الخميس - 19 جمادى الأول 1446 هـ - 21 نوفمبر 2024 م

بشرية النبي والمسيح بين الإنجيل والقرآن

A A

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

 

مقدمة:

من رحمة الله عز وجل بالناس أن أرسل إليهم رسلًا، وجعل هؤلاء الرسل من جنسهم ليأنسوا إليهم، ويعرفوا طبائعهم وأحوالهم، ويصبروا على عنادهم، وهذه نعمة امتن الله بها على عباده فقال: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا * قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} [الإسراء: 94، 95]، وهذا من لطف الله بعباده، كما قال ابن كثير رحمه الله: “قَالَ تَعَالَى مُنَبِّهًا عَلَى لُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ: إِنَّهُ يَبْعَثُ إِلَيْهِمُ الرَّسُولَ مِنْ جِنْسِهِمْ، لِيَفْقَهُوا عَنْهُ وَيَفْهَمُوا مِنْهُ، لِتَمَكُّنِهِمْ مِنْ مُخَاطَبَتِهِ وَمُكَالَمَتِهِ، وَلَوْ بَعَثَ إِلَى الْبَشَرِ رَسُولًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَمَا اسْتَطَاعُوا مُوَاجَهَتَهُ وَلَا الْأَخْذَ عَنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آلِ عِمْرَانَ: 164]، وَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التَّوْبَةِ: 128]، وَقَالَ تَعَالَى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [الْبَقَرَةِ: 151، 152]؛ وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: {لَوْ كَانَ فِي الأرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ} أَيْ: كَمَا أَنْتُمْ فِيهَا {لَنزلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولا} أَيْ: مِنْ جِنْسِهِمْ، وَلَمَّا كُنْتُمْ أَنْتُمْ بَشَرًا، بَعَثْنَا فيكم رسلنا منكم لطفًا ورحمة”([1]).

ولو أنزل الله ملكًا ثم كفر الناس لعجَّل لهم العذاب كما قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 8، 9].

لكن بعض الناس قد يحمله الغلو على وصف بعض الرسل بصفات لا تليق إلا بالله عز وجل، حتى وصل الأمر باعتقاد الألوهية أو الربوبية في بعض الرسل، كاعتقاد النصارى في المسيح ابن مريم أنه الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة، أو هو الأقنوم الثاني من الأقانيم الإلهية الثلاثة، واعتقاد بعض غلاة المسلمين من الصوفية والحلولية والاتحادية والباطنية وغيرهم في النبي صلى الله عليه وسلم من كونه يعلم الغيب، ويملك التصرف في الكون، ويملك الضر والنفع، وعنده علم اللوح والقلم، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.

وهذه مقارنة يسيرة لإثبات بشرية كلا النبيين -عليهم أفضل الصلاة والسلام-، وكونهم بشرين من البشر اختصهما الله عز وجل بالرسالة، وجعلهما من أولي العزم من الرسل، نثبت ذلك وندلّل عليه من القرآن الكريم ومن إنجيل النصارى الكتاب المقدس عندهم.

أولًا: النسب والمولد والحمل:

النبي صلى الله عليه وسلم:

هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان صلى الله عليه وسلم.

ولد النبي صلى الله عليه وسلم من أسرة زكية نبيلة جمعت، خلاصة ما في العرب من أنواع الفضائل، وترفعت عما يشينهم من أوضار ورذائل، كما قال صلى الله عليه وسلم عن نفسه: «إِنَّ اللهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ»([2]).

وولد صلى الله عليه وسلم من نكاح صحيح شريف، لم يصبه من سفاح الجاهلية شيء، كما قال صلى الله عليه وسلم: «خرجت من نكاح، ولم أخرج من سفاح، من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي، ولم يصبني من سفاح الجاهلية شيء»([3]).

وحملت به أمه آمنة بنت وهب حملًا معتادًا، ليس فيه ما يَستدعِي العجب أو يلفِت النظر، ولما قال له الصحابة -رضوان الله عليهم-: حدِّثنا عن نفسك يا رسول الله، قال: «دَعْوَة أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبِشَارَة عِيسَى قَوْمَهُ، وَرُؤْيَا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ، وَكَذَلِكَ تَرَى أُمَّهَاتُ النَّبِيِّينَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ»([4]).

وقد روى البعض أن إرهاصات بالبعثة وقعت عند الميلاد، فسقطت أربع شرفات من إيوان كسرى، وخمدت نار المجوس التي يعبدونها، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، وانهدمت الكنائس حول بحيرة “ساوه”، ورأى وزير كسرى (إيلا) صعابًا تقود خيلًا عرابًا قد قطعت دجلة، وانتشرت في بلادهم، فلما أصبح أفزعه ذلك.

وكَانَ الْمَوْلُودُ إِذَا وُلِدَ مِنْ قُرَيْشٍ دَفَعُوهُ إِلَى نِسْوَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى الصُّبْحِ، فَيَكْفِينَ عَلَيْهِ بُرْمَةً، فَلَمَّا وُلِدَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَفَعَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ إِلَى نِسْوَةٍ يَكْفِينَ عَلَيْهِ بُرْمَةً، فَلَمَّا أَصْبَحْنَ أَتَيْنَ، فَوَجَدْنَ الْبُرْمَةَ قَدِ انْفَلَقَتْ عَلَيْهِ بِاثْنَتَيْنِ، فَوَجَدْنَهُ مَفْتُوحَ الْعَيْنَيْنِ، شَاخِصًا بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ، فَأَتَاهُنَّ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، فَقُلْنَ لَهُ: مَا رَأَيْنَا مَوْلُودًا مِثْلَهُ، وَجَدْنَاهُ قَدِ انْفَلَقَتْ عَنْهُ الْبُرْمَةُ، وَوَجَدْنَاهُ مَفْتُوحَ الْعَيْنَيْنِ، شَاخِصًا بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ. فَقَالَ: احْفَظْنَهُ، فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُصِيبَ خَيْرًا. فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ السَّابِعُ ذَبَحَ عَنْهُ، وَدَعَا لَهُ قُرَيْشًا، فَلَمَّا أَكَلُوا قَالُوا: يَا عَبْدَ الْمُطَّلِبِ، أَرَأَيْتَ ابْنَكَ هَذَا الَّذِي أَكْرَمْتَنَا عَلَى وَجْهِهِ، مَا سَمَّيْتَهُ؟ قَالَ: سَمَّيْتُهُ مُحَمَّدًا. قَالُوا: فَلِمَ رَغِبْتَ بِهِ عَنْ أَسْمَاءِ أَهْلِ بَيْتِهِ؟ قَالَ: أَرَدْتُ أَنْ يَحْمَدَهُ اللهُ تَعَالَى فِي السَّمَاءِ وَخَلْقُهُ فِي الْأَرْضِ([5]).

هكذا كانت ولادته صلى الله عليه وسلم ولادةً طبيعية كغيره من البشر، فلم يولد مثلًا قبل آدم، ولا خلق آدم من أجله، أو غير ذلك مما يدعيه أهل الغلو فيه صلى الله عليه وسلم.

عيسى ابن مريم عليه السلام:

ولد المسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام من غير أب، وهو حدث عجيب، ولكنه ليس أعجب من خلق آدم الذي خلق من غير أب ومن غير أم، {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران: 59].

فهو عيسى ابن مريم ابنة عمران البتول المطهرة المصطفاة على نساء العالمين كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 42].

اختارها الله عز وجل ليكون منها ولد من غير أب، وَبُشِّرَتْ بِأَنْ يَكُونَ نَبِيًّا شَرِيفًا، {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وكهلًا} [آل عمران: 46]، فَتَعَجَّبَتْ مِنْ وُجُودِ وَلَدٍ مِنْ غَيْرِ وَالِدٍ; لِأَنَّهَا لَا زَوْجَ لَهَا، وَلَا هِيَ مِمَّنْ تَتَزَوَّجُ، فَأَخْبَرَتْهَا الْمَلَائِكَةُ بِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى مَا يَشَاءُ، إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ: كُنْ، فَيَكُونُ. فَاسْتَكَانَتْ لِذَلِكَ وَأَنَابَتْ وَسَلَّمَتْ لِأَمْرِ اللَّهِ([6]).

فأرسل الله إليها جبريل، فلما رأته فزعت، {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} [مريم: 18-21].

فعيسى عليه السلام خلق من غير أب، ونسب إلى أمه، وهذا من قدرة الله عز وجل الذي يقول للشيء: كن، فيكون.

ولَمَّا ظَهَرَتْ عَلَيْهَا مَخَايِلُ الْحَمْلِ كَانَ أَوَّلَ مَنْ فَطِنَ لِذَلِكَ رَجُلٌ مِنْ عُبَّادِ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ: يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ النَّجَّارُ. وَكَانَ ابْنَ خَالِهَا، فَجَعَلَ يَتَعَجَّبُ مِنْ ذَلِكَ عَجَبًا شَدِيدًا، وَذَلِكَ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ دِيَانَتِهَا وَنَزَاهَتِهَا وَعِبَادَتِهَا، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَرَاهَا حُبْلَى وَلَيْسَ لَهَا زَوْجٌ، فَعَرَّضَ لَهَا ذَاتَ يَوْمٍ فِي الْكَلَامِ، فَقَالَ: يَا مَرْيَمُ، هَلْ يَكُونُ زَرْعٌ مِنْ غَيْرِ بَذْرٍ؟! قَالَتْ: نَعَمْ، فَمَنْ خَلَقَ الزَّرْعَ الْأَوَّلَ؟! ثُمَّ قَالَ: فَهَلْ يَكُونُ شَجَرٌ مِنْ غَيْرِ مَاءٍ وَلَا مَطَرٍ؟! قَالَتْ: نَعَمْ، فَمَنْ خَلَقَ الشَّجَرَ الْأَوَّلَ؟! ثُمَّ قَالَ: فَهَلْ يَكُونُ وَلَدٌ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ؟! قَالَتْ: نَعَمْ، إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ وَلَا أُنْثَى([7]).

وهكذا حملت مريم بعيسى عليه السلام، وجعله الله للناس آية وعلامة على قدرته وتنوع خلقه، فقد خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق بقية الذرية من ذكر وأنثى، إلا عيسى فإنه أوجده من أنثى بلا ذكر، فتمّت القسمة الرباعية الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه.

وهذا الذي ذكرناه جاء وفقه الأناجيل، فقد جاء أنه المسيح عيسى ابن مريم، من نسل داود، ومن ذرية إبراهيم -عليهم الصلاة والسلام-، خلقه الله من أم بلا أب بقدرته، كما خاطب جبريل مريم -عليهما السلام- حيث قال لها: “لأنه ليس شيء غير ممكن لدى الله”، حينما تعجبت واستفهمت من جبريل: “كيف يكون هذا؟!” أي: الحمل بعيسى وولادته وأنا لست أعرف رجلًا.

كذلك من أدلة بشرية عيسى عليه السلام كما جاء في الأناجيل: أن أمه حملت به عدة الحمل كاملة، ثم ولدته بعد أن لم يكن شيئًا، وختن بعد أن كان أغلف، واكتهل بعد أن كان صبيًّا.

وجاء في إنجيل لوقا البشارة بولادة نبي الله عيسى عليه السلام باستفاضة كبيرة، وذكرها متى باختصار، وذكرها يوحنا ذكرًا جانبيًّا.

وحاصل ما ورد في إنجيل لوقا أن الملاك لما بشّر مريم أنها ستحمل بالمسيح قال لها: إن اسمه سيكون يسوع، وأنه يدعى العلي ابن العلي، وأن الرب سيعطيه كرسي أبيه داود… ولا يكون لملكه نهاية، وأن المولود منها يدعى ابن الله” (لوقا 1/ 26-45).

ومتى ولوقا ينسبان المسيح إلى داود عليه السلام، وهما الوحيدان اللذان ذكرا سلسلة نسب المسيح عليه السلام، لكنهما وقعا في أخطاء كثيرة وفي تناقض واضح.

ويؤكد هذا موريس بوكاي فيقول: “الحق أن عيسى هو ابن مريم ولد من غير أب… وأما شجرتا النسب اللتان ذكرهما متى ولوقا فلا علاقة لهما بالمسيح أصلًا.. وهما يذكران نسب يوسف النجار، ويوسف النجار لا علاقة له بالمسيح ولا بمريم من حيث النسب ولا غيره؛ فمريم من سبط هارون، وهي لاوية، بينما يوسف النجار من سبط يهوذا، وطبقًا لشرعة موسى لم يكن مسموحًا الزواج من سبط آخر”([8]).

وهكذا درس المحققون سيرة المسيح عليه السلام كما عرضتها الأناجيل منذ بشارة أمه إلى حمله، وولادته في المزود، ثم لفّه بالخرق، ثم ختانه، ومن ثم نشأته وتعليمه مع الصبيان، ثم تعميده على يد المعمدان، إلى أن ذكروا نهايته المزعومة على الصليب بعد أن جزع وتذلل لله ليصرف عنه هذا الأمر… فوجدوا أن المسيح لا يفرق في شيء عن سائر الناس، فقد ولد وكبر، وأكل وشرب، ومات. فما الذي يميزه بالألوهية عن غيره؟!

فقد ولد من فرج امرأة متلبِّطًا بدمها: “وبينما هما هناك تمّت أيامها لتلد” (لوقا 2/ 6).

وقد ختن المسيح عليه السلام في ثامن أيام ولادته: “ولما تمت ثمانية أيام ليختنوا الصبي سمي يسوع” (لوقا 2/ 21). فهل دار في خلد الذي كان يختنه أنه يختن إلهًا؟! وماذا عن القطعة التي بانت منه؟! هل غادرتها الإلهية بانفصالها عن الإله المتجسد، أم بقيت فيها الإلهية حيث ضاعت أو دفنت؟!

وقد عمّده يوحنا المعمدان عليه السلام في نهر الأردن: “جاء يسوع من الجليل إلى الأردن إلى يوحنا ليعتمد منه” (متى 3/ 13)، أفجهل المعمدان أنه يعمّد الإله؟ ومن المعلوم أن معمودية المعمدان غفران الذنوب، كما في متى: “واعتمدوا منه في الأردن معترفين بخطاياهم.. أنا أعمدكم بماء للتوبة… حينئذ جاء يسوع من الجليل إلى الأردن إلى يوحنا ليعتمد منه” (متى 3/ 6-14). فهل كان الإله مذنبًا يبحث عمن يغفر له ذنوبه؟!

ثانيًا: الصفات الخِلقية:

النبي صلى الله عليه وسلم:

ومن الأدلة على بشرية النبي صلى الله عليه وسلم صفاتُه الخِلقية، فقد كان صلى الله عليه وسلم أبيض مستنيرا مائلا إلى الحمرة، واسع الجبين، شديد سواد العين مع سعتها، وقيل: أكحل طويل الأشفار، كث اللحية تملأ صدره، عظيم المنكبين، ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير المتردّد، إذا تكلم رئي كأن نورًا يخرج من ثناياه، إذا مشى تقلع كأنما ينحطّ في صبب -أي: يمشي بقوة-، يتلألأ وجهه كالقمر ليلة البدر صلى الله عليه وسلم، حسن الصوت، سهل الخدين، ضليع الفم، سواء البطن والظهر، أشهر المنكبين والذراعين وأعالي الصدر، طويل الزندين، رحب الراحة، منهوس العقبين -أي: قليل لحم العقب-، بين كتفيه خاتم النبوة كزر الحجلة وكبيضة الحمامة، وكان إذا مشي كأنما تطوى له الأرض، ويجدون ذلك في لحاقه وهو غير مكترث، وكان يسدل شعره ثم فرقه، وكان يرجِّله، ويسرح لحيته، ويكتحل بالإثمد كل ليلة في كل عين ثلاثة أطرف عند النوم([9]).

وصفه أنس بن مالك رضي الله عنه فقال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَزْهَرَ اللَّوْنِ، كَأَنَّ عَرَقَهُ اللُّؤْلُؤُ، إِذَا مَشَى تَكَفَّأَ، وَلَا مَسِسْتُ دِيبَاجَةً، وَلَا حَرِيرَةً أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا شَمِمْتُ مِسْكَةً وَلَا عَنْبَرَةً أَطْيَبَ مِنْ رَائِحَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»([10]).

وكان عرقه صلى الله عليه وسلم أطيب من الطيب، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: دَخَلَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عِنْدَنَا، فَعَرِقَ، وَجَاءَتْ أُمِّي بِقَارُورَةٍ، فَجَعَلَتْ تَسْلِتُ الْعَرَقَ فِيهَا، فَاسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا أُمَّ سُلَيْمٍ، مَا هَذَا الَّذِي تَصْنَعِينَ؟» قَالَتْ: هَذَا عَرَقُكَ نَجْعَلُهُ فِي طِيبِنَا، وَهُوَ مِنْ أَطْيَبِ الطِّيبِ([11]).

وكان صلى الله عليه وسلم مثل القمر بل أجمل من القمر، سُئل البراء رضي الله عنه: أكان وجه النبي صلى الله عليه وسلم مثل السيف؟ قال: لا، بل مثل القمر([12]).

عيسى عليه السلام:

من أدلة بشرية عيسى عليه السلام صفاته الخِلقية، فهو رجل مربوع القامة، ليس بالطويل ولا بالقصير، أحمر، جعد، عريض الصدر، سبط الشعر، كأنما خرج من ديماس، له لمة قد رجلها تملأ ما بين منكبيه، بهذا وصفه النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في رحلة الإسراء والمعراج، فقال: «وَلَقِيتُ عِيسَى»، فَنَعَتَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «رَبْعَةٌ أَحْمَرُ، كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ» يَعْنِي الحَمَّامَ([13]).

وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْتُ عِيسَى ومُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ، فَأَمَّا عِيسَى فَأَحْمَرُ جَعْدٌ عَرِيضُ الصَّدْرِ، وَأَمَّا مُوسَى فَآدَمُ جَسِيمٌ سَبْطٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ الزُّطِّ»([14]).

وقال صلى الله عليه وسلم: «بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ أَطُوفُ بِالكَعْبَةِ فَإِذَا رَجُلٌ آدَمُ، سَبْطُ الشَّعَرِ، يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ، يَنْطِفُ رَأْسُهُ مَاءً –أَوْ: يُهَرَاقُ رَأْسُهُ مَاءً-، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: ابْنُ مَرْيَمَ، فَذَهَبْتُ أَلْتَفِتُ، فَإِذَا رَجُلٌ أَحْمَرُ جَسِيمٌ، جَعْدُ الرَّأْسِ، أَعْوَرُ عَيْنِهِ اليُمْنَى، كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا الدَّجَّالُ، وَأَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا ابْنُ قَطَنٍ»، قَالَ الزُّهْرِيُّ: رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ، هَلَكَ فِي الجَاهِلِيَّةِ([15]).

بل شبهه النبي صلى الله عليه وسلم بعروة بن مسعود الثقفي، ففي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ، فَسَأَلَتْنِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا، فَكُرِبْتُ كُرْبَةً مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطُّ»، قَالَ: «فَرَفَعَهُ اللهُ لِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، مَا يَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَأْتُهُمْ بِهِ، وَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِذَا مُوسَى قَائِمٌ يُصَلِّي، فَإِذَا رَجُلٌ ضَرْبٌ، جَعْدٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَإِذَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَائِمٌ يُصَلِّي، أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ، وَإِذَا إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَائِمٌ يُصَلِّي، أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ صَاحِبُكُمْ» يَعْنِي نَفْسَهُ([16]).

فهل يكون إلهًا من يشبه البشر؟!

ثالثًا: اعترافه بأنه إنسان:

النبي صلى الله عليه وسلم:

فالنبي صلى الله عليه وسلم بشر تميز عن بني جنسه بالنبوة، وهذا ما بينه الله عز وجل في كتابه فقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} [فصلت: 6].

فهل يكون إلهًا من يأمره ربه أن يقول للناس: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}؟!

ومن أجل بشرية الرسول عليه السلام قامت المساجلات بين قومه وبينه؛ كما يحكي ‏القرآن مفنّدًا مطالب المشركين: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا * وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 90-94].‏

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يؤكد على هذا المعنى، فعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَكَلَّمَهُ، فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ، فَقَالَ لَهُ: «هَوِّنْ عَلَيْكَ؛ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ»([17]).

عيسى عليه السلام:

أخبر الله سبحانه في القرآن أن عيسى عليه السلام عبد من عباد الله فقال: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ} [النساء: 172]. وكان هذا هو أول ما تكلم به عيسى عليه السلام فقال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم: 30]، قال ابن كثير: “أَوَّلُ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ نَزَّهَ جَنَابَ رَبِّهِ تَعَالَى، وَبَرَّأَ اللَّهَ عَنِ الْوَلَدِ، وَأَثْبَتَ لِنَفْسِهِ الْعُبُودِيَّةَ لِرَبِّهِ”([18]).

فهو إنسان مخلوق خلقه الله سبحانه وتعالى كما خلق آدم من تراب، قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59].

قال ابن كثير: “فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَهُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَلَا أُمٍّ، بَلْ {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، وَالَّذِي خَلَقَ آدَمَ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ عِيسَى بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، وَإِنْ جَازَ ادِّعَاءُ الْبُنُوَّةِ فِي عِيسَى بِكَوْنِهِ مَخْلُوقًا مِنْ غَيْرِ أَبٍ، فَجَوَازُ ذَلِكَ فِي آدَمَ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، وَمَعْلُومٌ بِالِاتِّفَاقِ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ، فَدَعْوَاهَا فِي عِيسَى أَشَدُّ بُطْلَانًا وَأَظْهَرُ فَسَادًا. وَلَكِنَّ الرَّبَّ عَزّ وَجَلَّ أَرَادَ أَنْ يُظْهِرَ قُدْرَتَهُ لِخَلْقِهِ حِينَ خَلَق آدَمَ لَا مِنْ ذَكَرٍ وَلَا مِنْ أُنْثَى، وَخَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ذَكَرٍ بِلَا أُنْثَى، وَخَلَقَ عِيسَى مِنْ أُنْثَى بِلَا ذَكَرٍ، كَمَا خَلَقَ بَقِيَّةَ الْبَرِيَّةَ مَنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى”([19]).

وهذا الذي ذكره الله عز وجل في كتابه وعلى لسان عيسى عليه السلام، ومثله جاء في صريح الإنجيل أنه إنسان: “أنا إنسان، قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله” (يوحنا 8/ 39)، ويقول أيضًا مؤكدًا هذا المعنى: “متى رفعتم ابن الإنسان فحينئذ تفهمون أني أنا هو” (يوحنا 8/ 28).

وجاء في قاموس الكتاب المقدس: “ويوجد في الأربعة الأناجيل ثمانية وسبعون مثلًا يستخدم فيها يسوع المسيح هذه العبارة (ابن الإنسان) عن نفسه”([20]).

حتى حواريو عيسي كانوا ينظرون إليه على أنه إنسان، وهم أعلم الناس به وأقرب الناس إليه، فقد خاطبهم فقال: “أتفهمون ما قد صنعت بكم؟ أنتم تدعونني معلمًا وسيدًا، وحسنًا تقولون لأني كذلك”. (أعمال الرسل 11/ 22).

بل كان من عادته عليه السلام التعبير عن نفسه بابن الإنسان، ففي إنجيل متى: “جاء ابن الإنسان يأكل ويشرب” (متى 11/ 19)، وفيه أيضًا: “كذلك ابن الإنسان سوف يتألم منهم…” (متى 17/ 12)، وفي إنجيل لوقا: “لأن ابن الإنسان لم يأت ليهلك أنفس الناس” (لوقا 9/ 56)، وفي إنجيل يوحنا قال: “ولكنكم الآن تطلبون أن تقتلوني وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه الله” (يوحنا 8/ 40).

وقد نسب إنجيل متى المسيح إلى داود بن إبراهيم عليه السلام.

وقد مكث المسيح أكثر من ثلاثين عامًا لا يُدعى إلا بابن داود؛ لأن أمه من نسل داود، وبهذا وصفه تلاميذه الذين خالطوه.

رابعًا: كونه يأكل ويشرب:

النبي صلى الله عليه وسلم:

كان النبي صلى الله عليه وسلم يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، حتى قال الكفار اعتراضًا على نبوته صلى الله عليه وسلم: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} [الفرقان: 7].

واسترضع النبي في بني سعد بن بكر، وله صلى الله عليه وسلم أكثر من حاضنة، وكان كسائر البشر يجوع ويشبع ويظمأ ويشرب، كان يحب اللحم ويشرب اللبن ويحب الدباء ويكره البصل والثوم.

وكان صلى الله عليه وسلم يقعد على الأرض، ويأكل على الأرض، ويجيب دعوة المملوك، يقول: «لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ –أَوْ: كُرَاعٍ- لَأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ –أَوْ: كُرَاعٌ- لَقَبِلْتُ»([21]).

وكان يمر عليه الهلال والهلال والهلال ثلاثة أهلة لا يوقد في بيته نار صلى الله عليه وسلم، وكان يصبح فيسأل أهله: «عندكم طعام؟» فيقولون: لا، فيقول: «فإني إذًا صائم»، تقول عائشة رضي الله عنها: دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: «هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟» قُلْنَا: لَا، قَالَ: «فَإِنِّي إِذًا صَائِمٌ»، ثُمَّ جَاءَ يَوْمًا آخَرَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ فَخَبَّأْنَا لَكَ مِنْهُ، قَالَ: «أَدْنِيهِ فَقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا»، فَأَكَلَ([22]).

عيسى عليه السلام:

أثبت الله بشرية عيسى عليه السلام، وجعل من دلائل ذلك كونه يأكل ويشرب، فقال تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة: 75].

قال القرطبي: “أَيْ: أَنَّهُ مَوْلُودٌ مَرْبُوبٌ، وَمَنْ وَلَدَتْهُ النِّسَاءُ وَكَانَ يَأْكُلُ الطَّعَامَ مَخْلُوقٌ مُحْدَثٌ كَسَائِرِ الْمَخْلُوقِينَ، وَلَمْ يَدْفَعْ هَذَا أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَمَتَى يَصْلُحُ الْمَرْبُوبُ لِأَنْ يَكُونُ رَبًّا؟! وَقَوْلُهُمْ: كَانَ يَأْكُلُ بِنَاسُوتِهِ لَا بِلَاهُوتِهِ، فَهَذَا مِنْهُمْ مَصِيرٌ إِلَى الِاخْتِلَاطِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ اخْتِلَاطُ إِلَهٍ بِغَيْرِ إِلَهٍ، وَلَوْ جَازَ اخْتِلَاطُ الْقَدِيمِ بِالْمُحْدَثِ لَجَازَ أَنْ يَصِيرَ الْقَدِيمُ مُحْدَثًا، وَلَوْ صَحَّ هَذَا فِي حَقِّ عِيسَى لَصَحَّ فِي حَقِّ غَيْرِهِ حَتَّى يُقَالَ: اللَّاهُوتُ مُخَالِطٌ لِكُلِّ مُحْدَثٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعامَ}: إِنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ. وَفِي هذا دلالة عَلَى أَنَّهُمَا بَشَرَانِ”([23]).

بل قال الله لنبيه عن الأنبياء جميعًا: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} [الأنبياء: 8]، فلم يجعلهم الله ملائكة لا يأكلون الطعام، ولم يكتب الله لهم الخلد، وعندما أثبت الله أنه هو الخالق وليس أحدًا سواه قال: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 14].

فوضع فرقانًا بين مقام الألوهية ومقام الخلق بقوله سبحانه: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ}.

والنصوص التي تحدثت في الإنجيل عن أحوال المسيح عليه السلام ذكرت صفاته البشرية التي يشترك فيها مع سائر الناس من كونه يأكل ويشرب، فقد ولد من فرج امرأة متلبطًا بدمها: “وبينما هما هناك تمت أيامها لتلد” (لوقا 2/ 6).

ورضع من ثديها كسائر أطفال البشر: “وفيما هو يتكلم بهذا رفعت امرأة صوتها من الجميع وقالت: طوبى للبطن التي حملك، والثديين اللذين رضعتهما” (لوقا 111/ 17).

بل إن المسيح جاع كما يجوع البشر، وبحث عن طعام ليأكله: “وفي الصباح إذ كان راجعًا إلى المدينة جاع” (متى 21/ 28).

كما أنه عطش: “قال: أنا عطشان” (يوحنا 19/ 28).

وقد أكل وشرب، فسد جوعته، وروى ظمأه: “فناولوه جزءًا من سمك مشوي وشيئًا من شهد عسل، فأخذ وأكل قدامهم” (لوقا 24/ 42-43).

والطعام والشراب الذي كان يتقوى به كان ينمو به جسمه طولًا وعرضًا: “وكان الصبي ينمو” (لوقا 2/ 40)، ونموه كان بالجسد والعقل: “وأما يسوع فكان يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس” (لوقا 2/ 52)، فالطعام ينميه جسديًا، والتعليم في الهيكل من المعلمين ينميه عقليًا: “وجداه في الهيكل جالسًا في وسط المعلمين يسمعهم ويسألهم” (لوقا 2/ 46).

فهل يليق بإله أن يأكل ويشرب ويترتب عن ذلك أن يتبول ويتغوط؟!

خامسًا: كونه يحزن ويفرح ويبكي:

النبي صلى الله عليه وسلم:

كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتريه ما يعتري البشر من الفرح والحزن بل والبكاء أحيانًا، فقد حزن على موت ابنه إبراهيم، وجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَذْرِفَانِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! فَقَالَ: «يَا ابْنَ عَوْفٍ، إِنَّهَا رَحْمَةٌ»، ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، وَالقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلاَ نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ»([24]).

ولما اشْتَكَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ شَكْوَى لَهُ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ فَوَجَدَهُ فِي غَاشِيَةِ أَهْلِهِ، فَقَالَ: «قَدْ قَضَى»، قَالُوا: لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَبَكَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَأَى القَوْمُ بُكَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَكَوْا، فَقَالَ: «أَلاَ تَسْمَعُونَ؟! إِنَّ اللَّهَ لاَ يُعَذِّبُ بِدَمْعِ العَيْنِ، وَلاَ بِحُزْنِ القَلْبِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا -وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ- أَوْ يَرْحَمُ، وَإِنَّ المَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ»([25]).

وفرح صلى الله عليه وسلم بعودة جعفر بن أبي طالب يوم فتح خيبر، وفرح بإسلام عدي بن حاتم رضي الله عنه، فإنه لما قدم عليه دعاه للإسلام فقال عدي: فَإِنِّي ضَيْفٌ مُسْلِمٌ، قَالَ: فَرَأَيْتُ وَجْهَهُ تَبَسَّطَ فَرَحًا، قَالَ: ثُمَّ أَمَرَ بِي فَأُنْزِلْتُ عِنْدَ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ([26]).

وفرح بتوبة كعب بن مالك لما تخلف عن غزوة تبوك، وعوقب بالهجر خمسين ليلة حتى ضاقت عليه الأرض بما رحبت، ثم نزلت توبته، قَالَ كَعْبٌ: فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ وَيَقُولُ: «أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ»، قَالَ: فَقُلْتُ: أَمِنْ عِنْدِكَ يَا رَسُولَ اللهِ أَمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ؟ فَقَالَ: «لَا، بَلْ مِنْ عِنْدِ اللهِ»، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ، كَأَنَّ وَجْهَهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ([27]).

وكان صلى الله عليه وسلم يفرح ببراءة من اتهم ظلما وعدوانا؛ كما فرح ببراءة عائشة رضي الله عنها من الإفك، حين أنزل الله تعالى براءتها في القرآن، قالت عائشة رضي الله عنها: وَأُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سَاعَتِهِ، فَسَكَتْنَا فَرُفِعَ عَنْهُ، وَإِنِّي لَأَتَبَيَّنُ السُّرُورَ فِي وَجْهِهِ، وَهُوَ يَمْسَحُ جَبِينَهُ، وَيَقُولُ: «أَبْشِرِي يَا عَائِشَةُ، فَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ بَرَاءَتَكِ»([28]).

وفرح صلى الله عليه وسلم بصحة نسب أسامة بن زيد رضي الله عنهما إلى أبيه، وكان أسامة شديد السواد، وكان أبوه شديد البياض، وكان المنافقون يطعنون في نسبة أسامة لأبيه، فجاء قائف من بني مدلج لا يعرفهما، فأثبت نسبهما وهما نائمان دون أن يسأل عنهما، ولكن حين رأى أقدامهما بادية من تحت اللحاف؛ كما جاء في حديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا مَسْرُورًا تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ، فَقَالَ: «أَلَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ المُدْلِجِيُّ لِزَيْدٍ وَأُسَامَةَ وَرَأَى أَقْدَامَهُمَا: إِنَّ بَعْضَ هَذِهِ الأَقْدَامِ مِنْ بَعْضٍ؟»([29]).

وكان صلى الله عليه وسلم إذا سُر استنار وجهه كأنه فلقة قمر.

عيسى عليه السلام:

أصاب المسيح عليه السلام كل ما يصيب البشر من عوارض بشرية من حزن وفرح وبكاء حتى اكتأب عليه السلام كما جاء في الإنجيل: “وبدأ يدهش ويكتئب” (مرقس 14/ 33)، وأحيانًا كان يجتمع عليه الحزن والاكتئاب: “بدأ يحزن ويكتئب” (متى 26/ 37).

ولما كان البكاء من عادة البشر إذا ما اعتراهم الضعف والأسى فإنه أحيانًا كان يبكي كسائر البشر: “بكى يسوع” (يوحنا 11/ 35).

وتذكُر الأناجيل حزن المسيح عليه السلام ليلة الصلب وغيرها حتى كاد يموت: “إن نفسي حزينة حتى الموت” (مرقس 14/ 32).

بل تزعم الأناجيل أنه لما وضع على خشبة الصلب جزع وقال: “إلهي إلهي، لم تتركني؟” (مرقص 15/ 34).

فهل الرب يجزع ويحزن ويكتئب حتى يوشك على الموت؟! سبحانك هذا بهتان عظيم.

سادسًا: كونه يمرض:

النبي صلى الله عليه وسلم:

كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتريه ما يعتري البشر من الصحة والمرض، بل كان يمرض كما يمرض الرجلان من القوم.

فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْبَقِيعِ، فَوَجَدَنِي وَأَنَا أَجِدُ صُدَاعًا فِي رَأْسِي، وَأَنَا أَقُولُ: وَا رَأْسَاهُ، فَقَالَ: «بَلْ أَنَا -يَا عَائِشَةُ- وَا رَأْسَاهُ» ثُمَّ قَالَ: «مَا ضَرَّكِ لَوْ مِتِّ قَبْلِي، فَقُمْتُ عَلَيْكِ، فَغَسَّلْتُكِ، وَكَفَّنْتُكِ، وَصَلَّيْتُ عَلَيْكِ، وَدَفَنْتُكِ»([30]).

وقَالَ عَبْدُ اللهِ يصف مرض النبي صلى الله عليه وسلم: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُوعَكُ، فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَيْهِ، وَقُلْتُ: إِنَّكَ تُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا! قَالَ: «إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنْكُمْ»، قَالَ: قُلْتُ: ذَاكَ بِأَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ؟! قَالَ: «أَجَلْ، مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يُصِيبُهُ مَرَضٌ فَمَا سِوَاهُ إِلَّا حَطَّ اللهُ بِهِ خَطَايَاهُ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا»([31]).

عيسى عليه السلام:

أصاب المسيح عليه السلام ما يصيب البشر من المرض والتعب، فقد نام كما ينام البشر: “وكان وهو نائمًا” (متى 8/ 24)، وتعب كسائر البشر: “كان يسوع قد تعب من السفر” (يوحنا 4/ 6).

فهل من يعتريه النوم والتعب يمكن أن يكون إلها؟!

سابعًا: كونه يموت:

النبي صلى الله عليه وسلم:

النبي صلى الله عليه وسلم بشر مخلوق، وكل بشر سيموت، كما قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر: 30، 31]، وقال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144].

ولما شك الصحابة في موته صلى الله عليه وسلم من هول الصدمة وقف أبو بكر رضي الله عنه، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: أَلا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ، وَقَالَ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]، وَقَالَ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]، قَالَ: فَنَشَجَ النَّاسُ يَبْكُونَ([32]).

عيسى عليه السلام:

عيسى عليه السلام رفع إلى السماء وهو حي يوشك أن ينزل، وقد ثبت في الصحيح أن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ المَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ»([33]).

وثبت في الصحيح أنه ينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق، وأنه يقتل الدجال([34])، وقد رد الله على اليهود الذين زعموا أنهم صلبوه فقال: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِم شَهِيدًا} [النساء: 157-159]، ثم إنه يمكث في الأرض بعد نزوله أربعين سنة، ثم يموت كما جاء في الحديث: «فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ يُتَوَفَّى، فَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ»([35]).

ولن يموت حتى يحج البيت أو يعتمر كما في الصحيح عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُهِلَّنَّ ابْنُ مَرْيَمَ بِفَجِّ الرَّوْحَاءِ، حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا، أَوْ لَيَثْنِيَنَّهُمَا»([36]).

وتزعم الأناجيل أنه مات، فهل رب يموت؟! “فصرخ يسوع بصوت عظيم وأسلم الروح” (مرقص 15/ 37).

وقبل أن يجيبنا أحدهم -ببرود- بأن الذي مات هو الناسوت، وأن اللاهوت لا يموت؛ فإن النصارى أنفسهم يؤكدون أن الذي مات على الصليب هو ابن الله، وليس ابن الإنسان: “لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به” (يوحنا 3/ 16).

فهذا إله النصارى يصلب ويموت، حتى إن الأسقف ترتليان لم يجد ما يدفع به هذه القاصمة إلا أن يقول: “لقد مات ابن الله! وذلك شيء غير معقول، لا لشيء إلا لأنه مما لا يقبله العقل، وقد دفن بين الموتى، وذلك أمر محقق؛ لأنه مستحيل”([37]).

إن صلب المسيح بزعمهم وجزعه وموته أكبر دليل على أنه إنسان، حتى قال الغزالي: “المسيح صلب، ولا شيء مما صلب بإله، فلا شيء من المسيح بإله”([38]).

بل وتزعم الأناجيل أنه جزع عند موته وصرخ بصوت عال: “إيلي إيلي، لما شبقتني؟! أي إلهي إلهي لماذا تركتني؟” (متى 27/ 46)، فاستغاثتُه وصراخه وجزعه بزعمهم ينفي ألوهيته؛ فهو دليل ضعفه وعجزه عن خلاص نفسه، ولا يصح أن يكون العاجز إلهًا.

بل ويحدثنا مرقص أن المسيح لما كان على الصلب صرخ يطلب الماء: “فركض واحد، وملأ إسفنجة خلًا، وجعلها على قصبة، وسقاه قائلًا: اتركوا، لِنَرَ هل يأتي إليا لينزله” (مرقص 15/ 36).

وجاء في إنجيل برنابا ما يدل على أن المصلوب ليس المسيح عليه السلام وإنما هو يهوذا: “دخلت الجنود وألقوا أيديهم على يهوذا؛ لأنه كان شبيهًا بيسوع من كل وجه.. فأخذ الجنود يهوذا وأوثقوه.. وقادوه إلى جبل الجمجمة، وهناك صلبوه، ولم يفعل يهوذا شيئًا سوى الصراخ: يا الله لماذا تركتني؟“.

وهذا المعنى الذي جاء في القرآن بينه المسيح بنفسه فقال: “عندما يرفع ابن الإنسان ستظنون أني أنا هو” (يوحنا: 8)

وفي هذا العصر برّأت الكنيسة اليهود من دم المسيح، لاقتناعها ضمنًا بأن المصلوب لم يكن المسيح، وإلا فهل يعقل أن تُفرِّط الكنيسة بدم المسيح هذا التفريط مهما كانت الأسباب؟!

ثامنًا: كونه عبدًا يُظهر التضرع والتذلل لله عز وجل:

النبي صلى الله عليه وسلم:

وصف الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بوصف العبودية في أشرف المواطن، ففي موطن الإسراء قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1]، وفي موطن الدعوة قال: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن: 19]، وفي موطن التحدي فقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 23].

ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغلو فيه فقال: «لاَ تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ»([39]).

وكان من مظاهر هذه العبودية كثرة عبادته وصلاته وصيامه لله رب العالمين، فقد كان أعبد الناس لله عز وجل، ومن مظاهر هذه العبودية الغضب عندما يشركه أحد في صفة من صفات الله تعالى، فلقد أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على من خاطبه بقوله: ما شاء الله وشئت يا رسول الله، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَجَعَلْتَنِي وَاللهَ عَدْلًا؟! بَلْ مَا شَاءَ اللهُ وَحْدَهُ»([40]).

ومن مظاهر هذه العبودية أنه تبرأ من علم الغيب، وبين أنه ما هو إلا بشير ونذير من عند الله تعالى، كما قال الله تعالى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 188].

عيسى عليه السلام:

كانت أول الكلمات التي تكلم بها المسيح عليه السلام قوله: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم: 30]، وتبرأ ممن زعموا أنه عليه السلام دعاهم لعبادته، ففي موقف مستقبلي مهيب يرسم القرآن الكريم مشهدًا جليلًا يصور فيه موقف المسيح مع إخوانه الأنبياء بين يدي الله تعالى يوم الحساب: {وَإِذْ قَالَ اللّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة: 116-119].

وفي الإنجيل أنه عليه السلام دعا إلى عبادة الله وحده، والتوجه إليه بالصلاة والدعاء فقال: “فصلوا أنتم هكذا أبانا الذي في السماوات، ليتقدس اسمك يأت ملكوتك، لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض” (متى 6/ 10).

وذكرت الأناجيل تذَلُّلَه وخضوعه لله عز وجل وتضرعه بين يديه: “وكان يصلي قائلًا: يا ابتاه، إن أمكن أن تعبر عني هذا الكأس، ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت” (متى 26/ 39).

ويصور لوقا صلاته فيقول: “جثا على ركبتيه” (لوقا 22/ 41)، بل “وخرج إلى الجبل ليصلي، وقضى الليل كله في الصلاة لله” (لوقا 6/ 12).

فلمن كان الإله يصلى طوال الليل؟! هل يصلي لنفسه، أم للأب الذي حل فيه بزعمهم؟!

بل كان يصلي متواريًا ويصبح عرقه دمًا غزيرًا من كثرة العبادة، يقول لوقا: “وإذا كان في اجتهاد كان يصلي بأشد لجاجة، وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض” (لوقا 22/ 44).

ومن تضرعه واستغاثته بربه ما ذكره يوحنا عن حال المسيح عليه السلام عندما أحيا لعازر: “ورفع يسوع عينيه إلى فوق وقال: أيها الآب أشكرك، لأنك سمعت لي، وأنا علمت أنك في كل حين تسمع لي، ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت، ليؤمنوا أنك أرسلتني” (يوحنا 11/ 40-41).

والتضرع والعبادة نوع من دلائل العبودية، لا يجوز نسبته إلى الله.

بل كان المسيح عليه السلام يدعو إلى التوحيد صراحة، بل جعلها أول الوصايا فقال: “إن أول كل الوصايا هي أسمع يا إسرائيل الرب إلهنا رب واحد فقال له الكاتب جيدًا يا معلم بالحق قلت لأنه الله واحد وليس آخر سواه” (مرقص 12/ 28).

وفي إنجيل متى: “قال المسيح للشيطان… مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد” (متى 10/ 4).

حتى إنه عنفهم لأنهم يعتمدون على بشر ولا يعتمدون على الله الواحد الأحد فقال: “كيف تقدرون أن تؤمنوا وأنتم تقبلون مجدًا بعضكم من بعض والمجد الذي من الواحد لستم تطلبونه” (يوحنا 5/ 44).

ورغم تذلُّلِه لله عز وجل إلا أنه كان ينفي الصلاح عن نفسه تواضعًا لله سبحانه، فلما تقدم إليه واحد وقال له: “أيها المعلم الصالح أي صلاح أعمل لتكون لي الحياة الأبدية، فقال له: لماذا تدعوني صالحًا؟ ليس أحد صالحًا إلا واحد وهو الله” (متى 19/ 16-17).

وجماع هذا كله قوله عليه السلام عن نفسه: “وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله” (يوحنا 8/ 40). أفلا نقبل شهادته عليه الصلاة والسلام عن نفسه؟!

فلو كان إلهًا لما صح منه أن يعمِّي علينا هذه الحقيقة بمثل هذا القول الصريح الدال على إنسانيته.

وحين يصرّ النصارى على القول بألوهيته فإنهم يضربون بعرض الحائط قول المسيح وتلاميذه، ويتنكرون بذلك لكل هذه النصوص التي لم تتحدّث أبدًا عن إله متجسد، ولا عن ناسوت حل به الله.

تاسعًا: شهادة المعاصرين لهما بالنبوة:

النبي صلى الله عليه وسلم:

من أهم الأدلة على بشرية النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يدَّعِ أحد ممن عاصره فيه الألوهية، بل كانوا يشهدون له بالنبوة، حتى الكفار منهم كما قال الله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]، وقَالَ أَبُو جَهْلٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا لَا نُكَذِّبُكَ، وَلَكِنْ نُكَذِّبُ مَا جِئْتَ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}، وعَنْ أَبِي يَزِيدَ الْمَدَنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَ أَبَا جَهْلٍ فَصَافَحَهُ، قَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَلَا أَرَاكَ تُصَافِحُ هَذَا الصَّابِئَ؟! فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي أَعْلَمُ إِنَّهُ لَنَبِيٌّ، وَلَكِنْ مَتَى كُنَّا لِبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ تَبَعًا؟!([41]).

وكذلك شهادة هرقل له بالنبوة كما في حديث أَبي سُفْيَانَ بْن حَرْبٍ أَخْبَرَ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانُوا تجارًا بِالشَّأْمِ فِي المُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ، فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ، فَدَعَاهُمْ فِي مَجْلِسِهِ وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ: أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا، فَقَالَ: أَدْنُوهُ مِنِّي، وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ: إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ، فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ. قال أبو سفيان: فَوَاللَّهِ لَوْلاَ الحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ. ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَنْ قَالَ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قُلْتُ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ، قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا القَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَقُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ، قَالَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ قُلْتُ: بَلْ يَزِيدُونَ، قَالَ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قُلْتُ: لا، وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لا نَدْرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا، قَالَ: وَلَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرُ هَذِهِ الكَلِمَةِ، قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟ قُلْتُ: الحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ، يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ، قَالَ: مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ قُلْتُ: يَقُولُ: اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّدْقِ وَالعَفَافِ وَالصِّلَةِ. فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ: قُلْ لَهُ: سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا. وَسَأَلْتُكَ: هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا القَوْلَ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لا، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا القَوْلَ قَبْلَهُ لَقُلْتُ: رَجُلٌ يَأْتَسِي بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ. وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ، قُلْتُ: فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ قُلْتُ: رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ، فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ. وَسَأَلْتُكَ: أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمُ اتَّبَعُوهُ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ. وَسَأَلْتُكَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ أَمْرُ الإِيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ. وَسَأَلْتُكَ: أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ القُلُوبَ. وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَغْدِرُ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لاَ تَغْدِرُ. وَسَأَلْتُكَ: بِمَا يَأْمُرُكُمْ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلاَةِ وَالصِّدْقِ وَالعَفَافِ، فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ، لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ، فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ([42]).

كما اعترف من عاصره من زعماء اليهود بصدق نبوته صلى الله عليه وسلم، وهذا ما تقصه أم المؤمنين صفية بِنْت حُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ زعيم يهود بني قريظة، فتقول: كنت أحَبَّ ولد أبي إليه وإلى عمِّي أبي ياسر، لم ألقهما قط مع ولدٍ لهما إلّا أخذاني دونه. قالت: فلما قَدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ونزل قُبَاء في بني عمرو بن عوفٍ، غدا عليه أبي حيي بن أخطب وعمِّي أبو ياسر بن أخطب، مُغَلّسَيْنِ قالت: فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس. قالت: فأتيا كالّين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى. قالت: فَهَشِشْتُ إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفتَ إليَّ واحدٌ منهما، مع ما بهما من الغمِّ. قالت: وسمعت عمِّي أبا ياسر وهو يقول لأبي حيي بن أخطب: أهو هو؟ قال: نعم والله، قال: أَتَعْرِفُهُ وَتُثْبِتُهُ؟ قال: نعم. قال: فما في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيتُ([43]).

ولم يتعامل معه أحد من أصحابه صلى الله عليه وسلم على أنه إله يعبد من دون الله عز وجل، فلم يصلوا له، ولم يصوموا له، ولم يدَّعوا فيه صفة أو منزلة لم ينزله الله إياها، فهو عندهم عبد الله ورسوله.

عيسى عليه السلام:

ومما يدل أيضًا على بشرية المسيح عليه السلام أن معاصريه وحوارييه وحتى أعداءه لم يتعاملوا معه على أنه إله أو ابن الإله أو حتى ثالث ثلاثة، حتى والدته وأقرب الناس إليه، يذكر يوحنا “أن المسيح لما صلب ذهبت والدته لتذرف عليه الدمع” (يوحنا 19/ 25)، أفلم تكن تعلم أن ولدها هو الله أو ابنه، وأن الموت لا يضيره فلا تبكي عليه؟!

ولما رأى رجلان المسيح بعد الصلب المزعوم على الصليب حزنا وقالا عن سبب حزنهما: “يسوع الناصري الذي كان إنسانا نبيًّا… كيف أسلمه رؤساء الكهنة وحكامنا لقضاء الموت وصلبوه ونحن كنا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل” (لوقا 24/ 19).

فليس في قولهما حديث عن ناسوت مقتول، ولا عن لاهوت متجسّد نجا من الموت، إن غاية ما كانوا يرقبونه فيه أن يكون مخلص إسرائيل، أي: المسيح المنتظر الذي بشرت به الأنبياء، فإن “الإيمان الشائع بين اليهود كان يقتصر على أن المسيح يكون فقط إنسانًا مشهورًا وممتازًا في فضائله ووظيفته”([44]).

ويقول القس إبراهيم سعيد عن هذين التلميذين: “إلى الآن لم يؤمنا بلاهوته.. لكننا لا ننكر عليهما أنهما كانا مؤمنين بنبوته”([45]).

ولما جاءته المرأة السامرية ورأت قدراته وأعاجيبه: “قالت له المرأة: يا سيدي أرى أنك نبي” (يوحنا 4/ 19)، وما زادت على ذلك، فما وبخها ولا صحح لها معتقدها.

وكذا الجموع التي رأته في أورشليم وخرجت لاستقباله كانت تعتقد بشريته ونبوته: “فقالت الجموع: هذا يسوع النبي” (متى 21/ 45).

بل هذه الجموع وصفته بالنبي العظيم: “فأخذ الجميع الخوف ومجدوا الله قائلين قد قام فينا نبي عظيم” (لوقا 7/ 16).

وأيضًا عجب منه تلاميذه لما رأوا بعض معجزاته، ولو كانوا يرونه إلهًا لما كان في معجزاته أي عجب: “فقد مرّ يسوع عليه السلام بالشجرة وقد جاع، فقصدها، فلم يجد فيها سوى الورق. فقال: لا يخرج منك ثمرة إلى الأبد، فيبست الشجرة لوقتها، فتعجب التلاميذ قال لها: لا يكون منك ثمر بعد إلى الأبد، فيبست التينة في الحال. فلما رأى التلاميذ ذلك تعجبوا قائلين: كيف يبست التينة في الحال…” (متى 21/ 18-22). فدل عجبهم على أنهم كانوا لا يدركون شيئًا مما تعتقده النصارى اليوم من ألوهية المسيح، وإلا فإن إيباس الإله للشجرة ليس فيه ما يدعو لأي عجب.

إن غاية ما اعتقده التلاميذ في المسيح أنه المسيا النبي العظيم المنتظر، ولم يدر بخلدهم ألوهيته أو بنوته لله، يقول الأب متى المسكين: “التلاميذ وقف تفكيرهم عند اعتقادهم فيه أنه نبي، ولكن يعمل أعمالًا لم يعملها نبي.. رفع تقديرهم للمسيح عن ما هو أكثر فعلًا من نبي، ولكن ماذا يكون.. فالتلاميذ جمعوا من الأدلة في حياة المسيح ما يؤكد لهم أنه المسيا”([46]).

وفيما أحد الفريسيين يرقب المسيح متشككًا بنبوته تقدّمت إليه امرأة خاطئة باكية تمسح رجليه بشعرها، تقبلهما وتدهنهما بالطيب، “فلما رأى الفريسي الذي دعاه ذلك، تكلم في نفسه قائلًا: لو كان هذا نبيًا لعلم من هذه المرأة التي تلمسه؟ وما هي؟ إنها خاطئة” (لوقا 7/ 39). لقد استنكر في نفسه نبوة -لا ألوهية- هذا الذي يجهل حال الخاطئة، مما يؤكد أن دعواه عليه السلام بينهم إنما كانت النبوة فحسب، يقول الأب متى المسكين: “فالفريسي إذ رأى المسيح يتقبل من المرأة ما صنعته به أخذها شهادة ضد المسيح أنه ليس نبيًّا كما كان يذاع عنه”([47]).

وهكذا كان جميع من عاصره يشهد له بالنبوة؛ مما يدل على أن فكرة ألوهية المسيح لا علاقة لها به ولا بأتباعه ولا بمن عاصره، بل هي من المختراعات اللاحقة لذلك العهد، وذلك يكفي لإعلان بطلانها.

عاشرًا: كونه لا يعلم الغيب:

النبي صلى الله عليه وسلم:

من أدلة بشريته صلى الله عليه وسلم أنه لا يعلم الغيب؛ لذا قال تعالى آمرا نبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} [الأحقاف: 9].

فهذا رسول الله يَقُولُ: لَا أَدَّعِي عِلْمَ الْغَيْبِ، إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ، وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ أُنْذِرُكُمْ بِمَا أَمَرَنِي اللَّهُ أَنْ أُنْذِرَكُمْ بِهِ، لَا أَقُولُ لَكُمْ: عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ، وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَلَا أَقُولُ: إِنِّي مَلَكٌ. وَهَذَا مِنْ كَمَالِ صِدْقِهِ وَعَدْلِهِ وَعُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ وَطَاعَتِهِ، وَتَمْيِيزِ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْخَالِقُ وَحْدَهُ مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ الْعَبْدُ، فَإِنَّ الْعِلْمَ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، فَلَا يَعْلَمُهُ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ.

وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الرَّسُولِ أَنْ يَعْلَمَ كُلَّ مَا يَكُونُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} [الأحقاف: 9] نَفْيٌ لِعِلْمِهِ بِجَمِيعِ مَا يُفْعَلُ بِهِ وَبِهِمْ، وَهَذَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَهَذَا لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِأَنَّهُ سَعِيدٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَدْرِ تَفَاصِيلَ مَا يَجْرِي لَهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمِحَنِ وَالْأَعْمَالِ، وَمَا يَتَجَدَّدُ لَهُ مِنَ الشَّرَائِعِ، وَمَا يُكْرَمُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ مِنْ أَصْنَافِ النَّعِيم.

وليس مِنْ شَرْطِ النَّبِيِّ أَنْ يَعْلَمَ حَالَ الْمُخَاطَبِينَ: مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، وَمَنْ يَكْفُرُ، وَتَفْصِيلَ مَا يَصِيرُونَ إِلَيْهِ([48]).

بل لا يعلم ما يحدث له هو نفسه عليه الصلاة والسلام كما قال تعالى: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} [الأحقاف: 9].

وكونه لا يعلم الغيب المقصود به الغيب المطلق، وإلا فإن الله تعالى قد يطلعه على بعض الغيب، وهذا من دلائل نبوته، كإخباره صلى الله عليه وسلم بغلبة الروم، وقتال الترك، وفتح بلاد فارس، وخروج نَار مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ تُضِيءُ لَهَا أَعْنَاقُ الْإِبِلِ بِبُصْرَى، وغير ذلك مما أطلعه الله عليه.

وهذا من أكبر الأدلة على بشريته؛ إذ إنه لا يتكلم من عند نفسه، ولا يعرف إلا ما أطلعه الله عليه.

عيسى عليه السلام:

من أوضح الأدلة على بشرية عيسى عليه السلام أنه لا يعلم الغيب، ولو كان إلهًا ما جهل بأشياء لا ينبغي أن تخفى على إله، وهذا ما جاء واضحًا جليًّا في أناجيل النصارى أنفسهم.

ومنها جهله بيوم القيامة، فقد قال: “أما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بها احد، ولا الملائكة الذين في السماء، ولا الابن إلا الآب” (مرقص 13/ 32).

وليس ما يجهله المسيح هو موعد القيامة فقط، بل كل ما غاب عنه فهو لا يعلمه، ولذا نجده عندما أراد إحياء لعازر يسأله، “فانزعج بالروح واضطرب وقال: أين وضعتموه؟” (يوحنا 11/ 33).

ولما جاءه رجل يريد منه شفاء ابنه من الجنون، “فسأل أباه: كم من الزمان منذ أصابه؟ فقال: منذ صباه” (مرقص 9/ 21).

وفي قصة المرأة النازفة: “جاءت من ورائه، ولمست هدب ثوبه، ففي الحال وقف نزف دمها، فقال يسوه: من الذي لمسني؟” (لوقا 8/ 44).

فهذا يسوع يجهل من لمسه حتى أن بطرس والذين معه تعجبوا وقالوا: “يا معلم، الجموع يضيقون عليك، ويزحمونك، وتقول: من الذي لمسني؟” (لوقا 8/ 47).

فهل يكون إلهًا من لا يعلم كلَّ هذا وأكثر منه؟!

لذا فإن أصدق قول في المسيح هو قول ربنا عز وجل: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة: 75].

ومن العلم الذي نفاه المسيح عن نفسه علم الساعة، فقد نفى عن نفسه معرفة موعد يوم القيامة فقال: “وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ولا الملائكة الذين في السماء ولا الابن إلا الأب” (مرقص 13/ 32).

وهذا يبين بطلان ألوهية المسيح؛ لأنه خصّ علم القيامة بالله وحده، وسوى بين نفسه وبين عباد الله الآخرين في عدم العلم بذلك.

وهذا لا ينفي معرفة المسيح لبعض الغيب، لكنه لا يكون إلا بإرادة الله عز وجل كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن: 26، 27].

إلا أن هذا الغيب لا يختص به المسيح دون غيره من الأنبياء، بل قد يحدث ذلك لغيره، ومثال ذلك ما جاء في سفر التكوين أن يعقوب جمع بنيه حين حضرته الوفاة، وأخبرهم بأمور تصيبهم ووقعت كما أخبر. (التكوين 49/ 1-32). وكذلك موسى عليه السلام، وفي سفر صموئيل أن صموئيل أخبر الملك شاول ببعض الأمور الغيبية وغير ذلك وقع كثير منها، ولم يدَّع أحد فيهم أنهم آلهة أو أنهم أبناء الله.

والحمد لله رب العالمين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) تفسير ابن كثير لأبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي، ط: دار طيبة (5/ 121).

([2]) رواه مسلم، كتاب الفضائل، بَابُ فَضْلِ نَسَبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَسْلِيمِ الْحَجَرِ عَلَيْهِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ (2276).

([3]) رواه الطيالسي، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (3225).

([4]) رواه أحمد (17163).

([5]) رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (3/ 80-81).

([6]) البداية والنهاية، لابن كثير، ط: دار هجر للطباعة (2/ 439).

([7]) ينظر: البداية والنهاية، لابن كثير (2/ 441).

([8]) دراسة في الكتب المقدسة (ص: 105).

([9]) بنظر: جوامع السير لابن حزم (ص: 21-22)، والإعلام بما في دين النصارى من فساد وأوهام، للقرطبي، ط: دار التراث (ص: 291-292)، وتهذيب الأسماء واللغات للنووي، ط: دار الكتب العلمية (1/ 25).

([10]) رواه مسلم، كتاب الفضائل، بَابُ طِيبِ رَائِحَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِينِ مَسِّهِ وَالتَّبَرُّكِ بِمَسْحِهِ (2330).

([11]) رواه مسلم، كتاب الفضائل، بَابُ طِيبِ عَرَقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّبَرُّكِ بِهِ (2331).

([12]) رواه البخاري، كتاب المناقب، بَابُ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3636).

([13]) رواه البخاري (3437)، ومسلم (168).

([14]) رواه البخاري (3438). (جعد): في شعره انثناء. (آدم): فيه سمرة. (جسيم) كثير اللحم وقيل: الجسامة هنا باعتبار الطول. (سبط): خلاف الجعد. (الزط) جنس طوال من السودان.

([15]) رواه البخاري (3441).

([16]) رواه مسلم، كتاب الإيمان، بَابُ ذِكْرِ الْمَسِيحِ ابْنِ مَرْيَمَ وَالْمَسِيحِ الدَّجَّالِ (172).

([17]) رواه بن ماجه (3312)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه.

([18]) تفسير ابن كثير، ط: دار طيبة للنشر والتوزيع (5/ 228).

([19]) تفسير ابن كثير (2/ 49).

([20]) قاموس الكتاب المقدس (ص: 124).

([21]) رواه البخاري، كتاب الهبة، بَابُ القَلِيلِ مِنَ الهِبَةِ (2568).

([22]) رواه أحمد (25731)، وقال محقق المسند: صحيح على شرط مسلم.

([23]) الجامع لأحكام القرآن، ط: دار الكتب المصرية – القاهرة (6/ 250).

([24]) رواه البخاري، كتاب الجنائز، بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّا بِكَ لَمَحْزُونُونَ» (1303).

([25]) رواه البخاري، كتاب الجنائز، بَابُ البُكَاءِ عِنْدَ المَرِيضِ (1304).

([26]) رواه الترمذي، بَابٌ: وَمِنْ سُورَةِ فَاتِحَةِ الكِتَابِ (2953)، وقال: “هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ”، وحسنه الألباني.

([27]) رواه البخاري، كتاب المغازي، بَابُ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَقَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} (4418)، ومسلم، كتاب التوبة، بَابُ حَدِيثِ تَوْبَةِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَصَاحِبَيْهِ (2769).

([28]) رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، بَابُ {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ، وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (4757).

([29]) رواه البخاري، كتاب المناقب، بَابُ صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3555).

([30]) رواه ابن ماجه، كتاب الجنائز، بَابُ مَا جَاءَ فِي غَسْلِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ، وَغَسْلِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا، (1465)، وفي الزوائد: إسناد رجاله ثقات. رواه البخاري من وجه آخر مختصرا.

([31]) رواه البخاري، كتاب المرضى، بَابٌ: أَشَدُّ النَّاسِ بَلاَءً الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَل (5647)، ومسلم، كتاب البر والصلة، بَابُ ثَوَابِ الْمُؤْمِنِ فِيمَا يُصِيبُهُ مِنْ مَرَضٍ أَوْ حُزْنٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا (2571).

([32]) رواه البخاري، كتاب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا» (3668).

([33]) رواه البخاري، كتاب البيوع، بَابُ قَتْلِ الخِنْزِيرِ (2222).

([34]) رواه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، بَابُ ذِكْرِ الدَّجَّالِ وَصِفَتِهِ وَمَا مَعَهُ (2937).

([35]) رواه أبو داود (4324).

([36]) رواه مسلم، كتاب الحج، بَابُ إِهْلَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَدْيِهِ (1252).

([37]) المسيح في القرآن والتوراة والإنجيل (ص: 343).

([38]) الرد الجميل (ص: 62).

([39]) رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، بَابُ قَوْلِ اللَّهِ: {وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} (3445).

([40]) رواه أحمد (1839).

([41]) ينظر: تفسير ابن كثير (3/ 251).

([42]) رواه البخاري، كتاب بدء الوحي، كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ (7).

([43]) ينظر: البداية والنهاية (4/ 524).

([44]) اتفاق البشيرين، القس سمعان كلهون (ص: 292).

([45]) شرح بشارة لوقا، د. إبراهيم سعيد (ص: 634).

([46]) الله جَلَّ جلالهُ واحد أم ثلاثة؟ د. منقذ بن محمود السقار (ص: 119).

([47]) الإنجيل بحسب القديس لوقا (دراسة وتفسير وشرح)، الأب متى المسكين (ص: 331).

([48]) ينظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ط: دار العاصمة (2/ 159).

التعليقات مغلقة.

جديد سلف

صيانة الشريعة لحق الحياة وحقوق القتلى، ودفع إشكال حول حديث قاتل المئة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: إنّ أهلَ الأهواء حين لا يجدون إشكالًا حقيقيًّا أو تناقضًا -كما قد يُتوهَّم- أقاموا سوق الأَشْكَلة، وافترضوا هم إشكالا هشًّا أو مُتخيَّلًا، ونحن نهتبل فرصة ورود هذا الإشكال لنقرر فيه ولنثبت ونبرز تلك الصفحة البيضاء لصون الدماء ورعاية حقّ الحياة وحقوق القتلى، سدًّا لأبواب الغواية والإضلال المشرَعَة، وإن […]

برهان الأخلاق ودلالته على وجود الله

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ قضيةَ الاستدلال على وجود الله تعالى، وأنه الربّ الذي لا ربّ سواه، وأنه المعبود الذي استحقَّ جميع أنواع العبادة قضية ضرورية في حياة البشر؛ ولذا فطر الله سبحانه وتعالى الخلق كلَّهم على معرفتها، وجعل معرفته سبحانه وتعالى أمرًا ضروريًّا فطريًّا شديدَ العمق في وجدان الإنسان وفي عقله. […]

التوظيف العلماني للقرائن.. المنهجية العلمية في مواجهة العبث الفكري الهدّام

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة     مقدمة: حاول أصحاب الفكر الحداثي ومراكزُهم توظيفَ بعض القضايا الأصولية في الترويج لقضاياهم العلمانية الهادفة لتقويض الشريعة، وترويج الفكر التاريخي في تفسير النصّ، ونسبية الحقيقة، وفتح النص على كلّ المعاني، وتحميل النص الشرعي شططَهم الفكري وزيفَهم المروَّج له، ومن ذلك محاولتُهم اجترار القواعد الأصولية التي يظنون فيها […]

بين عُذوبة الأعمال القلبية وعَذاب القسوة والمادية.. إطلالة على أهمية أعمال القلوب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: تعاظمت وطغت المادية اليوم على حياة المسلمين حتى إن قلب الإنسان لا يكاد يحس بطعم الحياة وطعم العبادة إلا وتأتيه القسوة من كل مكان، فكثيرا ما تصطفُّ الجوارح بين يدي الله للصلاة ولا يحضر القلب في ذلك الصف إلا قليلا. والقلب وإن كان بحاجة ماسة إلى تعاهُدٍ […]

الإسهامات العلمية لعلماء نجد في علم الحديث.. واقع يتجاوز الشائعات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: لا يخلو زمن من الأزمان من الاهتمام بالعلوم وطلبها وتعليمها، فتنشط الحركة التعليمية وتزدهر، وربما نشط علم معين على بقية العلوم نتيجة لاحتياج الناس إليه، أو خوفًا من اندثاره. وقد اهتم علماء منطقة نجد في حقبهم التاريخية المختلفة بعلوم الشريعة، يتعلمونها ويعلِّمونها ويرحلون لطلبها وينسخون كتبها، فكان أول […]

عرض وتعريف بكتاب: المسائل العقدية التي خالف فيها بعضُ الحنابلة اعتقاد السّلف.. أسبابُها، ومظاهرُها، والموقف منها

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة تمهيد: من رحمة الله عز وجل بهذه الأمة أن جعلها أمةً معصومة؛ لا تجتمع على ضلالة، فهي معصومة بكلِّيّتها من الانحراف والوقوع في الزّلل والخطأ، أمّا أفراد العلماء فلم يضمن لهم العِصمة، وهذا من حكمته سبحانه ومن رحمته بالأُمّة وبالعالـِم كذلك، وزلّة العالـِم لا تنقص من قدره، فإنه ما […]

قياس الغائب على الشاهد.. هل هي قاعِدةٌ تَيْمِيَّة؟!

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   القياس بمفهومه العام يُقصد به: إعطاء حُكم شيء لشيء آخر لاشتراكهما في عِلته([1])، وهو بهذا المعنى مفهوم أصولي فقهي جرى عليه العمل لدى كافة الأئمة المجتهدين -عدا أهل الظاهر- طريقا لاستنباط الأحكام الشرعية العملية من مصادرها المعتبرة([2])، وقد استعار الأشاعرة معنى هذا الأصل لإثبات الأحكام العقدية المتعلقة بالله […]

فَقْدُ زيدِ بنِ ثابتٍ لآيات من القرآن عند جمع المصحف (إشكال وبيان)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: القرآن الكريم وحي الله تعالى لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم، المعجزة الخالدة، تتأمله العقول والأفهام، وتَتَعرَّفُه المدارك البشرية في كل الأزمان، وحجته قائمة، وتقف عندها القدرة البشرية، فتعجز عن الإتيان بمثلها، وتحمل من أنار الله بصيرته على الإذعان والتسليم والإيمان والاطمئنان. فهو دستور الخالق لإصلاح الخلق، وقانون […]

إرث الجهم والجهميّة .. قراءة في الإعلاء المعاصر للفكر الجهمي ومحاولات توظيفه

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إذا كان لكلِّ ساقطة لاقطة، ولكل سلعة كاسدة يومًا سوقٌ؛ فإن ريح (الجهم) ساقطة وجدت لها لاقطة، مستفيدة منها ومستمدّة، ورافعة لها ومُعليَة، وفي زماننا الحاضر نجد محاولاتِ بعثٍ لأفكارٍ منبوذة ضالّة تواترت جهود السلف على ذمّها وقدحها، والحط منها ومن معتنقها وناشرها([1]). وقد يتعجَّب البعض أَنَّى لهذا […]

شبهات العقلانيين حول حديث: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: لا يزال العقلانيون يحكِّمون كلامَ الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم إلى عقولهم القاصرة، فينكِرون بذلك السنةَ النبوية ويردُّونها، ومن جملة تشغيباتهم في ذلك شبهاتُهم المثارَة حول حديث: «الشيطان يجري في ابن آدم مجرى الدم» الذي يعتبرونه مجردَ مجاز أو رمزية للإشارة إلى سُرعة وقوع الإنسان في الهوى […]

شُبهة في فهم حديث الثقلين.. وهل ترك أهل السنة العترة واتَّبعوا الأئمة الأربعة؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة حديث الثقلين يعتبر من أهمّ سرديات الخطاب الديني عند الشيعة بكافّة طوائفهم، وهو حديث معروف عند أهل العلم، تمسَّك بها طوائف الشيعة وفق عادة تلك الطوائف من الاجتزاء في فهم الإسلام، وعدم قراءة الإسلام قراءة صحيحة وفق منظورٍ شمولي. ولقد ورد الحديث بعدد من الألفاظ، أصحها ما رواه مسلم […]

المهدي بين الحقيقة والخرافة والرد على دعاوى المشككين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ»([1]). ومن رحمته صلى الله عليه وسلم بالأمه أنه أخبر بأمور كثيرة واقعة بعده، وهي من الغيب الذي أطلعه الله عليه، وهو صلى الله عليه وسلم لا […]

قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كان الإيمان منوطًا بالثريا، لتناوله رجال من فارس) شبهة وجواب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  يقول بعض المنتصرين لإيران: لا إشكالَ عند أحدٍ من أهل العلم أنّ العربَ وغيرَهم من المسلمين في عصرنا قد أعرَضوا وتولَّوا عن الإسلام، وبذلك يكون وقع فعلُ الشرط: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ}، ويبقى جوابه، وهو الوعد الإلهيُّ باستبدال الفرس بهم، كما لا إشكال عند المنصفين أن هذا الوعدَ الإلهيَّ بدأ يتحقَّق([1]). […]

دعوى العلمانيين أن علماء الإسلام يكفرون العباقرة والمفكرين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة عرفت الحضارة الإسلامية ازدهارًا كبيرًا في كافة الأصعدة العلمية والاجتماعية والثقافية والفكرية، ولقد كان للإسلام اللبنة الأولى لهذه الانطلاقة من خلال مبادئه التي تحثّ على العلم والمعرفة والتفكر في الكون، والعمل إلى آخر نفَسٍ للإنسان، حتى أوصى الإنسان أنَّه إذا قامت عليه الساعة وفي يده فسيلة فليغرسها. ولقد كان […]

حديث: «إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ» شبهة ونقاش

من أكثر الإشكالات التي يمكن أن تؤثِّرَ على الشباب وتفكيرهم: الشبهات المتعلِّقة بالغيب والقدر، فهما بابان مهمّان يحرص أعداء الدين على الدخول منهما إلى قلوب المسلمين وعقولهم لزرع الشبهات التي كثيرًا ما تصادف هوى في النفس، فيتبعها فئام من المسلمين. وفي هذا المقال عرضٌ ونقاشٌ لشبهة واردة على حديثٍ من أحاديث النبي صلى الله عليه […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017