الإمام سعود بن عبد العزيز ودعوى التحالف مع بونابارت
جميلٌ أن يُسَرَّ الإنسان ببعض ما يكتبه الأوروبيون عن تاريخ الدولة السعودية سواءً أكانت هذه الكتابات إضافات تاريخية أم نقل مجرد وأمين لثقافتنا إلى قُرَّائهم ، ففي كلا الأمرين فوائد جمة ، وينبغي أن يتوقف الأمر ههنا ، لا أن يصل إلى أن نَطِيرَ فرحاً بكتاباتهم ، وكأننا وكأن تاريخنا في حاجة إلى تزكياتهم.
وقد لاحظت أن أغلب من كتب عن التاريخ السعودي من الأوروبيين لا يأتون بجديد ذي بال ، وهذا الجديد الذي قد يأتون به لا يمكن التسليم لهم به لمجرد كونهم أوروبيين ؛ بل هو محل بحث وتمحيص ، وغالباً ما ينتهي هذا التمحيص إلى رد ما يزعمونه .
ومن أمثلة هذا المردود ما جاء عن علاقة التحالف بين الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد وبين نابليون بونابارت في كتاب “الملك عبد العزيز سيرة بطل ومولد مملكة ” تأليف جاك إنو ميشان والذي صدر سنة ١٣٧٣هـ ، ولا شك عندي أن تواصل بونابارت مع الإمام سعود وكذلك موافقة الإمام سعود على التحالف معه في ظل الأخطار التي كانت السعودية تواجهها إذ ذاك أمر مُتَصَوَّر عقلاً ، ومقبول شرعاً ، وليس خلافي مع يؤيدي ما ادعاه الكاتب في إمكان المُدَّعى العقلي أو جوازه الشرعي ، لكن الخلاف في حقيقة وقوعه .
وقد نشر أحدُ الباحثين هذا الكتاب قبل أيام في مواقع التواصل ، وقال إنه أولُ نشر إلكتروني له ، وأنه يُقَدمه هدية للمواطنين بمناسبة اليوم الوطني ، وما أسرع أن لفتت هذه المعلومة المزعومة عن التحالف نظر بعض القراء المناوئين للدعوة السلفية فأحس أنه اصطاد مثلبة في التاريخ السعودي السلفي ، والحقيقة أنه ليس في هذا التحالف مثلبة لو كان صحيحاً ، فقد كان العداء العثماني للسعودية يُنذر بالمصير الذي آلت إليه الدولة فيما بعد ، وهو ما يُسَوِّغ مثل هذا الحلف لو تم ، لكن لا يوجد أدلة مطلقا على حدوثة حتى الآن .
فلا يوجد وثائق سعودية أو فرنسية أو إنجليزية تؤكد هذه الرواية ، والمؤلف لم يذكر مصدراً لمعلوماته حتى يقوم الباحثون بتقييمها سوى أنه زعم أن نابوليون أوفد مبعوثه لاسكاريس إلى الإمام سعود ، وأن لاسكاريس هذا هو من وَقَّع المعاهدة الفرنسية السعودية ، وذِكْرُ لاسكاريس هنا يعني أن مصدر المؤلف في المعاهدة المزعومة هو مذكرات فتح الله ولد أنطوان الصايغ الذي صحب لاسكاريس مترجماً له في رحلته إلى الشرق ، وهي رحلة اشتراها الأديب الفرنسي لامارتين من فتح الله وترجمها إلى الفرنسية وأصبحت مصدراً للمعلومات عند من صَدَّقها من السياسيين والمؤرخين في أوروبا ، وغيرُ هذه القصة لا يوجد وثيقة واحدة تدل على أي تواصل بين نابليون أو الحكومات الفرنسية وبين الدولة السعودية الأولى ، ولذلك فالغالب أن جاك إنو ميشان ليس لديه مصدر لما ذكره من التحالف سوى مذكرات الصايغ التي ترجمها لامارتين .
فإذا كان الأمر كذلك فمذكرات الصايغ قد طُبِعَ ولله الحمد أصلُها العربي بتحقيق الدكتور يوسف شلحد ، وبالرجوع إليها يمكننا التحقق من أن ما ذكره ميشان من نبأ هذا الحلف ليس إلا تحليل من المؤلف أو من لامارتين أو نِتَاج خطأ في الترجمة من العربية إلى الفرنسية.
وذلك أن محتوى مذكرات الصايغ كما في الطبعة المحققة لا يؤيد دعوى وجود تحالف بين الإمام سعود ونابليون ، حيث ذكر الصايغ :أن لاسكاريس لم يُسافر معهم إلى الدرعية ولم يقابل الإمام سعودا ؛ بل بقي في الشام مع قبيلة الرولة تحت اسمٍ تمويهي وهو الشيخ إبراهيم ، فَطَرَف المعاهدة الموهومة الممثل لنابليون لم يكن شاهداً،الأمر الذي ينسف زعمَ التحالف السعودي الفرنسي.
كما ذكر فتح الله ان التعاهد الذي دار في الدرعية انما كان بين الإمام سعود وبين الدريعي بن شعلان شيخ قبيلة الروله من عنزة ،ومقتضى هذا التحالف :أن يتخلى بن سعود للدريعي عن النفوذ في بلاد الشام وأن يكونا جميعاً يداً على من عاداهما سلماً لمن سالمهما،وليس هناك اي ذكرٍ في هذا التحالف لفرنسا، او لنابليون بونابارت ،سوى ان فتح الله زعم ان الإمام سعوداً ابدى اعجابهُ بالإنبراطور الفرنسي وهذا لا ضير فيه فنابليون حقاً قائدٌ مثيرٌ للإعجاب.
كما أن لاسكاريس بعدما رجع اليه مترجمهُ فتح الله الصايغ لم يلتقِ بنابليون ولا بأيٍ من ممثلي الحكومةِ الفرنسية ليعرض عليهم ما دار في الدرعية على فرضِ ان هناك حلفٌ بين الطرفين ، لأن الحلف لا يكون إلا بإمضاء كلا طرفيه ؛وإنما الذي حصل عكس ذلك تماماً ، إذ إنَ لاسكاريس ذهب الى اسطنبول وعلم هناك بسقوط حكومة نابليون وهزيمتهِ في روسيا، الأمر الذي تسبب في اسفٍ كبيرٍ له، وعاد الى الشام ثم ذهب الى مصر ومات هناك،واستولى القنصل البريطاني كما يذكر فتح الله الصايغ على جميع وثائقهِ ومذكراته،وذكر لامارتين ان هذه المذكرات قد اختفت منذ ذلك اليوم .
وأنا أقول: لو كان لهذه الوثائق وجود حقيقي ، لرأيناها اليوم في أحد المتاحف البريطانية ، لأن القنصل الإنجليزي لن يأخذها لنفسه وسيسلمها لقيادته ، ومعروف عن الإنجليز احتفاؤهم بالوثائق وإظهارهم للقديم منها مما لم يعد هناك ضرر يُخشى من إظهاره.
فأين هذه المعاهدة او هذا الحلف اذاً!؟
الجواب:إنه لم يوجد حلف اصلاً إلا في مخيلةِ جاك إينو ميشان.
والعجيب أن ميشان بنى على هذه المعاهدة التي تخيلها انها ساعدت الإمامَ سعوداً في غزوِ العراق والشام،وهذا من أعظم الأوهام التاريخية،إذ إن هذه المعاهدة المزعومة كانت عام ١٨١٢ بالتاريخ الميلادي ١٢٢٧ للهجرة ، وغزو سعود للعراق والشام كان بين عامي ١٨٠٢ و ١٨٠٤م ١٢١٧و١٢١٩ هـ أي أن بين الحادثتين ١٠ سنوات فكيف تكون الحادثةُ المتأخرة سبباً للحادثةِ الأولى ؟!
اضف الى ذلك ان دولة محمد علي باشا التي تكونت بعد ذهاب الفرنسيين من مصر بأربع سنوات ١٨٠٥م والمترجح ان فرنسا كانت داعمةً لنشوئِها هناك ، نكاية بالدولة العثمانية ، وتنفيذاً للمشروع الذي رفعهُ لاسكاريس نفسه عند عودتهِ مع الجيش الفرنسي المنهزم من مصر عام ١٨٠١م وهو مشروع استقلال مصر ، الذي روى قصته الدكتور محمد شفيق غربال في كتابهِ الجنرال يعقوب والفارس لاسكاريس ؛ولا يخفى أن فرنسا كانت داعماً مهماً لغزو محمد علي لإسقاط الدرعية بالمهندسين والخبراء ، كما يتضح ذلك جليا في كتاب فيليكس مانجان تاريخ مصر في عهد محمد علي ، والذي لم يُشر إلى أي تخالف سعودي فرنسي مع طول إقامته في مصر ومعرفته يلاسكاريس ، واطلاعه على الكثير إن لم نقل كل الوثائق الفرنسية في مصر ، خاصة وأنه صديق خاص لوزير الدولة الفرنسي للشؤون الخارجية دو شاتو بريان ، كما أفاد ذلك الدكتور عبدالله العسكر رحمه الله في أحدى مقالاته بصحيفة الرياض .
إذن فهذا الحلف بين الإمام سعود وبين نابليون زعم لا حقيقة له.
هذا وكان علَّامة العرب في العصر الحديث الشيخ حمد الجاسر ، كتب عدة مقالات عن كتاب إنو ميشان عن الملك عبدالعزيز أثنى عليه فيها يسيراً كما هي عادته في ذكر محاسن مخالفيه ثم تعقبه بتعقبات كثيرة ، وتعقب ترجمته الأولى لعبد الفتاح ياسين، وعجبتُ أن ليس منها نقد لزعم التحالف مع نابليون ، لكن كما قيل : كم ترك الأول للآخر [دراسات وبحوث في تاريخ الملك عبد العزيز ،ص٢٧٧ -٣٢٠]
أما رحلة عبد الفتاح الصايغ فكثير من المتخصصين كَذَّبُوها، ورأوا أنها محض خيال من المؤلف ، فقالت مجلة الجمعية الآسيوية للمستشرقين سنة ١٨٧٢م إنها رحلة وليدة الخيال كتبها رجل عارف بأحوال البادية[مقدمة تحقيق رحلة الصايغ ص١٥].
وعرض أحد القناصل الفرنسيين في جدة زمن حكم محمد علي رحلة الصايغ مترجمة للعربية عن لامارتين على الشيخ أحمد بن رشيد الحنبلي ، فَكَذَّب كل ما ذكره الصايغ عن الدرعية وعن الإمام سعود ، ونشر محقق رحلة الصايغ د يوسف شلحد نص جواب الشيخ ابن رشيد [ت١٢٥٧] في ملاحق الرحلة .
ويرى المحقق أن تكذيب المستشرقين والشيخ الحنبلي للرحله بسبب أخطاء الترجمات ، وأن المخطوط العربي الأصلي يدل على صحة ما ذكره الصايغ لولا المبالغات الكثيرة.
وفيما يتعلق بموضوع هذا المقال فإن المخطوط العربي لا يدل على صدق ما يدعيه جاك إنو ميشان في كتابه عن الملك عبد العزيز.