وقفات مع هدم القباب في البقيع والأضرحة من كتاب: (لمحات من الحياة العلمية في المدينة المنورة من القرن الحادي عشر إلى القرن الرابع عشر)
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
أولًا: بيانات الكتاب:
يعدُّ هذا الكتابُ من المراجع المهمَّة في الحياة العلمية في المدينة المنورة، ففيه رصد تاريخيٌّ استقرائيٌّ لبعض الأحداث المهمة في المدينة المنورة، كما أنَّ فيه تحليلًا ونقدًا لها.
ولعل من أهم النتائج التي توصل لها الباحث أن الظن بأن هذه القرون الأخيرة ليست إلا فترة ضعف وركود علمي هو ظن ليس بالصحيح، بل إن إرهاصات النهضة العلمية في الحجاز كانت بذرتها في تلك الفترة، وقد آتت أكلها في عدة بلدان.
عنوان الكتاب: لمحات من الحياة العلمية في المدينة المنورة من القرن الحادي عشر إلى القرن الرابع عشر.
اسم المؤلِّف: د. سعيد بن وليد طوله.
الناشر: مكتبة الدكتور عبد الله بن علي آل الشيخ مبارك الوقفية.
رقم الطبعة: الأولى.
سنة الطبع: 1439ه – 2018م.
عدد الصفحات: 598 صفحة.
سبب التأليف: يرى المؤلف أن هذه الِحقَب الزمنية المهمة لم تنل حظها من التأليف كمثيلاتها من الحقب السابقة، وأرجع السبب في ذلك إلى عدة احتمالات منها: الكسل الحاصل بين المؤرخين في التدوين التاريخي، إضافة إلى ضياع العديد من التآليف بسبب ما تعرضت له المدينة من أحداث زاخرة بالتقلبات السياسية.
ثانيًا: نطاق الملاحظة على الكتاب:
ملاحظاتنا على الكتاب ستتركَّز حول مبحث: هدم القباب في البقيع والأضرحة، ومناقشة قراءة المؤلف لهذا الحدث.
تمهيد:
سلك المؤلف في هذا الكتاب لغة حذرة؛ نظرًا لحساسية مباحثه، خاصة فيما يتعلق بالدعوة السلفية، وطريقتُه في تناول دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه فيها استفهامات كثيرة، وحاول أن ينأى برأيه الصريح تجاهها. ومهما كانت الدوافع التي جعلته يتَّخذ الحيادية في الموضوع، إلا أن هذا لا يمنع أن نناقش المنهج الذي سلكه في الكتاب في بعض تلك القضايا؛ إذ ليس المقصود محاكمة المؤلف ورأيه الشخصي بقدر ما هو مناقشة الأحداث التاريخية المذكورة وتحليلات كاتبها، والتي يمكن أن يُفهم توجهه من خلالها والرسالة التي يودُّ إيصالها وإن لم يصرح بها، ومن تلك المباحث المهمة التي تعرض لها في الكتاب والتي نحن بصدد مناقشتها: مسألة هدم القباب في البقيع والأضرحة.
خلاصة ما ذكره المؤلف:
يتلخّص ما ذكره المؤلف في أن الإخوان([1]) هم من ضغطوا على الملك عبد العزيز لهدم القباب في البقيع، وأن علماء المدينة أفتوا بذلك، وهم (18) مفتيًا، وأن معظم هؤلاء مخالفون لما وقَّعوا عليه، بل ماتوا على طرقهم الصوفية وآرائهم الفقهيّة، بل إن بعضهم أُكره على وضع اسمه.
وهذا ما يشكِّك في مصداقية هذه الفتوَى، من حيث عدم تطابق محتواها مع عقيدة الموقعين عليها.
ثم رجَّح المؤلف أن مثل هذه الفتاوى لا يؤخذ بها في معرفة عقائد العلماء المفتين وآرائهم؛ لوجود عدة عوامل سياسية واجتماعية مؤثرة في فتاواهم.
وضرب لذلك مثالًا: وهو فتوى علماء الحرمين في الدعوة الوهابية، لما حكمت الدولة السعودية الأولى الحجاز، وأن من نتائجها: أن كتب علماء الحرمين فتاوى تؤيد ما عليه الدعوة الوهابية، وبعد خروج الوهابيين من الحجاز واستيلاء محمد علي باشا عليها حرَّر علماء مكة أنفسهم رسالة إلى محمد علي باشا واصفين الوهابية أنهم الخوارج المعتدون الطغاة البغاة الملحدون، الذين سعوا في جزيرة العرب بالفساد.. إلخ.
ثم شرع المؤلف في وصف القباب والأبنية الموجودة في البقيع بأنها على هيئة جميلة من الطراز المعماري، ونقل عمن شهدها بعد الهدم وقد شُوِّهت وتبعثرَ ركامها، كما نقل عمن وصفها بالخراب، وأنها كالمزبلة، ثم بعد ذلك ذكر أن آثار الهدم أزيلت ونظِّفت.
ثم ختم هذا المبحث بلطيفة عن الحجرة النبوية، وأن الإخوان عرضوا كذلك هدم القبة الخضراء أمام الملك عبد العزيز، وأن جلالة الملك لم ينجح في إقناعهم بأنه سيؤدِّي إلى مفسدة أعظم، فاقترح أن يحكِّم بينهم ابن بليهد، فقال لهم ابن بليهد رحمه الله: الذي بنى القبة الخضراء ظالم، والذي يهدمها أظلم، ثم أخذ يقنعهم بعظم المفسدة المترتبة على هدم القبة الخضراء([2]).
قراءتنا لخلاصة ما ذكره:
نجد المؤلف في هذه الجزئية من صنيعه في الكتاب أساء إلى السلفية أيما إساءة، فلو اطَّلع على هذا الكتاب غير المتخصِّص في التاريخ أو الشريعة لخرج يقينًا بأن السلفيين قد فعلوا منكرًا لَمَّا طلبوا هدم قباب مقبرة البقيع، وأنهم يأخذون الفتاوى بالقوة، وليس بالحجة والبرهان، وأن هذه الفتاوى لا قيمة لها؛ إذ إن الموقِّعين غير مقتنعين بما وقَّعوا، وأن هذه ليست المرة الأولى التي يفعلونها، بل فعلوا من قبل أيام الدولة السعودية الأولى مع علماء مكة، وأن القبر بالبناء كان منظره جميلًا ثم تسببت السلفية في تشويه منظره، إلا أنهم في آخر الأمر قاموا بتنظيف الحطام.
كما أن المطَّلع على هذه الجزئية قد لا يفرق بين الإخوان وغيرهم من علماء السلفية، ويختلط عليه الأمر، خاصة أن المؤلف جعل هذه القصة تحت مبحث: الخلاف بين السلفية والصوفية.
فهل فعلًا: هدم القباب فكرة الإخوان، وباقي السلفية لا يرون ذلك؟
هل هذا ما أراد المؤلف إبرازه؟
سنناقش قراءة المؤلف -عفا الله عنه- القاصرة حول هذه المسألة، ونسأل الله لنا وله التوفيق والهداية.
لنبدأ أولًا مع نص المؤلف:
«إن من أوائل الأحداث التي حصلت لما دخل السعوديون المدينة المنورة أن ضغط الإخوان على الملك عبد العزيز في مسألة هدم القباب على القبور اتباعًا للسنة المشرفة، وقد ظلت سليمة أكثر من أربعة شهور، فبدأ الإخوان ينتقدون الملك عبد العزيز، ويتهمونه بالتساهل في تنفيذ أوامر دين الله، فاضطر إلى انتداب القاضي الشيخ عبد الله بن سليمان ابن بليهد رئيس القضاء في الحجاز للنظر في الشؤون الدينية والقضائيّة في المدينة المنورة، وذلك في رمضان سنة 1344ه([3]). فاجتمع ببعض علماء المدينة المنورة، وحاورهم، ووجه لهم أسئلة معيّنة حول بناء القبور وما إلى ذلك، فردوا على هذه الفتوى بجواب مختصر، نهجوا فيه نهج السلفيين، كتبت بخط الشيخ أحمد البساطي رحمه الله، وهذا نص الفتوى([4]):
فتوى علماء المدينة المنورة:
السؤال: ما قول علماء المدينة المنورة -زادهم الله فهمًا وعلمًا- في البناء على القبور واتخاذها مساجد، هل هو جائز أم لا؟ وإذا كان غير جائز بل ممنوعًا منهيًّا عنه نهيا شديدًا، فهل يجب هدمها ومنع الصلاة عندها أم لا؟ وإذا كان البناء في المسبلة كالبقيع وهو مانع من الانتفاع بالقدر المبني عليه، فهل هو غصب يجب رفعه لما فيه من ظلم المستحقّين ومنعهم استحقاقهم أم لا؟ وما يفعله الجهال عند هذه الضرائح من التمسح بها ودعائها مع الله، والتقرّب بالذبح والنذر لها، وإيقاد السرج عليها، هل هو جائز أم لا؟ وما يفعله عند حجرة النبي r من التوجه لها عند الدعاء وغيره، والطواف بها وتقبيلها والتمسح بها، وكذلك ما يفعل في المسجد الشريف من الترحيم والتذكير بين الأذان والإقامة وقبل الفجر ويوم الجمعة، هل هو مشروع أم لا؟ أفتونا مأجورين، وبينوا لنا الأدلّة المستندة عليها -لا زلتم ملجأ للمستفيدين-.
الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم.
نقول وبالله التوفيق: أما البناء على القبور فممنوع إجماعًا لصحة الأحاديث الواردة في منعه؛ ولهذا أفتى كثير من العلماء بوجوب هدمه مستدلين على ذلك بحديث علي رضي الله عنه أنه قال لأبي الهيّاج: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله r؟! ألّا تدع تمثالًا إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سوّيته) رواه مسلم([5]).
واتخاذ القبور مساجد والصلاة فيها ممنوع مطلقًا، وإيقاد السرج عليها ممنوع أيضًا، لحديث ابن عبّاس: (لعن رسول الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج) رواه أهل السنن([6]).
وأما ما يفعله الجهال عند الضرائح من التمسح والتقرب لها بالذبح والنذر ودعاء أهلها مع الله فهو حرام ممنوع شرعًا، لا يجوز فعله أصلًا.
وأما التّوجه إلى حجرة النبي r عند الدعاء فالأولى منعه كما هو معروف من اعتبارات كتب المذهب، ولأن أفضل الجهات جهة القبلة.
وأما الطواف بها والتمسح بها وتقبيلها فهو ممنوع مطلقًا.
وأما ما يفعل من التذكير والترحيم والتسليم في الأوقات المذكورة فهو محدث.
هذا ما وصل إليه فهمنا السقيم، وفوق كل ذي علم عليم.
المفتون:
1- وكيل رئيس القضاة وأمين الفتوى بالمدينة المنورة محمود بن علي شويل.
2- قاضي المدينة المنورة ومفتي الحنفية إبراهيم بن عبد القادر بري.
3- نائب القاضي ومفتي المالكية محمد بن صادق العقبي.
4- نائب القاضي ومفتي الشافعية السيد زكي بن أحمد بن إسماعيل البرزنجي.
5- وكيل مفتي الحنابلة ونائب القاضي محمد حميدة بن الطيب الإبراهيمي.
6- الشيخ محمد الألفا هاشم (مدرس مدني).
7- نائب الحرم الشيخ محمد بن محمد كمال الدين الإخميمي الأزهري.
8- الشيخ محمد بن أحمد العمري (مغربي مدني).
9- الشيخ محمد بن علي ابن تركي (من علماء نجد).
10- السيد محمد بن حسين صقر الجمازي (مدرس مدني).
11- نائب القاضي سابقًا ومسود الفتوى الآن الشيخ أحمد بن مصطفى بساطي.
12- قاضي المدينة سابقًا الشيخ عمر بن عبد المحسن كردي.
13- قاضي المدينة سابقًا السيد أحمد بن أسعد كماخي.
14- الشيخ الميلود بن أبي بكر الجزائري (مدرس مدني).
15- الشيخ سعيد بن صديق الفوتي (مدرس مدني).
16- الشيخ محمد البشير الفوتي وهو أخو الألفا هاشم (مدرس مدني).
17- الشيخ محمد الطيب بن إسحاق التنبكتي (مدرس مدني).
18- الشيخ خليل بن أحمد الفلاتي (مدرس مدني).
وبناء على هذه الفتوى فقد هدمت قباب البقيع، ثم جاءت فتوى من بعض علماء مصر في 29 شوال سنة 1344ه تؤيّد الهدم([7])، وفي 8 شوال أخذ الشيخ ابن بليهد جماعة من النخاولة وذلك بمعونة من وكيل الأمير في المدينة، وأجبرهم على هدم القباب المبنية في البقيع([8])، وهدموا أيضًا الأبنية على قبر سيد الشهداء حمزة، وقبر محمد النفس الزكيّة، وقبر علي العريضي رضي الله عنهم.
قراءة المؤلف للفتوى:
ومما يستدعي النظر في هذه الفتوى أسماء الموقعين عليها، فإن العالِم بتراجم أهل المدينة وطبقاتهم يعلم يقينًا أن معظم هؤلاء مخالفون لما وقَّعوا عليه، بل ماتوا على طرقهم الصوفية وآرائهم الفقهيّة، غير أنها تحتوي على أسماء بعض السلفيين من أمثال الطيب التنبكتي، ومحمود شويل، ومحمد بن علي ابن تركي، وغيرهم.
فمن أولئك المخالفين الشيخ محمد الألفا هاشم الفلاتي الذي كان شيخ الطريقة التيجانية في المدينة، وله وجهة نظر أخرى غير ما هو مذكور في الفتوى، وكان تيجانيًّا إلى أن توفاه الله، وأيضًا أخوه محمد البشير، وتلميذه الشيخ خليل الفلاتي، وسعيد بن الصديق. ومنهم أيضًا السيد محمد زكي البرزنجي، والشيخ محمد الإخميمي، فكلاهما من أهل الطرق الصوفيّة، وبقيا إلى وفاتهما.
ومما يُستغرب له وجود اسم الشيخ محمد بن أحمد العمري في هذه الفتوى، وقد تبرّأ منها، ورفض أن يوضَع اسمه فيها، كما أورد ذلك الشيخ محمد بن علي زغوان الطرابلسي في رحلته سنة 1344ه، قال: (وقد كلّفه قاضي قضاة الوهابيين على أن ينزل اسمه في فتوى الذي عملها في هدم الأضرحة المباركة والمآثر الشريفة النبويّة، فأبى ولم يسمع لهم كلام، حتى أنهم هددوه فقال لهم: والله، لو تخرجوني أو تقتلوني لا أفتي لكم في هذا الموضوع، ولا أنزل اسمي في فتواكم)([9]).
وهذا النص يشكِّك في مصداقية هذه الفتوى من حيث عدم تطابق محتواها مع عقيدة الموقعين عليها.
ومن الملاحظ أيضًا في هذه الفتوى تجنب إطلاق ألفاظ الشرك والبدعة، بل غاية ما جاء فيها أن كل هذه الأمور المذكورة غير جائزة أو ممنوعة أو محرمة، والتي حكموا عليها بأنها محدثة لم يحكموا ببدعيتها، مما يدل على أن الفتوى كتبت باحتراز.
والذي أراه أن مثل هذه الفتاوى لا يؤخذ بها في معرفة عقائد وآراء العلماء المفتين؛ لوجود عدة عوامل سياسية واجتماعية مؤثرة في فتاواهم، وأذكر مثالًا بسيطًا يوضح هذه المسألة من واقع تاريخ مكة المكرمة:
فتوى علماء الحرمين في الدعوة الوهابية:
لما حكمت الدولة السعودية الأولى الحجاز حصلت مناظرات بين علماء نجد وعلماء مكة والمدينة، كان من نتيجتها أن كتب علماء الحرمين فتاوى تؤيد ما عليه الدعوة الوهابية، فمن ذلك فتوى علماء مكة التي جاء فيها:
(نشهد -ونحن علماء مكة، الواضعون خطوطنا وأختامنا في هذا الرقيم- أن هذا الدين الذي قام به الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى ودعا إليه إمام المسلمين سعود بن عبد العزيز من توحيد الله، ونفي الشرك الذي ذكره في هذا الكتاب، أنه هو الحق الذي لا شك فيه ولا ريب، وأن ما وقع في مكة والمدينة سابقا، ومصر والشام وغيرهما من البلاد إلى الآن، من أنواع الشرك المذكورة في هذا الكتاب، أنه الكفر المبيح للدم والمال، والموجب للخلود في النار، ومن لم يدخل في هذا الدين، ويعمل به، ويوالي أهله، ويعادي أعداءه، فهو عندنا كافر بالله واليوم الآخر، وواجب على إمام المسلمين والمسلمين جهاده وقتاله، حتى يتوب إلى الله مما هو عليه، ويعمل بهذا الدين)([10]).
ووقّع على هذه الفتوى كل من: عبد الملك القلعي مفتي الحنفيّة، ومحمد صالح بن إبراهيم الرّيس مفتي الشافعية، ومحمد بن محمد عربي البناني مفتي المالكية، ومحمد بن أحمد المالكي، ومحمد بن يحيى مفتي الحنابلة، وعبد الحفيظ بن درويش العجيمي، والسيد زين العابدين جمل الليل، والسيد علي بن محمد البيتي، وعبد الرحمن جمال، وبشر بن هاشم الشافعي.
والغريب أنه بعد خروج الوهابيين من الحجاز واستيلاء محمد علي باشا عليها حرّر علماء مكّة أنفسهم رسالة إلى محمد علي باشا سنة 1228ه، جاء فيها:
(وبعد، فإن الرافعين لهذا لمحضر المسطور، المحيطة خطوطهم به إحاطة الهالة بالبدور، الباعثين به إلى سوح عالي جنابكم الكريم، باب سعادتكم العظيم، من المفاتي والخطباء والأئمة والمدرسين والعلماء والصلحاء والمتقين، ينهون إلى مسامعكم العليّة الطاهرة، ويعرضون بين يدي سعادتكم السنية الفاخرة، بأنه قد وفدت إليهم عساكركم المنصورة، التي حفّت بألوية التأييدات المنشورة، فأنقذتهم من أيدي أولئك الشرون([11]) الخوارج المعتدين، الطغاة البغاة الملحدين، الذين سعوا في جزيرة العرب بالفساد، وزيفوا عقائدهم بالحلول والاتحاد، واستحلوا دماء أهل الإسلام، وصدوا كل وافد إلى بيت الله الحرام، فشكر الله صنيعكم على هذه النعمة العظيمة… إلخ)([12]).
ووقّع عليها علماء مكّة الذين ورد اسمهم في الفتوى السابقة، ومنهم: عبد الملك القلعي مفتي الحنفية، ومحمد صالح الريس مفتي الشافعية، ومحمد عربي بناني مفتي المالكية، ومحمد بن يحيى مفتي الحنابلة، والشيخ عبد الحفيظ العجيمي، وغيرهم.
وبالمقارنة بين هذين النصين يتبين جليًّا أنه لم يلجئهم إلى هذا التناقض إلا العوامل الأخرى من سياسة أو خوف أو غير ذلك، وعلى هذا تندرج الفتاوى الأخيرة التي صدرت سنة 1344ه، ولا يمكن إلزام العلماء الموقعين عليها لما ذكرنا، والله أعلم»([13]).
إلى هنا ينتهي النقل عن المؤلف، وسنشرع -بحول الله وقوته- في مناقشة ما أورده.
مناقشة كلام المؤلف:
لنا مع ما قرَّره المؤلف مجموعةٌ من الوقفات:
الوقفة الأولى: بدأ المؤلف المسألة بالإشعار أن الملك عبد العزيز رحمه الله لم يكن من اهتماماته هدم القباب في البقيع والأضرحة، وإنما حصل ذلك بعد محاولة الإخوان وتحريضهم عليه.
نقول: سلَّمنا بصحة ما ذُكر أن الملك عبد العزيز رحمه الله لم يكن في الأربعة الأشهر الأولى منشغلًا بذلك، فهل يتوقع المؤلِّف أن هذا هو رأي الملك عبد العزيز في تلك المشاهد، وأنها سوف تبقى وتستمرّ؟!
المتأمِّل في تاريخ الدولة السعودية -ليست الثالثة فحسب، بل الأولى والثانية والثالثة معًا- يعرف أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -ومنه هدم القباب المبنية على القبور- من أولويات اهتماماتها.
وربما يتم تأخير بعض ذلك أو تأجيله لمراعاة الأولويات والمصلحة العامة، مع المنع التام من إقامة أي بدعة متعلقة بتلك البقاع.
وليست القباب في المدينة المنورة هي الوحيدة التي هدمت في بداية عهد الملك عبد العزيز، بل حال سائر القبور في مكة وجدة والطائف مثلها كذلك، فقد أورد العاملي ما فعله أتباع الدعوة السلفية من هدم القباب والأبنية على القبور في عهد الملك عبد العزيز، وقال: (لما دخل الوهابيون إلى الطائف هدموا قبة ابن عباس كما فعلوا في المرة الأُولى، ولما دخلوا مكة المكرمة هدموا قبة عبد المطلب جد النبي r، وأبي طالب عمه، وخديجة أم المؤمنين، وخرَّبوا مولد النبي r، ومولد فاطمة الزهراء، ولما دخلوا جدة هدموا قبة حواء وخربوا قبرها، كما خربوا قبور من ذكر أيضًا، وهدموا جميع ما بمكة ونواحيها والطائف ونواحيها من القباب والمزارات والأمكنة التي يُتبرك بها)([14])؛ كما حرص الملك عبد العزيز على هدم القبة المبنية على قبر عبد الله بن السامر في نجران([15]).
وقد حرص أعداء هذه الدولة المباركة على تشويه سمعتها من خلال هذه المسألة بعينها التي نحن بصدد الحديث عنها، بل إن المعركة الفكرية والسياسية حول هدم القباب كانت على أشدها؛ نظرًا للانتشار العجيب للبناء على القبور في العالم الإسلامي بأسره([16])، وتعاطف المسلمين مع القول بإبقائها.
وقد تبنى الملك عبد العزيز -طيب الله ثراه- الدفاع عن منهج السلف في هذه المسألة بوضوح، ولم يتنصل منها، أو يتهاون فيها؛ كما يريد البعض أن يظهره.
قال محمد رشيد رضا في دفاعه عن الملك عبد العزيز في مسألة هدم القباب ومحاولة أعداء السلفية تشويه صورته: (لما ولَّى الله إمام السُّنة الملك عبد العزيز بن سعود أَمْرَ حَرَمِه وَحَرَمِ رسولِه لم يجد أعداؤه وسيلة للحيلولة بين العالم الإسلامي وبين رؤية عدله وإقامته لشرع الله وإحيائه لسنة رسوله r إلا دعوتهم إلى ترك فريضة الحج وهدم هذا الركن العام من أركان الإسلام؛ انتقامًا منه لهدمه هياكل الوثنية التي بُنيت على قبور آل البيت والصالحين برغم السنة النبوية)([17]).
ولَمَّا دعا الملكُ عبد العزيز لإقامة المؤتمر الإسلامي بمكة في بدايات حكمه على الحجاز كان من القضايا التي تناولها قضية هدم القباب هذه.
وقد قام زعيمَا الهند شوكت علي ومحمد علي بالتشويش في هذه المسألة على الشعب الهندي بعد المؤتمر، فقد خطَب محمد علي بعد عودته من المؤتمر في أهالي كراجي خطبة حماسية طويلة، وذكر من الأفعال المخالفة التي خالف فيها ابن سعود مسألة هدم القباب العالية والمنارات الشامخة والمقابر والمآثر، وبالغ في تعظيم أمر هذا الهدم لهذه المبتدعات كأنما هدم بها أركان الإسلام، وبكى في أثناء هذا التهويل، وبالغ في الندب والعويل، حتى استبكى الجم الغفير من عباد القبور ومخبولي القباب الشامخة الباذخة الضخمة الفخمة، التي لعن رسول الله r الذين يبنونها مساجد على المقابر في مرض موته؛ ليحذر أمته من فتنتها ومن بناء مثلها([18]).
وقد صرح الملك عبد العزيز لرجال المؤتمر بأن مسألة المقابر والمآثر قد عمل فيها بفتوى العلماء؛ فإذا اجتمعت جمعية من علماء السنة وفقهاء المذاهب الأربعة وأعادوا المذاكرة وأثبتوا بالدليل خطأه في شيء فعله، ووجوب تلافي هذا الخطأ؛ فإنه يأخذ بقولهم. قال رشيد رضا: (هذا ما صرح به مرارًا)([19]).
الوقفة الثانية: قراءة المؤلف للفتوى ابتدأها بالتركيز على أسماء الموقِّعين، بقوله: (ومما يستدعي النظر في هذه الفتوى أسماء الموقعين عليها، فإن العالِم بتراجم وطبقات أهل المدينة يعلم يقينًا أن معظم هؤلاء مخالفون لما وقَّعوا عليه..).
نقول: إن قراءتنا للفتوى بهذه الطريقة التاريخية مع تجاوز الأدلة الشرعية المذكورة فيه كأن لم تكن موجودة -مع أنها الأصل والركن الركين الذي يتكئ عليه السلفيون- إجحاف بالتاريخ الحقيقي لهذه المسألة.
قبل أن نذهب إلى أسماء الموقِّعين علينا أن ننظر إلى ما قبل ذلك، فقد ابتدأ الفتوى بالاحتجاج على النهي عن البناء على القبور بالإجماع؛ لصحة الأحاديث الواردة في منعه، وبفتوى كثير من علماء المسلمين بوجوب هدمها، ثم ذُكر حديثان في ذلك.
هكذا ذُكر في الفتوى.. ولم يعلق المؤلف بشيء مما يتعلق بصحة الاستدلال؛ نظرًا لأنه مبحث تاريخي! ولضمان الوقوف على الحياد بين المختلفَين في الرأي!!
والأمر كما قال العلامة عبد الرحمن المعلمي رحمه الله في هذه المسألة -وإن كان لا ينطبق كل ما ذكره على المؤلف-: (فإذا آنسوا من أحدٍ إنكارًا عليهم قالوا: “وهَّابي”، وتواصوا بهجره وتجنّب مجالسته وسماع كلامه، وجاهروا بتضليله وتفسيقه، بل وتكفيره، ورموه بكل حجرٍ ومدرٍ، وإن أمكنهم أن يلحقوا به الضرب لم يتأخروا عنه. وإذا دُعوا إلى الإنصاف والنظر في الحجج والأدلة، ورأوا أن في الإعراض عن الإجابة ما يؤيد جانب خصومهم، أخذوا يرددون بعض الشبه التي لا تستحق أن تسمى شبهًا، فضلًا أن تسمى أدلة، لكنها على كل حال ربما تجذب أذهان بعض الجُهال).
إلى أن قال: (وهذه كتب فقهاء المذاهب من أصغر مختصر إلى أكبر مطوَّل متفقةٌ على النهي عن البناء وتحريمه في المقابر المسبَّلة، ونص بعضُهم على حُرْمته حتى في الملك، ومن لم يقل بالحُرْمة في الملك أطلق الكراهة التحريمية)([20]).
وقال الشوكاني رحمه الله: (اعلم أنه اتفق الناس -سابقهم ولاحقهم، وأولهم وآخرهم، من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى هذا الوقت- أن رفع القبور والبناء عليها بدعة من البدع التي ثبت النهي عنها، واشتدّ وعيد رسول الله لفاعلها)([21]).
ثم إننا نقول: نعم قد يحصل أن يوقِّع العالم على حكم مسألة يستفتى فيها وهو مخالف لما يعتقده، ولن أتوقف مع المؤلف عند هذه النقطة، وأناقش المبررات لفعل ذلك، إلا أننا نقول: إن كان بعضهم قد وقَّع عن غير قناعة، فهناك من وقَّع عن قناعة، وليس العبرة في معرفة الحق حصر عدد من وقَّع عن قناعة أو غيرها، بل العبرة في مناقشة الدليل والبرهان، وهذا ما لم ينبِّه إليه المؤلف.
لكن السؤال: ما قيمة الاعتراض على الفتوى في هذه المسألة التي سبق أن تكلم السلف فيها وأفتوا بما فعله أتباع الوهابية من هدمها؟
فهذا الإمام الشافعي رحمه الله يقول: (وأحب أن لا يبنى ولا يجصَّص، فإن ذلك يشبه الزينة والخيلاء، وليس الموت موضع واحد منهما، ولم أر قبور المهاجرين والأنصار مجصصة، وقد رأيت من الولاة من يهدم بمكة ما يبنى، فيها فلم أر الفقهاء يعيبون ذلك)([22]).
وقال ابن حزم الظاهري رحمه الله: (ولا يحل أن يبنى على القبر، ولا أن يجصص، ولا أن يزاد على ترابه شيء، ويهدم كل ذلك)([23]).
وقال ابن القيم رحمه الله: (القباب التي على القبور يَجبُ هدمها كلها؛ لأنها أُسِّسَت على معصية الرسول r؛ لأنه قد نهى عن البناء على القبور)([24]).
ولم يكن في العصور المفضَّلَةِ مشاهدُ على القبورِ، وإنما ظَهَرَ ذلكَ وكثرَ في دولةِ بني بويه، لَمَّا ظَهَرَت القرامطةُ بأرضِ المشرقِ والمغربِ، كان بها زنادقةٌ كفَّارٌ مقصودُهم تبديلُ دينِ الإسلامِ، وكانَ في بني بويه من الموافقةِ لهم على بعضِ ذلكَ([25]).
ونختم الأقوال في هذه المسألة بما قاله الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: (أما بناء القباب على القبور فهو من علامات الكفر وشعائره؛ لأن الله أرسل محمدا r بهدم الأوثان ولو كانت على قبر رجل صالح؛ لأن اللات رجل صالح، فلما مات عكفوا على قبره وبنوا عليه بنية وعظموها، فلما أسلم أهل الطائف وطلبوا منه أن يترك هدم اللات شهرا لئلا يروعوا نساءهم وصبيانهم حتى يدخلوهم الدين، فأبى ذلك عليهم، وأرسل معهم المغيرة بن شعبة، وأبا سفيان بن حرب وأمرهما بهدمها. قال العلماء: وفي هذا أوضح دليل على أنه لا يجوز إبقاء شيء من هذه القباب التي بنيت على القبور، واتخذت أوثانًا، ولا يومًا واحدًا، فإنها شعائر الكفر، وقد ثبت أن النبي r نهى عن البناء على القبر وتجصيصه وتخليقه والكتابة عليه)([26]).
الوقفة الثالثة: فتوى علماء الحرمين في الوهابية:
ذكر المؤلف: لما حكمت الدولة السعودية الأولى الحجاز حصلت مناظرات بين علماء نجد وعلماء مكة والمدينة، كان من نتيجتها أن كتب علماء الحرمين فتاوى تؤيد ما عليه الدعوة الوهابية، واستغرب المؤلف أنه بعد خروج الوهابيين من الحجاز، واستيلاء محمد علي باشا عليها، حرّر علماء مكّة أنفسهم رسالة إلى محمد علي باشا سنة 1228ه نقيض ما في الفتوى السابق؛ ليخرج المؤلف بنتيجة مفادها: عدم الأخذ بالفتاوى التي يظهر تدخُّل العوامل السياسية فيها، ومنها الفتوى بهدم القباب على مقبرة البقيع.
نقول: ليس غريبًا أن يحصل ذلك، بل الغريب أن تحليل الأحداث يقف عند هذا الحد من الحياد!
فالمناظرات التي حصلت بين علماء نجد ومكة لم تكن فقط أيام الدولة السعودية الأولى، بل سبقتها مناظرات علمية، وحتى لا يتوهم القارئ أن الوهابية لا تفرض نفسها إلا بالقوة، وتجبن أن تناقش إلا تحت ظل سلطانها، نقول وباختصار: حصل أربع مناظرات بين علماء نجد ومكة قبل دخول الدولة السعودية الأولى الحجاز.
المناظرة الأولى: كانت في أيام الشريف مسعود، فقد قدم إلى مكة أيام الشريف مسعود ثلاثون عالِمًا سلفيًّا من نجد للدعوة إلى التوحيد الخالص بين أصحاب العلم في مكة([27]).
وكانت النتيجة كما يقول أحمد دحلان: أن جوبهوا بالعرض على القضاء والحكم بكفرهم وحبسهم بالسلاسل والأغلال([28]).
المناظرة الثانية: كانت في عام ١١٨٤ه، حيث أرسل الشيخ محمدُ بن عبد الوهاب والإمامُ عبد العزيز بن محمد بن سعود الشيخَ عبد العزيز الحصين إلى والي مكة الشريفِ أحمد بن سعيد بطلب منه، وكان من المسائل التي تم النقاش حولها: هدم القباب التي على القبور([29]).
وفي كلا الاجتماعين الأوَّلين -أيام الشريف مسعود ثم الشريف أحمد بن سعيد- يروي دحلان أن علماء مكة حكموا على علماء نجد بالتكفير! حيث يقول: (فلمَّا مضَت دولة الشريف مساعد، وتقلَّد الأمرَ أخوه الشريف أحمد بن سعيد؛ أرسل أمير الدرعية جماعة من علمائه، كما أرسل في المدة السابقة، فلما اختبرهم علماء مكة وجدوهم لا يتديَّنون إلا بدين الزنادقة، فأبى أن يقرَّ لهم في حمى البيت الحرام قرار، ولم يأذن لهم في الحجِّ بعد أن ثبتَ عند العلماء أنهم كفَّار؛ كما ثبت في دولة الشريف مسعود)([30]).
المناظرة الثالثة: في عام 1204ه، حيث أرسل شريف مكة غالب بن مساعد كتابًا إلى الأمير عبد العزيز بأنه يريد رجلًا عارفًا من أهل الدّين يعرّفه حقيقة هذا الأمر ليكون فيه على بصيرة، فأرسل إليه الشيخ عبد العزيز الحصيّن، وكتب معه الشيخ محمد بن عبد الوهاب رسالة لعلماء مكة، في رد ما أشيع عنه أنه يسب الصالحين، وأنه على غير جادة العلماء، ويدَّعي الاجتهاد. وكان مخالفوه قد رفعوا الأمر إلى المشرق والمغرب، وذكروا عنه أشياء يستحي العاقل من ذكرها([31]).
المناظرة الرابعة: في عام 1211ه، أرسل أمير مكة الشريف غالب بن مساعد إلى الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود يطلب منه أن يرسل إليه رجلًا من أهل العلم يبحث مع علماء مكة المشرفة، فبعث إليه الإمام عبد العزيز الشيخ حمد بن ناصر بن عثمان الحنبلي في ركب، فلما وصل الشيخ حمد بن ناصر مع رفقائه إلى مكة وقضوا عمرتهم جمع الشريف علماء مكة، ثم جرت المناظرة في جلسات عديدة، وحضر هذه المناظرة من أهالي الحجاز الخلق الكثير والجم الغفير. ومما جرى في جلسات المناظرة أن علماء مكة من الحنفية والمالكية والشافعية سألوا الشيخ حمد بن ناصر عن مسائل عديدة، وكان منها مسألة حكم البناء على القبور([32]).
ثم تأتي المناظرة الخامسة التي أشار إليها المؤلف بصدور فتوى علماء الحرمين حول الدعوة الوهابية: ففي عام 1218ه دخل الإمام سعود بن عبد العزيز رحمه الله مكة، وبسط نفوذ الدولة السعودية عليها. وحين اطلع علماء مكة وغيرهم على الدعوة ومنهجها عن كثب، وحاوروا علماءها وأميرها سعود بن عبد العزيز، عرفوا أنها هي الدين الحق، واعترفوا بهذه الحقيقة؛ كتبوا الفتوى.
وليعلم أن الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب قد حرر رسالة لأهل مكة بيَّن فيها معتقدهم، ثم إنهم طلبوا من كل من عنده إشكال أن يناقشهم، ولم يلزموا أحدًا أن يكتب بالقوة، وهذه حكاية الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب يبين فيها أن هناك من لم يكن مقتنعًا ببعض المسائل وظل يناقشهم فيها، قال: (وكان فيمن حضر مع علماء مكة وشاهد غالب ما صار: حسين بن محمد بن الحسين الإبريقي الحضرمي ثم الحباني، ولم يزل يتردد علينا، ويجتمع بسعود وخاصته من أهل المعرفة، ويسأل عن مسألة الشفاعة التي جرد السيف بسببها، من دون حياء ولا خجل، لعدم سابقة جرم له. فأخبرناه بأن مذهبنا في أصول الدين مذهب أهل السنة والجماعة، وطريقتنا طريقة السلف التي هي الطريق الأسلم، بل والأعلم والأحكم، خلافًا لمن قال طريقة الخلف أعلم)([33]).
محل الشاهد: أن فتوى علماء مكة جاءت بعد عدة مناقشات، وحتى تحت ظل سلطان الدولة السعودية الأولى هناك من لم يكن مقتنعًا ببعض المسائل، ولم يُجبر على شيء، بل راجعهم وحصل النقاش والتوضيح حولها، ثم إن تحرير رسالة الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب كانت هي الوثيقة التي تمثل الدعوة ومفهومها الحقيقي.
لكن ما الذي حصل بعد ذلك؟ أشار المؤلف إلى أن خروج الوهابيين من الحجاز واستيلاء محمد علي باشا سنة 1328ه عليها جعل علماء مكة أنفسهم يحررون فتوى بتضليل الوهابية، وقد جاء في الفتوى وصفهم بالخوارج المعتدين الطغاة الملحدين!!
قارن -أيها القارئ الحصيف- واحكم، أي الفتويين أقرب إلى العلم والحكمة؟!
وانظر في كتب التاريخ وقلِّب في صفحاتها، ماذا فعل محمد علي باشا بأتباع الدعوة الوهابية وعلمائها في نجد من البطش والتهجير والقتل؟ ثم قارن وانظر ماذا فعل الأمير سعود بن عبد العزيز من احترام لعلماء مكة حين دخل الحجاز؟ ثم احكم: أي الفتويين أحق بالأخذ إن كنا منصفين؟!
ثم أين المناظرة العلمية التي حصلت بعد استيلاء محمد علي باشا، والتي بناء عليها حكم علماء مكة بتضليل الوهابية؟! لا يوجد.. إنها فتوى أحق بالإسقاط من فتواهم الأولى؛ إذ لم تكتب بأسلوب علمي، ولا لغة هادئة، إنما هي لغة المدافع والسلاسل والأغلال.
الوقفة الرابعة: ثم شرع المؤلف في وصف القباب والأبنية الموجودة في البقيع بأنها كانت على هيئة جميلة من الطراز المعماري، ونقل عمن شهدها بعد الهدم وقد شُوِّهت وتبعثر ركامها، كما نقل عمن وصفها بالخراب، وأنها كالمزبلة، ثم بعد ذلك ذكر أن آثار الهدم أزيلت ونظِّفت.
نقول: المؤلف لم يعلِّق على وصف القباب والأبنية الموجودة في البقيع، وأنها كانت على طراز معماري، هل هذا العمل مشروع أم لا؟
بل ترك القارئ دون مرجِّح أمام ثلاث صور في مخيلته وهو يقرأ تاريخ مقبرة البقيع:
الأولى: وجود مبنى جميل على القبر (فعل الصوفية).
والثانية: هدم هذا المبنى الجميل ثم إهماله وجعله كالمزبلة (فعل السلفية).
والثالثة: إزالة الركام وتنظيف المكان (فعل السلفية).
ولو تأملنا في كتب المذاهب الأربعة لوجدنا العلماء قد نصوا على هذه المسألة؛ وهي مسألة تزيين المقابر بالبناء ونحوه، فهل الميت بحاجة إلى الزينة؟
ففي مذهب أبي حنيفة رحمه الله:
قال أبو بكر الكاساني: (ويكره تجصيص القبر وتعظيمه، وكَرِه أبو حنيفة البناء على القبر وأن يعلّم بعلامة.. لأن ذلك من باب الزينة ولا حاجة بالميت إليها، ولأنه تضييع المال بلا فائدة، فكان مكروها، ويكره أن يزاد على تراب القبر الذي خرج منه، وأن الزيادة عليه بمنزلة البناء)([34]).
وقال علاء الدين السمرقندي الحنفي: (والسّنة في القبر أن يسنم، ولا يربّع ولا يُطيَّن ولا يُجَصَّص، وكره أبو حنيفة البناء على القبر وأن يعلم بعلامة.. ويكره أن يزاد التراب على تراب القبر الخارج منه، وأن ذلك يجري مجرى البناء)([35]).
وفي مذهب الإمام مالك رحمه الله:
قال الإمام مالك: (أكره تجصيص القبور والبناء عليها، وهذه الحجارة التي يبنى عليها)([36]).
وقال الشيخ صالح الأزهري المالكي رحمه الله: (وكره بناء على القبر، قال اللخمي: كره مالك رحمه الله تجصيص القبور؛ لأنه من مباهاة وزينة الحياة الدنيا، وتلك منازل الآخرة، وليست بموضع للمباهاة، وإنّما يزيّن الميت عمله)([37]).
وفي مذهب الإمام الشافعي رحمه الله:
قال الإمام الشافعي رحمه الله: (وأحب أن لا يبنى، ولا يجصص؛ فإن ذلك يشبه الزينة والخيلاء، وليس الموت موضع واحد منهما، ولم أر قبور المهاجرين والأنصار مجصصة، وقد رأيت من الولاة من يهدم بمكة ما يبنى فيها، فلم أر الفقهاء يعيبون ذلك)([38]).
قال الرملي الشافعي رحمه الله شارحًا قول صاحب المنهاج: (ويكره تجصيص القبر والبناء عليه): (أي: تبييضه بالجص وهو الجبس، ويقال: النورة البيضاء الجير، والمراد هنا هما أو أحدهما، والبناء عليه كقبّة أو بيت للنهي عنهما)([39]).
وفي مذهب الإمام أحمد رحمه الله:
قال ابن قدامة المقدسي رحمه الله: (ويكره البناء على القبر، وتجصيصه، والكتابة عليه… ولأن ذلك من زينة الدنيا، فلا حاجة للميّت إليه، ونهى عمر بن عبد العزيز أن يبنى على القبر بآجر، وأوصى بذلك. وقال إبراهيم: كانوا يكرهون الآجر في قبورهم. وكره أحمد أن يضرب على القبر فسطاط. وأوصى أبو هريرة حين حضره الموت أن لا يضربوا عليه فسطاطًا)([40]).
وقال المرداوي الحنبلي رحمه الله: (وأما تجصيصه -أي: القبر- فمكروه بلا خلاف نعلمه، كذا الكتابة عليه، وكذا تزويقه وتخليقه وهو بدعة… وأما البناء عليه فمكروه على الصحيح من المذهب، سواء لاصق البناء الأرض أم لا، وعليه أكثر الأصحاب، وقال في الفروع: أطلقه أحمد والأصحاب)([41]).
الوقفة الخامسة: ثم ذكر المؤلف ما يتعلق بالمسجد المبني على قبر سيدنا حمزة رضي الله عنه.
والمؤلف في كل ذلك حاول أن ينأى بالملك عبد العزيز عن الموافقة في هدم مسجد سيدنا حمزة الذي كان بينه وبين الضريح حاجز إلا بضغط من الإخوان ثم استفتاء علماء نجد الذين أفتوا بهدمه على الفور، كما نقل عمن وصف قبر سيد الشهداء قبل تخريبه وتهديم ما حوله أن هذا المكان شبه بلدة قائمة ذات أسواق وبيوت، لا يقل ساكنوها عن عشرين ألف نسمة.
وكذا ما حصل عند طلب الإخوان من الملك عبد العزيز هدم القبة الخضراء، إلا أن ابن بليهد أقنع الإخوان بخطورة هذا العمل، وعظم المفسدة المترتبة عليه.
لكن وقفتنا معه هذه المرة مغايرة لما سبق: لن نناقش المؤلف في شيء مما ذكر بالأدلة الشرعية، لكننا نقول له: هل ما نقلته فيما يتعلق بهذه الأماكن هو كامل القصة؟!
ها هنا حكاية مسجد سيدنا حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وما حصل فيه، وكذا عند قبره رضي الله عنه.
مسجد سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه:
جاء في “مرآة الحرمين”: (هذا المسجد بنته أم الخليفة الناصر لدين الله أبي العباس أحمد بن المستضيء عام 570ه، وجعلت عليه قبة متقنة، وبابه كله مصفح بالحديد، والقبر مجصص، وعليه تابوت، وعليه ثوب من حرير من خليع كسوة الضريح النبوي)([42]).
وكانت الدولة العثمانية قد بنت مسجدًا جميلًا على الموضع الحالي للقبر([43])، غير أن ما أشيع في ذلك الوقت من تمسح بعض الناس بالقبر وتقديم الضحايا والنذور وخلافه حمل المسؤولين على هدم المسجد، وتسوية جدرانه بالأرض، والعمل على بناء مسجد آخر في غير هذا الموضع. ولما أصبحت القبور مكشوفة وفي حاجة إلى صيانة ورعاية فقد رأت حكومتنا الرشيدة ضرورة بناء حائط دائري على قبر سيد الشهداء وابن أخته والشهداء القريبين منه للمحافظة عليها وصيانتها، فقد بني هذا الحائط الجميل المرتفع عام 1383ه، فجزاها الله خير الجزاء وأثابها على فعلها([44]).
قال إبراهيم باشا: (جاء في كثير من كتب السير أن حمزة قتل تحت جبل الرماة، وهو جبل عينين، وإن النبي r أمر به فنقل عن بطن الوادي إلى ربوة هنالك، فالمدفن غير المصرع، والربوة نقل إليها وقت الغزوة، وقد تكون الربوة التي نقل إليها بعد القرن الثالث ربوة أخرى هي التي عليها المسجد الآن، والله بالحقيقة خبير.
وتجد في المصرع ضريحًا كتبت عليه الأبيات المتضمنة لعمارة زامر باشا، ولوحة أخرى تضمنت تاريخ عمارة سليم بك سنة 1265ه، ومما جاء فيها:
أسد الله عم طه المرجى من أتاه لا شك بالخير يرفد
سيد الشافعين حمزة ترى من يكشف الكروب قد صار يقصد
هو ذخر الورى لكل ملم من به لاذ في البرية يسعد
إلى أن قال:
هو منجى الغريق هادي الحيارى فبه الله كم أغاث وأنجد)
قال إبراهيم باشا تعليقًا على هذه الأبيات: (وإني لتأخذني رعدة ساعة أقرأ هذه الأبيات التي تضمنت الشرك الصراح، وإذا كان حمزة ذخر الورى لكل ملم كما يقول هذا الشاعر الأحمق، فما الذي بقي لله تعالى شأنه؟! اللهم إن الجهل قد طبق على قلوب الناس، وعموا عن دينه، وتغالوا في تقديس الأشخاص، حتى أسندوا لهم ما هو لله وحده، فاللهم لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب.
وتجد مكتوبًا في لوحة على القبر الذي بالمسجد هذين البيتين:
قف على أبوابنا في كل ضيق واطلب الحاجات وابشر بالمنى
فحمانا ملجأ للطالبين وبنا تجلى الكروب والعنا
وكذب على حمزة من قال هذا الشعر بلسانه، ونسب إليه ما لا يليق بإسلامه، ولا يتفق مع مقامه، وهل حمزة المؤمن الموحد يدعو الناس إلى دعائه من دون الله في المضايق، ويزعم أنه يرفع عنهم الضر والكروب، وقد سمع قوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62]؟! وهل يرضى أن يكون دون المشركين الذين اعترفوا بأن الله يجير وحده ولا يجار عليه، قال تعالى: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 88، 89]؟!
اللهم إن حمزة براء مما قاله بعض الجاهلين على لسانه ظانًّا أنه قربة إليه، وإن حمزة إذا كان يسره شيء منا فإنما هو اتباعنا لكتاب الله وسنة رسوله r، وأن نلجأ في السراء والضراء إلى الله وحده، {ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30])([45]).
بدعةٌ عند مشهد قبر عم النبي حمزة والشهداء رضي الله عنهم:
قال الورثيلاني: (جرت عادة أهل المدينة -شرفها الله تعالى- بزيارة قبر سيدنا حمزة رضي الله تعالى عنه كل يوم خميس، وربما باتوا هنالك ليلة الخميس في أغلب الأحوال).
قال شيخه أبو سالم العياشي: (ولا أعلم لاختيارهم الزيارة في الخميس سببًا، إلا أن يكون ما ورد أن الأموات يعلمون بزائرهم يوم الجمعة ويومًا قبله ويومًا بعده، فلما كان يوم الجمعة يضيق المشي فيه بسبب الاشتغال بمقدمات الصلاة وزيارة البقيع، ويوم السبت لزيارة قباء، فلم يبق إلا يوم الخميس)([46]).
قلت: وقد أورد ابن أبي الدنيا بعض القصص عن السلف في ذلك، ومن طريقه نقل البيهقي وابن رجب وابن القيم([47]).
ثم ذكر العياشي أن لأهل المدينة موسمًا كبيرًا في شهر رجب، يحتفلون فيه لزيارة حمزة والشهداء رضي الله عنهم، يأتي الناس إليه من أقطار الحجاز من مكة واليمن والطائف وينبع، فيحشر هنالك خلائق لا يحصون، يقاربون ما يجتمع في موسم الحج.
ويخرج أهل المدينة بأولادهم ونسائهم، ويخرجون معهم المضارب الحسان والخيم الكبار، ويخرج أمراء المدينة وعسكرها، وتنتصب الأسواق العظيمة هنالك، يخرجون من أوائل رجب، ويتلاحق الناس كل على قدر حاله، فيتكامل خروجهم في اليوم الثاني عشر، وهو اليوم المشهود عندهم ويوم الزينة، فلا يبقى بالمدينة إلا أهل الأعذار ومن شاكلهم، ويحصل هنالك في تلك الليلة من أنواع اللهو والطرب واللعب أشياء، والرمي بالمدافع والمحاريق، ويبيت الناس طول ليلتهم ويومهم في القراءة والزيارة حول القبر، ويوقد هنالك من الشمع شيء كثير([48]).
وقد كان أمر هذه البدعة عجيبًا، والظاهر أنها ابتدأت من أهل المدينة في موسم الأمطار، ثم تطورت وصار شهر رجب لها موسمًا، فقد ذكر ابن فرحون المدني المالكي (ت 769ه) ووصف ما يحدث في زمنه عن أهل المدينة أنهم كانوا إذا نزل الغيث وأصاب أُحُدًا يخرجون إلى سيدنا حمزة عم رسول الله r، فيبيتون عنده في القبة في صلاة وعبادة وذكر، ويجتمع معهم جل الخدام والمجاورين ورؤساء المؤذنين وفضلاء المدرسين، وعامة الناس أجمعين من فقير ومجاور أو مديني يكون له خادم، حتى إنه لم يبق في المدينة من أهلها إلا القليل، فيخرج كل جماعة بما يقدرون عليه من الطعام الفاخر وغير الفاخر، ويأتون الخدام بأنواع الحلوى والأطعمة الملونة، فتكون ليلتهم في الذكر والعبادة تعدل ألف ليلة؛ لما اشتملت عليه من خيرات الدنيا والآخرة، وكان جماعة الفقراء وشيوخهم يحملون معهم القِرَب المملوءة من طبيخ الأرز وغيره يعدونه للفقراء الذين يتبعونهم ويخرجون معهم، ثم يلحقهم مدد ممن تأخر عنهم في صبيحة ليلتهم([49]).
ويحكى أن الذي سن زيارتهم في ذلك اليوم المشهور بيوم زيارة حمزة الرجبية بعض آل الجنيد المشرعي؛ لمنام رأى فيه سيدنا حمزة يأمره بذلك، فتبعه الناس جيلًا بعد جيل، وخصوا الزيارة في كل حول بذلك اليوم([50]).
وقد أنكر بعض الفقهاء هذه العادة قديمًا، قال أبو سالم العياشي: وحكي أن بعض الفقهاء بالمدينة كان ينكر على أهل المدينة خروجهم إلى أُحد في رجب، ويقول لهم: إن ذلك من البدع المذمومة؛ لما يحصل في ذلك من أنواع اللهو والسرف في المطاعم وغيرها، والتكلف في النفقات والخروج من المدينة بالأهل والأولاد والخيم الشبيه بشد الرحال، بل هو مع ما في ذلك من التشبه بمواسم الحج في الهيئة واعتقاد القربة واعتياد يوم في السنة، إلى غير ذلك من الأمور التي لا توافق ظاهر الشرع([51]).
والطريف في الأمر أنهم نقلوا عن هذا الفقيه الذي أنكر عليهم ذلك: أنه رأى رؤيا أن النبي r وهو يدخل ويخرج من الحجرة ويقوم ويقعد كفعل المتهيئ للسفر، وأثاث السفر معدة بين يديه، فقال له: يا رسول الله، ما هذا الذي أرى؟ أتريد الانتقال عنا والخروج من المدينة؟ قال: لا، إنما أريد الخروج لزيارة عمِّنا حمزة مع أهل المدينة، أو كلامًا هذا معناه. فانتبه الفقيه من نومه وتهيأ للخروج مع الناس، فتعجبوا من ذلك وسألوه، فأخبرهم بذلك([52]).
فانظر وتأمَّل كيف أن هذه البدعة ابتدأت برؤيا منامية، وكيف أنها استمرت برؤيا منامية، حينها فقط تعرف ما قيمة المنامات عند الصوفية!
ومن المخالفات: الاستشفاء بتراب مشهد حمزة:
قال العياشي: (وقد ذكر الاستشفاء أيضًا من الحمى بتراب مشهد حمزة، وقد استشفيت أنا أيام مرضي بالمدينة بتربة صُعَيب، فحصلت بركتها ولله الحمد)([53]).
قلت: ولقد أحسن الدكتور صالح الرفاعي حيث قال بعد دراسة الأحاديث المتعلقة بتربة المدينة: (يتبين أنه لم يثبت عن النبي r شيء ينص على فضيلة خاصة لتربة المدينة، وما ورد من أحاديث في ذلك فهي ضعيفة، لا تقوم بها حجة، ولا يعضد بعضها بعضا لشدة ضعفها، والله أعلم)([54]). وأما ما يفعلونه بخصوص الاستشفاء بالتربة التي عند مسيل قبر حمزة فلا أصل له البتة.
وقال آوليا چلبي (ت 1095ه) في رحلته: (وفي فناء الضريح يوجد بئر ماء، ولحكمة إلهية فإن تراب هذه المنطقة المحيطة بالضريح أبيض، مع أن تراب هذه المنطقة بأسرها أحمر، وسبب هذه الحمرة هو الدماء الذكية التي سالت بسبب سقوط سن النبي r هنا. وإذا ما مسح الزائر أسنانه بهذا التراب فإنه يأمن ألم الأسنان ونزلات البرد. وقد جرب ذلك، فالله على كل شيء قدير)([55]).
وينبه إلى أن تحديد قبر حمزة وتعيينه من الصعوبة بما كان، فقد أصابت السيول هذه المقابر مرات ومرات، وتغيرت المعالم، إضافة إلى ذلك اختلاف المؤرخين في تحديد موضع قبره، فقيل: إنه دفن عند المهراس، وقيل غير ذلك، وهل دفن وحده أم معه آخر؟ وفيه أربعة أقوال([56])، هذه كلها مثارات حول مكان دفنه، لا ينبغي إهمالها.
الوقفة السادسة: أورد المؤلف القبة الخضراء، وجعل قصة عدم هدمها من اللطائف.
ونحن نقول: ها هنا تتمة للطائف التي لم يذكرها المؤلف، وبها من الابتداع في دين الله ما لم ينزل به سلطانًا، ونبتدئ بها من القرن الحادي عشر -شرط المؤلف- لنرى المخالفات التي وقعت عندها.
فهذه القبة الموجودة الآن من بناء السلطان محمود بن عبد الحميد خان عام 1233ه، وهو أول من صبغها باللون الأخضر، وكان ذلك عام 1253ه، وكان لونها قبل ذلك أزرق على لون ألواح الرصاص التي كانت قد صفحت بها، ثم لم يزل يجدد اللون كلما دعت الحاجة إلى ذلك من تأثير شعاع الشمس وغيرها من العوامل الطبيعية، ولذلك تعرف الآن بالقبة الخضراء، وقديمًا كانت تعرف بأسماء منها: القبة البيضاء، والزرقاء، والفيحاء([57]).
قال محمد كبريت الحسيني (ت 1070ه): (ومن محاسن المسجد الشريف القبة الزرقاء التي من حظي بقربها قضيت له السعادة الأزلية بأن لا يشقى)([58]).
وجاء في كتاب “أنوار حرمين”: (النظر إلى الحجرة النبوية والقبة الخضراء سبب للخير والبركة، فأكثروا النظر إليهما)([59]).
وجاء في كتاب “رفيق المعتمرين”: (إدامة النظر إلى الحجرة النبوية والقبة الخضراء من الأعمال التي يثاب عليها فاعلها، فحاولوا أن تقضوا أكثر أوقاتكم في المسجد، وأثناء جلوسكم في المسجد أكثروا من الصلاة والسلام على النبي r، مع إكثار النظر وإدامته إلى الحجرة المطهرة قدر المستطاع والإمكان… وأثناء إقامتك في المدينة إذا ما وقع بصرك على القبة الخضراء وأنت ماش في الطريق فاستقبل القبة على الفور، وصل وسلم على النبي r واضعا إحدى اليدين على الأخرى، ثم امض إلى حيث تريد، وحاول أن لا يكون ظهرك إلى جهة القبة الخضراء)([60]).
ختامًا: الوقفات التي يمكن أن نقف عندها حول السلفية في هذا الكتاب كثيرة، لكن ما ذكَرْنا كان طرفًا منها، والغرض من عرض مبحث هدم القباب ومناقشته ليس لأنه مبحث تاريخي مجرد، بل هو مبحث تاريخي شرعي، وردت فيه النصوص عن النبي r، وأكده العلماء بقولهم والخلفاء بفعلهم، مما يجعل مفهوم نصرة الدين وما جاء به النبي r فوق أي اعتبار تاريخي متأخر مخالف لذلك، لا يصمد أمام قوة الدليل وأقوال علماء السلف الأولين، والله الهادي إلى سواء السبيل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) المقصود بالإخوان (أو أخوان من طاع الله) في هذا البحث: الجماعة الدينية العسكرية الذين كانوا أنصارًا للملك عبد العزيز آل سعود، وخاضوا حروبًا كثيرة لتوطيد حكمه وتوحيد قبائل شبه الجزيرة العربية، وبسط الأمن على أرجائها، انظر: جزيرة العرب في القرن العشرين، لحافظ وهبه (ص: 276-286)، حركة الإخوان في عهد الملك عبد العزيز، موسوعة مقاتل من الصحراء.
([2]) انظر: لمحات من الحياة العلمية في المدينة المنورة من القرن الحادي عشر إلى القرن الرابع عشر (ص: 430-441).
([3]) الكشاف التحليلي لجريدة أم القرى (1/ 84)، وقصّة الأشراف وابن مسعود (ص: 312).
([4]) جريدة أم القرى، عدد 104، تاريخ: جمادى الآخر سنة 1345ه.
([6]) رواه أبو داود (3236)، والترمذي (320)، والنسائي (4/ 94-95)، وابن ماجه (1575)، وقال الترمذي: “حديث حسن”. وفيه أبو صالح وهو ضعيف، وبه أعله عبد الحق الإشبيلي في أحكامه الكبرى (1/ 80).
([7]) المدينة المنورة في عهد الملك عبد العزيز (ص: 212).
([8]) مدينتا الجزيرة العربية المقدستان (2/ 640).
([9]) النفحات القدسيّة في الرحلة الحجازيّة، مخطوط.
([10]) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (1/ 300).
([12]) من وثائق تاريخ شبه الجزيرة العربية (2/ 27).
([13]) انظر: لمحات من الحياة العلمية في المدينة المنورة (ص: 430-437).
([14]) كشف الارتياب، (ص: 59)، وانظر: مكة في القرن الرابع عشر الهجري، محمد رفيع (ص: 125).
([15]) عناية الملك عبد العزيز بالعقيدة السلفية (ص: 71).
([16]) انظر في انتشار البناء على القبور: نفحة البشام في رحلة الشام، محمد القاياتي (ص: 62، 86، 102، 109، 132)، التحفة النبهانية في تاريخ الجزيرة العربيّة (ص: 62)، الخطط التوقيفية (1/ 244)، مساجد مصر وأولياؤها الصالحون (1/ 44)، القول الحق في بيروت ودمشق (ص: 97)، الروضة الغنّاء في دمشق الفيحاء (ص: 131)، دليل الأستانة (ص: 48)، الدعوة السلفيّة في شبه القارة الهنديّة وأثرها في مقاومة الانحرافات الدينية (ص: 139)، مراحل الحياة في الفترة المظلمة وما بعدها، محمد رؤوف السيد طه الشيخلي (1/ 72)، الانحرافات العقدية والعلمية لعلي بن بخيت الزهراني (ص: 293-295).
([20]) انظر: آثار الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيي المعلمي (5/ 2/ 59).
([24]) إغاثة اللهفان (1/ 194).
([25]) انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (27/ 167-168).
([26]) مجموعة الرسائل والمسائل النجدية (1/ 246).
([27]) انظر: خلاصة الكلام في بيان أمراء البلد الحرام (ص: 299)، صفحات من تاريخ مكة، سنوك (1/ 274)، ولعل هذا اللقاء الذي حصل عام 1162ه والذي أشار إليه ابن بشر في تاريخه (1/ 37)، وينبه إلى أن تسمية اللقاء الأول بالمناظرة من باب التسمح، ولأنهم عُرضوا على القضاء في مكة، ولا شك أنه إن كان الأمر كذلك، أن يتم المناقشة مع القضاة المكيين.
([28]) انظر: خلاصة الكلام في بيان أمراء البلد الحرام (ص: 300).
([29]) انظر: مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، القسم الخامس، الرسائل الشخصية (ص: 312)، وذكر ابن غنام أن هذه الحادثة وقعت سنة 1185هـ. انظر: تاريخ نجد، لابن غنام (2/ 789).
([30]) خلاصة الكلام في بيان أمراء البلد الحرام (ص: 300).
([31]) انظر: مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، القسم الخامس، الرسائل الشخصية (ص: 40)، تاريخ نجد، لابن غنام (2/ 886-887)، الدرر السنية (2/ 58-56).
([32]) انظر: تاريخ نجد، لابن غنام (2/ 1116-967)، مقدمة تحقيق الفواكه العذاب (ص: 15).
([33]) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (١/ ٢٢٦).
([34]) بدائع الصنائع (1/ 474).
([35]) تحفة الفقهاء (1/ 256)، وانظر: حاشية ابن عابدين (2/ 257-258).
([36]) المدونة الكبرى (1/ 263).
([37]) جواهر الإكليل على مختصر خليل (1/ 161)، بتصرّف يسير.
([39]) نهاية المحتاج (3/ 32-33).
([40]) المغني والشرح الكبير (2/ 283).
([42]) انظر: مرآة الحرمين (1/ 392-393).
([43]) قلت: يلاحظ بناء المسجد على القبر، وهو من الأمور المنكرة، ومن وسائل الشرك.
([44]) تاريخ معالم المدينة المنورة، للخياري (ص: 189-190).
([45]) مرآة الحرمين (1/ 391-392).
([46]) الرحلة الورثيلانية (2/ 105)، وانظر: الرحلة العياشية (ص: 396).
([47]) انظر: المنامات لابن أبي الدنيا (58)، الشعب للبيهقي (7/ 18)، أهوال الدنيا لابن رجب (83، 84)، الروح لابن القيم (1/ 10)، زاد المعاد له (1/ 402).
([48]) الرحلة العياشية (ص: 397).
([49]) انظر: نصيحة المشاور وتسلية المجاور (ص: 126-127).
([50]) انظر: الذخائر القدسية (ص: 199-200).
([51]) الرحلة العياشية (1/ 398).
([52]) الرحلة العياشية (1/ 398).
([53]) الرحلة العياشية (1/ 416-417).
([54]) فضائل المدينة (ص: 642).
([55]) الرحلة الحجازية (ص: 157).
([56]) انظر: التعريف بما أنست الهجرة من معالم دار الهجرة (ص: 61)، بهجة النفوس والأسرار (ص: 114)، وفاء الوفا (3/ 1074-1075)، خلاصة الوفا (2/ 185)، المدينة المنورة في الرحلة العياشية (ص: 127)، المغانم المطابة في معالم طابة (3/ 1109).
([57]) انظر: نزهة الناظرين (ص: 215-216)، ومرآة الحرمين (1/ 474)، وفصول من تاريخ المدينة المنورة (ص: 128)، والقبة الخضراء (ص: 85-86)، والحجرات الشريفة سيرة وتاريخا (ص: 199).
([58]) الجواهر الثمينة في محاسن المدينة (1/ 257).
([59]) أنوار حرمين، إعداد ونشر: وزارت مذهبي أمور، إسلام آباد، باكستان (ص: 168).
([60]) رفيق المعتمرين، لمحمد إلياس القادري الرضوي البريلوي (ص: 71)، وانظر: المباحث العقدية المتعلقة بالمدينة النبوية، د. ألطاف الرحمن (ص: 555-556).