مناقشة دعوى تأثُّر الحافظ أبي عمر ابن عبد البرِّ بالكلّابية والأشعريّة؟
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
من المسالك التي سلكها أصحاب النشاط الأشعريّ المعاصر في تبرئة أنفسِهم من وصف الابتداع: نسبةُ عددٍ من الأئمة الذين لهم قدَم صدق في الأمة ولهم القبول عند أهل السنة والأثر إلى المذهب الأشعريّ، ولو كان ذلك على حساب المنهج العلميّ في نسبة الأقوال إلى الناس.
ومن الأئمة الذين نسبوهم إلى مجانبة مسلك المجسمة -بزعمهم- وموافقة الأشعرية أو التأثر بالكلابية: الحافظ أبو عمر يوسف ابن عبد البر القرطبي.
وفي هذه المقالة نناقش دعوى تأثّر ابن عبد البر بالكلابية والأشعرية.
تحرير محل النزاع:
يقول المخالف: «التأثر بالكلابية والأشعرية أعمُّ من كون الرجل أشعريًّا أو كلابيًّا، ولا يلزم من ثبوت الأعمّ ثبوت الأخصّ، وإذا أنكر بعض الأشعرية على أحد، أو أنكر هو على الأشعرية، لم يمنع ذلك تأثّره بهم في بعض ما يعتقدونه إن وجد ما يدلُّ عليه».
وهذا لا إشكال فيه.
فتأثُّر طوائف من الحنابلة بالكلابية قديم، ذكر شيخ الإسلام في مواضع كثيرة تأثر القاضي أبي يعلى بالكلابية وهم شيوخ الأشعرية، فمن ذلك قوله: «سلك طريقة ابن كلاب هذه أبو الحسن بن سالم وأتباعه السالمية، والقاضي أبو يعلى وأتباعه: كابن عقيل وأبي الحسن بن الزاغوني، وهي طريقة أبي المعالي الجويني وأبي الوليد الباجي والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم»([1]).
ومع ذلك فقد كان القاضي أبو يعلى ذامًّا للأشعرية مجانبًا لهم، وفي ذلك يقول ابن عبد الهادي في ذكره للمجانبين للأشعرية: «ومنهم الإمام الكبير الجليل عالم وقته المحدّث الأصولي أبو يعلى بن الفرّاء، صاحب التصانيف، وجامع مذهب أحمد، كان مجانبًا لهم، رادًّا عليهم، وله معهم وقائع وأمور»([2]).
واتخاذ القاضي أبي يعلى وغيره من الحنابلة موقفًا من الأشعرية لا يدل على أنه لم يتأثر بهم، إذ لا تضادّ ولا تنافي بين الأمرين، ولا يلزم من ثبوت الموقف انتفاء التأثر.
كما أن الجويني وأتباعه تأثروا بالمعتزلة، حتى قال ابن تيمية في وصف الجويني: «غَيّر مذهب الأشعري في كثير من القواعد، ومال إلى قول المعتزلة، فإنه كان كثير المطالعة لكتب أبي هاشم بن الجبّائي، وكان قليل المعرفة بمعاني الكتاب والسنة وكلام السلف والأئمة، مع براعته وذكائه في فنّه»([3]).
لكنَّهم مع ذلك يقفون منهم موقفًا شديدًا، كما تجد في كلام الجويني في الحكم على المعتزلة في مسألة الرؤية، في أجوبته على أسئلة عبد الحق الصقلّي، وفي كلامه على الأصم في “الغياثي”([4]).
فنحن لا ننازع في أن تأثر ابن عبد البر بالكلابية -لو ثبت- لا يلزم منه أن يكون كلابيًّا أو أشعريًّا، على أن من الأشاعرة من نسبه للمذهب الأشعري رأسًا كابن السبكي حيث استدركه على ابن عساكر([5]).
ونشير أيضًا إلى أننا لا نقصد في بحثنا الحديث عن سائر فقهاء المغرب كالباجي وابن أبي زيد وأبي عمرو الداني وغيرهم، فليس البحث في تأثر جنس المغاربة بعقائد الكلابية.
نصوص علماء الأشاعرة في مخالفة ابن عبد البَرّ لهم في الاعتقاد:
وقد نصّ ابن جهبل والسنوسي على مخالفة ابن عبد البرّ لعقائد الأشعرية.
يقول ابن جهبل في رسالته في الرد على الحموية: «وأما ما حكاه عن أبي عمر بن عبد البر فقد علم الخاص والعام مذهبَ الرجل، ومخالفةَ الناس له، ونكير المالكية عليه أولًا وآخرًا مشهور، ومخالفته لإمام المغرب أبي الوليد الباجي معروفة، حتى إن فضلاء المغرب يقولون: لم يكن أحد بالمغرب يرى هذه المقالة غيره، وغير ابن أبي زيد، على أن العلماء منهم من قد اعتذر عن ابن أبي زيد بما هو موجود في كلام القاضي الأجل أبي محمد عبد الوهاب البغدادي المالكي رحمه الله»([6]).
وقال الشيخ السنوسي: «وما يوجد في بعض التآليف من تلطيخ الشيخ ابن أبي زيد وأبي عمر ابن عبد البر وبعض السلف به -يعني القول بالجهة- ففاسد لا يلتفت إليه»([7]).
فهذان النصّان يدلّان على عدم ارتضاء عقيدة ابن عبد البر لدى هذين العالمين اللَّذين لا خلاف في نسبتهما إلى الأشعرية، بل كتب السنوسي هي عمدةُ المتأخرين من الأشعرية كما لا يخفى.
وقال اليافعي: «إنه قد اشتهر عن الشيخ الإمام الشهير العارف الكبير سيدي عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه أنه كان معتقدًا للجهة في حقه تعالى، وقد استُغرِب هذا منه، وعدّ شاذًّا في ذلك عن أئمة المشرق، كما عدّ الإمام ابن عبد البر رحمه الله شاذًّا في ذلك عن أئمة المغرب»([8]).
وقد سبقهم جميعًا ابن الجوزي -ونزوعه لمسلك المؤوّلة معروف- بذم ابن عبد البر لاعتقاده، فقال: «ولقد عجبتُ لرجل أندلسي يقال له: ابن عبد البر، صنف كتاب التمهيد، فذكر فيه حديث النزول إلى السماء الدنيا، فقال: هذا يدل على أن الله تعالى على العرش؛ لأنه لولا ذلك، لما كان لقوله: (ينزل) معنى. وهذا كلام جاهل بمعرفة الله عز وجل؛ لأن هذا استسلف من حسّه ما يعرفه من نزول الأجسام، فقاس صفة الحقّ عليه، فأين هؤلاء واتِّباع الأثر؟! ولقد تكلّموا بأقبح ما يتكلّم به المتأولون، ثم عابوا المتكلمين»([9]).
وأما الكوثري فقد تعرّض لحال ابن عبد البر في الاعتقاد في حواشيه على “السيف الصقيل” للسبكي، وقال في ذلك: «وأما ما وقع في كلام ابن أبي زيد وابن عبد البر مما يوهم ذلك فمؤوَّل عند محقّقي المالكية، ولو كان ابن عبد البر لم يكتفِ بالطلمنكي في أصول الدين ورحل إلى الشرق كالباجي لم يقع في كلامه ما يوهم»([10]).
وهذا النصّ إضافةً إلى كونه يدلّ على ما تقدّم من عدم الرضا عن اعتقاد ابن عبد البر، فهو صريح في أن ابن عبد البر ليس له أيّ سندٍ في العقائد عن الكلابية، حيث اكتفى بالحافظ الطَّلَمَنكِي في أصول الدين، ولم يتلقّ ذلك عن واحد منهم، فظهر فسادُ مقارنته بالقاضي أبي يعلى الذي درس على ابن اللبان الذي كان من تلامذة القاضي أبي بكر ابن الطيب([11]).
قال ابن عبد الهادي في ذكره للمجانبين للأشعرية: «ومنهم أبو عمر الطَّلَمَنكِي الحافظ صاحب التصانيف، كان سيفًا عليهم وعلى غيرهم»([12]).
مسلك لدى بعض الأشعرية المعاصرين في الموقف من اعتقاد ابن عبد البر:
لما كان النشاط الأشعريُّ المعاصر قد جعلَ قبلةَ قصده الطعنَ في أهل السنة، فإن قائلهم قد نسب لأهل السنة أنهم يقتبسون من كلام ابن عبد البر ما يوافق أهواءهم، فقال بعد أن نقل نصًّا لابن عبد البر في مسألة الحركة: «وهذا ما لا يروق للمقتبسين من كلام ابن عبد البر ما يوافق أهواءَهم»([13]). ويعني كلامه في إثبات العلو لله تعالى.
وفاته أن الذي فهم إثبات العلو لله تعالى من كلام ابن عبد البر هو السنوسي الذي يقوم هذا القائل بتحقيق كتابه! إذ لو لم يفهم ذلك لما جعل كلامه تلطيخًا، فاستدارك هذا القائل إنما هو استدراك على السنوسي، وليس استدراكًا على من ينسبهم إلى التجسيم فحسب.
توجيه ابن تيمية لورود لفظ الحركة في كلام ابن عبد البر:
والنصّ الذي نقله هذا القائل في مسألة الحركة يقول فيه ابن عبد البر: «وليس مجيئه عزّ وجلّ حركة ولا زوالًا ولا انتقالًا؛ لأن ذلك إنما يكون إذا كان الجائي جسمًا أو جوهرًا، فلما ثبت أنه ليس بجسم ولا جوهر لم يجب أن يكون مجيئه حركة ولا نقلة، ولو اعتبرت ذلك بقولهم: جاءت فلانًا قيامتُه، وجاءه الموت، وجاءه المرض، وشبه ذلك مما هو موجود نازل به، ولا مجيء؛ لبان لك»([14]).
وقد وجه شيخ الإسلام نفي الحركة في كلام ابن عبد البر بنفي اللفظ، دون أن يكون المراد منه نفي الصفات الاختيارية، يقول في ذلك: «وقال عثمان بن سعيد وغيره: إن الحركة من لوازم الحياة، فكلّ حي متحرك، وجعلوا نفي هذا من أقوال الجهمية نفاة الصفات الذين اتفق السلف والأئمة على تضليلهم وتبديعهم. وطائفة أخرى من السلفية كـنعيم بن حماد الخزاعي والبخاري صاحب “الصحيح” وأبي بكر بن خزيمة، وغيرهم كـأبي عمر بن عبد البر وأمثاله: يثبتون المعنى الذي يثبته هؤلاء، ويُسمُّونَ ذلك فعلًا ونحوه، ومن هؤلاء من يمتنع عن إطلاق لفظ الحركة لكونه غير مأثور»([15]).
وقال: «وكثير من أهل الحديث والسنة يقول: المعنى صحيح، لكن لا يُطلَق هذا اللفظ لعدم مجيء الأثر به، كما ذكر ذلك أبو عمر ابن عبد البر وغيره في كلامهم على حديث النزول»([16]).
ويشهد لصحة توجيه شيخ الإسلام ابن تيمية ما قاله ابن عبد البر قُبيل كلامه آنف الذكر وفيه: « ولكنَّا نقُول: استوى مِن لا مكان إلى مكان، ولا نقول: انتقل، وإن كان المعنى في ذلك واحدًا، ألا ترى أنا نقول: له عرش، ولا نقول: له سرير، ومعناهما واحد؟ ونقول: هو الحكيم، ولا نقول: هو العاقل؟ ونقول: خليل إبراهيم، ولا نقول: صديق إبراهيم؟ وإن كان المعنى في ذلك كُلِّه واحدًا، لا نُسمِّيه ولا نصِفُه ولا نطلق عليه إلا ما سمَّى به نفسه، على ما تقدّم ذكرنا له من وصفه لنفسه، لا شريك له، ولا ندفع ما وصف به نفسه، لأنه دفعٌ للقرآن»([17]).
ومباينة الإمام أبي عمر ابن عبد البر للأشعرية تظهر فيما نقله عن ابن خويز منداد المالكي حيث قال: «وقال في كتاب الشهادات في تأويل قول مالك: لا تجوز شهادة أهل البدع وأهل الأهواء، قال: أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام، فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع أشعريًّا كان أو غير أشعري، ولا تقبل له شهادة في الإسلام، ويهجر ويؤدب على بدعته، فإن تمادى عليها استتيب منها».
ثم قال ابن عبد البر معقِّبًا: «ليس في الاعتقاد كلِّه في صفاتِ الله وأسمائه إلا ما جاء منصوصًا في كتاب الله أو صحّ عن رسول صلى الله عليه وسلم أو أجمعت عليه الأمة، وما جاء من أخبار الآحاد في ذلك كلّه أو نحوه يسلَّم له ولا يناظر فيه»([18]).
وابن عبد البرّ لا يقول بأدلّة المتكلمين في إثبات وجود الله تعالى التي تفرّع عنها نفي الصفات الاختيارية، وهذا مما يشهد لصحة توجيه شيخ الإسلام أيضًا حيث بيّن أنه لا ينازع في المعنى الذي يثبته الإمام عثمان بن سعيد الدارمي وغيره من الأئمة، يقول رحمه الله: «إنه من نظر إلى إسلام أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وسعد وعبد الرحمن وسائر المهاجرين والأنصار وجميع الوفود الذين دخلوا في دين الله أفواجا، علم أن الله عز وجل لم يعرفه واحد منهم إلا بتصديق النبيين بأعلام النبوة ودلائل الرسالة، لا من قبل حركة، ولا من باب الكل والبعض، ولا من باب كان ويكون، ولو كان النظر في الحركة والسكون عليهم واجبًا، وفي الجسم ونفيه، والتشبيه ونفيه لازمًا، ما أضاعوه، ولو أضاعوا الواجب ما نطق القرآن بتزكيتهم وتقديمهم، ولا أطنب في مدحهم وتعظيمهم، ولو كان ذلك من عملهم مشهورًا أو من أخلاقهم معروفًا لاستفاض عنهم، ولشهروا به كما شهروا بالقرآن والروايات»([19]).
ونحن إذا علمنا موافقة ابن عبد البر لأصول أهل السنة، ومباينته للأشعرية والكلابية، وعدم قوله بأدلتهم -التي تلَقَّوْهَا عن المعتزلة- في إثبات وجود الله تعالى، فما الإشكال في صحةِ توجيه ابن تيمية لكلام ابن عبد البرّ؟! وما الإشكال لدى المخالف في أن يكون مراد النافي للحركة وغيرها من الألفاظ المجملة النفيَ للفظ دون المعنى؟! لا إشكال في ذلك، بل الإشكال في تأويل كلام الحافظ ابن عبد البر في إثبات علوّ الله تعالى وصفاته بما يوافق اعتقاد الأشاعرة أقوى.
وبالجملة فإننا «قد ابتُلِينا بأقوال باطلة تُنسَبُ لأئمة السنة، والله تعالى يعلم هل صدرت منهم أم لا، وعلى تقدير صدورها فعلى أي وجهٍ صدرت منه، وهو سبحانه حسيب من ينقل مثل هذه الأقوال الفاسدة على وجهٍ يتراخى في بيان فسادها أو دفعها عمن لا تليق به إن أمكنه ذلك»([20]).
وقد ذكر المخالف في بيان وجهِ ردّه لتوجيه شيخ الإسلام حجةً فاسدة، فقال: «فالكلابية قد يطلقون ألفاظ الصفات الفعلية كالاستواء والمجيء والنزول مع تأويلهم لها بأفعال منفصلة، والذات الإلهية بحالها لم يحصل لها تغير»([21]).
وجوابُه: أن المطلوب أن تثبت أن ابن عبد البر يؤول الصفات الاختيارية بأفعال منفصلة بذكر كلامه ونصّه، ولا يصح أن يُحمَل كلام ابن عبد البر على المعهود والمعروف من تصرفات الكلابية في مثل هذا، ومحل النزاع في إثبات تأثره بالكلابية، فهذا مصادرةٌ على المطلوب، كيف ونصوص ابن عبد البر على نقيض ما نسبته إليه من تأويل؟!
وقول المخالف: «والذات الإلهية بحالها لم يحصل لها تغير».
جوابه: أنه لا يُعلَم من مخالفي الكلابية من السلف والأئمة من ينص على أن الذات الإلهية ليست بحالها وحصل لها تغير بالاستواء والنزول والمجيء بهذا اللفظ (بحالها) و(حصل لها تغير) حتى يصح التعبير عن عقائد مخالفي الكلابية والأشاعرة بهذه الألفاظ، فمثل هذا الكلام يوهم أن النص على هذه الألفاظ غير الواردة في الكتاب والسنة شرط لدى أهل الإثبات، وهي دعوى مردودة.
نصوص الحافظ ابن عبد البر في الإثبات:
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى: «والذي عليه جماعة أهل السنة والجماعة أنه لم يزل بصفاته وأسمائه، ليس لأوليته ابتداء، ولا لآخريَّتِه انقضاء، هو على العرش استوى»([22]).
وقال بعد ذكره حديث النزول: «وفي هذا الحديث دليل على أن الله عز وجل في السماء على العرش من فوق سبع سماوات، وعلمُه في كل مكان، كما قالت الجماعة أهل السنة أهل الفقه والأثر، وحجتهم ظواهر القرآن في قوله: {ٱلرَّحمَٰنُ عَلَى ٱلعَرشِ ٱستَوَىٰ} [طه: 5]، كما قال: {لِتَستَوُوا عَلَىٰ ظُهُورِهِ} [الزخرف: 13]، وقوله: {وَٱستَوَتْ عَلَى ٱلجُودِيِّ} [هود: 44]، و{ٱستَوَيتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى ٱلفُلْكِ} [المؤمنون: 28]، وقال الله عز وجل: {ثُمَّ ٱستَوَىٰ عَلَى ٱلعَرش مَا لَكُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِيٍّ} [السجدة: 4]، وقال: {ثُمَّ ٱستَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11].
فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة وقد حلق النجم اليماني فاستوى
وقال عز وجل: {ءَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] على السماء، كما قال: {فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] أي: عليها، وقال: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة: 5]، وقال: {ذِي المَعَارِجِ} [المعارج: 3] والعروج: الصعود.
وهذه الآيات كلها واضحات في إبطال قول المعتزلة، وقد أوضحنا فسادَ ما ادَّعوه من المجاز فيها في “التمهيد”، وذكرنا الحُجَّة عليهم بما حضَرَنا من الأثر من وجوه النظر هناك بباب فيه كتاب مفرد، والحمد لله.
ومُحالٌ أن يكون من قال عن الله ما هو في كتابه منصوص مُشبِّهًا إذا لم يكيّف شيئًا، وأقرَّ أنَّهُ ليس كمثله شيء»([23]).
وكلام ابن عبد البرّ هنا جليّ في الإثبات، وليس فيه شيء من التأويل، لا بالاستيلاء، ولا بأفعال منفصلة، فلم يقل: إن الاستواء معناه فعل أحدثه الله في العرش، بل استدل بآيات تدل على نقيض ذلك، كقوله تعالى: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف: 13]، وقوله: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الجُودِيِّ} [هود: 44]، وقوله: {اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الفُلْكِ} [المؤمنون: 28]، والاستواء هنا أفعال قائمة بالفاعلين، وليس شيئًا منفصلًا عنهم.
ولولا قول ابن عبد البر بالقدر المشترك -كما دل عليه استدلاله بهذه الآيات- لما شن عليه ابن الجوزي الغارةَ، ورماه بالتشبيه، وقد تقدّم كلامه بلفظه.
يقول ابن عبد البر في رد تأويل الاستواء: «وإنما يُوجَّهُ كلام الله عز وجل إلى الأشهر والأظهر من وجوهه، ما لم يمنع من ذلك ما يجب له التسليم، ولو ساغ ادّعاء المجاز لكل مدّع ما ثبت شيء من العبارات، وجل الله عز وجل عن أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب في معهود مخاطباتها، مما يصح معناه عند السامعين. والاستواء معلوم في اللغة ومفهوم، وهو: العلو والارتفاع على الشيء، والاستقرار والتمكن فيه. قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {اسْتَوَى} قال: علا. قال: وتقول العرب: استويت فوق الدابة، واستويت فوق البيت. وقال غيره: استوى، أي: انتهى شبابه واستقرّ، فلم يكن في شبابه مزيد.
قال أبو عمر: الاستواء: الاستقرار في العلو، وبهذا خاطبنا الله عز وجل، وقال: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} [الزخرف: 13]، وقال: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الجُودِيَّ} [هود: 44]، وقال: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الفُلْكِ} [المؤمنون: 28]، وقال الشاعر:
فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة وقد حلق النجم اليماني فاستوى»([24]).
وقال أيضًا: «وأما قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «ينزل ربنا تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا» فقد أكثر الناس التنازع فيه، والذي عليه جمهور أئمة أهل السنة أنهم يقولون: ينزل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويصدّقون بهذا الحديث، ولا يُكيِّفُون، والقول في كيفية النزول كالقول في كيفية الاستواء والمجيء، والحجة في ذلك واحدة»([25]).
ونقل عن الكوسج قوله للإمام أحمد: «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر إلى السماء الدنيا» أليس تقول بهذه الأحاديث؟ و«يرى أهل الجنة ربهم»، وبحديث: «لا تقبحوا الوجوه؛ فإن الله خلق آدم على صورته»، و«اشتكت النار إلى ربها»، «حتى يضع الله فيها قدمه»، وأن موسى عليه السلام لطم ملك الموت صلوات الله عليه؟ قال أحمد: كل هذا صحيح. وقال إسحاق: كل هذا صحيح، ولا يدعه إلا مبتدع أو ضعيف الرأي([26]).
وهذا صريح في إثبات ابن عبد البر لصفة النزول من غير تأويل.
وقد احتج المخالف بموضعين من كلام ابن عبد البر في صفة النزول زعم أنهما يدلّان على تأثره بالكلابية:
أما الموضع الأول فقوله: «وقد روى محمد بن علي البجلي -وكان من ثقات المسلمين بالقيروان- قال: حدثنا جامع بن سوادة بمصر، قال: حدثنا مطرف، عن مالك بن أنس أنه سئل عن الحديث: «إن الله ينزل في الليل إلى سماء الدنيا»، فقال مالك: يتنزل أمره. وقد يحتمل أن يكون كما قال مالك رحمه الله على معنى أنه تتنزل رحمته وقضاؤه بالعفو والاستجابة، وذلك من أمره، أي: أكثر ما يكون ذلك في ذلك الوقت، والله أعلم»([27]).
والجواب عن هذا: أن تأويل النزول بما ورد عن الإمام مالك إن كان دليلًا على التأثر بالكلابية، فالكلابي هو الإمام مالك لا ابن عبد البر فحسب، وفي ذلك معاندةٌ لحقائق التاريخ.
قال ابن تيمية: «وجواب هذه الرواية المنقولة عن مالك كجواب الرواية المنقولة عن الإمام أحمد في مثل ذلك، فإنه نقل عنه يومَ مناظرته للجهمية أمام الخليفة أنه قال في قوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَّأْتِيَهُمُ اللهُ} [البقرة: 210] أنه أمره. فقيل: الراوي غلط عليه، وقيل: إنه قاله على سبيل الإلزام لهم لما احتجوا بمجيء القرآن على أنه مخلوق، فقال لهم: إنما مجيء ثوابه كما قلتم في قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22]: إنه أمره. وقيل: بل هذه رواية عنه أنه يتأول صفات المجيء والإتيان والنزول ونحو ذلك بمعنى القصد، ولا يتأول غيرها. وبعضهم جعلها رواية مخرجة عنه في بعض أحاديث الصفات التي يجب تأويلها عند هذا القائل، وهو ابن عقيل، فالكلام في المنقول عن مالك وأحمد سواء»([28]).
فهل يقال: إن الإمام أحمد متأثر بالكلابية أيضًا؟!
وابن عبد البرّ قد ذكر في «الاستذكار» تأويل مالك للنزول على سبيل افتراض صحّة الرواية فقال: «ولو صح ما روي في ذلك عن مالك كان معناه أن الأغلب..»([29]). ثم ذكر نحو ما ذكره في «التمهيد». وظاهر هذا أنه لا يرى صحته، و«الاستذكار» صنّفه بعد «التمهيد»([30]).
وأما الموضع الثاني فقول ابن عبد البر في التعليق على ما جاء عن نعيم بن حمَّاد: «ينزل بذاته، وهو على كرسيه»، قال ابن عبد البر: «ليس هذا بشيء عند أهل الفهم من أهل السنة؛ لأن هذا كيفية، وهم يفزعون منها؛ لأنها لا تصلح إلا فيما يحاط به عيانًا، وقد جل الله وتعالى عن ذلك، وما غاب عن العيون فلا يصفه ذوو العقول إلا بخبر، ولا خبر في صفات الله إلا ما وصف نفسه به في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا نتعدى ذلك إلى تشبيه أو قياس أو تمثيل أو تنظير، فإنه ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير»([31]).
والجواب: أن التعليل الذي ذكره ابن عبد البر في رد تلك الرواية ليس فيه ما يخالف أصول السنة، وليس هو مفرَّعًا على ما اختصّت به الكلابية والأشعرية عن أهل الحديث من أصول، قال ابن القيم رحمه الله: «واختلف أهل السنة في نزول الربّ تبارك وتعالى على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه ينزل بذاته، وهو قول الإمام أبي القاسم التيمي، وهو من أجل الشافعية، له التصانيف المشهورة كالحجة في بيان المحجة، وكتاب الترغيب والترهيب وغيرهما، وهو متفق على إمامته وجلالته، قال شيخنا: وهذا قول طوائف من أهل الحديث والسنة والصوفية والمتكلمين، وروي في ذلك حديث مرفوع لا يثبت رفعه. قال أبو موسى المديني: إسناده مدخول وفيه يقال: وعلى بعضهم مطعن لا تقوم بمثله الحجة، ولا يجوز نسبة قوله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن كنا نعتقد صحته إلا أن يرد بإسناد صحيح.
وقالت طائفة منهم: لا ينزل بذاته.
وقالت فرقة أخرى: نقول: ينزل، ولا نقول: بذاته، ولا بغير ذاته، بل نطلق اللفظ كما أطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسكت عما سكت عنه»([32]).
فقول ابن عبد البر في منع هذا اللفظ هو قول من أقوال أهل السنة في المسألة، ولم يختر قولًا امتازت به الكلابية أو الأشعرية عن أهل السنة.
أما تعليله الذي أورده في «الاستذكار» بقوله: «لأنه -تعالى ذكره- ليس بمحل للحركات، ولا فيه شيء من علامات المخلوقات»([33])، فهذا النفي له محملٌ صحيح، ولا يلزم حملُ كلامِه على مذهب الكلابية والأشعرية في نفي الصفات الاختيارية؛ قال ابن القيم: «فإنَّ الانتقالَ يُرَاد به انتقالُ الجسم والعرض من مكانٍ هو مُحتاجٌ إليه إلى مكانٍ آخرَ يحتاج إليه، وهو يمتنع إثباتُه للرب تعالى، وكذلك الحركة إذا أريد بها هذا المعنى امتنع إثباتُهَا لله تعالى»([34]).
والخلاصة: أن جميع ما استند إليه المخالف في دعوى تأثر ابن عبد البر بالكلابية لا يدل على ذلك، ولا يصح أن يُعتَرَضَ به على توجيه ابن تيمية لنفي الحركة الوارد في كلام ابن عبد البر. وقد أوردنا من كلام ابن عبد البر ما يدل على بعده عن مسالك المتكلمين في إثبات وجود الله تعالى، وعلى مجانبته للأشعرية.
كما أن دعوى تأثر ابن عبد البر بالكلابية ليس لها مستند تاريخي يثبت تلقيه عن الكلابية، بشهادة الكوثري.
وكلام ابن عبد البر في الإثبات مناقض لمسلكَيِ التأويل والتفويض؛ ولذا وجدنا ابن جهبل والسنوسي واليافعي ينسبون كلامه إلى المخالفة والتلطيخ والشذوذ!
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) مجموع الفتاوى (12/ 367-368).
([2]) جمع الجيوش والدساكر (ص: 369).
([3]) بيان تلبيس الجهمية (5/ 507-508).
([4]) الغياثي (ص: 22-23)، وإن كان في نهاية المطلب (18/ 19) قد بنى موقفه في عدم تكفير أهل الأهواء -ومنهم المعتزلة- على أصل إمامه الشافعي في قبول شهادة أهل الأهواء، لكن هذا لا ينافي أصل الشدة في موقفه من المعتزلة الذي تقرر في مواضع أخرى من كتبه، كما أشرت إليه آنفًا.
([5]) طبقات الشافعية (3/ 372).
([6]) طبقات الشافعية، لابن السبكي (9/ 78).
([7]) شرح العقيدة الوسطى (ص: 246).
([8]) نشر المحاسن الغالية في فضائل مشايخ الصوفية، كما في تنزيه ذوي الولاية والعرفان (ص: 309-310).
([10]) السيف الصقيل في الرد على ابن زفيل (ص: 101).
([11]) ذكر ذلك ابن عساكر في تبيين كذب المفتري (ص: 492).
([12]) جمع الجيوش والدساكر (ص: 366).
([13]) هامش على تحقيق شرح العقيدة الوسطى -ط: دار التقوى بدمشق- (ص: 247).
([14]) شرح العقيدة الوسطى (ص: 246).
([15]) درء تعارض العقل والنقل (2/ 7-8).
([16]) شرح حديث النزول (ص: 188).
([18]) جامع بيان العلم وفضله (2/ 942).
([20]) شرح الكبرى للسنوسي (ص: 450).
([21]) انظر صفحة باسم (العلوم العقلية) في التيليجرام.
([22]) جامع بيان العلم وفضله (1/ 56).
([26]) التمهيد (5/ 160). والمسألة في مسائل إسحاق بن منصور الكوسج (3332).
([28]) جامع المسائل (8/ 195)، وحكاية مناظرة الواسطية ضمن الأغاليط في المراسيم السلطانية (2/ 1057). وينظر مقال: “ما قيل في تأويل الإمام مالك لحديث النزول .. شبهة ورد” على الرابط:
https://salafcenter.org/2702.
([30]) انظر عقيدة الإمام ابن عبد البر في التوحيد والإيمان: عرضًا ودراسة (ص: 352).
([32]) مختصر الصواعق المرسلة (ص: 469). وانظر: شرح حديث النزول (ص: 196-197).