مقصلَة التَّجسيم(الجزء الأول: بيان موقف ابن تيميَّة من التَّجسيم)
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
تمهيد:
يقول الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، وقد عمل أهل السنة والجماعة بمقتضى هذه الآية، فأثبتوا الأسماء والصفات الواردة في الكتاب والسنة، ونزَّهوا الله عن المثل، فهم في كل ما يثبتونه لله من الأسماء والصفات يكرّرون ويؤكّدون أنَّه إثبات بلا تمثيل ولا تكييف ولا تحريف ولا تعطيل، فينفون عن الله المثل، ويؤكّدون أنَّ كلّ خصائص الله لا يشاركه فيها أحد، وأنهم لا يدركون كيفية صفات الله سبحانه وتعالى، لكنها حتمًا لا تماثل صفات المخلوقين، وقد مضى على هذا أهل السنة والجماعة علماؤهم وعوامهم، ومن أكثر من أكد ذلك وقرره ونافح عنه: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
وقد ظهر في الأمة الإسلامية من يشبّه الله بخلقه من كلّ جهة، فيجلعون الله مماثلًا للمخلوق -تعالى الله-، وأول من عرف عنهم ذلك الروافض، يقول الرازي: “وكان بُدُوُّ ظهور التشبيه في الإسلام من الروافض، مثل بنان بن سمعان الذي كان يثبت لله تعالى الأعضاء والجوارح، وهشام بن الحكم، وهشام بن سالم الجواليقي، ويونس بن عبد الرحمن القمي، وأبو جعفر الأحول الذي كان يُدعى شيطان الطاق، وهؤلاء رؤساء علماء الروافض”([1]). فمن الروافض أول الممثلة عمومًا، والمجسمة بالخصوص، وقد ذكر أبو الحسن الأشعري هشام بن الحكم في أول المجسمة([2])، ويقول ابن تيمية رحمه الله عنه: “وأول من عرف عنه في الإسلام أنه قال: إن الله جسم هو هشام بن الحكم”([3]).
وعلى كل حال فإنَّ إثبات لفظ الجسم لله أو نفيه عنه ليس من مذهب أهل السنة والجماعة، ذلك أنَّ أهل السنة والجماعة وقَّافون عند النصوص، فلا يثبتون إلا ما أثبتته النصوص من الكتاب والسنة، ومع ذلك لم يَسلَموا من اتهامهم بالتجسيم لمجرد أنهم يثبتون الصفات لله سبحانه وتعالى، وهذا دأب مخالفي أهل السنة والجماعة، فقد لقَّبوا أهل السنة بكل لقبٍ قبيح ليشنِّعوا عليهم.
ومن أكثر من اتُّهم بالتجسيم: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقد اتُّهم بهذا قديمًا وحديثًا، فلا تكاد تجد كتابًا يتكلّم عن مثالب أهل السنة عمومًا أو على ابن تيمية بالخصوص إلا ويذكرون أنه كان مجسّمًا، وهذا الداء مستشرٍ في الكتابات الأشعرية المعاصرة بالخصوص، ويساندهم الأحباش والصوفية والروافض، وفي هذه الورقة بيانٌ للموقف الصحيح لابن تيمية من التجسيم، ثم عرضٌ ومناقشة لبعض الأدلة التي يتمسك بها من يدَّعي أن ابن تيمية مجسم([4]) لنرى مقدار إنصاف المخالفين، وهل ما ينادون به في كل محفل ويذكرونه في كل كتاب عن ابن تيمية هل هو حقًّا كما يقولون أم يبترون ويغيّرون ويبدّلون؟! وهذا الجزء من الورقة العلمية نخصّه ببيان الموقف الصحيح لابن تيمية من خلال كلامِه الصريح، على أن نعرج في الجزء الثاني على الحجج التي يتمسّك بها من يتَّهم ابن تيمية بالتجسيم.
ابن تيمية المجسِّم كما يدَّعون:
ابن تيمية رحمه الله في نظر النفاة والمؤوّلةِ مجسِّم مشبّه، وقد ألصقوا به التجسيم في كل مرة يذكرون فيها ما يشنِّعون به عليه، فالأشعرية المعاصِرة حين تتكلّم عن شيخ الإسلام ابن تيمية فإنها لا بدَّ وأن تطيل الكلام في التَّجسيم، ويوافقهم على ذلك الشيعة والصوفية والأحباش، وفي الحقيقة ليس هذا الادِّعاء ممَّا ظهر اليوم، بل هو قديم متجدّد، يقول تقي الدين الحصني (829هـ) عن ابن تيمية: “والحاصل أنَّه وأتباعَه من الغلاة في التشبيه والتجسيم”([5]). وقد ناقش كمال الحيدري تجسيم ابن تيمية في عشر حلقات بعنوان: “التجسيم عند ابن تيمية وأتباعه”. أما سعيد فودة فهو حامل رايته ومضرم ناره، فقد جاء في كتاب: “الكاشف الصغير عن عقائد ابن تيمية” فذكر فيه فصلًا كاملًا بعنوان: “في بيان أن الله جسم في عقيدة ابن تيمية”، ثم عقد فصولًا أخرى للدلالة على أنَّ آراء ابن تيمية كلها تصبّ في التجسيم([6]). أما صلاح الدين الإدلبي فقد ذكر أن ابن تيمية يميل إلى التجسيم، ولم يصرح بأنه يقول به صراحة([7])، وبيان الموقف الصحيح لابن تيمية من التجسيم سيبين حقيقة هذه الادعاءات، فإن الاعتماد ينبغي أن يكون على صريح كلام ابن تيمية وما قرره في الموضوع، وهو ما نريد بيانه في هذه الورقة، وقبل بيان موقفه رحمه الله نقدم بمقدمة مختصرة عن معنى الجسم، وذلك فيما يلي:
تعريف الجسم:
مدلول كلمة “الجسم” في اللغة قال عنه الخليل الفراهيدي: “يجمع البدن وأعضاءه من الناس والإبل والدواب ونحوه مما عظم من الخلق الجسيم”([8])، فيأتي الجسم في اللغة بمعنى البدن([9]).
أما في اصطلاح الفرق فقد اختلفت الطوائف في تعريفه، لكن مما يجمع قولهم: أن الجسم هو المركب المتّصف بالصفات، مع اختلاف فيما بينهم في الصفات التي تؤدّي إلى الجسمية؛ لأن إثبات الصفات يلزم منه التركيب كما هي حجة المعتزلة في نفي الصفات، يقول القاضي عبدالجبار: “ومما يجب نفيه عن الله كونه جسمًا… فاعلم أن الجسم هو ما يكون طويلًا عريضًا عميقًا، ولا يحصل فيه الطول والعرض والعمق إلا إذا تركب من ثمانية أجزاء”([10]).
وهو كذلك عند الأشاعرة، فالجسم عندهم هو المؤلف المركب، يقول الجويني: “اسم الجسم لا ينطلق إلا عند انضمام جوهر إلى جوهر”([11]). وذكر الرازي عند إقامة الدلائل على أنه تعالى يمتنع أن يكون جسمًا: أن “كل متحيّز مركّب”([12])، والمتحيز جسم كما يقول: “الحجة السادسة: لو كان متحيزًا لكان جسما”([13]). بل هذا المعنى عندهم مقرّر حتى في اللغة كما يقول الباقلاني: “فالجسم في اللغة هو: المؤلف المركب”([14]).
وقد بين ابن تيمية رحمه الله اختلاف الناس في الجسم ومراداتهم منه، فلم تفته هذه النقطة، وهي التي بنى عليها قوله بالإجمال، أي: أنها كلمة مجملة نستفصل في معناها، ولذا يرد ابن تيمية رحمه الله على من يسمّي إثبات الصفات تجسيمًا، ويؤكد أن اللغة العربية لا تؤيّد قولهم، فيقول: “ومعلوم أن هؤلاء كلهم ينازعون في ثلاث مقامات: أحدها: أن تسمية ما يتصف بهذه الصفات بالجسم بدعة في الشرع واللغة، فلا أهل اللغة يسمون هذا جسمًا، بل الجسم عندهم هو البدن، كما نقله غير واحد من أئمة اللغة”([15]). ثم يقول مبينًا خطأ المتكلمين: “وقد ادَّعى طوائف من أهل الكلام النفاة أن الجسم في اللغة هو المؤلف المركب… لو سلّم ذلك فقولهم: إن هذا جسم يطلقونه عند تزايد الأجزاء هو مبني على أن الأجسام مركبة من الجواهر المنفردة، وهذا لو قدّر أنه صحيح فأهل اللغة لم يعتبروه، ولا قال أحد منهم ذلك”([16]). وقد توصل إلى هذه النتيجة أحد الباحثين بعد استقراء كتب اللغة كما ذكر في كتابه، يقول الباحث فهد هارون: “فإذا رجعنا إلى كتب اللغة -وقد مر ذلك- لا نجد البتة بأن معنى الجسم هو المؤلف المركب”([17]).
أمَّا الجسم عند ابن تيمية رحمه الله فإنه حمله على المعنى اللغوي؛ ولذا كثيرًا ما يحتج على المتكلمين بأن أهل اللغة لم يذكروا في الجسم أنه المؤلف المركب، فهذا الاصطلاح اصطلاح خاصٌّ بالمتكلمين، ثم بنوا عليه تبديع الآخرين من مثبتة الصفات بأنهم مجسّمة كما رموا ابن تيمية بذلك.
ولا نطيل الكلام في تعريف الجسم والتجسيم إذ يكفي معرفة مدلوله عند المتكلمين الذين يتّهمون ابن تيمية بأنه مجسّم، وأن مدلوله عندهم هو المركب المؤلف، وإثبات الصفات عندهم تركيب.
موقف ابن تيمية من التجسيم:
يكفي في ردِّ فرية تجسيم ابن تيمية بأن نبيِّن موقفه الصريح من المسألة، وفي الحقيقة فإنَّه يكفي أن نبيِّن أنَّ ابن تيمية رحمه الله ليس له نصٌّ واحدٌ صريحٌ يقول فيه: “إنِّي مجسّم” أو “إنَّ الله جسم”، فعلى كثرة ما كتبه ابن تيمية وقد ترك هذا التراث الضخم لم نجد فيه ولا كلمة قريبة من هذا، مع كون ابن تيمية رحمه الله شجاعًا في قول الحق وقول ما يعتقده، وقد سجن سبع مرات من أجل معتقده وفتاويه وقول ما يعتقد أنه الحقّ، بل أُخرج من بعضها ليقول ما يخالف معتقدَه ولو في قضايا جزئية فكان يأبى ويرجع إلى سجنه، ومع هذا لا نجد له نصًّا واحدًا فقط في التصريح بالتجسيم، فما الذي منعه؟! ولذا نجد كل من كتب عن تجسيم ابن تيمية وسوَّد الصفحات حتى وصلت للمئات كانت تكفيهم جملة واحدة من كلمتين، ولكن أنى لهم ذلك فقد عجزوا عن الإتيان بنصٍّ صريح واحد؟!
أما موقف ابن تيمية رحمه الله فيمكن بيانه من خلال الآتي:
أولًا: التصريح بأنه لم يرد في الكتاب والسنة:
أسماء الله وصفاته عند أهل السنة والجماعة توقيفيّة، فلا نصِف الله إلا بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وكل لفظ لم يرد في الكتاب والسنة فلا يصح أن نجعله من صفاته، وبعض الألفاظ التي لم ترد في الكتاب والسنة يُخبَر عن الله بها إذا كانت معانيها صحيحة.
وهذا هو المنهج السليم في التعامل مع أسماء الله وصفاته، فالله سبحانه وتعالى قد أخبرنا بها، ولم يصرفنا عن معانيها المعروفة في لسان العررب، لا بنصوص من القرآن، ولا من السنة ولا بيان بأن ظواهرها غير مرادة، وهذا المنهج قد أصّله ابن تيمية رحمه الله وبينه وأكد عليه.
ومن هذا البيان: قوله في لفظ “الجسم”، فإن هذا اللفظ لم يرد في الكتاب ولا في السنة نفيا ولا إثباتا، وبناء عليه فلا يُثبت ولا يُنفى عن الله سبحانه وتعالى حتى يُستفصلَ عن المراد به، يقول ابن تيمية رحمه الله: “وأمَّا الشرع فالرسل وأتباعهم الذين من أمّة موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يقولوا: إن الله جسم، ولا إنه ليس بجسم، ولا إنه جوهر، ولا إنه ليس بجوهر. لكن النزاع اللغوي والعقلي والشرعي في هذه الأسماء هو مما أُحدث في الملل الثلاث بعد انقراض الصدر الأول من هؤلاء وهؤلاء وهؤلاء. والذي اتفقت عليه الرسل وأتباعهم ما جاء به القرآن والتوراة من أن الله موصوف بصفات الكمال، وأنه ليس كمثله شيء، فلا تمثَّل صفاته بصفات المخلوقين، مع إثبات ما أثبته لنفسه من الصفات، ولا يدخل في صفاته ما ليس منها، ويخرج منها ما هو داخل فيها”([18]).
وليس هذا مذهبًا اختُصَّ به ابن تيمية رحمه الله، بل هو منهج السلف رحمهم الله، وابن تيمية يبين أن السلف امتنعوا عن إطلاق اللفظ نفيًا وإثباتًا من أجل عدم وروده في الكتاب والسنة، يقول ابن تيمية رحمه الله: “وأما القول الثالث وهو القول الثابت عن أئمة السنة المحضة، كالإمام أحمد وذويه، فلا يطلقون لفظ الجسم لا نفيًا ولا إثباتًا لوجهين:
أحدهما: أنَّه ليس مأثورًا لا في كتاب ولا سنة، ولا أثر عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا غيرهم من أئمة المسلمين، فصار من البدع المذمومة.
الثاني: أن معناه يدخل فيه حقّ وباطل، فالذين أثبتوه أدخلوا فيه من النقص والتمثيل ما هو باطل، والذين نفوه أدخلوا فيه من التعطيل والتحريف ما هو باطل”([19]).
فهذا اللفظ لم يثبته السلف ولم ينفوه كما سيأتي بيانه؛ لأنه لم يرد في الكتاب والسنة، ولكنهم أثبتوا لله ما أثبته لنفسه، وأثبته له رسوله عليه الصلاة والسلام من الأسماء والصفات، يقول ابن تيمية مبينًا هذا المعنى: “فإن أئمة السنة والحديث لم يختلفوا في شيء من أصول دينهم، ولهذا لم يقل أحد منهم: إن الله جسم، ولا قال: إن الله ليس بجسم، بل أنكروا النفي لما ابتدعته الجهمية من المعتزلة وغيرهم، وأنكروا ما نفته الجهمية من الصفات، مع إنكارهم على من شبه صفاته بصفات خلقه، مع أن إنكارهم كان على الجهمية المعطلة أعظم منه على المشبهة؛ لأن مرض التعطيل أعظم من مرض التشبيه”([20]).
ويبين رحمه الله أنَّ الألفاظ توجب النزاعَ إذا كانت دينيّة وردت في الكتاب والسنة، أما ما لم ترد في الكتاب والسنة فيستفصل عن معانيها، ويمكن الخروج عن النزاع كلّه بالاعتماد على الألفاظ التي وردت في الكتاب والسنة، فمن أراد إثبات الصفات فإنه يكفيه أن يصرح بهذه الألفاظ دون لفظ الجسم الذي لم يرد، فمتعلّق الاهتمام بهذا اللفظ هو وروده في الكتاب والسنة، وكأنه بهذا يردُّ على من يرى أن إطلاق لفظ الجسم دون الخوض في المعاني هو من أعظم المسائل الشرعية التي يجب القطع فيها، بل يرى الحيدري في برنامجه الذي ناقش فيه تجسيم ابن تيمية أن أعظم خلاف بين أهل السنة والشيعة ليس في الاستغاثة ولا في دعاء الأموات ولا في التعلّق بغير الله وإنما في التجسيم! أما ابن تيمية رحمه الله فيرى أن الخلاف في هذا اللفظ أحيانًا يكون خلافًا لفظيًّا، وأن المعاني أهم بكثير من مجرد لفظ لم يرد في الكتاب والسنة، يقول رحمه الله: “فإن قال القائل: الأجسام المتماثلة، فإذا قلنا: هو جسم لزم أن يكون مثلًا لغيره، بخلاف ما إذا قيل: حي وحيّ، وعليم وعليم، وقدير وقدير، فإذًا هذا اتفاق في الصفات لا يقتضي التماثل في الذوات، فمن قال: هو جسم لا كالأجسام كان مشبّهًا بخلاف من قال: حي لا كالأحياء. وهذا السؤال يقوله من يقوله من أصحاب الأشعري ومن وافقهم من أصحاب مالك والشافعي وأحمد.
فيقال: إذا كان المخاطب لك ينفي أن يكون مماثلًا لغيره وينفي التشبيه كما ننفيه، وأنت وهو قد تنازعتم في مسمى اسم من الأسماء: هل هو مماثل لغيره أو لا؟ كان ذلك نزاعًا لفظيًّا ونزاعًا عقليًّا، ليس ذلك نزاعًا في أمر ديني، ولو تركوا الكلام في هذا لم يضر ذلك الدينَ شيئًا، ويمكن كلًّا منهما أن يعبر مقصوده الديني بما لا نزاع فيه… فإنَّ اللفظ إنما يكون البحث عن معناه من الدين الواجب إذا جاء في الكتاب والسنة وكلام أهل الإجماع. فإن معرفة مراد الله ومراد رسوله ومراد أهل الإجماع واجب؛ لأن قول الله ورسوله وقول أهل الإجماع قول معصوم عن الخطأ يجب اتباعه… ولفظ الجسم في حق الله وفي الأدلة الدالة عليه لم يرد في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا كلام أحد من السلف والأئمة؛ فما منهم أحد قال: إن الله جسم، أو جوهر، أو ليس بجسم ولا جوهر. ولا قال: إنه لا يعرف إلا بطريقة الأجسام والأعراض، بل ولا استدل أحد منهم على معرفة الله بشيء من هذه الطرق: لا طريقة التركيب، ولا طريقة الأعراض والحوادث، ولا طريقة الاختصاص.
وإذا كان كذلك، فالمتنازعون في مسمى الجسم متنازعون في أمر ليس من الدين: لا من أحكامه، ولا دلائله، وهكذا نزاعهم في مسمى العرض، وأمثال ذلك. بخلاف نزاعهم في إثبات المعنى المراد بلفظ الجسم ونفيه، فإن هذا يتعلّق بالدين، فما كان من الدين فقد بينه الله في كتابه وسنة رسوله، بخلاف ما لم يكن كذلك”([21]).
ثانيًا: التصريح بأنه لفظ مجمل:
كعادة ابن تيمية رحمه الله في التَّحرير فإنه قد بين عدّة مرات أنَّ لفظ “الجسم” لفظٌ مجمل، فهو لفظ لم يرد في الكتاب والسنة، وليس معنى هذا أن نمنع من كلّ معانيه بالكلية، وإنما يتعامل معه ابن تيمية كما يتعامل مع الألفاظ المجملة، والقاعدة فيها: الاستفصال، فإن أراد القائل معنى ثابتًا في الكتاب والسنة نقبل المعنى الصحيح، وإن كان يقصد بهذا الإطلاق إثباتَ معنى غير وارد في الكتاب والسنة أو مخالف لهما، أو نفيَ معنى واردٍ في الكتاب والسنة فإنه يبين أن هذا اللفظ غير مراد بهذا المعنى.
يقول رحمه الله وهو يقرِّر هذا الأصل: “وكذلك قوله: (ليس بجسم)، لفظ الجسم فيه إجمال”([22]). ثم طفق يذكر المعاني الكثيرة للجسم ويبين حكم كل معنى وكونه مقبولًا أو لا.
ويفصل رحمه الله في حكم هذه الألفاظ وإطلاقها فيقول: “وكذلك لفظ الجسم والجوهر والعرض والتحيز والانقسام والتركيب؛ معانيها في اصطلاح النظار غير معانيها في لغة العرب، لكن هذه الألفاظ لم تستعمل في القرآن في الأمور الإلهية، وكذلك غيَّر طائفة من أهل الكلام والفلسفة لفظ التوحيد والإيمان والسنة والشريعة ونحو ذلك من الألفاظ المستعملة في الأمور الإلهية.
والمقصود هنا: أن السائل إذا سأل عن الأمور الدينية بألفاظ ليست مأثورة عن الرسول في ذلك، مثل سؤاله بلفظ: الجهة، والحيز، والجسم، والجوهر، والمركب، والمنقسم، ونحو ذلك؛ نظرنا إلى معنى لفظه، فأثبتنا المعنى الذي أثبته الله، ونفينا المعنى الذي نفاه الله. ثم إن كان التعبير عن ذلك بعبارته سائغًا في الشرع، وإلا عبر بعبارة تسوغ في الشرع، وإذا كانت عبارته تحتمل حقًّا وباطلًا منع من إطلاقها نفيًا وإثباتًا”([23]).
وينسب ابن تيمية هذا المنهج إلى أئمة المسلمين فيقول: “وكذلك لفظ التجسيم هو كلفظ التأليف والتركيب والتبعيض والتجزئة؛ من معناه ما هو متفق على نفيه بين المسلمين، ومنه ما هو متفق على نفيه بين علماء المسلمين من جميع الطوائف، إلا ما يحكى عن غلاة المجسمة من أنهم يمثلونه بالأجسام المخلوقة، وأما المعنى الخاص الذي يعنيه النفاة والمثبتة الذين يقولون: هو جسم لا كالأجسام، فهذا هو مورد النزاع بين أئمة أهل الكلام وغيرهم، وهو الذي يتناقض سائر الطوائف من نفاته لإثبات ما يستلزمه، كما يتناقض مثبتوه مع نفي لوازمه، ولهذا كان الذي عليه أئمة الإسلام أنهم لا يطلقون الألفاظ المُبْتَدعة المتنازع فيها لا نفيًا ولا إثباتًا، إلا بعد الاستفسار والتفصيل، فيثبت ما أثبته الكتاب والسنة من المعاني، وينفَى ما نفاه الكتاب والسنة من المعاني”([24]).
وكلامه رحمه الله في هذا المعنى كثير، وليس الغرض الإطالة بذكره([25]).
ثالثًا: التَّصريح بأن السلف لم يثبتوه ولم ينفوه:
وهذه نتيجة للأمرين السابقين، فإن كان لفظ الجسم لم يرد في الكتاب والسنة، وهو من الألفاظ المجملة، فإنه لا يمكن إثباته أو نفيه بإطلاق، ويبين ابن تيمية رحمه الله أن هذا هو المأثور عن السلف الصالح رضوان الله عليهم فيقول: “الكلام في وصف الله بالجسم نفيًا وإثباتًا بدعة، لم يقل أحد من سلف الأمة وأئمتها: إن الله ليس بجسم، كما لم يقولوا: إن الله جسم”([26]).
وقد مرَّ ذكر أنَّ السلف أثبتوا الأسماء والصفات دون أن يصفوا الله بالجسم أو ينفوه عنه، وبين ابن تيمية رحمه الله أن الناس في هذا أربعة أصناف، فمنهم من يثبت الأسماء والصفات كليا أو جزئيًّا وينفون الجسم عن الله، ومنهم من يثبت الأسماء والصفات ويقول: هو جسم لا كالأجسام، ومنهم من يصفه بالتجسيم، ومنهم من يثبت الأسماء والصفات مع عدم الخوض في الجسم نفيًا وإثباتًا، وهذا هو القول الذي يؤثر عن السلف، يقول رحمه الله عن هؤلاء وهو يعدد الأصناف الأربعة: “وصنف يثبتون هذه الصفات ولا يتعرضون للتركيب والتجسيم والتبعيض ونحو ذلك من الألفاظ المبتدعة، لا بنفي ولا إثبات؛ لكن ينزهون الله عما نزه عنه نفسه، ويقولون: إنَّه أحد، صمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد… وهذا القول هو الذي يؤثر عن سلف الأمة وأئمتها، وعليه أئمة الفقهاء وأئمة الحديث وأئمة الصوفية وأهل الاتباع المحض من الحنبلية على هذا القول؛ يحافظون على الألفاظ المأثورة، ولا يطلقون على الله نفيًا وإثباتًا إلا ما جاء به الأثر وما كان في معناه”([27]).
ويقول رحمه الله وهو يبين منهج السلف: “وأما من لا يطلق على الله اسم (الجسم)، كأئمة أهل الحديث والتفسير والتصوف والفقه، مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم، وشيوخ المسلمين المشهورين في الأمة ومن قبلهم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فهؤلاء ليس فيهم من يقول: إن الله جسم، وإن كان أيضا ليس من السلف والأئمة من قال: إن الله ليس بجسم. ولكن من نسب التجسيم إلى بعضهم فهو بحسب ما اعتقده من معنى الجسم ورآه لازما لغيره”([28]).
رابعًا: أنه يردُّ على من أثبت الجسم لله:
وهذا من أكثر ما يردُّ عن ابن تيمية تهمة التجسيم، فإنه يردُّ على المجسمة، ويبين خطأ قولهم، ويعدد من ذكر ذلك من الهاشمية وغيرهم، يقول رحمه الله: “فيقال: الكلام على هذا من وجوه: أحدها: أن يقال: هذا اللفظ بعينه -أن الله جسم له طول وعرض وعمق- أول من عرف أنه قاله في الإسلام شيوخ الإمامية كهشام بن الحكم وهشام بن سالم… وهذا ممَّا اتفق عليه نقل الناقلين للمقالات في الملل والنحل من جميع الطوائف… ونقل الناس عن الرافضة هذه المقالات وما هو أقبح منها، فنقلوا ما ذكره الأشعري وغيره في كتب المقالات عن بيان بن سمعان التميمي الذي تنتسب إليه البيانية من غالية الشيعة أنه كان يقول: إن الله على صورة الإنسان، وإنه يهلك كله إلا وجهه”([29]).
وقد بيَّن ابن تيمية رحمه الله أن هذا القول بدعة وضلال، فقال رحمه الله: “ولا ريب أن من جعل الرب جسمًا من جنس المخلوقات فهو من أعظم المبتدعة ضلالًا، دع من يقول منهم: إنه لحم ودم ونحو ذلك من الضلالات المنقولة عنهم”([30]).
ويقول رحمه الله: “ومن قال من القائلين بأنَّه جسم فيقول: إنه مركب من الجواهر المنفردة، أو من المادة والصورة، فهؤلاء مذمومون لفظًا ومعنى عند جماهير المسلمين وغيرهم”([31]).
بل ذكر رحمه الله أنَّ غلاة المجسمة يكفرهم علماء المسلمين، يقول مخاطبًا النَّصارى: “غلاة المجسمة الذين يكفرهم المسلمون أحسن حالًا منكم شرعًا وعقلًا، وهم أقل مخالفة للشرع والعقل منكم”([32]).
وتبيَّن من خلال هذا العرض تصريح ابن تيمية رحمه الله بأنَّه لا يقال عن الله: جسم أو غير جسم؛ لأنه لفظ لم يرد في الكتاب والسنة، ولم يقل به السلف الصالح، بل ذمّوا من أثبته، ولا يعني هذا نفي المعاني التي من أجلها ينفي المتكلمون لفظ الجسم عن الله سبحانه وتعالى وهي: الصفات الفعلية وإثباتها، فإنَّ أهل السنة يثبتون الأسماء والصفات كما وردت في الكتاب والسنة، ومع ذلك لا يصفون الله بالجسم، فلا تلازم عندهم بين إثبات الصفات وبين الجسمية.
وهذا كافٍ في بيان موقف ابن تيمية، إلا أنَّ الكتب المخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة طافحة بنسبة التجسيم إلى ابن تيمية رحمه الله، يجتمع على ذلك الرافضة والأشعرية والأحباش وغيرهم، وسنستعرض جملةً من أصول تلك الدعاوى ونناقشها، لكن قبل أن ندلف إليها نختم هذا الجزء ببيان منهجية الإمام ابن تيمية رحمه الله في الحجاج فيما يتعلق بهذه المسألة، فإن هذا سيزيل كثيرًا من الإشكالات التي يذكرها “البتّارون” الذين يبترون بعض النصوص عن سياقاتها ويلصقون التجسيم بابن تيمية، فذكر هذه المقدمة المنهجية يبين ما وقعوا فيه من أخطاء منهجية قبل الخوض في تفاصيل دعاويهم.
منهجية ابن تيمية في الحجاج في هذه المسألة:
هذا المنهج يتّبعه ابن تيمية رحمه الله في مناقشة المتكلمين وغيرهم، ويظنّ الظانّ ممن لا يدرك منهجه أن كلام ابن تيمية عن المسألة الواحدة في كل المواضع كلام واحد يقرر فيه مذهبه فقط، والصحيح أن ابن تيمية رحمه الله أحيانًا يُلزم خصمه بأمور، أو يتنزّل فيلتزم أو يتقمّص فِرقًا أخرى ويتكلّم على لسانها، كل هذا في المسألة الواحدة، فوجب تفريق كلامه بين ما كان كلامَ مقرِّرٍ مؤصِّلٍ للمسألة، وما كان في معرض الرَّد، وما كان في معرض التنزُّل وقبول اللوازم، وبين ما كان في الحجاج وتقمّص ابن تيمية لرأي بعض الفرق وكلامه بلسانها ضدَّ من يريد أن يحتجَّ عليهم.
والذي أريد أن أبينه هو: أن ابن تيمية عند الحجاج أحيانا يتكلّم بلسان بعض المتكلمين الذين يثبتون صفاتٍ أكثر من الرازي فيردّ بقولهم عليه، فينسب بعضُ المشنعين هذا الكلام الذي ينقله عن بعض المتكلمين إلى ابن تيمية، وهو رحمه الله في مواطن أخرى يبين أن ما يُلزم به الرازي لا يلزمه، ومع ذلك فإن (تنزَّل) والتزم بهذه اللوازم فلا شيء عليه، ولا يبطل هذا قوله في إثبات الصفات، فيأتي المشنّع وينسب إلى ابن تيمية أنه يقول بالتجسيم، بينما في الحقيقة هو لازمٌ ذكَر ابن تيمية أنه لا ضيرَ إن التزمَه لكنّه لا يلتزمُه، وهذا كله عند الحجاج لا عند التقرير. ويفعل هذا رحمه الله لأمور عديدة، من أهمها:
1- أن يبين أنَّ المخالف قولُه ضعيف لا يقوى على الردّ على اعتراضات متكلّم آخر أو الرد على مذهب ليس هو مذهب أهل السنة والجماعة، فإذا كان لا يستطيع الرد على هذا المذهب فأنّى له أن يبطل اعتراضات أهل السنة والجماعة ويردّ عليهم، وهذا يصرح به ابن تيمية في كتابه “بيان تلبيس الجهمية” الذي هو عمدة المعترضين على ابن تيمية ومن ينسبونه إلى التجسيم، يقول: “مع العلم بأن المقصود ذكر القول الفصل والحكم العادل فيما يذكره النفاة من الحجج والجواب عما ذكره من جهة منازعيه، ليس المقصود استيفاء حجج المثبتة؛ بل إذا تبين أن هذا الذي هو الإمام المطلق في المتأخرين من هؤلاء النفاة المتكلمين والفلاسفة وعرف فرط معاداته لهؤلاء المثبتة الذين ذكرهم وذكر حججهم مع ما هم عليه من ضعف الحجج، وقلة المعرفة بالسنن ومذاهب السلف، ومع ما فيهم من الانحراف؛ ثم تبين ظهور حججهم العقلية التي ذكرها مع السمعية على ما استوفاه من حجج النفاة العقلية والسمعية مع استعانته بكل من هو من النفاة حتى المشركين الصابئين مثل أرسطو وأبي معشر وشيعتهما من الفلاسفة والمنجمين والمعتزلة وغيرهم، ومع أنه لم يبق ممكنًا فيما فيه شبهة حجّة عرف من الحق ما يهدي به الله من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين”([33])، ويقصد بهذا الكرامية كما هو معروف بأن ابن تيمية نصر الكرامية على الرازي في هذا الكتاب، وبين أنهم أقرب إلى الحقّ، ففي هذ النصّ يبين له بأن محاججته بأقوال الكرامية على ما عليه من ضعف في الحجج وقلة في المعرفة بالسنن ومذاهب السلف، فمع ذلك كانت حجج الرازي عليهم داحضة، ولم يجد الرازي ما يدفع به اعتراضاتهم، فكيف باعتراضات أهل السنة والجماعة، فابن تيمية بهذا الصنيع يبين ضعف أقوال الرازي وعدم ثبوتها أمام مذهب ضعيف في معرفة السنن، فكيف أمام أهل السنة والجماعة؟!
2- وتارة يفعل ابن تيمية هذا حتى يضرب الأقوال المخالفة بعضها ببعض، فيأتي بقول المجسم ويعترض به على من ينفي الصفات، ويأتي بقول من ينفي الصفات والتجسيم واعتراضاته على المجسم، فيضرب الباطل بالباطل ليدلّ على الحق الذي ينجو من الباطلين ولا تصحّ فيه اعتراضات الفريقين، ومن جنس هذا أن يقول للنفاة أحيانًا: إن قول المجسمة أخف بدعة وأقرب إلى الحقّ من قولكم، قيتلقّف المعترض الناقد هذه الكلمة ويجعلها دليلا على ميل ابن تيمية للتجسيم أو قوله به، بينما لابن تيمية رحمه الله مغزى آخر يبينه بقوله: “والمناظرة تارة تكون بين الحق والباطل، وتارة بين القولين الباطلين لتبين بطلانهما أو بطلان أحدهما أو كون أحدهما أشد بطلانا من الآخر، فإن هذا ينتفع به كثيرًا في أقوال أهل الكلام والفلسفة وأمثالهم ممن يقول أحدهم القول الفاسد وينكر على منازعه ما هو أقرب منه إلى الصواب، فيبين أن قول منازعه أحق بالصحة إن كان قوله صحيحًا، وأن قوله أحق بالفساد إن كان قول منازعه فاسدًا؛ لتنقطع بذلك حجة الباطل، فإن هذا أمر مهم، إذ كان المبطلون يعارضون نصوص الكتاب والسنة بأقوالهم، فإن بيان فسادها أحد ركني الحق وأحد المطلوبين، فإن هؤلاء لو تركوا نصوص الأنبياء لهدت وكفت، ولكن صالوا عليها صول المحاربين لله ولرسوله، فإذا دفع صيالهم وبيّن ضلالهم كان ذلك من أعظم الجهاد في سبيل الله”([34]).
فيرى ابن تيمية في موضع الحجاج أن يبطل القول الأقوى ويبيّن أن قول المخالف له أقرب إلى الحق وإن كان يبطل هذا في مواضع أخرى، فتراه أحيانًا يعارض قول النافي للصفات بقول المجسم ليريه أنه لا يملك دفعًا لاعتراضاته، ويفعل هذا كثيرًا رحمه الله فيقابل الأشعرية بكلام أوائلهم، ويقابله بكلام الكرامية، وإن كان هو يخطئ القولين، ويبطل المنهجين.
3- ويفعل ذلك مرات حين يلتزم باللوازم التي يذكرها المخالف، فيقول له ابن تيمية: إن الحق حقٌّ وما يلزم من الحق حق، فهب أني التزمت بهذه اللوازم التي ذكرتها، فماذا يكون؟! فإن أثبتُّ الصفات وادعيتم أن هذا يلزم منه التجسيم، فماذا كان؟! أين إبطال التجسيم نصًّا صريحًا من الكتاب والسنة؟! وأين إبطال التجسيم بهذا المعنى بالخصوص؟! وإن التزمت بالتجسيم هل يبطل قولي بالصفات التي وردت في الكتاب والسنة؟!
ومثل هذا قوله مثلًا: “أن يقال: إذا كان فوق العرش فلا يخلو: إما أن يلزم أن يكون جسمًا أو لا يلزم، فإن لم يلزم بطل مذهب النفي، فإن مدار قولهم على أن العلو يستلزم أن يكون جسمًا، فإذا لم يلزم ذلك لم يكن في كونه على العرش محذور، وإن لزم أن يكون جسمًا فإن لازم هذا القول قدم ما يكون جسمًا، وحينئذ فقول القائل: إن كان المكان موجودًا كان جسمًا ولزم قدم الأجسام لدوامه؛ لا يكون محذورًا على هذا التقدير، ولا يصح الاستدلال على انتفاء المكان بهذا الاعتبار”([35]).
فهو يقول للمخالف: أنا أثبت العلو وما ذكره الله ورسوله في الكتاب والسنة، وإثبات هذا إما أن يلزم منه التجسيم أو لا يلزم منه، فإن كان لا يلزم فقد بطل قولك في نفي العلو لأنك بنيته عليه، وإن كان يلزم التجسيم فإنه ليست لك أدلة على إبطاله، وأدلتك العقلية على نفي العلو وإبطال التجسيم منفية مردود عليها، فقول المخالف مردود عليه على كل حال، ثم يقرر ابن تيمية نفي الجسمية في مواضع أخرى إذ هذا الموضع ليس المراد منه التأصيل.
ومثله قوله رحمه الله وهو أصرح من هذا: “فيقال لهؤلاء: أنتم لم تنفوا ما نفيتموه بكتاب ولا سنة ولا إجماع، فإنَّ هذه الألفاظ ليس لها وجودٌ في النصوص، بل قولكم: لو رئي لكان في جهة، وما كان في جهة فهو جسم، وما كان جسما فهو محدث؛ كلام تدعون أنكم علمتم صحته بالعقل، حينئذ فتطالبون بالدلالة العقلية على هذا النفي، وينظر فيه بنفس العقل.
ومن عارضكم من المثبتة أهل الكلام من المرجئة وغيرهم كالكرامية والهشامية وقال لكم: فليكن هذا لازمًا للرؤية، وليكن هو جسمًا، أو قال لكم: أنا أقول: إنه جسم، وناظركم على ذلك بالمعقول، وأثبته بالمعقول كما نفيتموه بالمعقول، لم يكن لكم أن تقولوا له: أنت مبتدع في إثبات الجسم، فإنَّه يقول لكم: وأنتم مبتدعون في نفيه، فالبدعة في نفيه كالبدعة في إثباته وإن لم تكن أعظم، بل النَّافي أحقّ بالبدعة من المثبت؛ لأنَّ المثبت أثبت ما أثبتته النصوص، وذكر هذا معاضدةً للنصوص، وتأييدًا لها، وموافقة لها، وردًّا على من خالف موجبها.
فإن قدر أنَّه ابتدع في ذلك كانت بدعته أخف من بدعة من نفى ذلك نفيًا عارض به النصوص”([36]).
وأحيانًا يأتي المعترض فيبتر كلامه وهو يلتزم بهذا اللازم تنزلًا وحجاجًا، فيجعله هو تقرير كلامه وأنه هو ما يؤصله ويراه، ويترك النصوص الصريحة الأخرى، وستمرّ بنا أمثلة عديدة على هذه المغالطات التي يستخدمها المخالفون حين يستدلون بكلام ابن تيمية على نسبة التجسيم له، خاصة في كلام سعيد فودة في “الكاشف الصغير” الذي سوّد فيه صفحات عديدة للاستدلال على أن ابن تيمية مجسّم، ولم يفرق فيه بين ما هو من كلامه وما هو من كلام غيره، وبين ما يقرره ابن تيمية وما يقرر أنه يلتزمه ليدل على أنه لا شيء عليه ولو التزمه، فيأتي المشنّعون إلى قول ابن تيمية: “قالت المثبتة” أو “هذا قول المثبتة”، فيجعلونه من كلام ابن تيمية بإطلاق، ولا يلتفت إلى أن ابن تيمية رحمه الله يدخل في هذا اللفظ الكرامية والمجسمة وغيرهم كما هو صريح كلامه رحمه الله إذ يقول: “فإن أهل الإثبات من أهل الحديث وعامة المتكلمة الصفاتية من الكلابية والأشعرية والكرامية وغيرهم”([37])، ويقول: “ومتكلمة أهل الإثبات للصفات والقدر مثل الكرامية والكلابية والأشعرية والسالمية وغيرهم أقرب إلى موافقة المعقول الصريح والمنقول الصحيح وإن كان لكل منهم من الخطأ ما لا يوافقه الآخر عليه، فأما السلف والأئمة وأكابر أهل الحديث والسنة والجماعة فهم أولى الطوائف بموافقة المعقول الصحيح والمنقول والصحيح”([38]).
كما يأتي المشنعون إلى مواضع ينص فيها ابن تيمية بأن قول الكرامية المجسمة -بالمعنى الذي يحدده في سياق الكلام- أقرب إلى الحق، فينتهزها ليجعل ذلك كلامه، وغير ذلك من الأخطاء عند اختيار نصوص ابن تيمية الدالة -في زعمهم- على التجسيم، وحين ذُكر ذلك للحيدري وأن بعض النصوص التي يوردها لها ما يبطلها في السابق أو اللاحق اعترف بأنه لن يقرأ خمسين صفحة قبل النصّ وبعده، وإنما يأخذ النصّ الذي أمامه، فهل هذه منهجية علمية صحيحة في النقد حتى يخصّص لها الحيدري عشر حلقات؟! إلى غير ذلك من الأمور التي سيأتي بيان أصولها في الجزء الثاني من الورقة.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) اعتقادات فرق المسلمين والمشركين (ص: 63-64).
([2]) ينظر: مقالات الإسلاميين (1/ 165).
([3]) منهاج السنة النبوية (1/ 72-73). وينظر: الفرق بين الفرق (ص: 48)، والتبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين للإسفراييني (ص: 40).
([4]) كتب عدد من الباحثين في تبرئة ابن تيمية رحمه الله من التجسيم، ومن الكتب التي تناولت الموضوع: براءة شيخ الإسلام ابن تيمية من تهمة التشبيه والتجسيم وبيان تلبيس السقاف نصير الإلحاد والتعطيل لفتحي عيساوي، وعقيدة التجسيم وموقف ابن تيمية منها لفهد محمد فهد هارون، وبراءة شيخ الإسلام ابن تيمية من القول بالتجسيم لعبد الباسط بن يوسف الغريب. وينظر أيضًا: دعاوى المناوئين لشيخ الإسلام ابن تيمية، ونقض الكاشف الصغير، ومقالة التَّجسيم دراسة نقديَّة لخطاب خصوم ابن تيميَّة المعاصرين لفهد محمد هارون، وغيرها.
([5]) دفع شبه من شبّه وتمرد (ص: 123).
([6]) استغرق صفحات كثيرة للدلالة على هذا (ص: 119-289)، وإن كان الكتاب كله أو معظمه يدور حول هذا المعنى.
([7]) ينظر: عقائد الأشاعرة في الجولة الثانية من الحوار (ص: 71-94).
([9]) ينظر: لسان العرب (12/ 99)، والمحيط في اللغة (2/ 92).
([10]) شرح الأصول الخمسة (ص: 217).
([11]) الشامل في أصول الدين (ص: 315).
([12]) ينظر: المطالب العالية من العلم الإلهي (2/ 27).
([13]) المطالب العالية من العلم الإلهي (2/ 32).
([15]) شرح حديث النزول (ص: 69-70).
([16]) شرح حديث النزول (ص: 70-72).
([17]) مقالة التجسيم (ص: 145-155).
([18]) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (4/ 432).
([19]) منهاج السنة النبوية (2/ 224-225).
([20]) درء تعارض العقل والنقل (10/ 306).
([21]) درء تعارض العقل والنقل (10/ 311-313).
([22]) منهاج السنة النبوية (2/ 134).
([23]) درء تعارض العقل والنقل (10/ 302-303).
([24]) بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (3/ 136-137).
([25]) ينظر: درء تعارض العقل والنقل (10/ 307-308، 6/ 130)، والتدمرية (ص: 65-66)، ومجموع الفتاوى (5/ 298).
([26]) الفتاوى الكبرى (6/ 547).
([27]) بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (1/ 271-272، 372).
([28]) منهاج السنة النبوية (2/ 105).
([29]) منهاج السنة النبوية (2/ 501-502).
([30]) الفتاوى الكبرى (6/ 547).
([31]) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (4/ 431-432)، وينظر: بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (1/ 285).
([32]) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (4/ 451).
([33]) بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (4/ 266-267).
([34]) درء تعارض العقل والنقل (4/ 206).
([35]) درء تعارض العقل والنقل (6/ 317).
([36]) درء تعارض العقل والنقل (1/ 248).
([37]) اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم (2/ 324).
([38]) الصفدية (1/ 160-161). وينظر: الانتصار للتدمرية لماهر أمير (ص: 63-66).