أهل السنة والجماعة وضابط الـمُفَارِق لهم قراءة في فقه الخلاف العقدي (الجزء الأول)
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
ما زالت محاولات إيجاد ضابط للفرق بين أهل السنة والجماعة وغيرهم محلَّ تجاذب ونظر، وذلك منذ وقع الافتراق في أمة الإسلام إلى عصرنا هذا. وهذا يحتاج إلى تحرير المراد بالفرقة الناجية أهل السنة والجماعة، ثم تحديد معيار لضابط المخالَفة التي يكون صاحبُها مفارِقًا لأهل السنة والجماعة. ولا شك أن السُّنة إذا «عُلمت وعُرف أهلُها بان أنَّ مخالفها زائغ»([1])، وبضدها تتميز الأشياء.
ليتضح المراد بأهل السنة والجماعة، وما يترتب عليه من ضبط للمفارِق لهم، فإنه ينبغي التمهيد لذلك بمقدمات لتناول القضية، منها:
المقدمة الأولى: الانتساب إلى أهل السنة والجماعة لا بد أن يكون حقيقة لا دعوى:
فكم من مفارِق لمنهج أهل السنة والجماعة وهو يُغلِّف عينَ ما فارقهم فيه بدعاوى الاتباع وتحقيق الانتساب إلى أهل السنة والجماعة وإلى سلف الأمة، وهذا ديدن كثير من أهل البدع؛ ينسبون أنفسهم وما خلصوا إليه من مقالات مخالفة إلى السلف، وإلى الفهم الصحيح للكتاب والسنة، لكنهم عند المحكّ والتحقيق تَظهر حقيقة مخالفتهم التي انفردوا بها عن الحق، وينكشف إلباس الباطل ثوبَ الحق.
وسبيل ذلك -كما سيأتي- بتحرير ضابط الفِرقة التي شهد لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنجاة، وبأنها منصورة، ثم النظر في نوع المخالفات التي تفرَّدت بها الطوائف المختلفة؛ فبها نصل إلى الإجابة عن التساؤل: هل هذه الفرق تندرج في عموم أهل السنة والجماعة حقًّا، أم هي في وادٍ والسُّنة وأهلها في وادٍ؟
ومن الكليات المطردة في تاريخ الفرق وأفكارها أنَّ «كل فرقة تنازع صاحبتها في فرقة النجاة. ألا ترى أن المبتدع آخذ أبدًا في تحسين حالته شرعًا وتقبيح حالة غيره؟!»([2]).
فكل مفارِق لأهل السنة والجماعة أحوج ما يكون إلى كساءٍ من الأدلة المؤوَّلة والألفاظ المزخرَفة؛ يستر بها قبيح مذهبه وحاله، ويُجَمّل ما هو عليه، فتظهر كأنها الحق، وتروج لدى الناس كأنها مذهب السلف أو إحدى المقالات المعتبرة لدى السلف([3]).
لذا كان المعيار هو أن يكون الانتساب حقيقيًّا، بعيدًا عن المحسنات والدعاوى التي تجمّل الأفكار المخالِفة لأصول أهل السنة والجماعة.
المقدمة الثانية: أهل السنة والجماعة ليس لهم اسمٌ ينتسبون إليه ولا لقب يعرفون به غير الحديث والسنة:
فهم ينتسبون إلى السُّنَّة وما يمثلها؛ فلا ينسبون إلى شخص، ولا إلى مصر، وليس لهم مؤسّس.
كما قال مالك رحمه الله عندما سئل: مَنْ أهل السنة؟ قال: «أهل السنة الذين ليس لهم لقب يعرفون به، لا جهمي، ولا قدري، ولا رافضي»([4]).
فهم إنما ينسبون إلى السُّنَّة وموافقة الصحابة رضي الله عنهم في العقائد، ولا ينسبون إلى أحد من الأئمة في العقائد؛ لأن «مذهب أهل السنة والجماعة مذهب قديم، معروف قبل أن يخلق الله تعالى أبا حنيفة ومالكًا والشافعي وأحمد»([5]).
خلافًا لأهل البدع، فتارة يُنسبون لمقالةٍ كالقدرية والمرجئة، وتارة إلى قائلها أو منشئها كالجهمية والنجارية، وتارة إلى الفعل كالروافض والخوارج، وتارة تنشأ التسمية من قبل أناس خارج الفرقة.
وبهذا يمكننا تقرير: أنَّ أهل السُّنة بريئون من هذه النِّسب جميعها، ونسبتُهم إلى الحديث والسُّنة، وما كان عليه جماعة الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان.
يقول اللالكائي: «كل من اعتقد مذهبًا فإلى صاحب مقالته التي أحدثها يُنسب، وإلى رأيه يستنِد، إلا أصحاب الحديث؛ فإنَّ صاحب مقالتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم إليه ينتسبون، وإلى علمه يستندون، وبه يستدلون، وإليه يفزعون، وبرأيه يقتدون، وبذلك يفتخرون، وعلى أعداء سُنته بقربهم منه يصولون، فمن يوازيهم في شرف الذكر، ويباهيهم في ساحة الفخر وعلو الاسم؟! إذ اسمهم مأخوذ من معاني الكتاب والسنة، يشتمل عليهما؛ لتحققهم بهما، أو لاختصاصهم بأخذهما»([6]).
فأئمة السنة ليسوا مثل أئمة البدعة، فإن أئمة السنة تضاف إليهم ويضافون إليها؛ لأنهم مظاهر بهم ظهرت، وأئمة البدعة تضاف إليهم ويضافون إليها؛ لأنهم مصادر عنهم صدرت([7]).
وهذا التقرير مهم جدًّا، ويفسر انتسابهم في بعض الفترات بالحنبلية والأثرية أو السلفية، فليست هذه الألقاب تسميات مفارقة للوصف العام: “أهل السنة والجماعة”، وإنما هي موضحة، ومفارقة لمقالة معينة دعت الضرورة إلى ظهورها في رد المخالف أو المقولة، ككون الحق مثلًا مع أحمد رحمه الله ضد خصومه في مسألة خلق القرآن، فيُنسب أو ينتسِب بعض أهل السنة والجماعة حينها إلى أحمد أو الحنبلية؛ لكون الإمام أحمد رحمه الله مُظهرًا للحق ضد أهل الاعتزال وأتباعهم، وكذلك القول في أهل الحديث والأثرية وغيرها.
ولا يخفاك أن هذا التقرير في أمور العقائد وأصولها لا الفقهيات، فالانتساب إلى أحد الأئمة الأربعة في الفقه لا يعارض ما نحن بصدده.
المقدمة الثالثة: منهج أهل السنة والجماعة يتناول الدلائل والمسائل:
فإن منهج أهل السنة والجماعة -أو هدي السلف الصالح- إذا أُطلق يتناول الاستدلال والمسائل، وتفصيله كالآتي:
أولًا: الاستدلال ومصدر التلقي: [التسليم المطلق لنصوص الكتاب والسنة]:
فيقوم منهجهم فيما يتعلق بالاستدلال ومصدر التلقي على قاعدة التسليم المطلق لنصوص الكتاب والسنة؛ فهم لا يقبلون تقييد دلالات النصوص بأي معارضات عقلية أو ذوقية تكون حاكِمة على الوحي.
فليسوا كمن يجعل شعاره الظاهر التسليم لنصوص الوحي، لكنه في مسالكه العملية يبطن غيرها؛ إذ يجعل اتباع هذه النصوص مقيَّدًا ومرتَهَناً بعدم مخالفتها لما يراه هو وطائفته (مسلمات عقلية!) أو (وَجْدية) أو (ذوقية!) أو غيرها، كحال كثير من الطوائف المنحرفة في هذا الباب، وسيأتي تفصيل ذلك.
ثانيًا: المسائل: [لزوم ما عليه الإجماع، وعدم مخالفته]:
وهو الذي يميزهم في هذا الباب عن جميع الطوائف المبتدعة، فإنهم استحقوا وصف البدعة والخروج عن أهل السنة والجماعة لأجل مخالفتهم الإجماع المعتبر في أصول الاعتقاد، وسيأتي تفصيله.
وإذا كانت العبرة بالالتزام بهدي السلف الصالح فيما أجمعوا عليه؛ فإن ما أجمعوا عليه إذا أُطلق يشمل إجماعهم في مصدر التلقي بالتسليم المطلق بالنصوص، كما يشمل ما أجمعوا عليه في أصول الاعتقاد.
كما لا يُعلم أن طائفة قد وقعت في البدعة في أحد هذين الأصلين إلا وقد وقعت في البدعة في الأصل الآخر؛ فكل طائفة حصل لها الانحراف في مصدر التلقي فلا بد أن يحصل لها ما هو لازم ذلك من الانحراف في أصول الاعتقاد، وكل طائفة نُظر إلى انحرافها من جهة ما خالفت فيه إجماع السلف الصالح فلا بد أن يكون الانحراف في مصدر التلقي ثابتًا لها، وهذا حكم كلي لا ينخرم بالاستقراء في جميع الفرق المخالِفة لأهل السنة والجماعة([8]).
والتنصيص على قاعدة التسليم المطلق لنصوص الكتاب والسنة وتعظيم الوحي، وكذلك لزوم ما عليه الإجماع وعدم مخالفته؛ عصمة من الزيغ في الأصول والفروع، ونجاة من شرع أبواب الضلال سواء في الدال أو المدلول، والأصول والفروع.
المقدمة الرابعة: قد يستعمل مصطلح أهل السُّنة بعدة إطلاقات:
فإن مصطلح أهل السنة قد يرِد في كتب الأئمة باسم أهل السنة والجماعة مطلقًا، وقد يرد مرادًا به أهل السنة باعتبار مخالفتهم لبعض الفرق أو المعتقدات الباطلة، ومن ذلك:
الإطلاق الأول: يطلق “أهل السنة” على كل من حقَّق الاتباع الكامل المحض للصحابة رضي الله عنهم في أصول العقائد:
وهذا خاص بالمدرسة السُّنية، ويقابل هذا الإطلاق المعتزلة والخوارج والأشاعرة والماتريدية والصوفية وغيرهم.
الإطلاق الثاني: يطلق “أهل السنة” على كل من أقرّ بإمامة الخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين، واعتقد شرف الصحابة:
فكل من اعتقد هذا الاعتقاد يسمى بأهل السنة في مقابل الشيعة، فيدخل فيهم أتباع المدارس الكلامية([9]).
الإطلاق الثالث: يطلق “أهل السنة” على المخالف للمدرسة الصوفية.
والأشهر أن إطلاق مصطلح (أهل السنة والجماعة) -بصفته المطلقة- فالمراد به الإطلاق الأول وهو: مَن حقَّق الاتباع الكامل للكتاب والسُّنة، واتبع الصحابة، ولزم إجماعهم، واجتمعوا على ذلك، ونبذوا الفرقة، مع تفاوت المنتسبين إلى هذا المنهج قربًا وبعدًا من الاتباع الكامل.
والمراد بالإطلاقات الاعتبارية -كالإطلاق الثاني والثالث- إطلاق مصطلح “أهل السنة” في مقابل ضلالة كبرى؛ كإطلاق أهل السنة والجماعة على من ليس برافضي في سياق الرد على الرافضة، وكذلك الشأن في الرد على الصوفية والفلاسفة وغيرهم.
فإن الواقع يشهد أن كثيرًا من أهل البدع قد رفض معتقد الرفض والتشيع، فالرافضون للتشيع -وإن كانوا من عموم أهل السنة في هذه المسألة- قد جانبوا أهل السنة والجماعة بالشذوذ عن إجماعهم في مسائل أخرى.
لذا فإن من الدعاوى الرائجة نتيجة الخلط بين الإطلاق المطلق والإطلاقات الاعتبارية: دعوى البعض أن مؤولي الصفات الخبرية داخلون في عموم أهل السنة مطلقًا؛ والأمر ليس كذلك بإطلاق.
فـ«كيف يكونون من أهل السنة وهم يحرفون الكلم عن مواضعه؟ وكيف يكونون من أهل السنة وهم على النقيض من عقيدة أهل السنة؟ فلا ينبغي أبدًا أن نساويهم بأهل السنة، اللهم إلا في مقابل الرافضة؛ في مقابل الرافضة نقول: سنة وشيعة، الشيعة هم الرافضة، والسنة هم من يخالفهم في الاعتقاد، وإن تخالفوا فيما بينهم، فالصواب أن نقول: أهل السنة هم الذين تمسكوا بها، واجتمعوا عليها، واتبعوا السلف فيها»([10]).
المبحث الأول: تحرير المراد بأهل السنة والجماعة:
يقول الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153].
وتوعد سبحانه المفارقين لسبيل المؤمنين فقال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115].
عن أبي عامر عبد الله بن لحي قال: حججنا مع معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، فلما قدمنا مكة قام حين صلى صلاة الظهر، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة -يعني: الأهواء-، كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة، وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكَلَب بصاحبه([11])، لا يبقى منه عرق ولا مَفصِل إلا دخله»([12]).
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل، حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة»، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: «ما أنا عليه وأصحابي»([13]).
فهذه النصوص وغيرها تدل دلالة ظاهرة على أن ثمةَ فرقة ناجية وفِرقًا مخالِفة لها، فالحق في واحد منها، وهي من كان على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، فهي إضاءات مُعينة على تعيين الفرقة الناجية، بأنها من كانت على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واجتمعوا على ذلك. وهم “أهل السنة والجماعة”.
يقول أبو نصر السجزي رحمه الله: «فأهل السنة هم الثابتون على اعتقاد ما نقله إليهم السلف الصالح -رحمهم الله- عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو عن أصحابه رضي الله عنهم فيما لم يثبت فيه نصٌّ في الكتاب ولا عن الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنهم رضي الله عنهم أئمة، وقد أمرنا باقتداء آثارهم، واتباع سنّتهم، وهذا أظهر من أن يحتاج فيه إلى إقامة برهان»([14]).
ويقول ابن حزم: «وأهل السُّنَّة الذين نذكرهم أهل الحق ومن عداهم فأهل البدعة فإنهم الصحابة رضي الله عنهم، وكل من سلك نهجهم من خيار التابعين رحمة الله عليهم، ثم أصحاب الحديث ومن اتبعهم من الفقهاء جيلا فجيلًا إلى يومنا هذا، أو من اقتدى بهم من العوام في شرق الأرض وغربها، رحمة الله عليهم»([15]).
يقول الألوسي: «اعلم أن أهل السُّنة والجماعة هم أهل الإسلام والتوحيد، المتمسكون بالسنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقائد والنحل والعبادات الباطنة والظاهرة، الذين لم يشوبوها ببدع أهل الأهواء وأهل الكلام في أبواب العلم والاعتقادات، ولم يخرجوا عنها في باب العمل والإرادات، كما عليه جهال أهل الطرائق والعبادات»([16]).
فأهل السنة والجماعة: المتمسكون بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم.
التفصيل المنهجي لصفة أهل السنة والجماعة:
من أبرز المعالم المنهجية لمذهب أهل السنة والجماعة:
1- أنهم لا يبنون عقائدهم حتى ينظروا في الكتاب والسنة: الاعتصام بالوحي:
فإذا تبيَّنت لهم نصوص الكتاب والسنة شرعوا في تأسيس المواقف العقدية بناءً على مقتضيات تلك الأدلة، إذ الأصل في بناء المواقف العقدية والأساس والميزان في تأسيسها هو الوحي، وما فهمه منه الصحابة رضي الله عنهم؛ فإصابة الهُدى في الدين -أصوله وفروعه- إنما يكون بالاعتماد على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في فهم الدِّين، وتطبيقه، والتمحور حوله.
وليس لدى أهل السنة والجماعة أصول عقلية أو ذوقية سابقة على الوحي، وحاكمة عليه، وإنما كل ما يبنونه من أصول عقلية ومنطلقات معرفية يجب أن تكون خاضعة للوحي، فهو الأساس، وهو المنطلق، وهو الميزان، وهو الحاكم. وما أتى به الوحي ليس مجرد دلالات خبرية فقط، وإنما هو مضمون مركب من عدد من الدلالات الخبرية والعقلية والوجودية المتعلقة بالحس وغيره([17]).
فالأصل هو الكتاب والسنة، وما لا يشهد له الوحي بالاعتبار فلا اعتبار له، لذا فإنهم يعلنون الاعتصام بالكتاب والسنة فهذه من أظهر صفاتهم، ويؤكِّدون عليها في كل مقام، ويظهر ذلك عمليًّا في جميع مسالكهم.
وهُم أهل الكتاب والسنة بجدارة؛ لأنهم يؤثرون كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على كلام أصناف الناس، ويقدمون هدي محمد صلى الله عليه وسلم على هدي كل أحد، ويتبعون آثاره صلى الله عليه وسلم باطنًا وظاهرًا.
وعليه فإن القول الجامع فيما يختص به أهل السنة والجماعة عن غيرهم من الطوائف أن منهجهم يقوم على التسليم المطلق بالنصوص، بخلاف جميع الطوائف المخالفة لهم، فإنهم يشتركون في تقييد النصوص بما أحدثوه من أصول بدعية([18]).
وبالاستقراء تجد أن «كل من خالف الرسول صلى الله عليه وسلم لا يخرج عن الظن وما تهوى الأنفس؛ فإن كان ممن يعتقد ما قاله، وله فيه حجة يستدل بها؛ كان غايته الظن الذي لا يغني من الحق شيئا، كاحتجاجهم بقياس فاسد، أو نقل كاذب، أو خطاب ألقي إليهم، اعتقدوا أنه من الله، وكان من إلقاء الشيطان. وهذه الثلاثة هي عمدة من يخالف السنة بما يراه حجة ودليلا، إما أن يحتج بأدلة عقلية، ويظنها برهانا وأدلة قطعية، وتكون شبهات فاسدة مركبة من ألفاظ مجملة ومعان متشابهة، لم يميز بين حقها وباطلها، كما يوجد مثل ذلك في جميع ما يحتج به من خالف الكتاب والسنة؛ إنما يركب حججه من ألفاظ متشابهة، فإذا وقع الاستفسار والتفصيل تبين الحق من الباطل، وهذه هي الحجج العقلية، وإن تمسك المبطل بحجج سمعية؛ فإما أن تكون كذبا على الرسول صلى الله عليه وسلم، أو تكون غير دالة على ما احتج بها أهل البُطول، فالمنع إما في الإسناد وإما في المتن ودلالته على ما ذكر»([19]).
فاعتصام أهل السنة والجماعة بالقرآن والسنة هو خاصتهم وميزتهم، والسلف -كما يقول ابن تيمية رحمه الله-: «كان اعتصامهم بالقرآن والإيمان، فلما حدث في الأمة ما حدث من التفرق والاختلاف صار أهل التفرق والاختلاف شيعًا، صار هؤلاء عمدتهم في الباطن ليست على القرآن والإيمان، ولكن على أصول ابتدعها شيوخهم، عليها يعتمدون في التوحيد والصفات والقدر والإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وغير ذلك، ثم ما ظنوا أنه يوافقها من القرآن احتجوا به وما خالفها تأولوه؛ فلهذا تجدهم إذا احتجوا بالقرآن والحديث لم يعتنوا بتحرير دلالتهما، ولم يستقصوا ما في القرآن من ذلك المعنى؛ إذ كان اعتمادهم في نفس الأمر على غير ذلك، والآيات التي تخالفهم يشرعون في تأويلها شروع من قصد ردها كيف أمكن؛ ليس مقصوده أن يفهم مراد الرسول؛ بل أن يدفع منازعه عن الاحتجاج بها»([20]).
وهذا يُبرز أمرًا مهمًّا، وهو أنه ليس المراد بهذه الصفة في أهل السنة والجماعة مجرد التنصيص على التمسك بالكتاب والسنة، وإنما جعل ذلك قاعدة وقِيمة مطلقة، ومعنى محوريًّا يُربى عليه الناس، ويدعون إليه، وجعله معيارًا وميزانًا أساسيًّا في تأسيس العقائد.
خلافًا لغيرهم؛ فإنهم لا يعلنون التسليم التام للوحي ولا الاعتصام المطلق به، وإنما يقسمون العقائد إلى أقسام، بعضها يعتمدون فيه على الوحي، وبعضها على غيره، فهم لا يجعلون الكتاب والسنة المعيار الحاكم ولا الميزان المميز، ولا يظهر في تقعيدهم الدعوة إلى التمسك بالوحي والتمحور حوله بما يليق به، وحديثهم عن ذلك قليل مجمل، لا يؤسس عقيدة، أو يبني منهجًا، ولا يربي سلوكًا. بل يمكننا القول بأن أهل الفرق المخالفة للحق جميعهم مشتركون في القول بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبين المراد بالنصوص التي يجعلونها مُشكِلة أو متشابهة، ولهذا يجعل كل فريق المشكل من نصوصه غير ما يجعله الفريق الآخر مشكلًا، ثم منهم من يقول: لم يعلم معانيها أيضًا، ومنهم من يقول: علمها ولم يبينها، بل أحال بيانها على الأدلة العقلية([21]).
لذا فإن «من أعظم ما أنعم الله به عليهم: اعتصامهم بالكتاب والسنة، فكان من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان: أنه لا يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن، لا برأيه، ولا ذوقه، ولا معقوله، ولا قياسه، ولا وَجْدِه؛ فإنهم ثبت عنهم بالبراهين القطعيات والآيات البينات أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بالهدى ودين الحق، وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم»([22]).
2- التقيُّد بفهم السلف والتواصي بذلك:
المستفيض عنهم والظاهر في مقالاتهم التقيد بـ”فهم السلف” للنصوص، وعدم الخروج عما أجمعوا عليه، ولا الخروج عن جملة أقوالهم فيما اختلفوا فيه بما يلزم منه بطلان أقوالهم، وينصون ويتواصون بذلك.
يقول الإمام أحمد رحمه الله: «أصول السنة عندنا: التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهم»([23]).
بل يقول الأوزاعي: «اصبر نفسك على السُّنة، وقف حيث وقف القوم، وقل فيما قالوا، وكف عما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنه يسعك ما وسعهم»([24]).
وفهم السلف ليس أمرًا مستقلًّا عن دلالات النصوص، وإنما هو في الحقيقة المعيار الصحيح في فهم النصوص.
فدلالات النصوص وإن كان الأصل فيها أنها معلومة من جهة ما تدل عليه معانيها في لسان العرب، إلا أنه قد يرد عليها احتمال الدلالة على أكثر من معنى، فالواجب حينئذ أن ينظر في هدي السلف الصالح، وأن يعتبر فهمهم لتلك النصوص حجة قاطعة في الدلالة على معانيها.
وأما الاكتفاء في فهم النصوص بمجرد ما تحتمله اللغة -أي: المعنى المعجمي الحرفي- وتقييد الدلالات المحتملة دون اعتبار فهم السلف فهو قنطرة الابتداع في الدين، حيث إنهم وإن اختلفوا في أصولهم ومصادرهم في التلقي إلا أنهم اتفقوا على تقييد دلالات النصوص بما أحدثوه من أصول بدعية، كاشتراط انتفاء المعارض العقلي عند المتكلمين، واشتراط عدم مخالفة النصوص للكشف عند الصوفية، واشتراط عدم مخالفة النصوص لما ورد عن الإمام المعصوم عند الإمامية([25]).
ومما يدخل في حجية إجماع السلف: اعتبار اختلافهم فيما اختلفوا فيه، بل إن اعتبار اختلافهم داخل في عموم اعتبار هديهم.
فأما حجية ما كانوا عليه في حال اتفاقهم فأمره ظاهر: وهو أن ما أجمعوا عليه واتفقوا أنه من دين الله تعالى فلا بد أن يكون هو الحق، ويجب على من بعدهم أن يعتبر بإجماعهم، وإلا لزمه أن يسلك طريق الابتداع في الدين إذا خالفهم في ذلك.
وأما وجه الحجة فيما اختلفوا فيه: فهو أن الحق لا يمكن أن يخرج عن أقوالهم إلى ما يلزم منه من بطلان جملة ما ذهبوا إليه؛ لأنه يلزم من ذلك أنهم لم يعرفوا الحق حتى جاء من بعدهم فاستدرك عليهم، وذكر ما يباين أقوالهم.
وهذا معنى ما ورد عن الإمام أحمد أنه قال: “يلزم من قال: يخرج من أقاويلهم إذا اختلفوا أن يخرج من أقاويلهم إذا أجمعوا”([26]).
ومرادُه بذلك أن من قال: إنه يصح له أن يخرج عن أقوال الصحابة إذا اختلفوا فإنه يلزمه أنه قد غاب الحق عن جميعهم، فيلزمه أيضًا أنهم حتى لو أجمعوا على أمر فإنه يصح له أن يخرج عن إجماعهم؛ لأنه إذا جوز الخروج عن مجموع أقوالهم في حال اختلافهم فكأنه جوز الخروج عن إجماعهم في حال اتفاقهم([27]).
كما لا يليق بمجتهد أن يقول قولاً يلزم من تخطئتهم، أو تجهيلهم، كأن يحدث قولاً ثالثاً في مسألة يلزم منها اجتماع السلف على قولين كلاهما خطأ، فهذا الشأن في حال اختلافهم؛ فكيف إذا اجتمعوا؟!
وفي هذا المعنى يقول ابن تيمية رحمه الله: «والأمة إذا اختلفت في مسألة على قولين لم يكن لمن بعدهم إحداث قول يناقض القولين، ويتضمن إجماع السلف على الخطأ، والعدول عن الصواب»([28]).
قد يظن البعض أن الرد إلى فهم الصحابة رضي الله عنهم في النوازل التي تطرأ بعد عصرهم هو رميٌ إلى جهالة!
ويجاب عن ذلك: بأنه لا شك في وقوع نوازل وأحداث بعد عصرهم، لكن النزاع في اعتبار الرجوع إلى فهمهم رميًا إلى أمر مجهول.
ومن تأمل لازم هذا القول علم فساده، فنصوص الكتاب والسنة نفسها قد يقال عنها هذا القول، فإن الرد بهذا الاعتبار سيكون رجوعًا إلى أمر مجهول.
وعليه فإن «الفرق بين ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم وبين ما يكون من النوازل بعد عصرهم هو من قبيل الفرق بين تنقيح المناط وتحقيق المناط، فإن معرفة الدليل الشرعي ومعرفة دلالته التي يدور عليها الحكم لا بد أن تكون معروفة للصحابة بحيث لا تفوت على مجموعهم، لكن لا يلزم من معرفتهم لكل ذلك أن يعرفوا تفاصيل ما قد يكون من الوقائع والنوازل التي تنطبق عليها دلالة الأدلة، فإن ذلك لا يلزم في فقه الدليل ومعرفة ما يدور عليه الحكم فيه، بل إن معرفة تفاصيل الوقائع والنوازل المستقبلية لا يلزم أن تكون معلومة للنبي صلى الله عليه وسلم، وليس ذلك شرطا في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا قدحًا في أنه أعلم الناس بأحكام الله تعالى، فإنه لا يعلم الغيب ولا ما يكون من النوازل في المستقبل إلا الله تعالى، فكيف مع كل ذلك يمكن أن يقال: إن جهل الصحابة بما تنطبق عليه الأحكام في النوازل المستقبلية يقدح في حجية فهم الصحابة للنصوص، وفي كون الموافقة لما كانوا عليه هو المعيار الذي تتميز به الفرقة الناجية عن غيرها من الفرق.
ومما يرفع الإشكال في هذا الباب أن العلماء قد يحكمون في بعض المسائل التي لم تكن في عصر الصحابة بما يعلمونه من فقه الصحابة في تلك المسائل، بل قد يحكون عنهم الإجماع في حكم المسألة لمجرد أن ذلك هو لازم ضروري لما علم عنهم في المسألة.
ومن ذلك ما ذكره عمرو بن دينار في حكم القول بخلق القرآن، حيث قال: أدركت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فمن دونهم منذ سبعين سنة يقولون: الله خالق، وما سواه مخلوق، والقرآن كلام الله، منه خرج وإليه يعود([29]).
وهو إنما أراد بذلك الاستناد إلى فقه الصحابة في الاستدلال على أن القرآن غير مخلوق، ووجه الدلالة فيما نقله عنهم أنهم قد قالوا: إن كل ما سوى الله فهو مخلوق، وقالوا أيضًا: إن القرآن كلام الله تعالى، وأن لازم قولهم أن القرآن ليس مخلوقا، لأنه كلام الله تعالى وليس غيره، فدليله على أن الصحابة يقولون: إن القرآن ليس بمخلوق هو أنهم يقولون: إنه كلام الله تعالى، ومعلوم أن كلام الله تعالى صفة من صفاته وليس غيره، فلا يكون مخلوقا، ولا يلزم أن يكون ما نقل عمرو بن دينار عن الصحابة من أن الله هو الخالق وما سواه مخلوق مع قولهم عن القرآن: إنه كلام الله تعالى قد قالوه في سياق واحد، بل إنه يصح الاستدلال بقولهم في الأمرين وإن كان كل منهما قد قيل مستقلا عن الآخر، فيمكن أن يكون عمرو بن دينار قد جمع بين القولين لأجل بيان فقه المسألة عند الصحابة، وإظهار وجه الاستدلال بما قالوه فيها»([30]).
3- إجماع أئمة السلف على الأصول ونبذ الخلاف:
فالمتتبع لحال أهل السنة والجماعة يجدهم من أقل المدارس العقدية اختلافًا في الفروع، ومن أكثرها اجتماعًا على الأصول، بل لا يكاد يوجد بينهم خلاف في أصول العقائد.
وفي بيان هذه السمة يقول السمعاني رحمه الله:
«يدل أن أهل الحديث هم على الحق أنك لو طالعت جميع كتبهم المصنفة من أولهم إلى آخرهم قديمهم وحديثهم مع اختلاف بلدانهم وزمانهم وتباعد ما بينهم في الديار وسكون كل واحد منهم قطرًا من الأمصار وجدتهم في بيان الاعتقاد على وتيرة واحدة ونمط واحد، يجرون فيه على طريقة لا يحيدون عنها، ولا يميلون فيها، قولهم في ذلك واحد، ونقلهم واحد، لا ترى بينهم اختلافًا وتفرقًا في شيء ما وإن قل، بل لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم ونقلوه عن سلفهم وجدتهم كأنه جاء من قلب واحد وجرى على لسان واحد، وهل على الحق دليل أبين من هذا؟! قال الله تعالى: {أَفلا يتدبرون الْقُرْآن وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} [النساء: 82]، وقال تعالى: {واعتصموا بِحَبل الله جَمِيعًا وَلَا تفَرقُوا واذْكُرُوا نعْمَة الله عَلَيْكُم إِذْ كُنْتُم أَعدَاء فألف بَين قُلُوبكُمْ فأصبحتم بنعمته إخْوَانًا} [آل عمران: 103]»([31]).
4- الجمع بين المعرفة العقدية والسلوك:
فهم لا يهتمون بالجوانب المعرفية فحسب، ولا تقتصر على مجرد دراسة العقائد، وإنما يجمعون إلى ذلك الاهتمام باستقامة السلوك والدعوة إلى البعد عن المحرمات والمعاصي والقبائح، فالمنتسب إليهم حقًّا مَن وافق عقيدتهم وسلوكهم، لا من وافق المعتقد وخالفهم في السلوك.
بل بلغ بهم الأمر أنهم في عقائدهم التي يؤلفونها يؤكدون على أن الالتزام بالتعبد والأخلاق والآداب الإسلامية جزء من عقيدة أهل السنة والجماعة، ومكون من مكونات طريقتهم.
ومن ذلك ما ذكره الإسماعيلي الشافعي في تقرير العقيدة حيث يقول: «ويرون مجانبة البدعة والآثام والفخر والتكبر والعجب والخيانة والدغل والاغتيال والسعاية ويرون كف الأذى وترك الغيبة إلا لمن أظهر بدعة وهو يدعو إليها، فالقول فيه ليس بغيبة عندهم… والتعفف في المأكل والمشرب والملبس، والسعي في عمل الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإعراض عن الجاهلين حتى يعلموهم ويبينوا لهم الحق، ثم الإنكار والعقوبة من بعد البيان وإقامة العذر بينهم ومنهم»([32]).
ويقول قوام السنة الأصفهاني: «ومن مذهب أهل السنة التورع في المآكل والمشارب والمناكح والتحرز من الفواحش والقبائح، والتحريض على التحاب في الله عز وجل، واتقاء الجدال والمنازعة في أصول الدين، ومجانبة أهل الأهواء والضلالة، وهجرهم ومباينتهم، والقيام بوفاء العهد والأمانة، والخروج من المظالم والتبعات وغض الطرف عن الريبة والحرمات، ومنع النفس عن الشهوات وترك شهادة الزور وقذف المحصنات، وإمساك اللسان عن الغيبة والبهتان، والفضول من الكلام وكظم الغيظ، والصفح عن زلل الإخوان، والمسابقة إلى فعل الخبرات، والإمساك عن الشبهات، وصلة الأرحام، ومواساة الضعفاء والنصيحة في الله، والشفقة على خلق الله، والتهجد لقيام الليل لا سيما لحملة القرآن، والبدار إلى أداء الصلوات، ومن السنة السمع والطاعة لولاة الأمر أبرارا كانوا أو فجارا، والصلاة خلفهم في الجمعات والأعياد والجهاد معهم والدعاء لهم بالصلاح، والإفطار في السفر»([33]).
وهذا لا يعني أن المخالفين لا يهتمون بها، ولكن محل التميز عند أهل السنة والجماعة جعلها ضمن المؤلفات المخصصة لبيان العقيدة، وجعلها من المعاني التي يربى عليها طالب العلم في العقيدة بخصوصها([34]).
5- لا ينصبون مقالة غير ثابتة ويجعلونها من أصول الدين:
يقول شيخ الإسلام حاكيًا وصف الفرقة الناجية: «فلا ينصبون مقالة ويجعلونها من أصول دينهم وجمل كلامهم إن لم تكن ثابتة فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، بل يجعلون ما بعث به الرسول من الكتاب والحكمة هو الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه، وما تنازع فيه الناس من مسائل الصفات والقدر والوعيد والأسماء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك يردونه إلى الله ورسوله، ويفسرون الألفاظ المجملة التي تنازع فيها أهل التفرق والاختلاف؛ فما كان من معانيها موافقا للكتاب والسنة أثبتوه، وما كان منها مخالفًا للكتاب والسنة أبطلوه، ولا يتبعون الظن وما تهوى الأنفس؛ فإن اتباع الظن جهل واتباع هوى النفس بغير هدى من الله ظلم»([35]).
فأهل السنة والجماعة لا ينصبون مقالة يوالون ويعادون عليها، ويجعلونها أصلًا من أصول الدين إن لم تثبت في الكتاب والسنة، ويقدرون كل مسألة قدرها ورتبتها ومكانتها ضمن أصول الإسلام والإيمان.
وأما حكم كلام غير الشارع فـ«ما يقوله سائر الناس من الكلام في المطالب الشرعية لا بد من عرضه على الكتاب والسنة، فإن وافق الكتاب والسنة فهو حق يقبل، وإن خالفهما فهو باطل يرد، وإن احتمل الجهتين: فإما أن يعرف مراد المتكلم فيحكم له أو عليه بحسب المراد، وإما ألا يعرف مراده فينظر في سيرته -سيرة المتكلم- فإن كانت حسنة حمل كلامه على الوجه الحسن؛ {وَالبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ}، وإن كانت سيرته سيئة حمل كلامه على الوجه السيئ؛ {وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} [الأعراف: 58]. أما إذا عُرف مُراده لكن لم يعرف هل جاء الشرع بتصديقه أو بتكذيبه؛ فإنه يُمسك عنه ولا يتكلم إلا بعلم؛ والعلم ما قام عليه الدليل، والنافع منه ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم([36]).
وعليه فما قد يُنص عليه من قبل بعض المنتسبين إلى أهل السنة والجماعة من إطلاقات تواردوا عليها، وليس فيها صريح نص ثابت، فلا تخرج عن المعاني الثابتة والمجملات المنصوص عليها، وإنما أوردوها حسب مقتضى الرد وحالة الرد على المقالات البدعية.
6- وسطية أهل السنة والجماعة بين الفرق المختلفة:
فكما أن أهل الإسلام وسط بين الأمم والملل فإن أهل السنة والجماعة وسط بين الفرق والمذاهب، لأنهم يستقون علومهم وتصوراتهم من معين الوحي الذي قال الله عنه: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً} [البقرة: 143].
وإذا نظرنا في تاريخ الفرق قديماً وحديثاً وجدنا أعدلها وأوسطها وأرحمها وأبعدها عن لوثة التكفير والإقصاء وسفك الدماء أهل السنة والجماعة، والتاريخ سجل هذه المواقف، والواقع خير شاهد على أنهم كانوا بمنأى عن الإفراط والتفريط.
يقول أبو المظفر السمعاني: «إذا نظرت إلى أهل الأهواء والبدع رأيتهم متفرقين مختلفين وشيعا وأحزابا لا تكاد تجد اثنين منهم على طريقة واحدة في الاعتقاد يبدع بعضهم بعضا بل يرتقون إلى التكفير يكفر الابن أباه والرجل أخاه والجار جاره، تراهم أبدا في تنازع وتباغض واختلاف تنقضي أعمارهم ولما تتفق كلماتهم {تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون} [الحشر: 14].
أو ما سمعت أن المعتزلة مع اجتماعهم في هذا اللقب يكفر البغداديون منهم البصريين والبصريون منهم البغداديون ويكفر أصحاب أبي علي الجبائي ابنه أبا هاشم وأصحاب أبي هاشم يكفرون أباه أبا علي، وكذلك سائر رؤوسهم وأرباب المقالات منهم إذا تدبرت أقوالهم رأيتهم متفرقين يكفر بعضهم بعضا ويتبرأ بعضهم من بعض، وكذلك الخوارج والروافض فيما بينهم وسائر المبتدعة بمثابتهم. وهل على الباطل دليل أظهر من هذا؟!
قال تعالى {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله} [الأنعام: 159].
وكان السبب في اتفاق أهل الحديث أنهم أخذوا الدين من الكتاب والسنة وطريق النقل فأورثهم الاتفاق والائتلاف، وأهل البدعة أخذوا الدين من المعقولات والآراء فأورثهم الافتراق والاختلاف؛ فإن النقل والرواية من الثقات والمتقنين قلما يختلف، وإن اختلف في لفظ أو كلمة، فذلك اختلاف لا يضر الدين ولا يقدح فيه، وأما دلائل العقل فقلما تتفق بل عقل كل واحد يري صاحبه غير ما يري الآخر، وهذا بيِّن، والحمد لله»([37]).
يقول شيخ الإسلام: «ولهذا لما كان أهل السنة والجماعة الذين محضوا الإسلام ولم يشوبوه بغيره كانت شهادتهم مقبولة على سائر فرق الأمة، بخلاف أهل البدع والأهواء كالخوارج والروافض؛ فإن بينهم من العداوة والظلم ما يخرجهم عن كمال هذه الحقيقة التي جعلها الله لأهل السنة»([38]).
ومن نفيس صياغة شيخ الإسلام ما سطره في متن الواسطية قوله عن أهل السنة والجماعة:
«هم الوسط في فرق الأمة، كما أن الأمة هي الوسط في الأمم؛ فهم وسط في باب صفات الله سبحانه وتعالى بين أهل التعطيل الجهمية، وأهل التمثيل المشبهة، وهم وسط في باب أفعال الله تعالى بين القدرية والجبرية، وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية من القدرية وغيرهم، وفي باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية، وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الروافض والخوارج»([39]).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) ينظر: رسالة إلى أهل زبيد، للسجزي (ص: 85).
([2]) الشاطبي، الاعتصام، 3/ 197-198.
([3]) ينظر: مفتاح دار السعادة (1/ 395 وما بعدها) بتصرف.
([4]) ينظر: الانتقاء، لابن عبد البر (ص: 35).
([5]) منهاج أهل السنة (2/ 601).
([6]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 24).
([7]) ينظر: درء تعارض العقل والنقل (5/ 6)، شرح الواسطية، للرشيد (ص: 15)، قواعد وضوابط منهجية، لقوشتي (2/ 380).
([8]) ينظر: ضابط الفرق بين أهل السنة ومخالفيهم، للقرني (ص: 17-18).
([9]) ينظر: منهاج السنة النبوية، لابن تيمية (2/ 217)، قانون التأسيس العقدي، للعميري (ص: 91).
([10]) تفسير المائدة، لابن عثيمين (2 / 222).
([11]) الكَلَب: داء يعرض للإنسان من عض الكلب، وهو داء يصيب الكلب فيصيبه شبه الجنون، فلا يعض أحدا إلا كلب، ويعرض له أعراض ردية، ويمتنع من شرب الماء حتى يموت عطشًا. ينظر: عون المعبود (10/ 116).
([12]) رواه أحمد (16937)، وأبو داود (4597)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2641).
([13]) رواه الترمذي (2641) وقال: “هذا حديث مفسر غريب، لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه”.
([14]) رسالة السجزي إلى أهل زبيد في الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص: 100).
([15]) الفصل في الملل والأهواء والنحل (2/ 90).
([16]) غاية الأماني في الرد على النبهاني (1/ 550).
([17]) ينظر: قانون التأسيس العقدي، للعميري (ص: 88-89).
([18]) ينظر: مجموع الفتاوى، ابن تيمية (13/ 157)، ضابط الفرق بين أهل السنة ومخالفيهم، للقرني (ص: 5).
([19]) مجموع الفتاوى (13/ 67-68).
([20]) مجموع الفتاوى (13/ 58-59).
([21]) ينظر: شرح الطحاوية، لابن أبي العز (2 / 801)، قانون التأسيس العقدي، للعميري (ص: 110-111). وينظر أيضًا: العقل أصل والشرع فرع مسلمة أو مغالطة، للعيسوي -ورقة علمية-.
([22]) مجموع الفتاوى (13/ 28).
([24]) ينظر: الشريعة، للآجري (2/ 637).
([25]) ينظر: ضابط الفرق بين أهل السنة ومخالفيهم، للقرني (ص: 23).
([26]) ينظر: العدة في أصول الفقه (4/ 1113).
([27]) ضابط الفرق بين أهل السنة ومخالفيهم، للقرني (ص: 18-19).
([28]) مجموع الفتاوى (34/ 125).
([29]) أخرجه الدارمي في الرد على بشر المريسي (ص: 330-331)، والبخاري في خلق أفعال العباد (ص: 117) عن سفيان بن عيينة.
([30]) ضابط الفرق بين أهل السنة ومخالفيهم، للقرني (ص: 24-25).
([31]) الانتصار لأصحاب الحديث (ص: 45).
([32]) اعتقاد أئمة أهل الحديث، للإسماعيلي -ضمن اعتقاد أئمة السلف للخميس- (ص: 413).
([33]) الحجة في بيان المحجة (2/ 571-572).
([34]) ينظر: قانون التأسيس العقدي، للعميري (ص: 115-117).
([35]) مجموع الفتاوى (3/ 346-348).
([36]) ينظر: مجموع الفتاوى (13/ 145، 146، 17/ 355)، شرح الطحاوية (ص: 161)، حكم مخالفة أهل السنة، لعثمان علي حسن (ص: 63).
([37]) «الانتصار لأصحاب الحديث» (ص46- 47).