مظاهر التصوُّف في المدينة المنورة من خلال رحلة الحبشي:(الشاهد المقبول بالرحلة إلى مصر والشام وإسطنبول)
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
تمهيد:
مظاهرُ التصوُّف في الحجاز كانت باديةً قبل قرون كثيرة، بيدَ أنها زادَت في القرون المتأخِّرة، وصار التصوُّف مرتعًا خصبًا في الحرمين الشَّريفين قبل دخولهما تحت حكم الدولة السعودية.
وفي هذهِ الورقة وصفٌ للحالة العقديَّة في المدينة المنوَّرة عام 1328هـ، بحكاية مقتطفات من تاريخها من كتاب: “الشاهد المقبول بالرحلة إلى مصر والشام وإسطنبول”([1])، للسيد شيخ بن محمد بن حسين الحبشي الحضرمي (1265-1348هـ)، وهو تاريخ مهمٌّ متعلِّق بأواخر سنوات العثمانيين فيها، قبل دخول الملك عبد العزيز رحمه الله الحجاز، بل وقبل استقلال الأشراف بالحكم، لنتعرَّف مظاهرَ التصوُّف التي طالت المدينة في تلك الأيام، ويدخل في موضوعنا المواقف التي أوردها المؤلِّف للصوفية الواردين إلى المدينة، وما فعله المؤلِّف في مصر فيما يتعلَّق بنشر كتب التصوُّف.
وينبه إلى أن بعض الصور المذكورة في مظاهر التصوف قد لا يتَّضح للقارئ وجهُ ضمّها في هذا المبحث إلا بضميمة مثيلاتها من الصور، فعلى سبيل المثال: عناية كثير من المتصوفة بالإجازات العامّة دون قراءة للكتب الحديثية، ولا الحرص على طلب العلم كانت سمة بارزة في تلك الأعصار إلى يومنا، ولو أمعنَّا النظر في المؤلفات التي أُلّفت في الإجازات والأسانيد عند الصوفية في القرن الماضي فقط، وأضفنا إليها ما يرد من الأذكار المبتدعة والمسلسلات التي لا تصحّ، لبلغت من الكثرة والغزارة ما يحار منه أهل التحقيق في الحديث؛ لهذا نلمس العديد من مصطلحات الصوفيّة من خلال الإجازات العلميّة المتبادلة بين علماء حضرموت والحجاز. ومن هذه الأدبيات (لبس الخرقة – المصافحة – المشابكة)، ونجدهم يقولون عند عرضهم للسند الذي يرتبطون به ألفاظًا مثل: (ألبسني، صافحني، شابكني).
مع علمنا أن مجرّد الحصول على الإجازة ليس مذمومًا، ويفعله حتى طلبة العلم من غيرهم.
وكذا حديثهم عن المنامات وقصص الأولياء والكرامات التي تحصل لهم، فإننا نقرُّ أن هذا قد يحصل لغيرهم، لكنها من كثرتها صارت لهم سمة بارزة، لا تكاد تخطئ عين الناظر في كتبهم، والله المستعان.
وكذا الكتب المؤلفة في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ففي ظاهرها عدم وجود محظور، إلا أن الناظر في الكتب المؤلفة عند الصوفية في هذا الباب يجد أنها تشتمل على كثير من الأحاديث الموضوعة، ليس هذا وحسب، بل يضاف إليها الصيغ غير الواردة والمخالفة للعقيدة الصحيحة.
وهذه الرحلة من أوسع ما ذكر في مجال الرحلات عند أهل اليمن، وتكادُ تكونُ الوحيدةَ التي كتبت عن قصدٍ من أهل حضرموت.
إلا أنها لم تستوعب مظاهر التصوف في المدينة، ولم يتقصّد ذلك كاتب الرحلة؛ لذا لم يعدّد القباب المنتشرة في البقيع. وقد دخلت المدينة في حكم الدولة السعودية الأولى عام 1220هـ، وأزيلت تلك القباب وسوِّيت القبور بالأرض؛ اتباعا لسنة رسول الله، وعندما دخلت جيوش محمد علي المدينة عام 1226هـ ثم سلمتها للعثمانيين عادت القباب وتضاعفت حتى غطّت معظم منطقة البقيع، كما تبيّن الصور التي التُقطت في أواخر العهد العثماني، ولما استسلمت المدينة لرجال الملك عبد العزيز ابن سعود عام 1344هـ أزال الإخوان تلك القباب، وسووا القبور بالأرض([2]).
ولم تتطرق الرحلة كذلك إلى انتشار عقيدة وحدة الوجود، يقول شيخ الطريقة الديوبندية إمداد الله (ت: 1317هـ): “أعجبني بعض الأمور الطيبة في الحرمين: منها أن عقيدة وحدة الوجود انتشرت كثيرًا في الناس، وارتكزت فيهم حتى الأطفال، فقد ذهبت مرة إلى مسجد قباء فسمعت شخصًا يقول: يا الله، يا موجود، فقال الآخر: بل في كل الوجود. فلما سمعت ذلك طرأ علي حال، ثم رأيت الأطفال يلعبون، فقال أحدهم: يا الله، ليس غيرك. فطربت إلى حد زالت قواي، فقلت لهم: لم تذبحونني”([3]).
وهذا القول الذي أورده شيخ الطريقة الديوبندية، وإن كنا نشعر منه المبالغة في الوصف، بقوله: “انتشرت كثيرًا في الناس”، إلا أننا لا نستطيع كذلك أن ننفي وجوده مطلقًا، خاصة وهي من عقائد غلاة الصوفية.
ومما يؤيّد وجود هذه العقيدة أن حبيب الرحمن بن علي بن بسم الله السالادي الهندي (توفي في القرن الرابع عشر) كان قد أخذ عن علماء الهند، ودرس (الفصوص) لابن عربي في التصوف، ثم رحل إلى مكة المكرمة سنة (1273هـ) وأخذ عن علمائها، واستقر به المقام في المدينة المنورة، فأقرأ كثيرًا من علمائها([4]).
وسنورد مواضعَ الشاهد منَ الرحلة بنصِّ المؤلف، وتحت العناوين التي وضعها، ونعلِّق على ما يحتاج إلى تعليق:
الروضة الشريفة:
يقول الحبشي: “ثم تقدَّمنا للخروج إلى الحرم النبوي، وصحِبَنا المزوِّر بمقتضى عادة البلدة، فدخلنا من باب السلام بالأدب المستطاع، حتى قمنا أمام القبر الشريف:
فقرأنا السّلام أكرم خلق الله من حيث يُسمع الإقراءُ
وذهلنا عند اللقاء وكم أذ هلَ صبَّا من الحبيب لقاءُ
فلقَّننا المزوِّر الزيارةَ المتداولة بينهم، ثم إني في ذلك المقام استحضرت سيِّدي وحبيبي وشيخي، وباب دخولي، العارف بالله علي بن محمد بن حسين الحبشيّ، وجعلته أمامي، ودخلت به في خطابي وتسليمي على المصطفى صلى الله عليه وسلم، وجعلته بابي في الدول، على حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وزرت بزيارة الشيخ (أبي البقاء) المشهورة، ثم صليت بالصلاة التي لسيدي عليّ وهي: اللهم صل وسلم على سيدنا محمد، أول متلَقّ لفيضك الأوّل، وأكرم حبيب تفضلت عليه فتفضَّل، وعلى آله وصحبه، وتابعيه وحزبه، ما دام تلقِّيه منك وترقيه إليك، وإقبالك عليه وإقباله عليك، وشهوده لك وانطراحه لديك، صلاة نشهد بها مِن مرآته، ونصل بها إلى حضرتك من حضرة ذاته، قائمين لك وله بالأدب الوافر، مغمورين منك ومنه بالمدد الباطن والظاهر، آمين”([5]).
وصف أيام المجاورة في المدينة:
قال الحبشي: ثم إنّا -ولله الحمد- كل يوم نخرج إلى المسجد النبوي، صباحًا ومساءً، ونطيل الجلوس في الروضة الشريفة، على قراءة القرآن، وتكرار (الدلائل)، وأدعية سيدي علي حفظه الله، وقد نجتمع في المسجد النبوي بأناس من أهل الله العارفين به، ممن ينهض حاله، ويرشدك مقاله، وسنبين ونذكر في هذه (الرحلة) من اجتمعنا به منهم، ونذكر ما جرى بيننا وبينهم من المذاكرات العلمية.
[تعليق: ذكر البتنوني من مشاهداته في رحلة الحج عام 1327هـ كثرة كتاب الدلائل عند الروضة، وقال: والروضة على الدوام غاصة بالناس لشرف مكانتها. وفيها مما يلي هذا الدربزين ربعات قرآنية كثيرة، وعدد كبير من المصاحف المختلف الحجم، منها ما هو بحرف الطبع، ومنها ما هو بخط اليد الجميل، وإلى جانبها نسخ كثيرة من دلائل الخيرات، وكل ذلك موقوف عليها للقارئين من الزوَّار([6]).
و”دلائل الخيرات” للجزولي (ت: 870هـ) كتاب في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه مملوء بالمخالفات الشرعية والعبارات الشركية والأحاديث الضعيفة والموضوعة. وقد سلَّط الضوء على كثير من المخالفات في هذا الكتاب الشيخ محمود الإستامبولي في كتابه “كتُب ليست من الإسلام”، وعلق عليها. والمطالع المنصف في هذه المخالفات التي ذكرها الإستامبولي يرى هولَ ما وقع فيه مؤلفه وبشاعة ما أورده.
كما ألف المغراوي كتابه: “وقفات مع الكتاب المسمى دلائل الخيرات وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة عليه من دلائل الخيرات”، ويقع في ٢٩٦ صفحة].
مدرسة الشيخ مظهَر النقشبنديّ:
وفي يوم من الأيام توجهت إلى مدرسة الشيخ محمد مظهر النقشبندي([7])، للسؤال عن مصنفات العارف بالله الشيخ أحمد بن محمد القشاشي، فدخلتُ فوجدتُ فيها الشيخ يوسف النبهاني، ومعه رجل من أهل الشام، فسلمتُ عليهم وجلستُ، فسألني عن حالي الشيخ يوسف، ثم أشار إلى ذلك الرجل الذي إلى جانبه، فقال له: هذا السيد من أهالي حضرموت، من السادة العلويين. فالتفتَ إليَّ وسألني عن حالي، ثم قال الشيخ يوسف: هذا الرجل من علماء الشام، واسمه الشيخ حسين الأسْطُواني، فالتفتُّ إليه، وطلبت منه الدعاء، ثم جرت المذاكرة معهم على أحسنِ أسلوب.
ثم إني ناديت مدير المدرسة، وسألته عن مصنفات الشيخ أحمد القشاشي، فقال: لا يوجد عندنا منها إلا كتاب واحد، وهو (شرح الإنسان الكامل) فطلبته، فأتى به إليّ في مجلد ضخم، فتأمّلته، فإذا هو كتاب نفيسٌ في بابه، فسبحان المعطي!
ثم إنها صارت المذاكرة بيني وبين الحاضرين، فسألني الشيخ حسَن عن السادة العلويين وعن طريقتهم، فأخبرتهم بما عندي.
وكان أيضا في يدي مجموع، وفيه رسالة للوالد في (تعريف طريقة السادة العلوية)([8])، فقرأت لهم منها ما فيه الإفادة.
ثم قلتُ لهم: إن سيدي عليًّا قال أبياتًا، وفيها التوصية لأولاده ومريديه، فلما وصل إلى تعريف طريق السادة العلوية قال ذلك في بيت واحد، وهو:
وها هي أعمال خلت عن شوائبٍ وعلمٌ وأخلاقٌ وكثرةُ أورادِ([9])
فاستحسنوا ذلك، ثم قال لي الشيخ حسن: أتحفنا من هذا المجموع بشيءٍ، فقرأت لهم في (الرشَفات) نحوًا من ثلاث رشَفات، فطَربوا غاية الطربِ، ثم طاب المجلسُ بالمذاكرة في فنّ الرشفات، فكان الشيخ له الذوق الكامل، والمشرب الصافي، والقدح المعلّى، فأقبل غاية الإقبال بقلبه وقالبه. ثم قال: عسى أن تجتهدوا في طبعها. ثم سألني: في أيّ محل نازلين؟ فقلت له: في بيت السيد صافي. فقال: إن شاء الله أنا آتي إليكم بكرة.
فانتهى المجلس، فطلب مني الشيخ يوسف أن أرتّب الفاتحة على قاعدة السلف، فرتبت لهم الفاتحة، فجرى اللسان بوارد عجيب، فبكيتُ وبكى الحاضرون، ودعوا الله، وقمنا جميعًا، فعدنا إلى البيت.
[تعليق: المقصود بالرشفات “رشفات أهل الكمال” لـلصوفي عبد الرحمن بن عبد الله بلفقيه (ت: 1173هـ)، عُرفت اختصارًا بـ “الرشفات”، هي قصائد سماها الشاعر رشفات )مجازًا) كأنها ترتشف من مجالس الصالحين، وفيها مبالغات ومخالفات عقدية متعلقة بالأولياء.
وأما الكلام عن الطريقة العلوية في حضرموت فيطول، إذ هي أكبر الطرق وأكثرها انتشارًا، ومؤسسها هو: محمد بن علي بن محمد باعلوي، المشهور بالفقيه المقدم (ت: 653هـ).
ويعتبر الشيخ المصدر الأساس في الطريقة العلوية الذي يستقي منه المريدون العلم.
وقد غلا القوم في الطريقة العلوية، ودعوا للتمسك بها، حتى قال محمد الحبشي: “وما خالف طريقة آل باعلوي فهو من السبل المتفرقة عن سبيل الله”([10])].
زيارة الشيخ الأسطواني للمؤلف:
ثم في اليوم الثاني وصل إليّ الشيخ حسن الأسطوانيّ إلى البيت، ففرحتُ به، ومعه بعض إخوانه، فتذاكرنا معه، فوجدناه بحرًا في العلم وله حافظة قوية، ثم سألني عما كان معي من كلام سيدي عليّ، فأطلعته على المنثور منه والمنظوم، فطرب غاية الطرب. ثم قال لي: كم بين جدّة وبلاد سيدي علي؟ فقلتُ له بقدر ذلك. فقال: أسأل الله أن يجمعني بهذا الحبيب، ويقدّر لي الحضور بين يديه. فقلتُ له: وما ذلك على الله بعزيز([11]).
زائر من السُّودان:
وفي أثناء تلك المدّة في المسْجد، كان إلى جانبي رجلٌ من السودان مستغرقًا في الصَّلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فالتفت إليَّ وتبسَّم، وقال: أنت تحبّ الصالحين؟ فقلت له: نعم. فقال: إن هنا رجلًا منّا، من بلاد السودان، هو من أولياء الله، إن شاء الله تراه. ثم قال: وأنا أعطيك، إذا كانت لك حاجة قلها، فإني أخذتها عن الخضر، وهي: (يا سيدي، يا نِعْمَ المجيب)، اثني عشر ألفًا. فقلت: ما اسمك؟ فقال: اسمي أحمد الأمين التيجاني”([12]).
[تعليق: لقاء الصوفية بالخضر عليه السلام:
تزعم الصوفية أن الخضر حي إلى أبد الدهر، وأنه صاحب شريعة وعلم باطني يختلف عن علوم الشريعة الظاهرية، وأنه وليّ وليس بنبي، وأن علمه علم لدني موهوب له من الله بغير وحي الأنبياء، وأن هذه العلوم تنزل إلى جميع الأولياء في كل وقت.
ويزعمون كذلك أن الخضر يلتقي بالأولياء ويعلمهم هذه الحقائق ويأخذ لهم العهود الصوفية، وأن الحقائق الصوفية تختلف عن الحقيقة المحمدية، ولذلك فلكل ولي شريعته المستقلة، فما يكون معصية في الشريعة كشرب الخمر والزنا واللواط، قد يكون حقيقة صوفية وقربة إلى الله حسب العلم الباطني، وكذلك في أمر العقائد ومسائل الإيمان، فلكل ولي كشفه الخاص وعلمه الخاص اللدني الذي قد يختلف عن الوحي النبوي.
وهكذا جعل المتصوفة من قصة الخضر بابًا عظيمًا لإدخال كل أنواع الخرافات والزندقة والجهل والإسفاف، وهكذا أصبح الخضر الصوفي هذا ألعوبة عظيمة، ولم يكتفوا بذلك بل جعلوا في كل مكان في الأرض تقريبًا مكانًا زعموا أن الخضر جلس فيه أو رآه صوفي عنده، ولذلك أصبح له في كل أرض من أراضي الإسلام مقام ومزار([13]).
وما الصورة المذكورة في القصة إلا نموذج من النماذج المنتشرة في كتب الصوفية، والذي لا يشك عاقل في كذبها، وإن حصلت في الحقيقة، فربما كان ذلك من إيحاء الشيطان لأوليائه، والله المستعان].
في كُتبخانة شَيخ الإسلام عارف حكمت:
قال: “ثم إني في يوم من الأيام وَصَلتُ إلى مدرسة كتبخانة شيخ الإسلام، فدخلت، فقابلني المدير، وأجلسني، وناولني الفهرست، فتأملها فإذا فيها من الكتب الغريبة العجيبة، فطلبت منها البعض”([14]).
ثم رأيت في أثناء الفهرست كتاب “الإسفار عن نتائج الأسفار” للشيخ محيي الدين ابن عربي… ثم طلبت كتاب “العرف العاطر في الكلام على الخاطر”، للحبيب عبد الرحمن بن مصطفى العيدروس([15]).
زيارة المؤلف للشيخ محمد العزيز التونسي: ورأينا عنده “شرح مواقع النجوم” للإمام الدَّامُوني، ورأينا عنده “الحلل السندسية في المقامات الأحمدية” لأحد علماء المغرب([16]).
[تعليق: “شرح مواقع النجوم” للداموني هو شرح لكتاب “مواقع النجوم” لابن عربي، وهو في التصوف، يبحث في المنازل التي يتبوّؤها المريدون والسالكون في طريقهم إلى ربهم أثناء استكمالهم طريقتهم.
والحلل السندسية لمؤلفه أحمد بن عبدالحي (ت: 1120هـ) والكتب المذكورة كلها من كتب التصوف].
من كتب التصوّف:
قال: “ثم إني كنت في بعض الأيام جالسًا في المسجد النبوي في الرَّوضة الشريفة، فإذا برجل إلى جانبي، وبيده كتابٌ، فقلت له: ما هذا الكتاب؟ فقال: هذا (كتابٌ من الله سبق)، فأخذته منه وفتحته، فإذا فيه:
(بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من الله سبق، من قبل أن فتق ورتَق، ضمنته عهدًا على من صدق وصدَّق، وميثاقًا غليظًا على من حقق وتحقق، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} {وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا}. واعلموا -يا أولي الألباب- أن لكل أجل كتاب، ولكل عمل حساب، ولكل سؤال جواب).
انتهت العبارة، وفيه عبارات جليلةٌ جدًّا، يعرفُها أربابها، وهو من مصنفات سيدي محمد وفا”.
إشارة وبشارة:
قال: “وكنت ذات يوم جالسًا أفكّر، الله أعلم، هل زيارتنا هذه مقبولة أم لا؟ فإذا برجل يقول: ما لي أراك في فكرة؟ أما من قول الشاعر:
إذا لم نطب في طيبة عند طيِّب به طيبةٌ طابت فأين نطيب
إذا لم يجب في حيه ربُّنا الدُّعاء ففي أي حيّ للدعاء يجيب
فاستبشرت بذلك”([17]).
قراءة المولد في المسجد النبوي 12ربيع الأول:
قال: “ولما كان يوم الأربعاء 12 ربيع الأول صلينا الصبح في المسجد النبوي، ثم لما كان عند طلوع الشمس اجتمع الناس في المسجد النبوي لحضور قراءة المولد النبوي، فاجتمعوا في الحصوة. وفيهم الأعيان من العلماء ورؤساء البلدة، وبينهم منصَّة عظيمة كالمنبر، فرقى فوقها الموكَّل بقراءة (المولد الشريف)، والمسجد مغتصّ بالخلق، وعليهم من السكينة والخضوع ما لا يعبر عنه.
والمولد المذكور هو المشهور للبَرْزَنجيّ، ويتناوب قراءته أربعة أشخاص، ثم دعوا الله بلسان الجمع، والتأمين حاصل من جميع الحاضرين، ثم انفضَّ الجمع، وتوجهوا لزيارة الحبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم، ووقعت زيارةٌ عظيمة، ثم رجعوا إلى منازلهم ورجعنا”.
ضيافة المولد ورؤيا الزَّائر المكي:
قال: “ثم لما كان بعد الظهر كنا مدعوِّين عند شخص من المجاورين بالمدينة، لنا معه صحبة قديمة، اسمه الشيخ علي السُّرّتي.
فتوجهنا إليه، فوجدنا المحلَّ مزحوم بالخلق، فطلبنا منه أن يرسل ضيافتنا إلى بيت من بيوت جيرانه، وهو السيد هاشم مجاهد، من أهالي مكة المشرفة الزائرين، فأرسل ذلك إلينا، وتقدمنا إلى بيت السيد هاشم المذكور، ففرحَ بنا غاية الفرح، وأدخل علينا السرور، ثم حضر العشاء فأكلنا، ثم بعد الأكل أحضر آلة الشاهي.
ثم قال: يا سادتي، الحمد لله هذا اليوم ميمون، إني في صباح هذا اليوم حضرتُ المولد النبوي في المسجد مع الجمع العظيم، ثم إني رجعت إلى البيت ونمت، فرأيت في المنام كأني وحبيبي شيخ، وحبيبي محمد بن حسين، والشيخ عبد الله فرحات في الطائف، وكأن الحبيب شيخ على رأسه شال أخضر، وكأنا عزمنا على المقيل في محل يقال له: (هَضَبة عامر)، فأدرك حبيبي شيخ تعبٌ قليل في الطريق، فصادقنا رجلٌ بدوي، فقال: لو استرحتم في الغار الفلاني إلى أن ينقضي النهار، ثم تذهبون إلى المحل المقصود. ثم قلتُ: هنا بستان يسمَّى بالجال، هل لكم أن تدخلوا إليه؟ فقال حبيبي محمد: ومن لنا به؟ فقلت: أنا.
ثم دفعت الباب ودخلنا البستان، فإذا هو نَضِرٌ، لا أكاد أصفه من حسنه، فلما توسطنا دعوت خدَّامه، وقلتُ لهم: أعلموا الشريف منصور صاحب البستان بقدوم الحبايب.
فقالوا: إنه في المسجد، وعنده الحبيب علي بن محمد الحبشي. فالتفتُّ فإذا في آخر البستان مسجد كبير، فدخلنا جميعًا لملاقاة الحبيب علي، فلما دخلناه وجدنا الحبيب علي قائم، فقال: هذا النبي صلى الله عليه وسلم جالسٌ في المحراب. وصِفَة المحراب: كالمحراب العثماني الذي في المسجد النبوي.
فابتدرت إلى تقبيل يده صلى الله عليه وسلم، وأخذ في البكاء لما وقع نظري عليه، حتى علا صوتي، فقال كلماتٍ، فهمتُ منها ثلاثًا: قال: (هذا علي)، وأشار إلى حبيبي علي، وقال: (لا تخف)، وقال: (أخوك بخير).
وأما أنا ما تكلمت بكلمة، بل إني أبكي حتى سمع أهلي بكائي، فأيقظوني ويدي في يده صلى الله عليه وسلم.
فقلنا له: الحمد لله؛ هذه رؤيا عظيمة مبشرة بكل خير، ثم خرجنا من عنده إلى المسجد النبوي لأداء صلاة المغرب”([18]).
ضيافة الشيخ محمد الجبرتي:
قال: “وفي يوم السبت 15 ربيع الأول سنة 1328 دعانا للضيافة الشيخ محمد الجبرتي، وهو رجل من الصالحين، من أهل الظن الحسن، ودعا جملة من العلماء، منهم الشيخ يوسف النبهاني، وجملة من أهل الشام، وأناس من أهل مصر من حفظة القرآن، فطاب المجلس، وأخذ كل واحد من الحاضرين يبدي ما عنده من الأحاديث الحسنة، فذكر للحاضرين بعض أخلاق سلفنا من السادة العلوية، وأن منهم بقايا في العصر في جهة حضرموت، مثل سيدي الوالد علي، وسيدي العم أحمد بن حسن العطاس، والعم علوي بن عبد الرحمن السقاف، وغيرهم.
وتكلم الشيخ يوسف النبهاني، وذكر من اجتمع من العلماء والأولياء، ثم قال: اجتمعت منهم بالولي الصالح، الشيخ العُمري، وهو من أهل (طرابلس الشام)، له وقائع وأحوال غريبة، وقد ترجمت له في كتابي “كرمات الأولياء”، وأثبتُّ له نحوًا من أربعين كرامة، منها ما كان لي، ومنها ما كان لغيري. فمنها: أني كنت أسمع به، ولم ينشرح خاطري بالوصول إليه؛ لأنه ليس من أهل العلم حتى يؤخذ عنه، ثم في بعض الأيام سمعت أنه بدار أحد ممن أعرف، فعزمت على التوجه إليه، فلما دخلت عليه صافحته وجلست، فأخذ يتكلم على ما في خاطري من الأشياء التي لم يطلع عليها أحد غير الله، فمن ذلك اليوم اعتقدتُ فيه، وصرت أتردَّد إليه، وهو جمالي الحال والمقام، وقد تُروى كرامته بحضرته فلا ينكر ذلك، رضي الله عنه ونفعنا به”([19]).
[تعليق: قال الشيخ سليمان الخراشي في مقدمة كتاب “ست منظومات في الرد على يوسف النبهاني”: من هؤلاء الصادين عن توحيد رب العالمين؛ المدعو يوسف بن إسماعيل النبهاني، الصوفي الخرافي، صاحب الكتب التي يجيز فيها الاستغاثة بالأموات، والأشعار المشتملة على ألوانٍ من الغلو والإطراء المتجاوز لحدود الشرع الحنيف. إلا أن الله سبحانه وتعالى بحكمته العظيمة يُقيم حُرَّاسًا لشريعته في كل زمان ومكان، ينفون عنه زيغ الزائغين وتحريفهم، ويبينون للناس أحوالهم، وقد وفَّق الله عز وجل ثُلةً من العلماء والأخيار للتصدي لانحرافاته وخرافاته، فردوا عليه نثرًا ونظمًا، ومن تلك الردود: ست منظومات متتالية، أنشأها جماعة منهم في مقابل قصيدته الرائية، التي استطال فيها على عرض شيخ الإسلام، مجدد دعوة التوحيد، الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وعلى من يسميهم «الوهابية»، مفتريًا عليهم الأكاذيب المتنوعة، كعادة أسلافه من المناوئين، فقابلها أولئك العلماء بالإبطال والكشف. وهذه المنظومات الست هي:
1- منظومة الشيخ علي اليوسف رحمه الله.
2- منظومة الشيخ المؤرخ إبراهيم بن عيسى رحمه الله.
3- منظومة الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله.
4- منظومة الشيخ عبد العزيز بن إبراهيم السويح رحمه الله.
5- منظومة الشيخ بهجة البيطار رحمه الله.
6- منظومة الشيخ محمد بن حسن المرزوقي رحمه الله].
مع زائر سودانيّ آخر:
قال: “واجتمعتُ برجل من السودان، من بلدة من نواحي الخرطوم، اسمه محمد عمر، وهو رجل عظيم الحال، صاحب علم وعمل، وعليه سكينة، جرت بيني وبينه المذاكرة في الصالحين والعارفين بالله.
فقال: لي أخ من العارفين بالله، وقد حجَّ نحو ثلاث مرات، ثم أخذ يصفه بأوصاف عظيمة، بلسان عذب، فقال: إنه كان كثير المحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وله أربعة دواوين في مدح المصطفى صلى الله عليه وسلم، وله كلام في الحقائق، وله اجتهاد كبير في العمل، وله كرامات خارقة.
ولما دخل المصريون بلدهم بالحرب حصل الحرب والبطش من العساكر، فأخذوا دواوين الشيخ الأربعة، ورموها في النيل، ثم بعد ثمانية أيام، وقد انتقل العساكر إلى جهة أخرى، أمر الشيخ بعض مريديه بالتفتيش على دواوينه في النيل، فوجدها كأن لم يكن بها شيء، سالمة، فسلمها للشيخ رضي الله عنه.
ثم قال: وله غيبيات عظيمة، يؤخذ فيها مدة، فإذا أفاق يملي قصيدة ارتجالًا، تارة في الحضرة الأحدية، وتارة في الحضرة المحمدية، وكان يقرأ (الدلائل) في عشر دقائق.
وله أيضًا عمٌّ اسمه ابن إدريس، وأبوه محمد نصيح، وهو كثير الاجتماع بالنبي صلى الله عليه وسلم يقظة، وله حالات يتكلَّم فيها بلسان الشطح.
قال في بعض الأحيان شعرًا:
أنا الجليسُ على العرشِ المحيطِ كما أحطتُ بالغيبِ تفصيلا وإجمالا
وقال في بعض الأوقات:
وإني المثل الأعلى المقدس عن شكــل وشـــبه وأنظــــار وأمثــــال
ولي وراء الــــــوراء قــــــدرًا ومـــــــــرتبة علياءَ ما خطرت يومًا على البال
العلم في جنبها جهل ومغلظة وكل شيء لديها هالك الحال”([20])
[تعليق: الكرامات الخارقة، والغيبيات العظيمة، والاجتماع بالنبي صلى الله عليه وسلم يقظة، والكلام بلسان الشطح، والجلوس على العرش، والإحاطة بالغيب تفصيلًا وإجمالًا! كلها طوام، حكايتها تغني عن ردها، سبحانك هذا بهتان عظيم].
زيارة سيد الشهداء حمزة:
قال: “وفي يوم الربوع، لعله 19 شهر المولد الكريم، أردنا الخروج إلى زيارة سيد الشهداء حمزة عم المصطفى صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلينا العربية السيد عبد الله المدني، وهو رجل ثري، مع السخاء والأخلاق الحسنة، فركبنا فيها، وهي تمشي على زوج من الخيل، فوصلنا إلى قُبَّة سيدنا حمزة، فزرنا، ووقعت لنا زيارة عظيمة”([21]).
[تعليق: انتشار القباب في ذلك الزمن في المدينة المنورة من الأمور المعروفة، ولم تهدم على آخرها إلا في العهد السعودي، وينبه إلى أن تحديد قبر حمزة وتعيينه من الصعوبة بمكان، فقد أصابت السيول هذه المقابر مرات ومرات، وتغيرت المعالم، إضافة إلى ذلك اختلاف المؤرخين في تحديد موضع قبره، فقيل: إنه دفن عند المهراس، وقيل غير ذلك، وهل دفن وحده أم معه آخر، وفيه أربعة أقوال([22])، هذه كلها مثارات حول مكان دفنه، لا ينبغي إهمالها].
تلبية دعوة مجاورٍ من آل الشيخ أبي بكر:
قال: “وكان خروجنا للزيارة، ولدعوة من السيد الفاضل علي بن محضار ابن الشَّيخ أبي بكر بن سالم، فبعد انتهاء الزيارة تلقَّانا السيد المذكور، وأخذنا إلى محلّ استعدَّهُ لنا ولمن كان معنا، مفروش بالفرش الحسنة، وقد دعا جملة من الأعيان والعلماء المجاورين وأهل المدينة.
فطلب مني أن أقرأ (مولد) سيّدي علي. فقلت له: لا بأس. فناوله أحد السادة المهَادلة المجاورين، فقرأه وحبره بقاعدة حسنة، فانتهت القراءة، وقرأنا الفاتحة، ثم أضافنا الضيافة الحسنة، ثم بعد صلاة العصر رجعنا إلى المدينة، وقصدنا المسجد النبوي لصلاة المغرب”([23]).
زيارة شيخ الدَّلائل:
قال: “وفي اليوم الثاني، وهو 20 ربيع الأول سنة 1328هـ، توجهنا لزيارة السيد العالم المتواضع السيد رضوان البرزنجي شيخ (الدلائل)، فوجدناه في بيته، فقابلنا كمال المقابلة، وحضر المجلس جملة من أهل العلم، وعنده كتب كثيرة، رأينا منها كتاب (شرح جمع الجوامع) للإمام الزَّركشي، وهو كتاب عظيم في مجلد ضخم، فطلبنا منه الإجازة في (الدلائل) فأجازنا”([24]).
كتب أخرى لابن عربي:
قال: “ثم إنا خرجنا من عنده، فمررت على شخص آخر على الانفراد، فوجدتُ عنده كتبًا كثيرةً، رأيت في بعضها بيتين منسوبين للشيخ محيي الدين ابن عربي، وهي:
يا سائلا عن عقيدتي أحسن الله ظَنَّه
علم الله أنها {شهد الله أنه}
وللعباس بن الأحنف:
وحدثتني يا سعد عنهم فزدتني شجونا فزدني من حديثك يا سعد
هواها هوًى لا يعرف القلب غيره وليس له قبلٌ وليس له بعد
ولمالك بن زَيْدِ مناة:
أوردها سعد وسعد مشتمل ما هكذا تورد يا سعد الإبل”.
مجلس إجازات مع السيد صافي الجفري:
قال: “وفي صبح يوم الجمعة 21 ربيع الأول سنة 1328هـ، بينما أنا جالس في المنزل إذ دخل عليَّ العمُّ صافي الذي أنا نازل عنده، وبيده مجموع رسائل وأوراد، من مجاميع الحبيب عمر بن عبد الله الجفري، فناولني إياه، فتأملته فرأيت فيه إجازات متعددة من ساداتنا العلوية العارفين للحبيب عمر المذكور.
من جملتهم الحبيب عبد الله بن عمر بن يحيى، والحبيب عبد الله بن حسين بن طاهر، والحبيب عمر بن طه البار، وغيرهم.
وأجازنا العم صافي المذكور، في (مفتاح الإجابة) للحبيب عمر بن طه البار، وفي (يا حفيظ) مكررة في السفر”([25]).
أدعية للسَّفر عن بعض المشايخ:
قال: “وفي الدعاء الذي رواه الحبيب عمر الجفري عن أحد المشايخ؛ يقرأ في السفر وهو هذا:
(بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وأزواجه، وعلى ذريته وعلى أهل بيته. اللهم إني أسألك بحبك لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وحب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لك، وبالسر الذي بينك وبينه، أن تحفظني بحفظك، من كل عدو وحاسد، وأن تيسِّر لي يا جواد، يا الله، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم). هذا الدعاء يقرأ بعد كل صلاة ثلاث مرات.
ولسيدنا أحمد بن موسى بن عُجيل في السَّفر، يقرأ صباحا ومساء، وهو هذا:
(ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، ربنا آتنا من لدنك رحمة، وهيئ لنا من أمرنا رشدًا. اللهم أسعدني في هذه الحركة، وأمدني باليُمْن والبركة، وقني سوء القدر، واكفني وعثاء السفر، وأعنِّي على طيّ المراحل، وقرب البعد والنوى، وسهل المبيت والسُّرى، واجعل سفري إلى صنع حميد، وسيري إلى جدّ سعيد، واحفظني واحفظ مخلَّفِي، واجمع بيني وبينهم على أسرِّ حال، وأنعم بال، يا أرحم الراحمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم)([26]).
[تعليق: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أدعية السفر ما يغني عن هذا، وجعله عقب كل صلاة ثلاث مرات، والآخر يقرأ صباحًا ومساء، كل هذا مما لم يرد فيه أثر صحيح، والاكتفاء بالوارد أفضل].
فائدة:
قال: “وفي المدينة المنورة أخبرني الشيخ يوسف النبهاني: أنه يوجد في الغرب كتاب اسمه (الذخيرة) للشيخ عبد المعطي، وهو في ستين مجلدًا، منه يوجد في المدينة بعض مجلدات، وهو في مدح النبي صلى الله عليه وسلم وفي الصلاة عليه”([27]).
[تعليق: إذا كان الصوفي يكتب مجلدًا في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ كدلائل الخيرات، ويحشوه بالموضوعات والمخالفات، فكيف بستين مجلدًا؟!].
زيارة وداعية للسيد علوي بافقيه:
قال: “ثم إنا خرجنا لصلاة الجمعة في المسجد النبوي، فصلينا، وبعد الصلاة ذهبنا إلى بيت السيد الفاضل علوي بن أحمد بافقيه شيخ السادة، للاجتماع به، وللاستيداع منه، فوجدناه، فقابلنا كمال المقابلة، ثم إنا أخبرناه بأن العزم الجازم على السفر غدًا، يوم السبت إلى دمشق الشام، فتأسف على فراقنا؛ وذلك لما صار بيننا وبينه من الألفة والمحبة.
ثم إنه في جلستنا معه يذكر لنا من لقيه من العارفين بالله، وأهدى لنا في ذلك المجلس شيئًا من تراب الحجرة الشريفة، وقال: إنه عندي من وقت عمارة الحجرة، عام 1274ه، ثم قال: خذوا هذا للتداوي، ولا بأس به([28]).
وأهدى لنا شيئا من الطيب الصَّنْدلي، وقال: إنه مما يوضع في كل عام عند رأس المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومن السِّفنج الذي تغسل به الحجرة الشريفة، فجزاه الله عنا أفضل الجزاء”.
[تعليق: تراب الحجرة النبوية لا علاقة له بالشفاء، فليس هو من الأسباب المشروعة للتداوي].
مجموع فيه من نفائس الكُتب في التصوّف:
ثم إني سألته: هل عندكم شيء من مصنفات الإمام الشيخ أحمد القِشَاشي؟ فقال: عندي مجموع أطلعكم عليه. فأتي به فوجدته مجموعًا مشتملًا على خمسة مؤلفات:
أولها: (النصوص) للإمام القِشَاشي.
والثاني: (زمام المالك بتمام المناسك) للشيخ أحمد الشناوي، ألفه في يوم عرفات بعرفات، سنة 1028، وهو من مشايخ الشيخ أحمد القِشَاشي.
والثالث: (شرح المشكلات الإلهية) للشيخ عبد القادر باعشِن.
والرابع: (عقلة المستوفز) للشيخ الأكبر.
والخامس: كتاب في التصوف، مبسوط.
فأعجبني هذا المجموع، فطلبته من السيد علوي فأعطاني إياه، وهو وقف، فجزاه الله عني أفضل الجزاء، ثم طلبنا منه الفاتحة، واستأذنا في الخروج، فقال: إن شاء الله أنا أحضر غدا عند البابور، أشيعكم.
فخرجنا من عنده، وتوجهنا لزيارة السيد الفاضل علوي بن عبد الرحيم السقاف، فاجتمعنا به في بيته، وجلسنا عنده، ووقع مذاكرة حسنة، وخرجنا من عنده”([29]).
المؤلف يسعى في طبع بعض المؤلفات في مصر:
قال: “ثم في يوم من الأيام توجه إلى شارع الخرَنْفَش، إلى حضرة حسين أفندي شرف، لطبع بعض الكتب([30]).
فأجزته على طبع (3000) نسخة من (مولد) الوالد عليّ بن محمد الحبشي، وعلى طبع (3000) من (فتح الإله) لسيدي الوالد محمد بن حسين الحبشي، و(3000) من (العقود اللؤلؤية) لسيدي الوالد أيضا، و(3000) من (الدوائر) و(الرشفات) للسيد عبد الرحمن بن عبد الله بلفقيه، وهذه الثلاثة في مجموع، وقد تم طبعها على أحسن أسلوب.
وأخذت منها معي إلى مكة، وأرسلتُ منها إلى جاوة، وإلى عدن، وانتفع الناس بها، وأما (فتح الإله) فأعجب أهل العلم في مصر، من حيث كونه حاويًا للدعوة إلى الله، فلخص بعضهم منه خطبة، وخطب بها يوم الجمعة في بعض الجوامع”([31]).
العودة إلى الحجاز:
قال: “ثم إني في فاتحة شهر القعدة عزمتُ على التوجه إلى مكة، فقال لي بعض الأحباب: الأولى أن تنتظر خروج المحمل المصري حتى يتوجه إلى مكة، فإنه يحمل أثواب الكعبة، ويخرج معه خلق كثير.
فلما كان بعد أيام ضُربت الخانات، وتحركت الناس للتفرّج، فخرج المحمل في جمع عظيم، يمرُّون أفواجًا أفواجًا، من الساعة واحدة صباحًا إلى الساعة أربعة، والمشايخ أهل الطرائق، وكل شيخ طريقة يمرُّ هو وأتباعه، وأمامهم البيارق والطيران، ويمرون العساكر والمدافع والخيَّالة.
والخلق في غاية من الازدحام للتفرج، حتى أوصَلوه إلى محطة سكّة الحديد، وتوجه إلى السويس، ومنها إلى جدة في بابور البحر، ثم إلى مكة على الجمال، وجمال المحمل الخاصة طلعت معه في البابور إلى جدة.
الطريق إلى الحجاز:
قال الحبشي: “ولعشر في شهر القعدة سنة 1328 عزمت على التوجّه إلى جدّة، ثم إلى مكّة لأداء الحج والعمرة، فاستودعتُ ممن عرفتهم من أهل مصر وعرفوني، فأبوا إلا تشييعي إلى سكة الحديد، ثم إني بعد مضيّ يوم من سفر البابور، ونحن في البحر، سألتُ عن الشيخ أحمد البَغْتِينيّ المغربي الذي رأيته في بابور البرّ، فدلوني عليه، فأخذت معي الشيخ حسن الأسطوانيّ وتوجهنا إليه، فوجدناه في موضع من البابور، في مخزن، فسلمنا عليه، فرد علينا السلام، وقابلنا كمال المقابلة. ثم سألنا وسألناه عن أوطان بعضنا البعض، فأخبرنا بأنه مغربي الأصل، من تونس، من بيت علم.
فتباحثنا معه، فوجدناه عالِمًا عاملًا، وله من الأذكار والأوراد شيءٌ كثير، وهو مالك المذهب، وله سند في الحديث، فسألني عن علماء جهتي وبلدي، فأخبرته بهم، وأخبرته بسيدي علي، وأسمعته شيئًا من كلامه وأدعِيَته، فطرب طربًا شديدًا، ونقل منها بعض أشياء، ثم قال لي: إني أدخل في أسباب التجارة، وأحب ذلك صونا لشرف العلم، وقلتُ له: وأنا كذلك، أحب الدخول في الأسباب. فقال: لقد أحسنت.
ثم إني أسمعته البيتين المتقدم ذكرهما، التي أولها:
إن رمت علمًا فاتخذ حرفة تصون ماء الوجه لا يبذل
إلى آخرها، فاستحسنها وكتبها، وكتب اسمي عنده، وكتبتُ اسمه عندي؛ لأجل الذّكر”([32]).
الخاتمة:
إلى هنا ينتهي ما اقتبس من الرحلة المسماة: “الشاهد المقبول بالرحلة إلى مصر والشام وإسطنبول”، وهي صورة واضحة وجلية للحال الذي كان عليه التصوف في ذلك الزمان، والله المستعان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) اعتمدنا الطبعةَ الأولى التي نشرتها دار الفتح للدراسات والنشر، سنة 1433هـ-2012م، وعدد صفحاتها: 430 صفحة.
([2]) التاريخ الشامل للمدينة المنورة (3/ 296-298)، وانظر: (2/ 431-432).
([3]) انظر: إمداد المشتاق، التهانوي (ص: 95).
([4]) الرحلة الحجازية، محمد السنوسي (3/ 117).
([5]) الشاهد المقبول (ص: 71-72).
([6]) الرحلة الحجازية، للبتنوني (ص: 240-241).
([7]) أسسها الشيخ محمد مظهر النقشبندي سنة ۱۲۹۲هـ في حارة الأغوات، بزقاق المواليد الذي كان يطل على شارع الملك عبد العزيز المؤدي إلى باب النساء. ينظر للمزيد: أثر الوقف الإسلامي (ص: ۱۳۰-۱۳۳).
([8]) اسمه (العقود اللؤلؤيّة)، وسيأتي أن المؤلف طبعه في مصر في شوّال من تلك السنة.
([10]) العقود اللؤلؤية في بيان طريقة السادة العلوية (ص: 5).
([11]) الشاهد المقبول (ص: 75-79).
([12]) الشاهد المقبول (ص: 83).
([13]) الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة، لليوسف (ص: 132-133).
([14]) الشاهد المقبول (ص: 83).
([15]) الشاهد المقبول (ص: 84).
([16]) الشاهد المقبول (ص: 86).
([17]) الشاهد المقبول (ص: 86-87).
([18]) الشاهد المقبول (ص: 91-92).
([19]) الشاهد المقبول (ص: 91-94).
([20]) الشاهد المقبول (ص: 94-95).
([21]) الشاهد المقبول (ص: 95).
([22]) انظر: التعريف بما آنست الهجرة من معالم دار الهجرة (ص: 61)، بهجة النفوس والأسرار (ص:114)، وفاء الوفا (3/ 1074-1075)، خلاصة الوفا (2/ 185)، المدينة المنورة في رحلة العياشي (ص: 127)، المغانم المطابة في معالم طابة (3/ 1109).
([23]) الشاهد المقبول (ص: 96).
([24]) الشاهد المقبول (ص: 96).
([25]) الشاهد المقبول، (ص: 96-98).
([26]) الشاهد المقبول (ص: 98-99).
([27]) الشاهد المقبول (ص: 98-99).
([28]) تراب الحجرة النبوية لا علاقة له بالشفاء، فليس هو من الأسباب المشروعة للتداوي.
([29]) الشاهد المقبول، (ص: 100-101).
([30]) وينبه إلى أن هذا كان في مصر، وأدرجته في الحكاية؛ نظرًا لحمله هذه الكتب إلى مكة، وأرسل منها إلى جاوة وغيرها.