إطلالة على الجمود الفكري عند مثيري الشُّبُهات
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
المقدمة:
ظهرت مواقع وسائل التواصل الاجتماعي في الثمانينيات الميلادية من القرن الماضي، وإن كانت لم تصل إلى العالم الإسلامي والعربي إلا حوالي عام 1426هـ / 2005م؛ حيث نجح أولًا موقع يوتيوب في بثِّ المحتوى المرئي، ثم نشأ من بعده برنامجا فيس بوك وتويتر وما بعدها من البرامج، ولا يُعنى هذا البحث بالتنقيب عن سابقها من لاحقها بقدر ما يُعنى بتسليط الضوء على ما نتج عن هذه المواقع من انفجار ثورة التواصل الاجتماعي الذي غير كثيرًا من مفاهيم الحياة المعاصرة للإنسان؛ كاختصار أوقات التواصل فيحصل التواصل في نفس اللحظة التي يرغب فيها الإنسان في ذلك، واتساع مساحة التواصل ليكون مع جمهور كبير لا فرد من الأفراد، واتساع خيارات التواصل بالصوت والصورة أو بالصوت فقط أو بالكتابة فقط.
إذن؛ أصبح بإمكان الإنسان التواصل مع جمهور كبير بنفس المادة التواصلية، فبدلًا من أن تكون مادة خاصة بشخص أصبح الإنسان يتواصل مع الجمهور مباشرة سواء الجمهور الضيق أو الجمهور بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وأصبح من الممكن التأثير على مجتمع بأكمله بمادة تواصلية واحدة مكتوبة أو مرئية، هذا الجانب الذي يعنينا في هذا البحث من التغير الحياتي للإنسان في الوقت الراهن صاحَبه تغيرات كثيرة تحدث كل يوم؛ كسهولة وسرعة تناقل الأخبار وانقلاب كل إنسان إلى مراسل صحفي مما سهَّل عمل وكالات الأخبار، ويسر الوصول للشخصيات البعيدة سواء لبعدها المكاني أو علوها في الجاه والمناصب، وانكشاف عوالم وشعوب وأفكار وثقافات الآخرين للإنسان بمجرد البحث عنها بضغطة زر، وسهولة الوصول للمعلومات عمومًا في كل جانب من الجوانب الحياتية، وانحياز كثير من الناس إلى التواصل الالكتروني بدلًا من المقابلة وجهًا لوجه، وتغير مفاهيم التسويق للسلع والخدمات، وتطور وسهولة الوصول للخدمات الحكومية وغير الحكومية بشتى أنواعها، وتغير وسائل التربية والتعليم وطرق زرع القيم، وانتقال القدوة من الواقع إلى وسائل التواصل وغيرها من الأمور.
ومن أهم ما في هذا التغير تغير وسائل الإدراك المعرفي لدى الناس وأدوات التأثير المجتمعي؛ فبعد أن كانت الكتب الورقية والأروقة الجامعية والقاعات الدراسية والندوات الأدبية والمحاضرات، هي روافد الفكر والمعرفة انتقل كثير من المجتمع إلى الرافد التِّقني طوعًا أو كرهًا بفعل الانفجار التواصلي الهائل الذي هزَّ كيان البشرية وتغيرت بسببها حياة الإنسان في التأريخ الآنف الذكر، وكذلك الحال في الوسائل الإعلامية التي كانت مقتصرة على الإذاعة أول الأمر ثم التلفزيون.
وهنا أصبحت ساحة وسائل التواصل الاجتماعي هي ساحة الإدراك والمعرفة لدى كثير، خاصة من طلَّق الكتب والندوات أو لم يحالفه الحظ بخطبة إحداهن أصلًا، وحتى من وُفق للخطبة والنكاح بالروافد القديمة ونجح في حياته معها اضطر للتعدد في روافده من حسناوات التقنية مع سطوة وضغط تلك الثورة التواصلية التقنية.
وقد انتفع كثير بهذه الوسائل، ولكن عمّ ضرر كبير وشر مستطير على كثير من جوانب الحياة المعرفية.
ولست هنا للحديث عن منافع ومضار تلك الوسائل التواصلية ولكن ما أريد أن أصل إليه هو: أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت الساحة المفتوحة لعالم الأفكار والآراء والأهواء والأطروحات بشتى أطيافها؛ فهي ساحة مفتوحة متعددة الأبواب بل متجددة الأبواب الفكرية، ويزخرف ويسوِّق فيها كل صاحب رأي وعقيدة وفكر، فغدت تلك المواقع متاجر أفكار عالمية خاضعة لأنظمة التسويق والترويج والبهرجة والديكورات ودخل عالمها أدوات التجميل والزينة.
ومن هنا دخل على شباب المسلمين كمٌّ هائل من الأفكار والمذاهب والشُّبُهات من كل صنف ولون ومن كل دين وفرقة ومن كل فلسفة ومذهب فكري؛ “فلم يعد المجال الفكري شأنًا خاصًا بنخبة هامشية تجتمع في مراكز بحثية أو صوالين أدبية أو مؤتمرات سنوية أو جلسات مغمورة هنا أو هناك، ولم تعد المفاهيم الفكرية تُصبُّ في قوالب فنية اصطلاحية غير مفهومة لعموم الناس؛ بل أصبحت اللغة الفكرية اليوم تجسّد لغة التواصل الاجتماعي التي تتصارع مختلف القوى لضخِّ تصوراتها ومفاهيمها من خلالها؛ لتقدم تلك التصورات والمفاهيم للمستهلك النهائي.
ولا يرتاب المتابع في أن ثورة المفاهيم الفكرية المعاصرة ارتبطت مركزيًّا بثورة نظم الاتصال المعاصرة، فأصبحت رموز التأثير الاجتماعي في الفضائيات وشبكات التواصل الاجتماعي والصحافة؛ تتنافس في صياغة التصورات العقدية والفقهية والمنهجية من خلال أدوات وأساليب المعالجة الفكرية، وهو ما أثمر حالة من الانهماك في السجالات الفكرية حتى باتت تلتهم جزءًا كبيرًا من أوقات الشباب ومجالسهم”([1]).
فالثورة التقنية صاحبتها ثورة انتشار الشُّبُهات والإشكالات حول الدين عمومًا ودين الإسلام على وجه الخصوص، فهل كانت تلك الشُّبُهات وليدة العصر ووليدة وسائل التواصل؟
إن المتابع المتأمل في تلك الشُّبُهات يجد أنها ليست حديثة كحداثة مواقع التواصل بل ضاربة القِدم، وهو ما عنيناه في العنوان بالجمود الفكري لدى مثيري الشُّبُهات.
وليس هذا الأمر اكتشافًا جديدًا على المسلمين بعد استقراءٍ أو تتبُّع للشبهات وإن كان المتتبع يلاحظ ذلك ولكنه ما أخبر به نبي الإسلام الصادق المصدوق، وأملاه القرآن الكريم دستور المسلمين، وهو دليل من أدلة صدق النبي وصحة الإسلام وما فيه؛ ومن هنا كان هذا البحث لتأصيل هذه الأطروحة بنصوص الكتاب والسنة؛ لنلج بعدها إلى الأمثلة والتطبيقات الدالة عليها.
جمود مثيري الشُّبُهات في الوحي:
إذن؛ من أوجه كمال الدين الإسلامي أنه نصَّ على هذه القضية مذ سالف القرون، فأخبر الله سبحانه وتعالى نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن الشُّبُهات والإشكالات التي سيتمسك بها أعداؤه هي نفس الشُّبُهات التي قد أُثيرت حول الأنبياء من قبله ولا فرق، وإن تعجب فعجب أنَّنا اليوم بعد أربعة عشر قرنًا من إخبار المصطفى عليه الصلاة والسلام لا زلنا نرى من يروِّج نفس الشُّبُهات التي أُثيرت وفُنِّدت وأُبطلت في زمنه صلى الله عليه وسلم، ومن أهم النصوص الدالة على هذا الأصل الذي قررناه ما يأتي:
- قال الله تعالى: ﴿مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ﴾ [فصلت: 43]، فهنا إخبار صريح من الله سبحانه وتعالى بأن الطُّعون والشُّبُهات التي ستُثار ضدَّ النبي صلى الله عليه وسلم من الكفار المعارضين له لن تخرج عن حيِّز الشُّبُهات والمطاعن القديمة للرُّسل الذين بُعثوا من قبله؛ فدعوة الأنبياء واحدة ومنهجهم وأصولهم واحدة وكذلك أصول شُبهات مُعارضيهم واحدة لا تختلف، وهذا فيه تسليةٌ للنبي صلى الله عليه والسلام وأهل الإيمان من بعده بأن أهل الشُّبُهات والضلالات لن يأتوا بمضامين فكرية حديثة بالمرة وإنما هي نفس الشُّبُهات القديمة تُحدَّث بما يتناسب مع وقت ترويجها من بهرج وزخارف وحسب([2])، يقول الشوكاني (1250) رحمه الله: “سلَّى سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم عمَّا كان يتأثَّر له من أذية الكفَّار”([3])، أي: لا داعي للحزن فهم لا يُكذبونك بحجج حقَّة يستندون عليها، وإنما هي شبهات مكررة معروفة قديمة.
- قال تعالى: {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 81 – 83]، فهنا أخبر المولى سبحانه وتعالى أن قول كفار قريش ومثيري الشُّبُهات حول ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الغيبيات والبعث بعد القيامة والحساب لا يختلف عمَّا قاله الأوَّلون، بل قول المتأخرين من المعارضين والطَّاعنين في نبوته صلى الله عليه وسلم هو نفس قول الأوَّلين، فأُصول أصحاب الشُّبُهات واحدة لا تختلف؛ فهم “لا شبهة لهم في إنكار البعث إلا التشبُّث بحبل التقليد المبنيِّ على مجرد الاستبعاد”([4])، وكان الأَوْلى بهم الاعتبار والتفكُّر والنظر في الحجج والبراهين التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم بدلًا من الجُمود على شُبُهات وأفكار الآباء والأجداد والاتِّكاء على خرافات وأساطير الأولين، ولكن “لم يعتبر هؤلاء المشركون بآيات الله، ولا تدبروا ما احتجّ عليهم من الحجج والدلالة على قدرته، على فعل كلّ ما يشاء، ولكن قالوا مثل ما قال أسلافهم من الأمم المكذّبة”([5])، وجمدوا على شبهاتهم وعكفوا على ترهاتهم!
- قال الله تعالى: ﴿كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾ [الذاريات: 52-53]، فهنا استفهام تقريع وتوبيخ وتعجب من حالهم حيث تشابَهت حُجَج وشُبهات أعداء الرسل في كل زمن حتى كأنهم تواصوا فيما بينهم بتلك المعارضات والجنوح عن الحق والتشبُّث بالكفر ومذاهبه، يقول الطبري (310) رحمه الله: “أَأَوصى هؤلاء المكذّبين من قريش محمدًا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على ما جاءهم به من الحق أوائلُهم وآباؤُهم الماضون من قبلهم، بتكذيب محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقبلوا ذلك عنهم”([6]).
ثم أخبر المولى: أن سبب تشابه الشُّبُهات وعدم اختلافها ليس هو تواصي الكفار والمكذبين بعضهم بعضًا “فلم يتواصوا بذلك، بل جمعهم الطغيان ومجاوزة الحد في الكفر”([7])، وهنا أمر المولى سبحانه وتعالى بالإعراض عن شبهات المشكِّكين واستمرارية التذكير والدعوة إلى الحق فهو النافع لأهل الإيمان، وأما المعاندين فلن يؤمنوا ولو جاءتهم كل آية.
- قال الله تعالى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف: 22 – 24]، فهي نفس الشُّبُهات تتكرَّر ويعتصم بها المتأخر تقليدًا للمتقدم مع أن الأنبياء قد فنَّدوها وأبطلوها، فما كُذِّب به النبي صلى الله عليه وسلم من شبهات ومعارضات هي نفس ما كُذِّب به الأنبياء من قبل، يقول ابن كثير (774) رحمه الله: “ليس لهم مستند فيما هم فيه من الشرك سوى تقليد الآباء والأجداد، بأنهم كانوا على أمة، أي: على دين …، ثم بيَّن تعالى أن مقالة هؤلاء قد سبقهم إليها أشباههم ونظراؤهم من الأمم السالفة المكذبة للرسل، تشابهت قلوبهم، فقالوا مثل مقالتهم”([8]).
- قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [البقرة: 118]، فالمعارضات من مكذَّبي الرسل وأعداء الأنبياء هي هي؛ ولذا أخبر الله تعالى هنا أنه قد تشابهت قلوبهم، أي: “أشبهت قلوب مشركي العرب قلوب من تقدمهم في الكفر والعناد والعتو، كما قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾ [الذاريات: 52-53]”([9])، “فهم وإن اختلفت أزمانهم وأماكنهم مذاهبهم في كذبهم على الله وافترائهم عليه، فقلوبهم متشابهة في الكفر بربهم والفرية عليه، وتحكمهم على أنبياء الله ورسله عليهم السلام”([10]).
- وورد في المتفق عليه عن أبي سعيد رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبرٍ، وذراعًا بذراعٍ، حتى لو سلكوا جُحر ضب لسَلكتموه»، قلنا يا رسول الله: اليهود، والنصارى قال: «فمن؟»([11]). وهذا من دلائل نبوته عليه الصَّلاة والسَّلام؛ حيث هو من الأخبار الغيبية المستقبلة؛ وأصعب ما على الإنسان الصَّادق المحنَّك الإخبارُ عن شيء مستقبل بعيد؛ لصعوبة تحقُّقه وبعدِ زمنه، ولكن وقع كما أخبر.
واتفقت أصول ضلال كثير من فرق المسلمين مع ضلال فرق اليهود والنصارى، ففي هذا الحديث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم لهث واتباع الأمة سَنَن اليهود والنصارى، “ولا ريب أنه مع مثل الاتباع سوف تتكرَّر الضَّلالات وتظهر البدع والشُّبُهات والافتراقات التي وُجد شيء منها في الأمم من قبلنا، وواقع الحال يدل على ذلك مثل:
- قول عبد الله بن سبأ والرافضة بالغيبة والرجعة والنص والوصية والبداء وُجد من قبل عند اليهود.
- قول الصوفية المتفلسفة بالحلول والاتحاد ووحدة الوجود وجد من قبل عند النصارى.
- قول الجهمية بالتعطيل والتأويل وجد من قبل عند اليهود والفلاسفة.
- قول الباطنية بفكرة الظاهر والباطن وتناسخ الأرواح وجدت له جذور قيمة في فلسفات شتى”([12]).
ويشير صاحب الفوز الكبير في أصول التفسير إلى معنًى مهمٍّ في هذا الباب، وهو أن الشُّبُهات والافتراءات والمعارضات التي يُفندها القرآن ليست مجرد قصص تاريخية وحسب، بل هي دروس وعبر وتعليم للرد على تلك الشُّبُهات وإشارة لإحيائها في الأزمان المتأخرة، يقول: “لا ينبغي أن يُظن عند تلاوة القرآن الكريم أنَّ جداله ومحاجَّته كانا مع أناس قد انتهوا وانقضوا، كلَّا، بل إنه بحكم ما جاء في الحديث: (لتتبعن سنن من كان قبلكم …) ليست هنا من فتنة كانت في عهد الرسالة – صلى الله على صاحبها وسلم – إلا ولها نماذج وأمثلة في عصرنا هذا؛ ولذلك فالمطلوب الحقيقي هو بيان كليات هذه المقاصد والمعاني لا خصوص الحوادث والتفصيلات الجزئية، وهذا هو التحقيق الذي تيسر لي في تفصيل عقائد هذه الفرق الباطلة والردود عليها”([13]). وهنا يتأكد لنا أهمية دراسة المذاهب والفرق الإسلامية؛ فهي ليست مجرد دراسة تاريخ فهم وإن انقرضوا فإن أفكارهم باقية لم تمت؛ بل انصهرت في فرق وطوائف أخرى؛ فالمعتزلة ليس لهم وجود كطائفة في زمننا ولكن عقائدهم حاضرة في عدة طوائف، ولتلك الأفكار أتباع ودعاة ينادون بتطبيقها وأهمية إحيائها كما هو الحال في الخوارج والصوفية؛ أضف إلى ذلك أن بمعرفة ضلالات الفرق ينجلي للمسلم البصير نصاعة الحق ونقاء مَنهجه وصفاء مَعِينه.
نماذج من الشُّبُهات القديمة المتكررة:
هنا سنتناول بعض الشُّبه بالعرض والتمثيل وبيان جمود مثيريها وكون شبهتهم قديمة ليست من بنات أفكارهم، وهذه الشبه هي:
- شبهة: فمن خلق الله؟
- شبهة إنكار الضروريات العقلية الفطرية.
- شبهة الطعن في القرآن بأنه قول بشر غير معجز.
- شبهة المنع من كتابة الحديث في العهد النبوي.
- شبهة انشغال العلماء بالتَّوافه وقضايا الحيض والنفاس.
الشبهة الأولى: فمن خلق الله؟
هذا من أهم الاعتراضات على باكورة أدلة وجود الله وهو دليل الإبداع والاختراع، ولسنا في حاجة إلى إطالة الكلام في بيان قِدمه من بين الشُّبُهات، وقد أخبر النبي ﷺ بأن هذه حيلة الشيطان مع كل مَن أَيِسَ مِن إغوائه وإضلاله لرقيِّه في مراتب الإيمان العُليا في كل زمن من الأزمان؛ وهو قد حصل أوَّلًا مع صفوة الخلق وخيرة البشرية صحابة رسول الله -ﷺ ورضي عن صحابته- فهو من أقدم الاعتراضات التي حررها الإسلام أبلغ تحرير، ومع كونه تليدًا عتيقًا إلا أنه في ذات الوقت حديثٌ متجددٌ، بل من أوسع الاعتراضات انتشارًا على دليل الخلق والإيجاد في يوم الناس هذا، وهذا من أعظم دلائل نبوة نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن هذا السؤال المغلوط سيبقى محلَّ تضليلٍ من الشَّيطان للإنسان على مدى العصور، ومن العجيب أن الوسوسة به غالبًا ما يُعمله الشيطان مع النُّخبة من أهل النُّبوغ والفطنة والتَّفكير لا عوام الخلق كما حصل ذلك قديمًا مع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد جاء ناس من أصحاب النَّبِي صلى الله عليه وسلم، فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: «وقد وجدتموه؟» قالوا: نعم، قال: «ذاك صريح الإيمان»([14])، وفي رواية: «تلك محض الإيمان»([15]).
وفي العصر الحديث صرَّح كثيرٌ من المفكِّرين والكُتَّاب والنُّخب من المسلمين بأثر هذه الشبهة عليهم وأنهم وجدوا ما أخبر به النَّبِي صلى الله عليه وسلم من التَّضليل والحَيرة والشَّك دهرًا من الزمان بهذا السؤال المغلوط، مثل الفيلسوف (هيوم) حيث يقول: “إذا كان لا بد لنا من البحث عن علَّة لكل شيء، لَوَجب إذن أن نبحث عن علَّة للإله نفسه”([16]).
وتأثر به كثير من الملاحدة، يقول (برتراند رسل) وهو يتحدث عن علاقته بدليل الإبداع والاختراع: “كنت أعتقد صحة حجة المسبِّب الأول إلى أن قرأت في عمر الثامنة عشرة سيرة (جون ستيوارت مل)؛ حيث وردت الجملة التالية: (علمني والدي أنه توجد إجابة عن السؤال: من خلقني؟ لأن السؤال التالي سيكون: من خلق الرب؟!)، هذه الجملة القصيرة هي التي أوضحت لي مغالطة هذه الحجة، إذا كان لكل شيء سبب يجب أن يكون للرب سبب أيضًا”([17]).
ومنهم أيضًا الفيلسوف (سبنسر) حيث يقول: “استمع إلى هذا الناسك المتدين، ها هو ذا يقصُّ عليك علَّة الكون وكيف نشأ، فخالق الكون عنده هو الله، ولكنه لم يفسِّر بهذا الرأي من المشكلة شيئًا، ولم يزد على صاحبه [أي: المنكر للخالق] سوى أن أرجعها خطوة إلى الوراء.
وكأني بك تُسائله في سذاجة الطفل: ومن أوجد الله؟”([18]).
ولم يكن أثره على الملحدين والنصارى وحسب في العصر الحديث، بل له أثره أيضًا على النخب والعلماء من المسلمين، يقول د. سامي عامري: “لم يحيرني سؤال عقدي لما بدأت أشبُّ عن طوق التقليد وأختبر صدق ما وَرِثته من عقيدة في الله واليوم الآخر -مع اقترابي من سن العشرين- مثل سؤال: (من خلق الله؟) …، كان هذا السؤال يطرق ذهني كلَّ حين، ويكدِّر عليَّ صفو نفسي ويعصف بقلبي، كنت أسعى جهدي لأفرَّ منه، لكن دونما فِكَاك …، اكتشفت في تلك الفترة أثناء بحثي عن جواب سؤال: (فمن خلق الله؟) أن هذا الإشكال قد رَاود الكثيرَ من النَّاس، وعجبتُ أنه سؤال قديمٌ متجدِّد، لا يختفي حتى يعاوِد الظُّهور مرة أخرى، وأعجب من ذلك أنه قاد طائفةً من أئمة الإلحاد إلى جحد الخالق في طفولتهم أو شبابهم دون أن تَقْوَى عُقولهم بعد ذلك على الخروج من أَسْر تلك الشبهة وَوَحْل تلك الوهدة”([19]).
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: «يأتي الشيطانُ أحدَكم فيقول من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربَّك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته»([20]). وفي رواية: «فليقل آمنت بالله»([21]).
وهذا العلاج النبوي لهذه الشبهة يُعض عليه بالنواجذ، فيبدأ مستعيذًا بالله من الشيطان الرجيم وخطراته، ومعرِضًا عن وساوسه المناقضة لمنطق العقلاء، وأسئلته المتناقضة لدى الفضلاء، ومُجدِّدًا إيمانه القائم على التسليم لرب الأرض والسماء، والمتفق مع أقوال الرسل والألبَّاء، فإنَّ مَن عمَّر قلبه بالإيمان انخنس عنه الشيطان، وأما الانجرار وراء خطرات الشيطان فلا طائل تحته([22]).
الشبهة الثانية: إنكار المبادئ الضرورية:
المبادئ الضرورية هي: “القضايا التي يصدق بها العقل الصريح لذاته ولغريزته”([23]) كمبدأ السببية والعلم بأن كل أمر حادث له سبب ومبدأ عدم التناقض ومبدأ الهوية؛ وهي “أوائل العقل التي لا يختلف فيها ذو عقل …، فهذه المقدِّمات التي لا شك فيها ولا سبيل إلى أن يطلب عليها دليلًا إلا مجنون أو جاهل لا يعلم حقائق الأشياء، ومَن الطفل أَهدى منه، وهذا أمر يستوي في الإقرار به كبار جميع بني آدم وصغارهم في أقطار الأرض إلا من غالط حسه وكابر عقله فيُلحق بالمجانين”([24]).
ولكن الملحدين اليوم في عصرنا الحاضر ينكرون هذه المبادئ وكثير من العلمويين المتزعمين إنكار مصدرية غير العلم التجريبي!
ولست هنا لمناقشة هذا القول وبيان تهافته ومناقضته للعقل البشري فذلك ظاهر، وإنما لبيان كونه قديمًا غائرَ القدم في البشرية وإن تجدد وظهر في العصر الحديث، فهي ليست شبهة جديدة بل قد وُجد في العالم قديمًا مَن أظهر إنكار هذه المقدِّمات الفطريَّة الضَّروريَّة باسم البحث والتنقيح والرفعة في الجدل، وهم السوفسطائيون وتأثر بهم المناطقة من بعدهم فكان فعلهم تعذيبًا للنفوس ليس إلا، “فالأمور الفطريَّة متى جعل لها طرق غير الفطريَّة كانت تعذيبًا للنفوس بلا منفعة لها”([25]).
الشبهة الثالثة: الطعن في القرآن بأنه قول بشر غير معجز:
لقد تجرَّأ الحداثيون على ما لم يتجرأ عليه من قبل أحد من عقلاء أعداء الإسلام، وهو أنهم أعادوا وكرَّروا نفس الشُّبُهات التي أُثيرت حول القرآن وفندها القرآن في الزمن الغابر، ومن ذلك قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 4 – 6]، وقوله تعالى: { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:101- 103]، وقال تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [يونس: 15 – 16]، وقوله: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41، 42].
ونجد الحداثيين يعيدون إنتاج ذات الشُّبهات التي فنَّدها القرآن من قبل؛ ومن ذلك دعوى أن النص القرآني مجرد (ظاهرة) وليست حقيقة متعالية مطلقة، وإنما يتعامل معها على أنها ظاهرة مرتبطة بتاريخ مجتمعها وجغرافيته، فتُدرس مثلها مثل غيرها من الظواهر الدنيوية([26])، ويرجِّح أركون.. أنَّ منبعها (الخيال)([27])! وهي في منظور العلوم الإنسانية الحديثة: الأفكار التي تعتبر لا واعية ولا عقلانية، وإنما متعلقها الانفعالات والعواطف والانطباعات([28])!
وهذا الخيال لو تصورنا حقيقته فلا بد أن يرتكز على أسطورة لا على الحقيقة!! ولذا فإن أركون يدَّعي أن القرآن خطاب أسطوري البنية!([29])
ولكن أركون يلطَّف هذا المصطلح ويحشوه ببعض الطلاءات التي تخفي عواره؛ ومهما فعل ولو طلى قوله بأحكم الطلاءات فإن فضيحة سرقته للشبهة القرآنية لن ينساها التاريخ، وما أشبه الليلة بالبارحة.
وهذه المحاولة ليست جديدة على الفكر الإسلامي، بل هي محاولة مستنسخة تمامًا من محاولة الفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام الذين راموا تطويع مفهوم الوحي للنظريات الفلسفية اليونانية كالفيض والصُّدور والمخيلة، ولا يجد الإنسان فرقًا يُذكر بين هذه الأطروحات والأطروحات التي نظَّر لها الفارابي وابن سينا في مفهوم الوحي فالشبهة هي هي؟!([30]).
وعجبًا لهؤلاء القوم، لم يجدوا للتشكيك في القرآن إلَّا شبهات فنَّدها القرآن نفسه قبل آلاف السنين وعفَا عليها الدَّهر وتعفَّنت مع جيف أصحابها ممن هلك في عصر النبي صلى الله عليه وسلم؟!
الشبهة الرابعة: الطعن في السنة والازدراء بالمحدثين، ودعوى تأخر كتابته عن العهد النبوي.
يعجب المرء أن يجد الشُّبُهات بنصِّها موجودة منذ القدم قد فنَّدها العلماء وكشفوا عوارها ثم تتكرر من جديد في عصرنا الحاضر بعد أربعة عشر قرنًا من الزمان، ومن ذلك الازدراء بالسنة النبوية ورجالها ومنهجهم والطعن في علمهم وأمانتهم في النقل ودعوى أنه لم يُكتب في العهد النبوي، فنجد هذه الشبهة حاضرة في القرن الثالث الهجري حيث بوَّب الإمام الدارمي (280) بابًا سماه: “باب الحث على طلب الحديث والرد على من زعم أنه لم يكتب على عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – الحديث والذب عن أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحاب الحديث وأهل السنة وفضلهم على غيرهم”([31]).
ومع أن الإمام الدارمي حرَّر هذه الإشكالية.. نجد المستشرقين في عصرنا الحاضر يرددونها وكأنهم لم يعلموا برد علماء الإسلام من قبل عليها، يقول (جولدتسيهر): “ولا نستطيع أن نعزو الأحاديث الموضوعة للأجيال المتأخرة وحدها، بل هناك أحاديث عليها طابع القدم، وهذه إما قالها الرسول، أو هي من عمل رجال الإسلام القدامى”([32]).
ويقول (شاخت): “إن أكبر جزء من أسانيد الأحاديث اعتباطي … ومعلوم لدى الجميع أن الأسانيد بدأت بشكل بدائي، ووصلت إلى كمالها في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري … وكانت الأسانيد كثيرًا ما تلصق بأدنى اعتناء … وأي حزب يريد نسبة آرائه إلى المتقدمين كان يختار تلك الشخصيات ويضعها في الإسناد، وفي الأمثلة التالية نجد مظاهر الاعتباط في الأسانيد وانعدام الثقة فيها”([33]).
ويقول أيضًا: “إن الأحاديث المنسوبة للنبي وأصحابه التي يدعى بأنها ترجع إلى عصر النبي وأصحابه في الحقيقة لا تحتوي على معلومات موثوق بها [صحيحة] عن تلك الفترة الإسلامية الأولى، بيد أن تلك الأحاديث تعكس لنا الآراء التي كانت خلال القرنين الأولين من الهجرة والنصف الأول من القرن الثالث الهجري”([34]).
ويقول أيضا: “ويمكننا أن نقول دون تحفظ: إن الفقه المحمدي لم يكن قد وجد في عصر الشعبي (المتوفي110هـ)، أما إبراهيم النخعي الكوفي (المتوفى 95 أو 96هـ) فلم يفعل أكثر من إعطاء رأيه في مسائل العبادات، وبعض المسائل الخفيفة الدينية لكن لا على المسائل الفقهية الآلية”([35]).
والعجيب، أنه تلقفها بعض المسلمين وعملوا على ترديدها ترديدًا ببغائيًّا لا أكثر، ولست هنا لإطالة البحث بمناقشة هذه الشبهة وإنما المقصود هو بيان جمود مثيري الشُّبُهات هؤلاء على شبهات قديمة، ولا دور لهم فيها أكثر من الترديد!
الشبهة الخامسة: انشغال العلماء بالتَّوافه وقضايا الحيض والنفاس:
شنّع المبتدعة على علماء الإسلام في العصور الأولى، بأنهم منشغلون بتوافه الأمور وسفاسفها فمن المبغضين لعلماء التابعين من المبتدعة، نجد عمرو بن عبيد يلمز ويهمز، ويشوش على الناس بأنهم مشغولون عن محكمات الدين بقوله: “اسمعوا؛ فما كلام الحسن وابن سيرين والنخعيِّ والشعبيِّ عندمَا تسمعون إلَّا خِرَقُ حَيضٍ مَطروحة”([36])!! وذهب عمرو بن عبيد واشتهر ببدعته في الإسلام ورفع الله أئمة العلم والهدى ونفع بهم، فأين هذا المبتدع من أولئك الأئمة الذين بلغ نورهم مشارق الأرض ومغاربها اليوم، وأين جهدهم وبذلهم الذي نهل منه طلبة العلم وما زالوا ينهلون، وأين هذا المفتري الذي انشغل بالطعن في العلماء بدلًا من أن ينافسهم فيما بذلوا؟!
ولكن مسيرة الطعنات تلك لم تتوقف، ففي زمن الأئمة الأربعة بعد عهد التابعين، نجد الطاعنين يواصلون السير بذلك الأسلوب ذاته، حتى قال قائلهم عن الإمامين العظيمين أبي حنيفة (150هـ) والشافعي (241هـ) رحمهما الله: “إنَّ علم الشَّافعيِّ وأبي حنيفة جُملتُه لا يخرج من سراويل امرأةٍ”([37])!!
واليوم يتكرر المشهد ذاته والأسلوب ذاته، ولأولي الألباب -فيما ذكرنا- عبرة، فنسمع اليوم في خضم ما نسمع من مثيري الشُّبُهات من يقول: إن من ينتسب إلى السلف لا يخرج علمهم عن الحيض والنفاس والقاذورات([38])!
ختامًا:
لا يعني جمود مثيري الشُّبُهات عدم حاجتنا إلى استحداث الرد عليها بكل الوسائل الحديثة الممكنة كتأليف الكتب وكتابة المقالات والردود العلمية وصناعة المحتوى المضاد للشبهات سواء كان مرئيًّا أو مسموعًا أو مقروءًا؛ وتعدَّدُ أغراض تكرار الرد على الشُّبُهات كتناول جانب لم يتناوله السابقون أو إضافة حجج جديدة أو تلخيص ما سبق أو ترسيخ الحق في النفوس وتكثير سواده وإشاعته بين الناس أو صياغته بأساليب جديدة أكثر مناسبة لعقول أبناء العصر الحديث ولغتهم وثقافتهم([39])، وهذا الأخير؛ أكّد عليه جملة من العلماء المعتنين بأبواب الشُّبُهات، يقول د. الطيب بو عزة في معرض بيان ضعف المكتبة الإسلامية المضادة لشبهات الإلحاد: “ويمكن تشخيص هذا الضعف بمظهرين:
أولها: ندرة الكتب وقلتها.
ثانيها: عدم تناسب محتواها المعرفي مع شروط الثقافة الراهنة”([40]).
وهو ما يحتِّم علينا تجديد أساليب ووسائل الرد على الشُّبُهات مع بيان جمود مثيريها على محتوى قديمٍ قد عفى عليه الزمن.
وصلَّى الله وسلم على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) زخرف القول، عبد الله العجيري وفهد العجلان (ص: 11).
([2]) ينظر: جامع البيان (21/ 481).
([3]) فتح القدير للشوكاني (4/ 595).
([4]) فتح القدير للشوكاني (3/ 585).
([5]) جامع البيان (19/ 62) بتصرف.
([7]) فتح القدير للشوكاني (5/ 110).
([8]) تفسير ابن كثير (7/ 224 وما بعدها).
([9]) تفسير ابن كثير (1/ 400).
([10]) جامع البيان (2/ 555) بتصرف.
([11]) متفق عليه، أخرجه البخاري (3456) ومسلم (2669).
([12]) قواعد وضوابط منهجية للردود العقدية، أحمد قوشتي (1/288).
([13]) الفوز الكبير، ولي الله الدهلوي (ص: 61).
([16]) ينظر: قصة الفلسفة الحديثة، زكي نجيب محمود (ص:244).
([17]) لماذا لست مسيحيا؟ مجلة “أنا أفكر” (6/21).
([18])ينظر: قصة الفلسفة الحديثة، زكي نجيب محمود (ص:477).
([19]) فمن خلق الله؟ سامي عامري (ص: 15).
([22]) ينظر: درء التعارض لابن تيمية (3/314 – 315).
([23]) البصائر النصيرية للساوي (ص:220)، وقد عرفها ابن سينا بقوله: “قضايا ومقدمات تحدث في الإنسان من جهة قوته العقلية، من غير سبب يوجب التصديق بها إلا لذواتها”. ينظر: النجاة لابن سينا (ص:64)، بيان تلبيس الجهمية لابن تيمية (4/561).
([24]) الفصل لابن حزم (1/ 11 وما بعدها).
([25]) الرد على المنطقيين لابن تيمية (ص: 249).
([26]) ينظر: في قراءة النص الديني لـ عبد المجيد الشرفي وآخرون (ص42).
([27]) ينظر: الإسلام بين الرسالة والتاريخ لعبد المجيد الشرفي (ص34 وما بعدها).
([28]) ينظر: معجم العلوم الإنسانية لـ(جان فرانسوا دورتيه) (ص372 وما بعدها).
([29]) ينظر: تاريخية الفكر العربي الإسلامي لـمحمد أركون (ص10).
([30]) ينظر: آراء أهل المدينة الفاضلة للفارابي (ص76)، فصوص الحكم للفارابي (ص37)، الشفاء في الإلهيات لابن سينا (ص435)، في الفلسفة الإسلامية منهج وتطبيقه، د. إبراهيم مدكور (ص112 وما بعدها).
([31]) النقض على المريسي (ص: 230).
([32]) العقيدة والشريعة في الإسلام (ص: 49 وما بعدها).
([33]) أصول الفقه ليوسف شاخت، نقلا عن: دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه، محمد مصطفى الأعظمي (2/ 422).
([34]) نقلا عن: الرد على مزاعم المستشرقين جولدتسهير ويوسف شاخت ومن أيدهما من المستغربين (ص: 12).
([35]) نقلا عن: دراسات في الحديث النبوي، محمد مصطفى الأعظمي (2/442).
([36]) من وصية عمرو بن عبيد يوصي أصحابَه بالاستماع لخَتَنِه واصل بن عطاء، ويسقط من شأن العلماء، ينظر: الضعفاء، للعقيليِّ (3/ 285).
([37]) قول أحد زعماء المبتدعة يقول على سبيل الاستصغار والاحتقار ينظر: الاعتصام، للشاطبيِّ (2/ 239).
([38]) ينظر: مناظرة رشيد حمامي للدكتور منقذ السقار، وهي منشورة على اليوتيوب
([39]) ينظر: قواعد وضوابط منهجية للردود العقدية، أحمد قوشتي (1/288).
([40]) مداخلة من الدكتور على حلقة في برنامج حوارات نماء بعنوان: الأسباب المعرفية للإلحاد بين الشباب العربي، وهي منشورة على اليوتيوب.