلماء.
– أن التصوّف في حقيقته تجربة تعتمد على الذوق والوجد.
– أن الصوفية يتوسعون في الاستدلال بالتجربة على بدع لا دليل عليها من الأساس.
– أنه لا يجوز الاستدلال بالمجربات استقلالا، ولكن يجوز الاستئناس بها فيما له أصل شرعي.
– أنه يجوز الاستئناس بالمجربات في الأذكار، ما لم تتضمن محظورًا شرعيًّا، أو تفضي إلى صورة منكرة.
– أنه يجوز الاستئناس بالمجربات في باب الرقى؛ لأن الأصل جواز الرقى ما لم تكن شركًا، مع النصح بعدم التوسع في ذلك.
والله تعالى أعلى وأعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) انظر: لسان العرب (1/ 161، 162).
([2]) الموسوعة الفقهية (10/ 158).
([3]) باختصار من: محك النظر، للغزالي (ص: 233).
([4]) الرد على المنطقيين، ابن تيمية (ص: 94).
([5]) الرد على المنطقيين (ص: 93).
([6]) ينظر: الرد على المنطقيين (ص: 92-99).
([7]) الرسالة القشيرية (ص: 39).
([8]) معجم مصطلحات الصوفية، عبد المنعم الحفني (ص: 104).
([9]) اللمع، السراج الطوسي (ص: 14، 15).
([10]) إحياء علوم الدين (2/ 243).
([11]) نقلا عن كتاب: نحو قراءة منهجية للتراث الصوفي، د. أبو اليزيد العجمي (ص: 25).
([13]) الفتوحات المكية (1/ 279).
([15]) انظر باب السماع في إحياء علوم الدين (2/ 268-305).
([16]) مدارج السالكين (3/ 410).
([17]) شاهد مثلا سؤال وجواب للشيخ علي جمعة -شيخ الطريقة الصديقية الشاذلية في مصر- عن دليل الذكر بـ(أهم سقك حلع يصو)، فأجاب بأن ذلك من المجربات:
([18]) ترجمته في الأعلام للزركلي (1/ 188). وقد جاء في فتاوى اللجنة الدائمة التحذير من كتابه هذا، ووصفه بأنه يحتوي على شركيات وأدعية مبتدعة وطلاسم، فلا يجوز اقتناؤه. انظر: فتاوى اللجنة الدائمة، المجموعة الثانية (2/ 189).
([19]) الحذر من السحر، لخالد الجريسي (1/ 163).
([20]) رواه البخاري (2697)، ومسلم (1718).
([21]) مجموع الفتاوى (10/ 408).
([22]) تحفة الذاكرين (ص: 215).
([23]) مدارج السالكين (3/ 410).
([24]) اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 215).
([25]) اللقاء الشهري، لقاء رقم: 37، سؤال رقم: 26.
([27]) ومنها بحث الدكتور مصطفى إبراهيم حسن: (الداء والدواء في جناحي الذباب)، على الرابط:
http://www.eajaz.org/pdf/12.pdf
([28]) انظر: زاد المعاد (4/ 112).
([29]) رواه ابن أبي شيبة (29989).
([32]) مدارج السالكين (1/ 80).
([34]) رواه البخاري (5445)، ومسلم (2047).
([35]) لمراجعة كلام العلماء في شرح الحديث ينظر: شرح مشكل الآثار للطحاوي (14/ 362)، وشرح النووي على صحيح مسلم (3/ 14)، وفتح الباري (10/ 239).
([37]) رواه البخاري (835)، ومسلم (402).
([39]) وهذا من إنصاف شيخ الإسلام رحمه الله والتماسه الأعذار.
([40]) مجموع الفتاوى (10/ 556).
([42]) مجموع الفتاوى (22/ 511).
([43]) إحكام الاحكام (1/ 200).
([44]) راجع: الاعتصام، للشاطبي (1/ 345)، والموافقات (3/ 211).
([45]) مدارج السالكين (1/ 446).
([46]) مجموع الفتاوى (20/ 196).
([47]) فتوى رقم (7888). موقع الشيخ عبد الرحمن البراك.
([49]) انظر: البدع العملية المتعلقة بالقرآن الكريم، أحمد بن عبد الله آل عبد الكريم، فصل البدع المتعلقة بالرقى (ص: 405).