موقف الشافعية المتأخرين من بدع القبور ومن الاستغاثة..وتحرير موقف الشيخين السبكي والهيتمي
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
المقدمة:
إن تمييز المسائل والأقوال المنسوبة إلى الآراء الفكرية والمذاهب العقدية، وتحرير أصولها وتصويرها تصويرًا دقيقًا لهو من أهمّ تحديات الجدل العقديّ المعاصر، لا سيما وقد دخلت على طوائف من الناس صنوف من البدع والشركيات، ويتأكد الأمر في الواقع المعاصر حيث انحسار العلم وفشوّ القلم؛ فلا يصلح -والحال كذلك- الإطلاقات من غير تحرير، ولا تكوين القناعات من غير تدبر ولا تفكير.
فإن العقول المُتلقّية متفاوتة، والقناعات المبنية على الإجماليات قد تؤدي إلى نوع شطط في المنهجية لدى بعض الأفراد، وظهور جماعات التكفير من جهة، وظهور الغلو في الشرك من جهة أخرى.
ومن هذه القضايا التي تحتاج إلى تحرير ومزيد بسط قضية بيان مذهب الشافعية في شرك القبور، وتحرير موقف الشيخين تقي الدين السُبكي وابن حجر الهيتمي -رحمهما الله- من الاستغاثة بغير الله، فإن البعض يظن أنهما يجيزان تلك الشركيات، وهذا أمر ليس بصحيح، ولا يُظَنّ بعلماء الأمة -مهما اختلفنا معهم في بعض آرائهم- أنهم يجوّزون الشرك الصريح المقطوع به. فقد دخل في المسألة نوع تساهل بسبب الإجمال، وبسببها ظهر من يُكفر العلماء من جهة، وظهر أيضا من يتعصّب لأقوالهم من جهة أخرى، وكلا الطرفين مذموم.
وقبل البدء يحسن بيان المراد بمفردات عنوانها، وذلك فيما يلي:
المراد بالشافعية المتأخرين:
الشافعية هم المعتنون بفقه الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه، وهم من أعلام هذه الأمة المحمّدية الذين أثرَوا الفقه الإسلامي بالمدوّنات الفقهية، والتحقيق في الأصول؛ لِما عُرف عن الشافعي بالبناء الفقهي الأصولي المعتمد على الحديث النبوي.
والمتأخرون من الشافعية قد يُراد بهم الفقهاء الذين قرروا معتمَد المذهب بصورته الحالية، وهو ما اعتمده ابن حجر الهيتميّ والرمليّ بحسب ما اتّفق عليه الشيخان النووي والرافعي حسب قواعد الترجيح المعلومة عند الشافعية.
وقد يُراد بمتأخري الشافعية: المصطلح العام ليضمّ كافة المتأخرين المنتسبين للشافعية من الفقهاء والمحدّثين والمفسّرين وغيرهم، وهذا المفهوم هو المراد من هذا البحث؛ لأنه يشمل هذا وذاك، ولِما فيه من دفع الشبهة عن جُملتهم.
ولما كان ثمة اعتقاد شائع عند الصوفية المعاصرين أنّ متأخّري الشافعية أجازوا الاستغاثة بغير الله، بناءً على كلامٍ مُجمل لبعضٍ منهم، حتى سمعنا من يقول: إن دعاء غير الله جائز على قول الشافعية! ولما انتشر اعتقاد شائع أن ابن تيمية شذّ عن الأمة وقال بشركية دعاء غير الله، وخالفه الجمهور= لزم بيان المسألة بعدلٍ وإنصاف، دفعا للاشتباه الحاصل في كلام هؤلاء الأعلام من الشافعية دون إفراطٍ أو تفريط.
بيان المراد ببدع القبور:
إن زيارة القبور مشروعة بالإجماع، وهي سُنة دعا إليها النبي صلى الله عليه وسلم وفعلها، فعن عبد الله بن بريدة، عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوهَا»([1])، لكن ثمة فرق بين الزيارة الشرعية التي يُراد منها الاعتبار والدعاء للمتوفى والزيارة التي تخالف الهدي النبوي وتتضمّن البدع والشركيات، وفي ذلك صنّف الإمام محيي الدين البركوي الحنفي ) 981ه) مُصنفًا جليلًا أسماه: “زيارة القبور الشرعية والشركية” أبان فيه الفرق بين المقامين.
ولعل أشهر حديث متداوَل هو حديث الصحيحين: «لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»([2])، وكذا ورد النهي عن تعظيم القبور بتعليق القناديل والسرج عليها، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج)([3]).
والسبب في ذلك يعود إلى أن تعظيمها يشوب إخلاصَ القلب لله، والمسلم إنما جاء المسجدَ وقلبه معلَّق بالله، فوجود قبر مُعظَّم بداخل المسجد سيصرف جزءا من القلب إلى هذا القبر المعظَّم لا محالة، حتى وإن لم يدعُه من دون الله.
وكذا الأمر في اتخاذ السرج والقناديل على القبور بما يوحي بتعظيمها؛ لأجل ذات العلة المُشار إليها آنفًا، وهذا اللعن الوارد في الأحاديث في مجرد التعظيم وإيقاد القناديل عليها دون صرف شيءٍ من العبادة من الذبح والنذر أو اتخاذه وسيطًا بين العبد وبين الله، فكيف بمن صرف العبادة لأصحاب هذه القبور؟!
وينبغي هنا التنبيه إلى غلط ذكره بعض المعاصرين، وهو أن اتخاذ القبور مساجد ليست هي المساجد المبنية، وإنما معنى المساجد أي: السجود إلى القبور، وهذا التأويل غلط من قائله؛ وذلك لأن الأحاديث الأخرى صرحت ببناء المساجد، ومنه حديث في الصحيحين: «أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا، ثم صوروا تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة»([4]).
المراد بالاستغاثة:
الاستغاثة: طلب الغَوْث، وهو التخليص من الشِّدة والنِّقمة، والعون على الفَكاك من الشدائد.
جاء في لسان العرب لابن منظور: “غوَّث الرجل واستغاث: صاح: واغوثاه، وتقول: ضُرِب فلان فغوَّث تغويثًا، قال: واغوثاه”([5]).
والاستغاثة بالأحياء فيما يقدرون عليه جائزة ولا شيء فيها، كاستغاثة الغريق بمن ينقذه، أو استغاثة المريض بالطبيب، أو طلب خدمة من صديق.
وأما الاستغاثة الشركية -وهي المعنيَّة في البحث- فهي الاستغاثة بالأولياء والصالحين والملائكة والأحجار والطلب منهم ما هو من خصائص الألوهية؛ كإنزال المطر وشفاء المريض وإغاثة الملهوف وسعة الأرزاق ونحو ذلك.
موقف الشافعية المتأخرين من بدع القبور والاستغاثة:
لا يختلف موقف علماء الشافعية المتأخرين في هذه المسألة عن موقف غيرهم من علماء الأمة الإسلامية، فهم موافقون للإجماع في ذلك، ودونك بعض أقوالهم:
– قال النووي (676هـ): “قال العلماء: إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجدًا خوفا من المبالغة في تعظيمه والافتتان به، فربما أدى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثير من الأمم الخالية، ولما احتاجت الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- والتابعون إلى الزيادة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كثر المسلمون وامتدّت الزيادة إلى أن دخلت بيوت أمهات المؤمنين فيه -ومنها حجرة عائشة رضي الله عنها مدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما- بنوا على القبر حيطانا مرتفعة مستديرة حوله؛ لئلا يظهر في المسجد فيصلي إليه العوام، ويؤدي إلى المحذور، ثم بنوا جدارين من ركني القبر الشماليّين، وحرفوهما حتى التقيا؛ حتى لا يتمكن أحد من استقبال القبر؛ ولهذا قال في الحديث: (ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتَّخذ مسجدا)، والله تعالى أعلم بالصواب”([6]).
وقول النووي السابق: “خوفا من المبالغة في تعظيمه والافتتان به، فربما أدى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثير من الأمم الخالية” فيه ردّ على من يزعم أن المبالغة في تعظيم القبر الشريف لا تصِل إلى الكفر، فهذا النووي -وهو ركن الشافعية الركين- يصرِّح بذلك بما لا مزيد عليه.
ثم إنه يتبيّن بوضوح تعليل النووي لدخول القبر الشريف في المسجد النبوي بسبب التوسعة، وهو نفس تعليل العلماء السلفيين سواءً بسواء، بخلاف تعليل غيرهم ممن أهملوا هذه العلة والعذر الخاص، وجعلوا وجود القبر داخل المسجد النبوي دليلًا -في حد ذاته- على استحسان بناء المساجد على القبور.
– وقالَ ابنُ الرِّفعة (710هـ): “ولا نزاعَ في أنه لو قالَ: أذبح للنبيِّ صلى الله عليه وسلم أو تقرُّبًا إليه أنه لا يحلُّ أكلُها، ونصَّ الشافعيُّ في الأم على أنه لو قالَ: أهللتُ بها لعيسى بن مريم حَرُمَ أكلُها”([7]). وقد وافقه الدميري (808هـ) فقد حكى عن نص الشافعي رضي الله عنه أنه قال: “إذا قال: أذبح للنبي صلى الله عليه وسلم أو تقربا له أنه لا يحل أكلها”([8]).
والمراد من ذلك أن الشافعية نصوا على أن الذبح للنبي صلى الله عليه وسلم هو ذبح لغير الله، ولا يحل أكل الذبيحة، فكيف يكون حكم الذبح لقبور الأولياء والصالحين؟! ومعلوم بضرورة العقل والشرع أنهم دونه في المنزلة.
– وقال الحافظ شمس الدين الذهبي (748هـ) في ترجمة السيدة نفيسة بنت أمير المؤمنين الحسن بن زيد بن الحسن بن علي رضي الله عنهما: “ولجَهَلَة المصريّين فيها اعتقاد يتجاوز الوصف، ولا يجوز مما فيه من الشرك، ويسجدون لها، ويلتمسون منها المغفرة، وكان ذلك من دسائس دعاة العبيدية”([9]).
– وذكر الحافظ ابن كثير (774هـ) ترجمة السيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد القرشية الهاشمية في حوادث سنة (٢٠٨هـ)، ونقل عن ابن خلِّكان أنَّه قال: “ولأهل مصر فيها اعتقاد”، ثم قال رحمه الله معلّقا: “وإلى الآن قد بالغ العامة في اعتقادهم فيها وفي غيرها كثيرا جدّا، ولا سيما عوامّ مصر، فإنهم يُطلقون فيها عبارات بشيعة مجازفة تؤدّي إلى الكفر والشرك، وألفاظًا كثيرة ينبغي أن يعرفوا أنه لا تجوز… والذي ينبغي أن يعتقد فيها ما يليق بمثلها من النساء الصالحات، وأصل عبادة الأصنام من المغالاة في القبور وأصحابها، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتسوية القبور وطمسها، والمغالاة في البشر حرام، ومن زعم أنها تفكّ من الخشب أو أنها تنفع أو تضر بغير مشيئة الله فهو مشرك”([10]).
– ويقول الحافظ ابن كثيرٍ أيضًا متحدثًا عن البكري الذي ردّ عليه ابن تيمية في كتابه (الاستغاثة): “له رد على الشيخ تقي الدين ابن تيمية في مسألة الاستغاثة بالمخلوقين، أضحك فيها على نفسه العقلاء، وشمت به فيها الأعداء؛ لأن مثله مثل ساقية صغيرة كدرة الماء لاطمَت بحرا عظيمًا صافي الماء قد مُلِئ درًّا وجوهرًا وحكمةً وعِلما، أو كرملة صغيرة أرادت زوال جبل شامخ عن محله حطما…. -إلى أن قال:- والمقصود أن الشيخ -يعني ابن تيمية- رد على البكري ونقَض قوله نقضا أجاد فيه وأفاد، وبين ما فيه من حقّ وباطل في مجلدة كبيرة، أبطل فيها أنواع الشرك الاعتقادي والعملي وما يتفرع منهما بالأدلة والبراهين القاطعة المقبولة التي تسرّ قلوب أهل السنة وتقرّ أعينهم عند سماعها، وتسود وجوه أهل الأهواء والبدع ويرهقها قتر وذلة، فرحم الله من قبِل الحقّ ونصره وردّ الباطل وخذله وأهله“([11]).
– وقال ابن النحاس الشافعي (814هـ): “ومنها إيقادهم السرج عند الأحجار والأشجار والعيون والآبار، ويقولون: إنها تقبل النذرَ، وهذه كلها بدع شنيعة ومنكرات قبيحة تجب إزالتها ومحو أثرها، فإن أكثر الجهال يعتقدون أنها تنفع وتضرّ وتجلب وتدفع وتشفي المرض وتردّ الغائب إذا نذر لها، وهذا شرك ومحادة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم”([12]).
– وقال الحافظ الفقيه أبو زرعة العراقي (826هـ): “سُئلتُ عمن يزور الصالحين من الموتى فيقول عند قبر الواحد منهم: يا سيدي فلان أنا أستجير بك أو متوسل بك أن يحصل لي كذا وكذا…”، فأجاب بعد أن بيَّن أن زيارة القبو مندوبة، قال: “ولا امتناع في التوسل بالصالحين، فإنه ورد التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وبصلحاء أمته وأما قوله: (أنا أطلب منك أن يحصل لي كذا وكذا) فمُنكر، فالطلب إنما هو من الله تعالى، والتوسل إليه بالأعمال الصالحة أو بأصحابها أحياءً وأمواتا”([13]).
فقد أجاب ولي الدين العراقي رحمه الله بجواز التوسّل، وبحرمة الطلب من المقبورين، ووصفه بالأمر المنكر.
– وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني (852هـ) جوابًا عن سؤال خاص بقبر السيدة نفيسة: “ذَكَر بعض أهل المعرفة أن هذا القبر الذي يُزار ليس قبرها، لكنها دُفِنت في تلك البُقعة بالاتفاق، وما زال قبرها مقصودًا بالزيارة، وقد غلا في ذلك بعض العوامّ بل كلّهم، حتى إن بعضهم يقع في الكُفر وهو لا يشْعُر، والله المستعان”([14]).
وفي كلام ابن حجر رحمه الله تنبيهات:
1- أن كل العوام قد غلوا في القبر، فالوصف بالغلوّ في القبور ليس وصفًا مستهجَنًا كما يدَّعي بعض المتأخرين من الصوفية وغيرهم.
2- أن بعض هؤلاء العوام يقعون في الكفر دون أن يشعروا، فلم يقل ابن حجر مثلًا: يجب استصحاب أصل الإسلام! ولا قال: مهما فعلوا فلا يمكن أن يقعوا في الكفر؛ لأنهم يشهدون الشهادتين!
ولو تأملت هذا -دون أي انطباع مُسبَق- لعلمت أن قول غلاة الصوفية والأشعرية المتأخرين بوجوب تأويل أفعال من يشهد الشهادتين هو قول فاسد عقلًا ونقلًا، وفيه إهدار لأبواب الردّة في كتب الفقه؛ إذ من المعلوم أن المرتدّ كان مسلما ثم كفر، كطوائف الباطنية، ومن أنكر آية من القرآن أو جحد معلوما من الدين بالضرورة. ولم يقل الفقهاء:يجب تأويل أفعالهم. نعم، قد يُعذر الفاعل لجهله حتى يُعلَّم، لكن هذا باب آخر غير الحكم على الفعل نفسه([15]).
– وقال تقي الدين المقريزي (845هـ): “والناس في هذا الباب -أعني: زيارة القبور- على ثلاثة أقسام: قوم يزورون الموتى فيدعون لهم، وهذه هي الزّيارة الشرعيّة. وقوم يزورونهم يدعون بهم، فهؤلاء هم المشركون في الألوهيّة والمحبّة. وقوم يزورونهم فيدعونهم أنفسهم، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد»، وهؤلاء هم المشركون في الربوبيّة. وقد حمى النبيّ صلى الله عليه وسلم جانب التّوحيد أعظم حماية؛ تحقيقًا لقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}”([16]).
وقال أيضًا: “وبالله إنّ الفتنة بهذا المكان [أي: المكان الذي يزعم بعضهم بأنه قبر أبي تراب النخشبي]، والمكان الآخر من حارة برجوان الذي يعرف بجعفر الصادق لعظيمة، فإنهما صارا كالأنصاب التي كانت تتخذها مشركو العرب، يلجأ إليهما سفهاء العامّة والنساء في أوقات الشدائد، ويُنزلون بهذين الموضعين كربهم وشدائدهم التي لا يُنزلها العبد إلا بالله ربه، ويسألون في هذين الموضعين ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى وحده، من وفاء الدين من غير جهة معينة، وطلب الولد ونحو ذلك، ويحملون النذور من الزيت وغيره إليهما، ظنا أن ذلك ينجيهم من المكاره، ويجلب إليهم المنافع، ولعمري إن هي إلّا كرّة خاسرة، ولله الحمد على السلامة”([17]).
– وقال الفقيه بدر الدين حسين بن عبد الرحمن الأهدل الشافعي الأشعري (855هـ) صاحب كتاب تحفة الزمن: “والاستغاثة بالمشايخ الأموات والأحياء مما أطبق عليه المتأخرون من المتصوّفة، ولم يُنقل عن السلف المتقدمين؛ لمعرفتهم بأنّ الاستغاثة بغير الله تعالى لا تجوز ولا تنفع، قال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} [الإسراء: 56] وغير ذلك من الآيات. ولم يُنقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أذِن لأحد من الصحابة رضي الله عنهم في الاستغاثة به في شدّةٍ قطّ، وكان حاضرًا يوم أُحد فلم يملك من الأمر شيئًا كما قال الله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128]، وإنما يُستشفع به إلى الله تعالى في تفريج الكرب وتسهيل الشدائد، وكذا بالصالحين من عباد الله، فاعلم ذلك ولا تتبع جهالات المتأخرين”([18]).
– وقال جلال الدين السيوطي (911هـ): “وهذه العلة التي من أجلها نهى الشارع التي أوقعت الناس في الشرك الأكبر.. ولهذا تجد أقواما كثيرة من الضالين يتضرّعون عند قبور الصالحين”([19]).
تنبيهات هامة فيما ورد عن العلماء:
التنبيه الأول: تحريم دعاء غير الله لا يعني نفي الشرك عنه:
الفقهاء أحيانًا يقولون عن دعاء غير الله: محرم أو منكر، ونحو ذلك من العبارات، فلا يعني ذلك أنه ليس من الشرك عندهم، وبيان ذلك: أن الفقيه في مقام بيان الحرام والحلال فقط، وليس شرطًا أن يُبيّن علة كل تحريمٍ يحكم به.
كما أن المحرمات والمنكرات تتضمّن الشركيات أيضا، فمعلوم عند الأصوليين: أن الأعم يستلزم مطلق الأخصّ وإن لم يستلزم الأخصّ عينا، وقد صرح الفقهاء -كما سبق- بعلة الشرك في مواضع عديدة، فبطل بذلك ما ادَّعوه.
وإنما نبهتُ على هذه المسألة لكثرة ما يُجادل به الخصوم من تلك العبارات المُجملة.
التنبيه الثاني: مسألة اعتقاد التأثير:
يذكر بعض الفقهاء أن الإنسان يكفر إذا اعتقد أن غير الله مؤثر، فيفهَم منها بعض المعاصرين أنه إذا دعاه بما لا يقدر عليه ولم يعتقد فيه التأثير بذاته لم يكفر!
وهذا خلل في فهم مقاصد العلماء، فـإن قصدهم بتلك العبارة أن من اعتقد في الأولياء التأثير -وهو التصرف في الكون- فقد كفر، وهذا الاعتقاد إنما يُعرف من ظواهر الممارسات، كأن يدعوه بطلب الشفاء وإنزال المطر وفك الكربات في البر والبحر، ونحو ذلك مما لا يجوز صرفه إلا لله.
ومراد الفقهاء: أن من عُرف من حاله وممارساته وأقواله استلزام اعتقاد التأثير والتصرُّف، يكفر
ومما يؤكد هذا الفهم أنه قد مرَّ بنا كلام العلماء في الحكم بشركية الممارسات التي تحصل من العامة عند القبور ولم يتأولوا لهم؛ وذلك لأنه لا انفكاك -أساسًا- بين طلب ما لا يقدر عليه وبين اعتقاد التأثير في الولي، فكلاهما متلازمان.
ثم نقول: إن اعتقاد استقلالهم عن الله بالتأثير لا يقول به أحد، ولا حتى عباد الأوثان من المجوس والهندوس وغيرهم، فجميع الديانات لديها فلسفة “الإله الأعظم” الذي له التأثير المطلق، وبقية الأصنام لها تأثير جزئي تابع للإله الأعظم.
ويُقرر هذه الحقيقة محيي الدين شيخ زاده حيث يقول: “مَن يعبد هذه الأحجار المنحوتة في هذه الساعة لا يعبدها على اعتقاد أنّ لها تأثيرًا وتدبيًرا في انتظام أحوال هذا العالم السفلي؛ فإن بطلان ذلك معلوم ببديهة العقل، وما عُلم بطلانه ببديهة العقل لا يذهب إلى صحته الجمّ الغفير والقوم الكثير، فلا بد أن يكون لهم في عبادتها منشأ غلط”([20]).
ويقصد محيي الدين زادة أن اعتقاد التأثير أو التدبير في هذه الأصنام معلوم بطلانه في بديهة العقل، ووفق علم المنطق: أن المعلوم بالبديهة لا يذهب إلى صحته الجم الغفير من الناس، لا سيما وأن في كل أمة من الأمم العقلاء والمُفكرين والعلماء وغيرهم، فلا بد وأن لهم تأويلًا لدعاء هذه الأصنام، وهي أنها غير مؤثرة بذاتها، أو تشفع لهم عند الله ونحو ذلك من التبريرات.
ويقرر تلك الحقيقة أيضا السعد التفتازاني، فإنه ذكر أن عباد الأصنام لا يعتقدون التأثير في أصنامهم، قال: “فلهم في ذلك تأويلات باطلة”، ذكر خمسة تأويلات، ثم قال في الخامس: “الخامس أنه لما مات منهم من هو كامل المرتبة عند الله تعالى اتخذوا تمثالا على صورته، وعظموه تشفُّعًا إلى الله وتوسلًا”([21]).
التنبيه الثالث: ما ورد من استغاثات في القصائد الشعرية:
قد وُجد لبعض العلماء المتأخرين بعض القصائد الشعرية في المديح النبوي، والتي استُدلّ بها على جواز الاستغاثة بغير الله، والرد على ذلك من وجهين:
الوجه الأول: أساليب النداء في الأدب والشعر قد يُترخّص فيها ما لا يُترخص في غيرها، فلا يُراد حقيقة النداء، ومنه قول القائل يرثي أهل الأندلس بعدما أصبحت أطلالًا:
فيا ساكني تلك الديار كريمة سقى عهدكم مزن يصوب نميرها
فقد ينادي الشاعر الموتى ويُحاورهم بما يحتمله الخيال الأدبي والشعري، بل هذا يحصل خارج الشعر أيضًا، فقد يقول قائل عند قبر أبيه: يا أبت، أرأيت ما حلّ بي من بعدك! ولا يريد حقيقة النداء بالضرورة.
وكذا نقول في نداء الرسول صلى الله عليه وسلم مثل: “يا رسول الله، يا علم الهدى”، لا يُراد منه الطلب الصريح، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “(يا محمد يا نبي الله) هذا وأمثاله نداء، يطلب به استحضار المنادى في القلب، فيخاطب المشهود بالقلب، كما يقول المصلي: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته)، والإنسان يفعل مثل هذا كثيرا، يخاطب من يتصوّره في نفسه وإن لم يكن في الخارج من يسمع الخطاب”([22]).
وفي هذا الأمر يخطئ بعض السلفيين حيث يجعلون مطلق النداء شركًا أكبر، وفي المقابل يستدلّ الصوفية بهذه الأشعار على جواز صرف العبادة لغير الله، والأمر لا هذا ولا ذاك.
فكثير من الناس يترخّص في الشعر ما لا يترخص في غيره؛ لما فيه من أساليب مجازية، وتقريرات العالم تؤخذ من كتبه التي خصّها لذلك، لا من كتاب خصّه بالشعر والأدب!
الوجه الثاني: أن أكثر العلماء ممن يستدلّون بقصائدهم لم نجد فيها طلبًا صريحًا، إنما غايتها التوسل أو التشفع به صلى الله عليه وسلم، وبعضهم يُصوّر استغاثته به يوم القيامة في أرض المحشر بأسلوبٍ أدبي وشعري، فيظن الظان أن هذا العالم يدعوه من دون الله!
إذن نستطيع أن نقول بوضوح: إن ما وُجد من أشياء ظاهرها استغاثة إنما أرادوا بها الاستغاثة به إلى الله، وبعضهم يريد استغاثة الناس به يوم القيامة ويُصوّر ذلك في قالب شعري، وهذا معنى صحيح إجمالًا، لكن يفهمه الصوفية أنه على خلاف مراد العالم، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في كلامٍ جليل: “والناس المشهورون -أي: العلماء- قد يقول أحدهم من المسائل والدلائل ما هو حق أو فيه شُبهة حق، فإذا أخذ الجهال ذلك فغيَّروه صار فيه من الضلال ما هو من أعظم الإفك والمحال”([23]).
وهذه الأمور وإن كانت في قالب شعري قد لا يُراد بها حقيقتها كما ذكرنا، إلا أنها من الأمور الخاطئة التي لا يُوافقون عليها، وذلك لما تحتمله اللفظة من معان موهمة، وهذا الأمر ليس خاصًّا بالشافعية، بل هو أمر انتشر في المتأخرين، وفعله بعض الحنابلة كالشيخ يحيى الصرصري الحنبلي، يقول ابن تيمية: “ولهذا أنكرنا على الشيخ يحيى الصرصري ما يقوله في قصائده في مدح الرسول من الاستغاثة به مثل قوله: بك أستغيث وأستعين وأستنجد ونحو ذلك”([24]).
وتقدير كلام الصرصري: أستغيث بك وأستنجد بك إلى الله، وحذف “إلى الله”، ولا يقصد ظاهر القول -كما يظن الصوفية المعاصرون-، ومع ذلك أنكره عليه ابن تيمية؛ لما تحتمله اللفظة من معان باطلة.
وقد سبق أن بيّنا أن الحافظ ابن كثير -وهو فقيه شافعي- يوافق ابن تيمية في هذه المسألة، وأن ما قرره في كتابه “الاستغاثة والرد على البكري” هو الحقّ، وجعل مخالفيه من المبتدعة الضُّلال، ومعلوم أنه إذا اختلف أهل العلم في مسألة ما بين حق وباطل وهدى وضلال فالواجب هو الرد إلى الله ورسوله؛ لأنه -والحال كذلك- لا يصحّ عقلًا صحّة القولين معًا.
تحرير مذهب التقي السبكي وابن حجر الهيتمي:
بداية نقول: لا ينبغي أن يَظُنَّ مسلم بعلماء الإسلام أنهم يجوّزون الشرك الصريح بالله كسؤال البدوي والجيلاني جلبَ الرزق والشفاء وغير ذلك، فإن هذا مما ينزه عنه المسلم العادي، فكيف بعالم مثل الهيتمي الذي ألف الزواجر والإعلام وغيرهما؟!
وقبل أن نحرر مذهبهما لا بدّ من بيان أمور:
الأمر الأول: أن ابن حجر الهيتمي يرى تكفير الداعي لغير الله فيما لا يقدر عليه، والاعتقاد في الأولياء، ونقل عبارة الفروع لابن مفلح في كتابه (الإعلام بقواطع الإسلام) وأقره عليها.
قال الهيتمي: “وحاصل عبارة الفروع أن مما يكون كفرًا جحد صفة له تعالى اتفق على إثباتها… ومن ذلك أن يجعل بينه وبين الله تعالى وسائط يتوكّل عليهم ويدعوهم ويسألهم قالوا: إجماعا)([25]).
ومعلوم أن ابن مفلح نقلها عن ابن تيمية، وتتابع الحنابلة على إيرادها في مصنفاتهم واعتمدوها، والهيتمي أقرهم على هذا الإجماع.
الأمر الثاني: أن ابن حجر الهيتمي يرى في (الزواجر) أن المساجد المبنية على الأضرحة يجب هدمها وهي أضر من مسجد الضرار.
قال: “الكبيرة الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتسعون: اتخاذ القبور مساجد، وإيقاد السرج عليها، واتخاذها أوثانًا، والطواف بها، واستلامها، والصلاة إليها”([26]).
وقال: “وأسباب الشرك الصلاة عندها واتخاذها مساجد أو بناؤها عليها. والقول بالكراهة محمول على غير ذلك؛ إذ لا يُظن بالعلماء تجويز فعل تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم لعنُ فاعله، وتجب المبادرة لهدمها وهدم القباب التي على القبور، إذ هي أضر من مسجد الضرار”([27]).
وعليه فهو لا يُقر أبدا ما يحصل عند أضرحة الأولياء، وإنما تجويزه الاستغاثة -بالمعنى الذي سوف نوضحه- إنما هو أمر خاصّ بالرسول حال زيارته. وهذا واضح من اسم كتابه (الجوهر المنظم في زيارة القبر المعظَّم) فهو خاص بزيارة القبر الكريم.
الأمر الثالث: أن الهيتمي يرى في (الجوهر المنظم) في معرض الكلام على منع التبرك: أن المبالغة في تعظيم قبر الرسول بما لم يأذن به الشرع تصل إلى الكفر.
فقال: “قال الحليمي وغيره من أئمتنا: يُكره إلصاق الظهر البطن بجدار القبر المُكرم. انتهى. وينبغي أن يُلحق بجداره الجدار الحائز عليه صلى الله عليه وسلم وكان القياس تحريمهما، لكن لما كان شأن ذلك عند فاعليه أنهم لا يفعلونه إلا لقصد التبرك به جهلًا بما يليق به من الأدب؛ اقتضى ذلك رفع الحرمة وإثبات الكراهة، ولا عبرة بذلك القصد في نفي الكراهة أيضًا زجرًا لهم عن التهجم عليه بما لم يؤذن لهم فيه. من ثم تعيّن على كل أحد ألا يُعظمه إلا بما أذن الله لأمته من جنسه مما يليق بالبشر، فإن مجاوزة ذلك تُفضي إلى الكفر والعياذ بالله“([28]).
مفهوم الاستغاثة عند السبكي والهيتمي:
سنكتفي بما قاله السبكي؛ لأن الهيتمي ناقل لكلام السبكي بحروفه.
فمعنى الاستغاثة وأنواعها كما شرحها السُبكي هي:
النوع الأول: طلب الغوث بالدعاء، أي: مستغيثا لله عز وجل بمقام النبي صلى الله عليه وسلم، وهو التوسل، ولذلك سُميت استغاثة، ويُسميها السبكي الاستغاثة بالنبي أي: الاستغاثة بالله بالنبي، والباء هنا هي باء الاستعانة، وحذف المفعول به.
والتوسل أمر سائغ على مذهب كثير من أهل العلم، لكن ينبغي أن يُسمّى توسلا وليس استغاثة، والخطأ هنا في الاصطلاح.
يقول السبكي: “وقد تكون الاستغاثة بالنبي على وجه آخر، وهو أن يقول: استغثت اللهَ بالنبي، كما يقول: سألت الله بالنبي، فيرجع إلى النوع الأول من أنواع التوسل، ويصحّ قبل وجوده وبعد وجوده، وقد يحذف المفعول به ويقال: استغثتُ بالنبي صلى الله عليه وسلم، بهذا المعنى”([29]).
النوع الثاني: طلب الغوث من صاحب القبر نفسه وهو نوعان:
أ- أن تطلب من النبي نفسه عند الزيارة الشفاعة والدعاء، وهي من البدع المُنكرة التي انتشرت في المتأخرين، لكنها ليست من الشرك الأكبر على الصحيح([30])، لما فيها من شبهة أن النبي حي في قبره ويسمع المصلي عليه، وحديث مالك الدار، وهذه الأدلة -على ضعفها- أقامت نوعَ شبهة، وبنوا عليها أن النبي صلى الله عليه وسلم قد يدعو للسائل.
يقول السبكي: “فيصح أن يقال: استغثت النبيَّ وأستغيث بالنبي بمعنى واحد، وهو طلب الغوث منه بالدعاء ونحوه، على النوعين السابقين في التوسل من غير فرق، وذلك في حياته وبعد موته. وقد تكون الاستغاثة بالنبي على وجه آخر، وهو أن يقول: استغثت الله بالنبي… ولا مانع من ذلك، فإن دعاء النبي لربه تعالى في هذه الحالة غير ممتنع، وقد وردت الأخبار على ما ذكرنا، ونذكر طرفا منه”([31]).
ب- أن يطلب منه الأمر المقصود على سبيل التسبب بشرط أن يكون مما تحتمله اللغة العربية، واستدل السبكي بقوله: “أسألك مرافقتك في الجنة”، على اعتبار أن النبي صلى الله عليه وسلم سيدعو للسائل.
ولا بد على مذهبهما أن يكون السؤال مما تحتمله اللغة والمجاز العقلي كالمثال السابق تمامًا، فلا يجوز على مذهبهما أن يقال: “اشفني وعافني يا رسول الله”، ونحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله، ونص على ذلك السبكي في شفائه حيث قال: “ولا شك أن من أدب السؤال أن يكون المسئول مُمكنا.كذلك لا نسأل رسول الله ما لا يُمكن أن يجيب إليه”([32])
وإلى هنا انتهى تحرير مذهب الشيخين السبكي الهيتمي.
وَخلاصة رأيهما في المسألة وزبدته: أن الاستغاثة بالرسول ليست هي الطلب المباشر من الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما معناها: التوسل أو طلب الدعاء منه.
ولما كانت هذه المسألة الأخيرة -أعني طلب الدعاء- ظاهر لفظها شركيًّا وتؤول إلى الشرك، والعامة لا تُفرق بين الألفاظ ومجازاتها = كان الصواب ما عليه الجمهور، وهو تحريمها، وقد أخطأ فيها السبكي والهيتمي -غفر الله لهما- وإن كانا متأوّلين.
لذلك يقول الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: “ونحن كذلك لا نقول بكفر من صحَّت ديانته، وشهر صلاحه، وعلم ورعه وزهده، وحسنت سيرته، وبلغ من نصحه الأمّة ببذل نفسه لتدريس العلوم النافعة والتآليف فيها، وإن كان مخطئًا في هذه المسألة -أي: الاستغاثة بالرسول- أو غيرها؛ كابن حجر الهيتمي، فإنا نعرف كلامه في الدرّ المنظم، ولا ننكر سعة علمه؛ ولهذا نعتني بكتبه، كشرح الأربعين، والزواجر، وغيرها، ونعتمد على نقله إذا نقل؛ لأنه من جملة علماء المسلمين”([33]).
ومما سبق نعلم أنهما لم يُجوّزا الاستغاثة بالأولياء، وإنما جوَّزا صورةً معينة من التوسل والتشفُّع، وخصّوها بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لما له من حقّ الشفاعة التي أعطاه الله إياها، ومن هذا الباب الدقيق التبس الحقّ على الصوفية المتأخّرين والمعاصرين بناءً على كلامٍ مُشتبه لبعض العلماء، وبنّوا عليه الشركَ المحض، وظنّوا أنّ صرف العبادة لغير الله من مسائل الخلاف السائغ! ثم توسّعوا فيه ليشمل الاستغاثة بالأولياء والصالحين واستحسان بناء المساجد على القبور ونحو ذلك، ومعلوم أن البدعة تبدأ شبرًا وتنتهي كُفرًا، والعياذ بالله تعالى.
ولا شك أنه لا يجوز أن تقول: “أستغيث بالرسول” حتى ولو قصدت الاستغاثة بدعائه، فإن الشرع الحنيف جاء بمراعاة الألفاظ المُجملة الموهمة، قال الله عز وجل: {لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: 104].
وإذا أردتَ بيان ذلك بوضوح وجلاء، فانظر إلى كيفية تعامل النبي عليه الصلاة والسلام مع واقعة قول الجارية: “وفينا نبيّ يعلم ما في غد”، فنهاها النبي عليه الصلاة والسلام عن قولها، وقال لها: «لا تقولي هذا، وارجعي إلى ما كنتِ تقولين»([34]).
مع أنه قد يكون لكلامها محمل صحيح، وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام قد يعلم بعض الغيبيات بإطلاع الله له عليها، لكن لما كان ذلك قد يكون ذريعة إلى الفهم المغلوط، وإلى اختلاط مقام النبي عليه الصلاة والسلام بما يختصّ به الله تعالى نهى عنه لسد هذا الباب؛ حماية لجناب التوحيد، وحسما لمادة الشرك.
ومن ذلك أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وضِّئ ربك، اسق ربك، وليقل: سيدي ومولاي، ولا يقل أحدكم: عبدي، أمتي، وليقل: فتاي، فتاتي، غلامي»([35]).
ومن ذلك أيضا ما أُثر عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} قَالَ: “الأَنْدَادُ هُوَ: الشِّرْكُ، أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ عَلَى صَفَاةٍ سَوْدَاءَ فِي ظُلْمَةِ اللَيْلِ. وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ، وَحَيَاتِكَ يَا فُلانَةُ، وَحَيَاتِي. وَيَقُولُ: لَوْلا كَلْبُهُ هَذَا لأَتَانَا اللُّصُوصُ، وَلَوْلا الْبَطُّ فِي الدَّارِ لأَتَى اللُّصُوصُ. وَقَوْلُ الرَّجُلِ لِصَاحِبِهِ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ، وَقَوْلُ الرَّجُلِ: لَوْلا اللَّهُ وَفُلَانٌ. لَا تَجْعَلْ فِيهَا فلان، فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ بِهِ شِرْكٌ”([36]). مع أن هذا كله لا يكون شركا إلا إذا اعتقد القائل أن السبب مستقلّ بالتأثير، لكن لما كانت العبارة موهمة، وفيها من سوء الأدب مع الله تعالى تحاشاها السلف، ونهَوا عنها؛ حماية لجناب التوحيد، وحسمًا لمادة الشرك.
وخلاصة مذهب الشافعية:
1- تحريم تعظيم القبور وبناء المساجد عليها.
2- جواز التوسل بالصالحين إلى الله تعالى، وتحريم الاستغاثة بهم وجعلوه شركًا أكبر.
3- حكموا عمليا على أن العامة يقعون في الشرك، وهذا خلاف ما يقرره القبورية من أنه يجب تأويل أفعالهم.
4- السبكي والهيتمي قد وافقا الشافعية في جميع ما سبق، إلا أنهما جوّزا الاستغاثة بالرسول بمعنى التوسل به إلى الله تعالى أو سؤاله الدعاء، وهذه الأخيرة من البدع كما أسلفنا.
ومما سبق يتبيّن بجلاء موافقة الشافعية لبقية المذاهب الفقهية في تحريم بدع القبور بكافة أنواعها، واعتبار بعضها من الشرك الأكبر المخرج من الملة، وأنهم مطبقون على ذلك، ومخالفة بعضهم إنما هي مخالفة في أمورٍ مستثناه لا تنسحب لتكون أصلًا عاما أو قاعدة مطردة عند قائله.
وصلِّ اللهم على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلِّم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([2]) رواه البخاري (1390)، ومسلم (529).
([3]) رواه أبو داود (3236)، والترمذي (320)، والنسائي (2543)، ابن ماجه (1575)، وقال الترمذي: “حديث حسن”، وصححه ابن حبان (3179).
([4]) رواه البخاري (427)، ومسلم (528).
([7]) نقله الأذرعي في قوت المحتاج شرح المنهاج (10/ 35)، وأقره عليه.
([9]) سير أعلام النبلاء (١٠/ ١٠٦).
([10]) البداية والنهاية (١٠/ ٢٦٢-٢٦٣).
([11]) تلخيص كتاب الاستغاثة، لابن كثير (1/ 50-52).
([12]) تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين (ص: ٥٢٢).
([13]) فتاوى الفقيه ولي الدين أبي زرعة العراقي (ص: ١٦٦-١٦٨).
([14]) ينظر: الجواهر والدرر، للسخاوي (ص: ٩٤٩).
([15]) وينبغي هنا التنبيه على خطأ فتوى منسوبة لابن حجر، ذكرها مُرسلةً الشيخ السجاعي الصوفي (1197هـ)، قال: “وقد سُئل الحافظ شهاب الدين ابن حجر العسقلاني عن من قال: (شيء لله يا سيدي عبد القادر)، فقال له شخص: هذا شرك، فهل دعوى الإشراك خطأ من قائله؟… فأجاب بما حاصله: إن اعتقد القائل أن حصول الكائنات بإرادة الله تعالى ولم يقصد حقيقة الدعاء لم يُمنع، وكان الأولى أن يقول: أسأل الله وأتوسل بعبده فلان أن يقضي حاجتي، أما الإطلاق كون ذلك إشراكا فلا، إنما تكلم في ذلك الشيخ ابن تيمية….إلخ”.
هذه الفتوى لا تثبت عن الحافظ ابن حجر؛ لأنها غير موجودة في كتبه، وقد ذكرها الشيخ السجاعي في شرح الوظيفة الزروقية (ص: 88، 89) من غير ذكر مصدر، وبينه وبين ابن حجر 445 سنة وهي فترة طويلة جدًّا، ولا يصح -والحال كذلك- الإرسال، إنما يجب الإحالة إلى كتبه.
ويستبعَد صدور مثل هذه الفتوى عمَّن هو في زمان الحافظ؛ لأن ابن وهبان -رأس الأحناف في زمانه- (٧٦٨هـ) قال في منظومته -كما في حاشية الطحطاوي على الدر المختار (6/ 455)، ومجمع الأبحر للحلبي (2/ 514)، وحاشية الإصباح للشرنبلالي (ص: 45)-:
ومن قال: “شي لله” بعضٌ مُكفّر ** ويُخشى عليه الكفر بعضٌ يقرّر
فنقل ابن وهبان أن بعض العلماء يكفر قائل ذلك، والبعض الآخر يقول: يُخشى عليه الكفر. فكيف يخفى على ابن حجر العسقلاني تقريرات علماء زمانه؟!
([16]) تجريد التوحيد المفيد (ص: ١٩-٢٠).
([17]) المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار (٣/ ٩٤).
([18]) مطالب أهل القربة في شرح دعاء أبي حربة [مخطوط لوحة: 83 ب، ص168]، وهذا المخطوط محفوظ بمكتبة الشيخ أحمد محمد يوسف حربة، وموجود في مخطوطات جامعة هارفارد برقم 1714
([19]) الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع (ص: 138).
([20]) حاشية الشيخ محيي الدين شيخ زاده على تفسير البيضاوي (٤/ ٧٨).
([22]) اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم (2 /319).
([25]) الإعلام بقواطع الإسلام (ص: ٢١٣).
([28]) الجوهر المُنظم (ص: 114، 133).
([30]) قال الشيخ ابن عثيمين في تعليقه على كتاب اقتضاء الصراط المستقيم: “سؤال الميت أن يسأل الله أو سؤال قضاء الحاجة = بينهما فرق، إذا سأل قضاء الحاجة فهذا شرك أكبر، وإذا سأله أن يسأل الله فهذا بدعة وضلالة”.
وهذه المسألة مبسوطة في الإجابة عن سؤال طلب الدعاء من الأموات على موقع الشبكة الإسلامية: