الأصول التي اعتمد عليها مجوِّزو الاستغاثة بغير الله (الجزء الثالث)
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
التَّعلُّق بغير الله والانصراف عنه إلى الأموات والقبور والمشاهد والأضرحة لا شكَّ أنَّها بلوى ابتليت بها الأمة، وصارت هذه المشاهِدُ والأضرحة تُضاهي المساجد وبيوت الله بل وشعائر الله؛ إذ صار لبعضها ما يشبه الحج والزيارة المنتظمة بشروطها وطريقتها، وهذا مناقضٌ تمام المناقضة لروح الإسلام الذي جاء لنخلص قلوبَنا لله وحده ولا نتعلَّق بغيره، وقد استدلَّ هؤلاء المجوِّزون للاستغاثة بغير الله ودعاء غيره بأدلَّة عديدة كان هدفنا من هذه الورقة جمع أبرزها تحت أصولٍ كليَّة، مع مناقشة مجملة؛ ليقف القارئ على خارطة أدلتهم مع بيان خطئها، وقد مرَّ بنا في الجزء الأول والثاني ذكر أصلين وهما:
- الاعتماد على النُّصوص الشرعيَّة.
- الاعتماد على أمرٍ يعودُ لذات المستغاث به.
وفي هذه الورقة نكمل ما تبقى من الأصول وذلك فيما يلي:
الأصل الثَّالث: الاعتماد على أمر يعود لنية المستغيث:
يستند مجوِّزو الاستغاثة بغير الله تعالى بأمورٍ عدَّة ترجع إلى نيَّة المستغيث، فهم يبنون الجواز -بل الاستحباب- على أمرٍ يعود لنيَّة المستغيث بغير الله، والأدلة التي تذكر تحت هذا الأصل ترجع إلى دليلين رئيسين هما من أعظم أدلَّتهم التي يتمسكون بها، وهما:
- أنَّ الاستغاثة بغير الله لا تكون شركًا إلا باعتقاد الربوبية في المستغاث به.
- المجاز العقلي.
وتأخير ذكر هذه الأدلة لا يعني أنَّها أقلُّ أهميَّة من الأدلة المتقدمة، وهو ما يظهر هنا جليًّا؛ فإنَّ هذين الدليلين من أكثر ما يتمسَّكون به لتجويز الاستغاثة بغير الله أو لنفي الشرك عن المستغيث بغير الله، ويمكن بيانهما عبر الآتي:
أولًا: الاستغاثة لا تكون شركًا إلا باعتقاد الربوبية في المستغاث به:
اعتمد على هذا جلُّ من ينفي الشّرك عن المستغيث بغير الله؛ إذ لا شرك عندهم إلا باعتقاد الربوبيَّة في المستغاث به، وهم يدَّعون أنَّهم حين يدعون نبيًّا أو وليًّا من دون الله فإنَّهم لا يعتقدون أنَّه مستقل بالتصرف في الكون، ويعتقدون أنَّه لا يملك شيئًا من خصائص الربوبية، وبناءً عليه فلا يصح وصف أيِّ فعل يصرف إلى القبور من دعاء أو نذر أو ذبحٍ أو طوافٍ أو غير ذلك بالشرك إلا إذا عرفنا أنَّه يعتقد الربوبية في هذا المقبور، ويستدلون بأنَّ الله سبحانه وتعالى قد أعطى عيسى عليه السلام القدرة على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص بإذن الله، فمن سأله ذلك في حياته دون أن يعتقد فيه الربوبيَّة فإنَّه لا يكون مشركًا مع أنَّ إحياء الموتى بالخصوص خارج قدرة البشر وهو من خصائص الله سبحانه وتعالى([1])، يقول أحمد زيني دحلان: “والحاصل أنَّ مذهب أهل السنَّة والإجماع صحَّة التوسل([2]) وجوازه… لأنَّا -معشر أهل السُّنة- لا نعتقد تأثيرًا ولا خلقًا ولا إيجادًا ولا إعدامًا ولا نفعًا ولا ضرًّا إلا لله وحده لا شريك له، ولا نعتقد تأثيرًا ولا نفعًا ولا ضرًّا للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لغيره من الأحياء والأموات، فلا فرق في التوسُّل بالنبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وكذا بالأولياء والصَّالحين، لا فرق بين كونهم أحياءً وأمواتًا؛ لأنَّهم لا يخلقون شيئًا، وليس لهم تأثير في شيء، وإنما يتبرك به لكونهم أحباء الله تعالى”([3]).
وهذا الاستدلال غير صحيح لعدم صحَّة المقدمة التي استندوا إليها وهي: أنَّ صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله لا يكون شركًا إلا باعتقاد الربوبيَّة، وهي مسألة معروفة مبحوثة([4]) تبنى عليها مسائل عديدة، من أهمِّها جواز الاستغاثة بغير الله، ومما يدل على خطأ هذه المقدمة:
1- فعل المشركين، وقد مرَّ بنا الحديث عن فعلهم وأنَّهم صرفوا أنواعًا من العبادة لغير الله ولم يكن مناط شركهم هو اعتقاد الربوبيَّة فيها فقط، أو اعتقاد النَّفع والضر، بل ذكر الله شركهم لاعتبارات أخرى مع اعترافهم بعدم النَّفع والضر وتصريحهم بذلك كما مرَّ بنا، ومع اعترافهم بأنَّه لا مدبر إلا الله، ومع اعترافهم بأنَّهم إنما يصرفون تلك العبادات تقليدًا، ومع ذلك فقد حكم الله عليهم بالشِّرك وقاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد مرَّ ذكر ذلك.
2- أن ثمَّة اعتبارات عديدة تجعل الفعل شركًا مع عدم اعتقاد الربوبية، مثل صرف شيءٍ من الأفعال كالذبح والنذر مع الخضوع والذل تقربًا، أو صرفها لما عرف من الأصنام التي تعبد من دون الله، وغيرها من الاعتبارات، فمعنى التعبُّد والشرك ليس بمحصور في اعتقاد الربوبية، وبناءً عليه فإنَّ وقوع حقيقة التعبُّد لغير الله -سواء كان باعتقاد الربوبية أو بغير ذلك- هو وقوعٌ في الشرك.
3- من قال بأنَّ كل المستغيثين بغير الله لا يعتقدون التَّأثير أو التَّصرف من هذا الذي يستغيثون به؟! إذا كان هناك من لا يعتقد ذلك فإنَّ القرائن تدلُّ على أنَّ جماعةً كبيرة من المستغيثين بغير الله تقوم في قلوبهم هذه المعاني، ويعتقدون تصرُّف هذا الولي في إعطاء الرزق والولد وشفاء المرضى وغير ذلك، كما أنَّ فعل كثيرٍ منهم يدلُّ على أنَّهم يعتقدون تلبّس هذا الولي بشيء من خصائص الربوبية؛ ككونهم يسمعون كل شيء، ويعلمون كل شيء، ويسمعون من المسافات البعيدة وما إلى ذلك.
4- ومع هذا كلِّه إن تنزَّلنا وقلنا: إنَّ هذا الولي إنَّما يقدر ويتصرف ويعطي بإذن الله وبإعطاء الله له ولا يستقلُّ بالتَّأثير ولا يعتقد القبورية ذلك، فيقال: فجَعلُه سببًا لتفريج الكربات وحصول المطلوبات يحتاج إلى دليلٍ شرعيٍّ خاص، فالسبب لا يمكن جعله سببًا شرعيًّا أو دنيويًّا فيما لا يقدر عليه إلا الله إلا بدليل، والأصل أنَّ الشريعة تمنع من التعلق بغير الله أو دعاء غيره، وجاءت بنصوصٍ عديدةٍ لسدِّ هذا الباب وتخليص النَّاس من هذا التعلق، فأين الدليل على إباحة هذا النوع من الدعاء لغير الله مع الاعتقاد بأنَّه لا يستقل بالتأثير؟! وأين الدليل على أنَّ الله أعطاهم هذا التَّصرف؟!
5- النيَّة معتبرة إذا كان العمل صالحًا أو في حال الخطأ، أمَّا النية الصالحة بعملٍ باطل متعمَّد غيرِ وارد في الشرع فلا تكفي وليست مصحِّحةً للعمل، فمهما كانت نيَّة المتوجِّه إلى القبور فإنَّ العمل نفسه باطلٌ لا دليل عليه، ولا تكفي النيَّة الصالحة في تحسين هذا العمل، وفي هذا يقول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103، 104]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد»([5]).
وخلاصة هذا: أنَّ هذا الدليل مبنيٌّ على مسألة وجوب اعتقاد الربوبيَّة في وصف الشيء بالعبادة، وقد بيَّنْت أنَّ هذا غير واجب، بل للعبادة شروط واعتبارات أخرى، فإذا ثبت ذلك كان صرف تلك العبادة لغير الله شركًا.
ثانيًا: المجاز العقلي([6]):
هذا الدليل أيضًا من أكثر ما يتمسَّكون به، فإنَّهم يقولون: إنَّ المستغيثين بغير الله حين يدعونهم ويستغيثون بهم ويطلبون منهم الحاجات، فإنَّهم لا يقصدون طلب ذلك منهم، ولكن يقصدون طلب ذلك من الله، ونداؤهم الموجَّه إلى عبد القادر أو البدوي أو أيّ كان إنَّما هو من باب المجاز الإسنادي: المجاز العقلي، فهم إذن لا يريدون حقيقة التَّوجه إليهم والطلب منهم، وإنَّما يريدون ذلك من الله وحده، يقول أحمد زيني دحلان: “مع أنَّ تلك الألفاظ الموهمة يمكن حملها على المجاز من غير احتياجٍ إلى التَّكفير للمسلمين، وذلك المجاز مجازٌ عقليٌّ شائعٌ ومعروفٌ عند أهل العلم، ومستعملٌ على ألسنة جميع المسلمين، وواردٌ في الكتاب والسنة، وعليه يُحمل قول القائل: هذا الطعام أشبعني، وهذا الماء أرواني، وهذا الدواء شافاني، وهذا الطبيب نفعني، فكل ذلك عند أهل السنة محمول على المجاز العقلي، فإنَّ الطعام لا يشبع حقيقة، والمشبع حقيقة هو الله تعالى، والطعام سببٌ عاديٌّ لا تأثير له”([7]). فهو إذن سببٌ عاديٌّ من الأسباب الدنيوية، والطلب منهم ليس حقيقيًّا وإنما هو على سبيل المجاز، وقد أجاب الدكتور علي جمعة عن سؤال عن الاستغاثة بغير الله فقال: “فأما الاستغاثة وطلب المدد من الأنبياء والأولياء والصالحين الأموات أو الغائبين فجائزٌ شرعًا، وهو قول العلماء سلفًا وخلفًا، والأدلة على جواز ذلك من الكتاب والسنة والمعقول، وجواز ذلك محمول على السببية لا على التأثير والخلق، والقول بأن ذلك شرك هو أعظم بدعة ظهرت في الأمة الإسلامية في الأعصر المتأخرة، وهي من جنس بدع الخوارج التي يتوصّل بها أصحابها إلى تكفير المسلمين والطعن في عقائدهم”([8]).
والاستناد إلى المجاز العقليِّ في نفي وصف الشرك عن الاستغاثة بغير الله لا يصحُّ شرعًا ولا واقعًا، وهو قولٌ مبنيٌّ على أصولٍ خاطئة، ويمكن إجمالُ بيان خطئه في الآتي:
1- أنَّ هذا القول قائمٌ على نفي خواصِّ الأشياء ونفي نسبة الأفعال حقيقة إلى المخلوقات، فهم ينفون حقيقة فعل المخلوق، ويجعلون نسبة الفعل إليه مجازًا لقولهم بالكسب، وبطلان مذهب الكسب هو بطلانٌ للقول بالمجاز العقلي، وقد دلَّت النصوص الشرعية على إثبات خواص الأشياء، ونسبة الفعل إليه في آيات كثيرة، وليس الغرض هنا تفصيل القول في إبطال القول بالكسب، لكن أشير إلى أنَّ قولهم مبني على نفي خواص الأشياء، وهو باطل شرعًا ومخالفٌ لمقتضى الفطرة، وما بني على باطل فهو باطل.
2- أنَّنا لا ننكر المجاز العقلي، لكنهم جعلوا كل ما يصدر عن العباد يُحمل على المجاز العقلي، وهو خلاف الأصل، فإن الأصل في الكلام أنه يحمل على حقيقته، وليس ثمة قرينة تدل على المجاز العقلي عند معظمهم على الأقل.
3- أنَّ الأصل الحمل على الحقيقة إلا لقرينة، والقرينة التي يذكرونها هي: أن المستغيث بغير الله مسلم فيجب أن نحمل كل كلامه على ما لا يناقضه، وهذا فيه إلغاء لباب الردَّة بالكليَّة، وإلغاء باب وقوع الشرك في الأمَّة، فلا يمكن لمسلم أن يقع في الكفر إلا إذا صرَّح بأنَّه غيَّر دينه فتديَّن بدين غير الإسلام أو ألحد، ذلك أنَّه يمكن أن نحمل كل ما يصدر منه على المجاز، حتى تلك العبارات التي أجمع العلماء على أنَّها كفر ويكفر قائلها كسبِّ الله والاستهزاء بالله ودينه وما إلى ذلك، فقولهم بالمجاز لهذه القرينة يعني إلغاء القول بوجود التَّكفير والشرك في الأمة الإسلامية، وهو ما يناقض نصوصًا عديدة عن وقوع الشرك في هذه الأمَّة، وفي هذا يقول الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ: “من نتائج هذا القول السيئ إلغاء أقوال الفقهاء في باب حكم المرتد؛ إذ كل من صدر منه قولٌ شركيٌّ وكفريٌّ سيخرج من عهدته بالمجاز العقلي… وكذا من قال من الزنادقة: الشيطان ربي، أو الحلَّاج إلهي، أو الوليُّ الفلاني مطّلع على سرِّي، أفيقول فقيه: إن كان موحدًا حمل قوله على: الشيطان عصى ربي، والحلاج أضله إلهي، أو رب الولي الفلاني مطلع على سري؟! هذا ما لم تحُم حوله أقوال فقيه، ولا خرَّجها مخرج، ولا اعتذر عنهم بذلك معتذر، ولو أجيز ذلك لسمعت الأقوال الكفرية الشركيَّة صباح مساء من الفسقة والمنافقين، ولطعنوا جهارًا في الدين، ثمَّ إذا أتت الأمور عند الحاكم أحال كل منهم على المجاز العقلي، وخَرَجَ من عهدة الشرك”([9]).
4- أنَّهم اعتمدوا على نيَّة المستغيث بغير الله، لكن من يدلنا على أنَّ نياتهم كلهم هو المجاز العقلي؟! بل الواقع يدلُّ على أن عوام المستغيثين بغير الله لا يعرفون المجاز العقلي، وليس مرادهم من ندائهم إلا التَّوجه إلى المستغاث به؛ ولذا تجدهم عند العتبات والأضرحة أشد ما يكونون تضرعًا وذلة، ولا تجد مثله في المساجد وبيوت الله، فإذا كان الإسلام قرينة فحالهم مع القبور والأضرحة قرينة أيضًا وهي أوضح وأجلى، ومع هذا فإنَّ الاعتماد على النية وحدها مخالفٌ للشرع، فقد ورد في الشرع الاعتماد على الألفاظ وحدها دون النظر إلى النية، مثل ما وقع من المنافقين كما حكى الله ذلك فقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65، 66]، وكما في قصة ذان الأنواط([10])، فلم يستفسر النبي صلى الله عليه وسم عن نياتهم، ولم يحمل قولهم على المجاز بقرينة إسلامهم، وقولهم كذلك مناقض لتقريرات الفقهاء التي تبني الأحكام على الأقوال والأفعال الظاهرة دون اعتبار القصد، والشاهد أن القصد ليس دائمًا معتبرًا في كل شيء.
وينبه إلى أننا نتكلم عن وصف الفعل بكونه شركًا، وليس عن المعين الذي وقع في هذا الفعل، فالبحث في وصف الفعل، أما الكلام عن الفاعل فهو مقام آخر تماما، فلا شك أن هناك قرائن كثيرة وموانع كثيرة وشروطًا كثيرة قبل إنزال الحكم عليه.
5- إذا كانت الاستغاثة بغير الله من المجاز العقلي فكيف نفعل بالأفعال التي هي سجودٌ وذبحٌ ونذرٌ لغير الله وطواف حول القبر؟ أيكون ذلك مجازًا عقليًّا أيضًا؟!
وخلاصة هذا الأصل: أنَّه لا يمكن الاعتماد على نيَّة المستغيث بغير الله؛ لأنَّ الحكم على الأفعال بالظَّاهر، أمَّا الحكم على الأشخاص المعينين فقد يدخل فيه القصد والنية والخطأ والنسيان والجهل وغير ذلك، أما الأفعال فهي أفعالٌ ممنوعة بلا شك، سواء كانت أفعالًا بدعية أو كفرية، فصرف العبادة لغير الله بشروطه شرك سواء اعتقد الصارف الربوبية أو لم يعتقد، والاستغاثة بغير الله شرك بشروطه سواء اعتقد النفع والضر والتصرف للمقبور أو لم يعتقد ذلك.
الأصل الرابع: الاستناد إلى فعل الصحابة والسلف:
هذا الأصل هو الأكثر حضورًا في كتابات مجوِّزي الاستغاثة بغير الله؛ وذلك لأنَّ الأدلة الشرعية التي في الباب قليلة كما مرَّ بنا، بل هي شبه معدومة فيما يتعلق بالنُّصوص القرآنية، وهي قليلة في السنة النبوية، لو ذهبنا نبحث عن الأحاديث الصحيحة بغضِّ النظر عن صحة المدلول، فيكثر الاستناد إلى فعلِ النَّاس، وهؤلاء ينقسمون إلى قسمين، فمنهم من يستدل بالأكثريَّة، وأن أكثر الأمة على الاستغاثة بغير الله إلا فتاتًا من الناس كابن تيمية ومن تبعه([11])، ومعلومٌ أنَّ الحِجاج مع هذا النوع ساقط؛ إذ إنَّه بحثٌ آخر حول أحقيَّة الأكثريَّة بالحق لكونهم أكثرية فقط، أمَّا القسم الثاني فهم الذين يستدلون بأفعال أو أقوال صدرت من علماء الأمَّة بدءًا من الصحابة الكرام ثم التابعين فالأئمة الأربعة ثم من تبعهم إلى يومنا هذا، وإذا أردت أن أحصي الأمثلة التي كتبوها ويكتبونها فإنَّ الأمر يطول؛ لذلك سنقتصر على أهم ما يستدلون به بدءًا من بعض الصحابة الكرام؛ إذ إنَّ موقفهم هو الأهم بلا ريب، فنقسم الكلام في هذا الأصل إلى قسمين:
القسم الأول: أقوال وأفعال الصحابة الكرام رضي الله عنهم:
مرَّ بنا أنَّ الصحابة الكرام قد ألَمَّت بهم ملمات ونزلت بهم مصائب، ومع ذلك لم يُعرف عنهم أنهم أتوا إلى قبرِ النَّبي صلى الله عليه وسلم يستغيثون به ويدعونه ويفزعون إليه، وإذا مررت على كتب مجوِّزي الاستغاثة بغير الله تجد أنَّها شبه خالية من هذا الاستدلال الصَّريح، وهو أن يثبتوا أنَّ الصحابة أو بعضهم أتوا إلى قبر النَّبي صلى الله عليه وسلم يستغيثون به، وفي هذا يقول ابن تيمية رحمه الله: “ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلَّم بعد موته، ولا بغيره من الأنبياء؛ لا عند قبورهم ولا إذا بعدوا عنها، وقد كانوا يقفون تلك المواقف العظام في مقابلة المشركين في القتال، ويشتدُّ البأس بهم ويظنون الظنون، ومع هذا لم يستغث أحدٌ منهم بنبيٍّ ولا غيره من المخلوقين، بل ولا أقسموا بمخلوقٍ على الله أصلًا، ولا كانوا يقصدون الدعاء عند قبور الأنبياء ولا الصلاة عندها”([12])، إلا أنَّهم يتمسَّكون ببعض الأفعال من الصَّحابة الكرام، نمرُّ على أبرزها لنرى دلالتها على جواز ما يؤصلون له، مع التَّنبيه إلى أنَّه كثيرًا ما يستدلون بدليل على صورة معينة ثم يسحبون الحكم إلى غيرها، وقد سبق التنبيه على ذلك، أمَّا أبرز ما يستدلون به من فعل الصحابة الكرام فهو:
أولًا: قصة عثمان بن حنيف رضي الله عنه، فقد روى الطبراني([13]) بسنده عن شبيب بن سعيد المكي، عن روح بن القاسم، عن أبي جعفر الخطمي المدني، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن عمِّه عثمان بن حنيف أنَّ رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه في حاجة له، فكان عثمان لا يلتفت إليه، ولا ينظر في حاجته، فلقي عثمان بن حنيف فشكا ذلك إليه، فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضأة فتوضأ، ثم ائت المسجد فصل فيه ركعتين، ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجَّه إليك بنبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة، يا محمد إنِّي أتوجه بك إلى ربك عز وجل فيقضي لي حاجتي، وتذكر حاجتك، ورح إلي حتى أروح معك. فانطلق الرجل فصنع ما قال له عثمان، ثم أتى باب عثمان فجاء البواب حتى أخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفان، فأجلسه معه على الطنفسة وقال: حاجتك؟ فذكر حاجته فقضاها له، ثم قال له: ما ذكرت حاجتك حتى كانت هذه الساعة! وقال: ما كانت لك من حاجة فأتنا. ثمَّ إنَّ الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له: جزاك الله خيرًا، ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إلي حتى كلمته فيَّ، فقال عثمان بن حنيف: والله، ما كلمته ولكن شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه ضريرٌ فشكا عليه ذهاب بصره … إلخ قصة الضرير.
وقد مرَّ بنا الكلام عن حديث الضَّرير الوارد في القصة، وبقي لنا هنا قصة الصحابي عثمان بن حنيف وتعليمه لهذا الرجل هذا الدُّعاء، وهذه القصة تفرَّد بها شبيب بن سعيد، وقد اختلف العلماء في الحكم عليه، وضعَّفه جماعة من أهل العلم، وذكروا أن ابن وهب يروي عنه مناكير([14]) وهو الراوي عنه هنا، وأنَّ أحاديثه مقبولة في حالة واحدة؛ وهي: أن يروي عن يونس ويروي عنه ابنه أحمد([15]).
وقد أطال الألباني رحمه الله الكلام في هذه القصة وبيَّن ضعفها من عدة أوجه، من أهمِّها: عدم توثيق شبيب إلا في الحالة التي ذكرتها، وكذلك بسبب الاختلاف، فإنَّ هذا الحديث قد روي عن أحمد عن شبيب بدون ذكر القصة في أكثر من موضع، وهي رواية أوثق لكونها عن أحمد وهو ثقة، كما أن متن الحديث معارضٌ لحال عثمان رضي الله عنه مع رعاياه، فإنَّه يُستبعد أن يأتي الرجل أيامًا ولا يأذن له عثمان رضي الله عنه ولا يقضي حاجته وهو الخليفة الراشد، والأخبار عن اهتمامه برعيته تناقض هذا الخبر([16])، وابن تيمية رحمه الله يذكر العلل في القصة فيقول: “فهذه الزيادة فيها عدة علل: انفراد هذا بها عن من هو أكبر وأحفظ منه، وإعراض أهل السنن عنها، واضطراب لفظها، وأن راويها عرف له عن روح هذا أحاديث منكرة”([17]).
ولابن تيمية رحمه الله رأيٌ آخر في القصة على فرض صحتها، فإنه يرى أنَّ هذا اجتهاد صحابي في فهم حديث في مسألة يخالفه فيها مجموع الصحابة الكرام، فلم يؤثر عن أحد منهم صنيع مشابه، بل روي عنهم غيره كما سبق بيانه، يقول رحمه الله: “والدعاء المأثور عن النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر به، والذي أمر به ليس مأثورًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا لا تثبت به شريعة كسائر ما يُنقل عن آحاد الصحابة في جنس العبادات أو الإباحات أو الإيجابات أو التحريمات إذا لم يوافقه غيره من الصحابة عليه، وكان ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم يخالفه لا يوافقه لم يكن فعله سنة يجب على المسلمين اتباعها”([18]).
فتبين من هذا أنَّ القصَّة لا يمكن الاعتماد عليها في جواز الصور التي يذكرونها للاستغاثة بالأموات وفيما لا يقدر عليه إلا الله.
ثانيًا: رواية مالك الدار أنَّه قال: أصاب الناس قحطٌ في زمن عمر، فجاء رجلٌ إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا، فأتى الرجل في المنام فقيل له: ائت عمر فأقرئه السلام، وأخبره أنكم مستقيمون وقل له: عليك الكيس، عليك الكيس. فأتى عمر فأخبره فبكى عمر ثم قال: يا رب، لا آلو إلا ما عجزت عنه([19]). وهذه القصة لا يصح الاعتماد عليها للآتي:
1- يقول الألباني رحمه الله: “مالك الدار غير معروف العدالة والضَّبط”([20])، وبناء عليه فالقصة لا يمكن الاعتماد عليها، خاصَّة وأنها حادثة عظيمة، وهي قحط في زمن عمر رضي الله عنه، وحدوث مثل هذا الحدث العظيم مع هذا الرجل يستبعد جدًّا أن لا ينقله أحد سوى مالك الدار، ومع ذلك يقال:
2- إنَّ الرجل الذي جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم هو أيضًا مجهول ولا يُعرف، فكيف يعتمد المسلمون في أمرٍ عظيم كهذا على رواية مجهول؟! خاصة وأن قوله وعمله مخالف لفعل الصحابة الكرام كما مرَّ بنا.
3- أنَّ هذا مخالفٌ للهدي الشَّرعي، فالشريعة أمرت بصلاة الاستسقاء في مثل هذه المواقف، وليس الذهاب إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فإن هذا لم يأت النص بالدعوة إليه.
4- أنَّ هذا الفهم -أعني: أنَّ المشروع عند القحط هو الصلاة- هو ما فهمه الصحابة الكرام وطبقوه، وأعظم ما يدلُّ عليه فعل عمر رضي الله عنه حين استسقى بالعباس، وستأتي القصة.
5- على التَّسليم بكل هذا فإنَّه ليس في القصة أنَّه توجَّه بالطَّلب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإنزال المطر، فلا يمكن الاعتماد عليها في تجويز الاستغاثة بغير الله([21]).
ثالثًا: حديث عائشة رضي الله عنها عن كوَّة القبر، وهو ما رواه الدارمي([22]) عن أوس بن عبد الله قال: قحط أهل المدينة قحطًا شديدًا، فشكوا إلى عائشة، فقالت: انظروا قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فاجعلوا منه كوَّةً إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السَّماء سقف، قال: ففعلوا، فمطرنا مطرًا حتى نبت العشب، وسمنت الإبل حتى تفتَّقت من الشحم، فسمي عام الفتق.
وهذه الرواية ضعيفة سندًا ومتنًا، ويبين ذلك الآتي:
1- ضعف سعيد بن زيد، واختلاط أبي النعمان في آخر عمره([23]).
2- نكارة الرواية؛ وذلك أنَّ بيت عائشة رضي الله عنها لم تكن فيه كوة في حياتها، وفي هذا يقول ابن تيمية رحمه الله: “وممَّا يبيِّن كذب هذا أنه في مدة حياة عائشة لم يكن للبيت كوة، بل كان بعضه باقيًا كما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، بعضه مسقوف وبعضه مكشوف… ولم تزل الحجر كذلك حتى زاد الوليد بن عبد الملك في المسجد في إمارته… ثمَّ إنَّه بني حول حجرة عائشة التي فيها القبر جدارٌ عال، وبعد ذلك جعلت الكوة لينزل منها من ينزل إذا احتيج إلى ذلك من أجل كنس أو تنظيف”([24]).
3- أنَّ هذا يناقض فعل الصحابة المعلوم، وهو أنَّهم إذا قحطوا اجتمعوا فدعوا الله سبحانه وتعالى، ولم يُعرف عنهم أنهم اكتفوا بمجرد فتح هذه الكوة، وقد خرج عمر بن الخطاب بالناس يستسقون، ولو كان هذا الفعل معروفًا مشروعًا لاكتفوا به.
4- ثم يقال: ما المراد من فتح الكوة؟ هل من أجل أن تكون ذات النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة إلى السماء؟ فإن كان كذلك فإنَّ فائدة هذا غير واقعة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في حياته يدعو ويخرج مع النَّاس للاستسقاء إذا أصابهم قحطٌ، ولم يرد أنَّ ذاته الشريفة فقط كانت سببًا في المطر وإن كنا نقول ببركته عليه الصلاة والسلام، فأن يكون القبر لا يكون سببًا أولى، وإن قالوا: بل القصد هو عدم حجب دعائه، فالتبرك هنا بدعائه لا بذاته وقبره. يقال: وكل أسقف الدنيا لا تحجب الدعاء عن أحد، هذا إذا ثبت بدليل خاص أن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو في قبره لقضايا أمته!
5- إن صحَّت هذه القصة فإنَّها ليس فيها دلالة على الاستغاثة بغير الله، فليس فيها أنَّهم دعوا واستغاثوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فحتى إن قلنا: إنَّهم كشفوا عن القبر تبركًا، فالبركة في شيءٍ ما لا تعني التبرك به بكل شيء لم يرد في الكتاب والسنة، وقد سبق تقرير ذلك، فمكة مثلًا مباركة، لكن لا يتبرك بها بكل صورة يريدها أي أحد، وهذه مشكلة المجوزين كما سبق مرارًا، فهم يستدلون على صورة واحدة ليست محل النزاع أو هي محل اجتهاد، ثم يقيسون عليها الصور البدعية والشركيَّة، وفي هذا يقول ابن تيمية رحمه الله: “هذا الفعل ليس حجَّة على محل النزاع سواء كان مشروعًا أو لم يكن، فإنَّ هذا استنزال للغيث على قبره، والله تعالى ينزل رحمته على قبور أنبيائه وعباده الصالحين، وليس في ذلك سؤالٌ لهم بعد موتهم، ولا طلبٌ ولا استغاثةٌ بهم، والاستغاثة بالميت والغائب سواء كان نبيًّا أو وليًّا ليس مشروعًا ولا هو من صالح الأعمال؛ إذ لو كان مشروعًا أو حسنًا من العمل لكانوا به أعلم وإليه أسبق، ولم يصح عن أحد من السلف أنه فعل ذلك”([25]).
رابعًا: الاستسقاء بالعباس رضي الله عنه، وهذا من أغرب الأدلَّة التي يستدلون بها؛ لأنَّه من أصرح الأدلة للمانعين من الاستغاثة بغير الله، وهو حديث أنس بن مالك أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: اللهم إنَّا كنَّا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنَّا نتوسل إليك بعمِّ نبيِّنا فاسقنا، قال: فيسقون([26]). ويستدلون بهذا الحديث على جواز التوسُّل بذوات الأشخاص كما فعلوا بالعباس رضي الله عنه، سواء كانوا أحياء أو أمواتًا، وهذا الاستدلال غير صحيح، بل دلالة الرواية على ضدِّ هذا القول أظهر وأبين، ويدلُّ عليه الآتي:
1- أنَّ توسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه والصحابة الكرام إنَّما كان بدعاء العباس لا بذاته، ويدل عليه الحديث نفسه، فإنَّ فيه أنهم كانوا يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم فيسقون، فما كان نوع توسلهم؟ هل كان توسلًا بالذات بحيث وجود النبي صلى الله عليه وسلم بينهم كاف لإنزال المطر، أم كانوا يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيطلبون منه الدعاء فيدعو؟! لا شك أنه الثاني؛ كما في قصة يوم الجمعة حين كان على المنبر، وكما خرج النبي صلى الله عليه وسلم للاستسقاء، ويدل عليه ما رواه ابن حبان عن أنس قال: كانوا إذا قحطوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم استسقوا بالنّبي صلى الله عليه وسلم، فيستسقي لهم فيُسقون، فلما كان بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في إمارة عمر قحطوا، فخرج عمر بالعباس يستسقي به([27]). فإذا كان هذا هو توسلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وجب أن يكون توسلهم بالعباس من جنسه وهو طلب الدعاء.
2- أنَّ التوسل إن كان بالذات كان التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم أولى، وتركهم لهذا التوسل دليلٌ على فهمهم التَّام للتوسل والاستغاثة والصور الجائزة منها والممنوعة، وهم خير من يمثلون رأي الشرع في المسائل، فتركهم جميعهم الاستغاثة برسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الحالة -وحالات أخرى كثيرة جدًّا كالحروب وغيرها- دليلٌ على أنها صورة ممنوعة([28]) .
أما قولهم: إن هذا قد وقع من عمر رضي الله عنه لبيان جواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل، فإنَّه يقال: فأين ما يدل على أنهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم واستغاثوا به من أجل إنزال المطر؟! فإنهم إن فعلوا هذا مرة لبيان الجواز ففي غير هذه المرة كان الأولى أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعدلوا عنه، فأين ما يدل على ذلك؟!
القسم الثاني: أقوال وأفعال من بعد الصحابة الكرام:
وهذا القسم يذكرون فيه أقوالا وأفعالا كثيرةً من الأئمة؛ كتبرك بعض الأئمة ببعض، وكقول بعضهم: إنَّ الدعاء عند بعض القبور ترياقٌ مجرب، وغير ذلك، ولا نستطيع الوقوف على كل قضية في هذه الورقة، لكن نختصر الموضوع بقواعد عامة للتعامل مع هذا الباب، وهي:
أولًا: بعد ثبوت الأدلة الدالة على حرمة الاستغاثة بغير الله، وثبوت عدم وجود دليلٍ يدلُّ على جوازه؛ فإنَّ أفعال النَّاس تُحاكم إلى الشرع لا العكس، فإذا وجدنا عالمًا من علماء المسلمين فعل فعلًا ينافي الشرع فإنَّنا لا نؤول الشرع بل نخطِّئ الفعل، فالأصل هو إثبات مشروعية العمل من الكتاب والسنة ثم النَّظر إلى ما دونهما، وقد ثبت عندنا بالكتاب والسنة وفعل الصحابة الكرام عدم جواز الاستغاثة بغير الله، فإن ثبت عندنا شيء من التبرك غير المشروع والتوسل غير المشروع والاستغاثة بغير الله عن بعض العلماء، فإنَّنا نبين خطأ قولهم المردود بالكتاب والسنة وعمل الصحابة ومخالفة العلماء الآخرين له.
ثانيًا: أنَّ كثيرًا مما يستدلُّون به غير ثابت، بل منه مختلق ومكذوب، والكتب مليئة بمثل هذه الروايات الضعيفة التي لا يصحّ الاستناد إليها، منها مثلًا ما يذكرونه في أصل التبرك بالذوات كتبرك الشافعي رحمه الله بغسالة قميص الإمام أحمد رحمه الله([29])، فإنَّها ضعيفة كما ذكر ذلك الذهبي رحمه الله: “فأمَّا ما يروى أنَّ الشَّافعي بعثه إلى بغداد بكتابه إلى أحمد بن حنبل فغير صحيح”([30])، وكذا ما روي عن الشافعي أنَّه كان يقصد قبر أبي حنيفة للدعاء، يقول فيها البركوي: “الحكاية المنقولة عن الشافعي رحمه الله كان يقصد الدعاء عند قبر أبي حنيفة رحمه الله فإنَّها من الكذب الظاهر”([31])، وكذا قاله ابن القيم رحمه الله أيضًا([32]).
ثالثًا: ترِد في عبارات بعض العلماء نصوصٌ حول التبرك بفلان أو بشيء من الأشياء، أو التوسل به، وليس بالضرورة أن يكون مقصده التبرك الممنوع، أو التوسل الممنوع، وقد سبق بيان أنَّ مشكلة المجوزين أنهم يستدلون عل صورة واحدة قد تكون اجتهادية أو جائزة، ثم يأخذون حكمها إلى مسائل أخرى لا تتّفق معها، وقد مرَّ بنا هذا الخطأ منهم كثيرًا.
رابعًا: لا يكتفَى في بيان جواز الاستغاثة بغير الله بصورها الممنوعة على ذكر أقوال المتأخرين، بل الحجة في ذلك الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وإجماع المتقدمين، فلا شك أن المتأخرين لهم تقريرات في تجويز ذلك، وهي مردودة بفعل الصحابة وإجماع المتقدمين، وما ينقل عن المتقدمين غير ثابت كما سبق بيانه.
وأخيرا:
جاء الإسلام ليخلص الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وتجويز التعلق بالأموات والأضرحة هو صرفٌ للناس عن الله سبحانه وتعالى إلى غيره، وهذا ينافي أصل الإسلام، وقد ذكرنا في هذه الورقة أصول أدلة مجوزي الاستغاثة بغير الله، وخلصت الورقة إلى نتائج من أهمها:
1- أن المجوزين يتمسكون بأدلة من القرآن الكريم لا تدلّ على مرادهم، وليست في صور الاستغاثة التي يستدلون عليها.
2- أنهم يقعون في خطأ منهجي في الاستدلال، وهو الاستدلال على صورة واحدة مباحة أو اجتهادية، ويقيسون عليها صورًا نرى أنَّها شركيَّة، وهو قياسٌ غير صحيح، بل تلك الصور تحتاج إلى أدلة خاصَّة لأنها ليست من جنس الأولى.
3- أن المجوزين يستدلون بأحاديث بعضها صحيحة لا تدل على المراد، وبعضها تدل على المراد لكنها ضعيفة أو موضوعة.
4- أنهم يستدلون بأمور تعود إلى ذات المستغاث به كجاهه وكونه حيًّا في قبره وكونه مباركًا، وبينت أن هذه المعاني كلها لا يصح أن تكون مسوغة للاستغاثة بهم وطلب الحوائج منهم.
5- أنهم يستدلون بأمور تعود إلى نية المستغيث، كعدم اعتقاد الربوبية، والقول بالمجاز العقلي، وبينت أن الشرك لا يشترط فيه اعتقاد الربوبية، وأن المجاز العقلي لا يصح مع الصور التي يستدلون عليها.
6- أنهم يستدلون على رأيهم بفعل الصحابة الكرام ومن بعدهم، وهذه الصور إما صحيحة لكن لا تدلُّ على المراد، أو ضعيفة، أو صحيحة لكن القائل أو الفاعل مخطئ لأنه عارض الكتابَ والسنة وفعلَ الصحابة وإجماعَ المتقدمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) ينظر مثلا في الاستدلال بهذا ما قاله الشيعي مرتضى المهري في موقعه الرسمي تحت عنوان: “التوسل”.
([2]) يقصد به كل أنواع التوسل والاستغاثة بغير الله كما ينص على ذلك في (ص: 38).
([3]) الدرر السنية في الرد على الوهابية (ص: 37).
([4]) ينظر مثلا: شرك العبادة، للدكتور: لطف الله خوجة، على: https://justpaste.it/og7c
([6]) في مركز سلف ورقة علمية بعنوان: “مناقشة دعوى المجاز العقلي في الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم”، وفيها نقاشٌ وافٍ عن القضية، على الرابط:
([7]) الدرر السنية في الرد على الوهابية (ص: 41-42).
([8]) ينظر: دار الإفتاء المصرية، فتوى رقم: (3814).
([9]) هذه مفاهيمنا (ص: 130-131).
([10]) ينظر: سنن الترمذي (2180)، وصححه الألباني في صحيح موارد الظمآن برقم (1540).
([11]) يذكر السبكي أن ابن تيمية هو أول من قال بتحريم الاستغاثة بغير الله، ينظر: شفاء الأسقام (ص: 357).
([12]) الاستغاثة في الرد على البكري (ص: 222).
([14]) ينظر: الكامل في ضعفاء الرجال (5/ 47)، وميزان الاعتدال (2/ 262)، وإكمال تهذيب الكمال (6/ 211).
([15]) ينظر: ميزان الاعتدال (2/ 262).
([16]) ينظر: التوسل أنواعه وأحكامه (ص: 83-89).
([17]) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص 216).
([18]) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص 217).
([19]) أخرجه ابن أبي شيبة (32002).
([20]) موسوعة الألباني في العقيدة (3/ 708).
([21]) ينظر: التوسل أنواعه وأحكامه (ص: 118-121).
([22]) سنن الدارمي (93)، واستدل بها غير واحد، منهم أحمد زيني دحلان في الدرر السنية في الرد على الوهابية (ص: 20).
([23]) ينظر: التوسل أنواعه وأحكامه (ص: 126-127)، وينظر في دراسة سنده أيضًا: التوصل إلى حقيقة التوسل (ص: 270-271).
([24]) الاستغاثة في الرد على البكري (ص: 105).
([25]) الاستغاثة في الرد على البكري (ص: 105).
([28]) ينظر: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص 87).
([29]) ينظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (5/ 311).
([30]) سير أعلام النبلاء (12/ 587).