علم المصطلح المعاصر والمصطلح الحديثي
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
المقدمة:
المصطلحات هي من مفاتيح العلوم، وقد قيل: إنّ فهم المصطلحات نصف العِلم؛ لأنّ المصطلح هو لفظ يعبر عن مفهوم، والمعرفة مجموعة من المفاهيم التي يرتبط بعضها ببعض في شكل منظومة، وقد ازدادت أهميّة المصطلح وتعاظم دوره في المجتمع المعاصر الذي أصبح يوصف بأنّه (مجتمع المعلومات) أو (مجتمع المعرفة)، حتّى إنّ الشبكة العالمية للمصطلحات في فيينا بالنمسا اتّخذت شعار (لا معرفة بلا مصطلح)([1]).
والتقدم العلمي في علم المصطلح يكشف لنا عن جانب من جوانب سبق جهابذة الحديث وتميُّزهم وإبداعات عقولهم وبنات أفكارهم، فقد ظهر مؤخرًا علم المصطلح على يد السوفييتي (لوتا) والألماني (فوستر)، والذي يبحث في الأسس العلمية للمصطلحات ويبحث في حيثياتها وطرقها وقوانينها، سواء العامة أو الخاصة بكل علم.
وحين نعلم أن أول فتيل أشعل لوضع المصطلحات العلمية المجمع عليها كانت بتوصية اللجنة الدولية للصناعات الكهربائية في 1904م لسكِّ مصطلحات موحدة بينهم؛ ليبنوا عليها ما بعدها من المهام العلمية والعملية، وأن أهل الحديث قد سبقوا إلى مثل هذا الأمر بقرون، فحري بنا أن نقف وقفة إعجاب بهؤلاء الجهابذة من أهل الحديث، وهو ما نحاول إبرازه في هذه الورقة، والحال كما ذكر الإمام المعلمي حين قال: “ومن مارس أحوال الرواية وأخبار رواة السنة وأئمتها علم أن عناية الأئمة بحفظها وحراستها ونفي الباطل عنها والكشف عن دخائل الكذابين والمتهمين كانت أضعاف عناية الناس بأخبار دنياهم ومصالحها”([2]).
مفهوم المصطلح:
المصطلح لغة: مشتق من مادة اصطلح، وهو يدل على معنين اثنين: الأول: ما هو ضد الفساد، قال ابن فارس: “الصاد واللام والحاء أصل واحد يدل على خلاف الفساد”([3]). والثاني: الاتفاق([4]).
وأما معنى المصطلح اصطلاحا: فله تعريفات كثيرة منها:
ما ذكره الأستاذ أحمد الشاوي بقوله: “لفظ يطلق على أنواع مختلفة من الألفاظ أو التسميات والإشارات المستعملة في علوم متباينة الدقة من مصطلحات أدبية تتميز بالتلوين الدلالي والتنويع اللفظي، إلى مصطلحات العلوم الرياضية، وما إلى ذلك”([5]).
ويقول الأستاذ إميل يعقوب في تعريفه: “لفظ علمي يؤدي المعنى بوضوح ودقة، يكون غالبًا متفقا عليه عند علماء علم من العلوم أو فن من الفنون”([6]).
ويعرفه الأستاذ عز الدين البوشيخي: “كلمة تتميز بانتمائها إلى معجم خاص، وباستعمالها من قبل المختصين في ميدان معرفي محدد”([7]).
واختار د. عبد الكريم بكري أن يكون تعريفه: “لفظ خصصه الاستعمال في علم من العلوم أو فن من الفنون لمفهوم معين”([8]).
وعرفه د. سعود العتيبي بقوله: “الكلمة التي خصصها الاستعمال في علم من العلوم، أو فن من الفنون، أو صناعة من الصناعات بمفهوم معين”([9]).
وبهذا يتبيَّن أنه ليس كل مفردة لغوية تسمَّى مصطلحًا، بل ما خصصه الاستعمال بأن أخرجت من دائرة الاستعمال اللغوي العام إلى استعمال اصطلاحي خاص.
متى نشأت المصطلحات؟
إذا تساءلنا عن أول وجود للمصطلحات فإنها وجدت ولا شك مع وجود الإنسان الأول، فوجودها قديم وإن لم تكن تسمَّى مصطلحات؛ حيث ثمة تلازم بين الدين والمصطلحات، وآدم عليه السلام لا شك أنه كان على التوحيد، وكل دين لا يخلو من مصطلحات دينية وعقدية وشرعية، وكل ديانة من الديانات القديمة وحضارة الحضارات القديمة كانت لها مصطلحات تخصها؛ فالكونفوشيوسية والكارما والمثل الأفلاطونية كلها مصطلحات ذات دلالات في الحضارات القديمة.
وأيضا هناك تلازم بين العلم والمصطلح، ولا يكاد يخلو علم من العلوم من المصطلحات الخاصة بها، فنشأة المصطلحات قديمة([10]).
ظهور علم المصطلح كعلم مستقل في عصرنا الحاضر:
ولكن ظهر في عصرنا الحاضر من اعتنى بأمر المصطلحات وجعله علمًا مستقلًّا من العلوم، فعلم المصطلح أحد العلوم التي يمكن القول بأنه انفصل حديثًا وأصبح علمًا مستقلًّا برأسه.
وقد عرفته المنظمة الدولية للمواصفات القياسية بأنه: “دراسة ميدانية لتسمية المفاهيم التي تنتمي إلى ميادين مختصة من النشاط البشري باعتبار وظيفتها الاجتماعية”([11]).
واختار الأستاذ علي القاسمي أن يعرفه بقوله: “العلم الذي يبحث في العلاقة بين المفاهيم العلمية والمصطلحات اللغوية التي تعبر عنها”([12]).
وعرفه د. سعود العتيبي بقوله: “علم يبحث في الأسس العلمية لوضع المصطلحات والعلاقة فيما بينها وتوحيدها وكيفية الاستفادة منها”([13]).
ويذكر الأستاذ علي القاسمي المشكلة البحثية التي ولَّدت هذا العلم بأن: التقدم المعرفي والتكنولوجي أدَّى إلى توليد جملة من المفاهيم، وبالتالي ضخّ عدد كبير من المصطلحات؛ وهو ما أدّى إلى صعوبة إيجاد مصطلحات كافية شافية، إذ لا تطابق بين عدد المفاهيم العلميّة المتنامية وعدد المصطلحات التي تعبّر عنها؛ فعدد الجذور في أيّة لغة لا يتجاوز الآلاف، في حين يبلغ عدد المفاهيم الموجودة الملايين وهي في ازدياد ونمو مضطردين.
ومن هنا لجأ أهل اللغات إلى التعبير عن المفاهيم الجديدة بالمجاز والاشتراك اللفظيّ وغيرهما من الوسائل الصرفيّة والدلاليّة.
ولكن ذلك قد يسبب اضطرابًا لاختلاف طرق التعبير من لغة إلى أخرى؛ مما يؤدّي إلى صعوبة تبادل المعلومات وتنميتها؛ فأُنشئ علم المصطلح في القرن العشرين لتوحيد المبادئ التي تتحكّم في إيجاد المفاهيم أو تغييرها، وفي وضع المصطلحات المقابلة لها وتعديلها([14]).
وقد كانت نشأة هذا العلم على يد كل من السوفييتي (لوتا) والألماني (فوستر)، والذي جعله في حقل علم اللغة التطبيقي([15])، ومدار علم المصطلح على الأهداف التالية:
- محاولة بناء الأسس العلمية لوضع المصطلحات.
- توحيد المصطلحات.
- تقريب وسائل الاستفادة من جميع المصطلحات؛ بتدوينها وإخراجها في معاجم مصطلحية([16]).
تميز المسلمين بإبداع المصطلحات وجهابذة الحديث على وجه الخصوص:
من نظر إلى علوم المسلمين من جهة لغتهم وغزارتها ومن جهة علومهم ومناهجها وأوعيتها وألفاظها ومعانيها لا يملك إلا أن يقف عندها وقفة انبهار وإكبار.
فلئن نظرنا إلى ثروتها اللغوية ومخزونها من المفردات عامة -مصطلحات أو غيرها- وجدنا اللغة العربية تقدر ثروتها اللفظية بحوالي (12305412) كلمة تتألف من (180) ألف مادة، ويقدر المستخدم منها حوالي عشرة آلاف فقط.
بينما لو قارناها بلغة أخرى -ولتكن اللغة الإنجليزية على سبيل المثال- نجد أن ثروتها اللغوية تقدر بحوالي (790) ألف كلمة([17]).
وإلى جانب هذه الغزارة في الثروة اللغوية التي يملكها المسلمون، فلقد أبدعوا في إعمال المناهج العلمية وسبك أفضل العلوم على ذلك وسك أجود المصطلحات وأقواها، بل تميزوا بغزارة مصطلحاتهم وكثرتها ودقتها واهتموا بمعرفة معانيها وجمعها وتصنيفها ومعالجتها في الدروس العلمية والقماطر.
وفي كل علم من العلوم الإسلامية نجد المصطلحات حاضرة سواء التفسير أو الحديث والنحو والفقه والأصول وغيرها مذ فجر الإسلام، ونجد المصنفات المخصصة للمصطلحات، سواء مصطلحات علم من العلوم؛ ككتاب الحدود للكسائي (ت: 189هـ)، والحدود للفراء (ت: 207هـ)، والحدود لأبي عبيدة معمر بن المثنى (ت: 209هـ)، ورسالة المصطلحات الفلسفية للكندي (ت: 260هـ) وغيرها، أو معاجم المصطلحات كما في كتاب مفاتيح العلوم لأبي عبد الله الخوارزمي (ت: 387هـ)، وكتاب التعريفات للجرجاني (ت: 816هـ)، وكتاب الكليات لأبي البقاء الكفوي (ت: 1094هـ)، وكتاب كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي (ت: 1158هـ) وهو أوسعها، وألف الأحمد نكري كتاب “مصطلحات جامع العلوم”.
ومن أسبق مَن تميز بإبداع المصطلحات وأبرزِ مَن فاق في غزارتها وقوة العناية بها جهابذةُ الحديث، مذ عرفت البشرية العلوم والمصطلحات وحتى يوم الناس هذا، فهو أوسع حقل من حقول العلم التي اعتنت بالمصطلحات وبيانها وكشف ضوابطها وشروطها وأحوالها وتفصيل كل حال دقيقة بمصطلح يخصها، ويذكر الأستاذ علي القاسمي أن مَن يدقّق النظر في المؤلَّفات العربيّة التراثيّة يجد أنّها تشتمل على لفظَي “مصطلح” و”اصطلاح” بوصفهما مترادفين. وأن علماء الحديث كانوا أوّل من استخدم لفظ “معجم” ولفظ “مصطلح”([18]). ويكمن إبداع المحدثين في كونهم من أسبق الناس إلى سبك المصطلحات، وأيضًا كونهم أبدعوا هذه المصطلحات من عند عقولهم ولم يستقوها من ثقافات الآخرين وفكرهم وتراثهم، بل كانت المصطلحات الحديثية بنات عقول المحدثين أنفسهم، فمصطلح الصحيح والحسن والضعيف والمتروك والشاذ والمنكر والمعلّ والموضوع والضبط والعدالة والمرسل والمعضل والمنقطع والمعلَّق والمدبّج والمتّفق والمفترق والمؤتلف والمختلف والمشكل والمختلف وغيرها كثير، كلها مصطلحات حديثية صرفة لم يشارك في صياغتها وسبكها أي عقل من عقول غير المحدثين، بل هم من سبكوها وصاغوها كلما دعت الحاجة إلى ذلك، فكلما ظهرت مشكلات جديدة في الحديث النبوي صاغوا له قوانين جديدة، وأبدعوا له علومًا جديدة، وسبكوا لها المصطلحات، ومن مكامن البراعة والإبداع في المصطلحات الحديثية أنها متوافقة مع اللغة، فالمصطلحات الحديثية مسبوكة بلغة الإسلام، وروعي فيها العلاقة بالمعنى اللغوي، حيث إن غالب المصطلحات الحديثية مترابطة مع أصلها اللغوي.
بل إن جهابذة الحديث قد جعلوا له شقًّا كبيرًا من ماهية علم الحديث، فعلم المصطلح الحديثي هو أحد أهم أقسام علوم الحديث، وله عقدت الدروس وأثنيت الركب منذ عهد قديم، وفيه أفردت المؤلفات ما بين نثر ونظم ومطول ومفصل ومختصر وشرح وحاشية واستدراك ونقد وغيرها، بل لا زالت الأقسام الحديثية في الجامعات تتناول هذه المصطلحات دراسة وتحقيقًا وتفصيلًا في مراحل الدراسات العليا.
فلئن خصص أهل العلوم معاجم أو فهارس لمصطلحات علومهم باجتهاد مجتهد منهم، فلقد خصص جهابذة الحديث عقولًا فذَّة ومكتبة ضخمة في هذا الباب، ولندع أسماء تلك الكتب وتواريخ ميلادها تتحدّث عن نفسها، فالمُحَدِّث الفاصِل بين الراوي والواعي للرَّامَهُرْمُزِي (ت: 360هـ)، ومعرفة علوم الحديث للحاكم (ت: 405هـ)، والمُسْتَخْرَج على معرفة علوم الحديث لأبي نُعَيْم الأصبهاني (ت: 430هـ)، والكفاية في علم الرواية، والجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع كلاهما للخطيب البغدادي (ت: 463هـ)، والإِلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع للقاضي عياض (ت: 544هـ)، وما لا يَسَعُ المُحَدِّثَ جَهْلُهُ للمَيَانَجِي (ت: 580هـ)، وعلوم الحديث لابن الصلاح (ت: 643هـ)، والتقريب للنووي (ت: 676هـ)، والموقظة للذهبي (ت: 748هـ)، وألفية العراقي (ت: 806هـ)، ونخبة الفكر، وشرحها: نزهة النظر كلاهما لابن حجر (ت: 852هـ)، وشرح ألفية العراقي للسخاوي (ت: 902هـ)، وتدريب الراوي للسُّيوطي (ت: 911هـ)، وغيرها كثير وكثير.
فأين هذا من علوم لم يعرف لها سوى فهرس لمصطلحاتها أو معجم أو اثنين؟!
وهذا عن الكتب المصنفة بخاصة لمناقشة المصطلحات الحديثية بمجموعها، وأما أول ظهور للمصطلحات الحديثية في المؤلفات فكان مع الكتب المؤلفة لمناقشة مصطلح بعينه، فقد ألف النضر بن شميل (ت: 203هـ) وأبو عبيد القاسم بن سلام (ت: 224هـ) في “غريب الحديث”، وعلي ابن المديني (ت: 234هـ) في العلل وغيره، والبخاري (ت: 256هـ) في التاريخ وغيره، ومسلم (ت: 261هـ) في المقدمة، والتمييز، والطبقات، وأبو داود (ت: 275هـ) في رسالته إلى أهل مكة وغيرها.
بل قد ظهرت المصطلحات قبل هذا الوقت بكثير، فنجد التابعي الجليل الإمام محمد بن سيرين (ت: 110هـ) يحدد لنا مرحلة من المراحل في الحفاظ على السنة النبوية وينطق بأحد المصطلحات الحديثية يقول: “لَم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سَمُّوا لنا رجالَكم، فينظر إلى أهل السنة فيُؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدَع فلا يؤخذ حديثهم”([19]).
فالمصطلحات الحديثية موجودة منذ ذلك الوقت، فهي من أسبق المصطلحات في تاريخ العلوم الإسلامية، يقول الدكتور فاروق حمادة: “إن المصطلح الحديثي أسبق مصطلحات جميع العلوم العربية والإسلامية في الظهور والاكتمال والانتشار والاستقرار، ثم تبعته المصطلحات الأخرى، وفي طليعتها مصطلحات النحو، ثم مصطلح أصول الفقه”([20]).
أهل الحديث سبكوا المصطلحات بحسب حاجة علم الحديث وليس ترفًا علميًّا:
هذا ما يلمحه الناظر حين يقرأ قول ابن سيرين السابق: “لَم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سَمُّوا لنا رجالَكم، فينظر إلى أهل السنة فيُؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدَع فلا يؤخذ حديثهم”([21]).
فالإمام ابن سيرين يبيِّن لنا أن أهل الحديث قبل عصره لم يكونوا بحاجة إلى إسناد وغيره؛ حيث لم يعرف الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، والعهد قريب من عهد النبوة، فلم تظهر الحاجة إلى كثير من المصطلحات الحديثية المعروفة اليوم، والتي جاءت بعد فشو الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم وطروء إشكالاته، فالصحابة في العهد النبوي كان دورهم الحرص على التلقي من النبي صلى الله عليه وسلم وحفظ الحديث وضبطه والعمل به وتبليغه، وقد كانوا من أحرص الناس، فلقد كان منهم من ترك الأسواق والأعمال والتجارات ورضي بالكفاف في سبيل حفظ الحديث النبوي كما فعل أبو هريرة رضي الله عنه([22])، ومنهم من كان يجعل للحديث النبوي يومًا ولكسب العيش يومًا كعمر بن الخطاب ولكن كان يتناوب هو وجاره الأنصاري على تناقل ما لم يسمعه([23])، وبلغ من حرصهم على معرفة حديث النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله أنهم كانوا يحفظون كل أحواله ويسألون عن كل أموره وحركاته وسكناته وسكتاته كما في حديث دعاء الاستفتاح([24])، وكانوا يعتنون بضبط ما يروون عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه سمع عبيد بن عمير يحدث فيقول: «مثل المنافق كمثل الشاة الرابضة بين الغنمين». فقال ابن عمر رضي الله عنهما: ويلكم! لا تكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين»([25]).
وكان ابن عباس قد جاءه رجل يحدِّث فلا يلتفت إليه، فلما سُئل قال: “إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف”([26]).
وبعد جيل الصحابة بدأ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم يظهر، ومع ظهوره ظهر جهابذة الحديث الذين اخترعوا كل وسيلة يحتاج إليها وسبكوا لكل حالة من حالات الحديث النبوي مصطلحًا ولكل وسيلة من وسائله مصطلحًا، ومن أوائل المصطلحات والأدوات مصطلح “الإسناد” الذي ذكره الإمام ابن سيرين، وقد جعله أئمة الحديث درعًا وحصنًا دون ولوج الكذابين إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما استعجم على الناس شيء مما في الحديث النبوي من الألفاظ أنشأ أهل الحديث لشرح تلك الألفاظ علم “غريب الحديث“، وجعلوا له هذا المصطلح، ولما ظهر الكذب وطرأت البدع وأهلها بحث أهل الحديث من تقبل روايته ومن لا تقبل، وسبكوا مصطلحي “العدالة” و”الضبط”، وتكلموا على من كثر غلطه، ولما ظهرت علل الحديث ظاهرها وخفيُّها كتب أهل الحديث عن ذلك وجعلوه مصطلحًا عليه، ولما ظهر إسقاط أسماء من فوق التابعي من الأسانيد سبكوا له مصطلح “الإرسال” وسموه بالمرسل، وكذلك وجد من يروي عمَّن عاصره ما لم يسمعه منه، فبحثه أهل الحديث وسبكوا له مصطلح “المرسل الخفي”، وأيضًا وجد من يروى عمَّن سمع منه ما لم يسمع منه فتناوله المحدِّثون بالبحث والدراسة وسبكوا له مصطلح “التدليس”، وفرَّقوا بين عنعنة المدلس وغيره المدلس، وغالب هذه المواضيع تكلم عليها أئمة الحديث كالإمام الشافعي في رسالته حيث ظهرت في عصورهم، ولما اختلط الصحيح بغيره من الأحاديث انبرى له جهابذة المحدثين وأفردوا الصحيح في مصنفات مستقلة كالبخاري ومسلم وابن خزيمة وظهر مصطلح “الصحيح”، وعني آخرون بجمع الأحاديث بطريقة المسانيد فظهر مصطلح “المسند”، ولما تقادم الزمان واحتاجوا إلى معرفة الرجال ظهر “علم الرجال” و”علم الجرح والتعديل”، وهكذا كلما احتاج الحديث النبوي إلى عملية علمية معينة انبرى لها جهابذة الحديث، وسبكوا له مصطلحًا من المصطلحات يدل عليه، فأهل الحديث يعتبرون من أبرع الناس في معايشة الواقع وطوارئه وإشكالاته، وفي سكِّ مصطلح لكل نوع وحالة من حالات الحديث.
دقة المصطلحات الحديثية وإتقانها:
وبعد الحديث عن معايشة جهابذة الحديث لحاجة علمهم ومتطلبات واقعه ندلف إلى بيان دقة مصطلحاتهم وغزارتها، فلما كثرت الروايات وجمعت في الكتب الحديثية واحتاج أهل الحديث إلى التقسيم التفصيلي والدقة في فرز الأحاديث، جعلوا لكل نوع وكل حالة وتفصيل مصطلحًا يخصه بكل دقة؛ ليعرف به ويميز عن غيره بأقل كلفة، فمثلًا ما هو في أعلى حالات القبول له مصطلح، وما هو أقل من ذلك بقليل له مصطلح، وما كان في درجة متوسطة له مصطلح، وما كان في درجة أدنى من المتوسط له مصطلح، وما كان لم يعرف فيه مواصفات القبول ولكن قد نجد لها ما يدعمها من الروايات فهذا له مصطلح يخصه، وما لا يقبل مطلقًا ولا يتوقع فيه أن يرتقي فله مصطلح، وما كان من رواية الكذابين والوضاعين فله مصطلح.
يقول ابن حجر (ت: 852هـ): “وخبر الآحاد: بنقل عدل تام الضبط، متصل السند، غير معلل ولا شاذ هو الصحيح لذاته.
وهذا أول تقسيم المقبول إلى أربعة أنواع؛ لأنه إما أن يشتمل من صفات القبول على: 1- أعلاها، 2- أو لا. الأول: الصحيح لذاته، والثاني: إن وجد ما يجبر ذلك القصور ككثرة الطرق، فهو الصحيح أيضا، لكن، لا لذاته.
3- وحيث لا جبران فهو الحسن لذاته.
4- وإن قامت قرينة ترجح جانب قبول ما يتوقف فيه فهو الحسن أيضا لا لذاته”([27]).
وهكذا جمعوا الأحاديث التي رويت عنه صلى الله عليه وسلم، واستقرؤوا أنواع تلك الأحاديث والروايات وأسباب قبولها وردها، ثم صنفوها وجعلوا لكل صنف ونوع اسمًا من الأسماء أو مصطلحًا من المصطلحات وشروطًا وقوانين تضبطها.
وهنا تكمن براعة المحدثين حيث لم يكتفوا بمجرد وضع الاصطلاحات للمواضيع العامة العريضة، بل جعلوا لكل حالة من أحوال الحديث مصطلحًا يخصُّه، ويزداد هذا الأمر جلاء إذا نظرنا إلى مصطلحاتهم التي وضعوها للحديث الضعيف، فلكل سبب من أسباب الضعف ولكل مشكلة من مشكلات الحديث سبكوا مصطلحًا يخصُّه، وأفردوا له فصلًا يبحث في أحكامه وأحواله، يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: “ثم المردود: إما أن يكون لسقط أو طعن، فالسقط: إما أن يكون من مبادئ السند من مصنِّفٍ، أو من آخره بعد التابعي، أو غير ذلك”([28]).
ثم كل سبب من أسباب الضعف هذه له مصطلح يختص به، يقول رحمه الله: “
- فالأول: المعلق.
- والثاني: هو المرسل.
- والثالث: إن كان باثنين فصاعدا مع التوالي فهو المعضل.
- وإلا فالمنقطع”([29]).
ثم الانقطاع أيضًا فيه تفصيل كما ذكر في النوع الثالث، فقد فرَّقوا بين الانقطاع برجلين فجعلوا له مصطلحًا يخصه وهو المعضل، وأما الانقطاع برجل واحد فجعلوا له مصطلح المنقطع، وكذلك فرقوا بين الانقطاع الظاهر والانقطاع الخفي، وجعلوا لكل نوع اسمًا وأحكامًا وضوابط وشروطًا.
يقول الحافظ: “ثم قد يكون واضحًا أو خفيًّا:
فالأول: يدرك بعدم التلاقي، ومن ثم احتيج إلى التأريخ.
والثاني: المدلّس، ويرد بصيغة تحتمل اللقي: كعن، وقال، وكذا المرسل الخفي من معاصر لم يلق من حدَّث عنه”([30]).
وهذا التفصيل وهذه الدقة في تسمية كل نوع من أنواع السقط حصل كذلك في أنواع الطعون التي توجَّه للراوي كما سيأتي.
غزارة المصطلحات الحديثية وثراؤها:
لئن كان من سمات المصطلحات الحديثية الدقة والتفصيل لكل نوع من أنواعه فهي كذلك تتسم بشمولها وغزارتها، والدقة والغزارة سمتان مرتبط إحداهما بالأخرى، فلا شك أن سبك مصطلح لكل معنى دقيق من معاني علم ما من العلوم قد يؤدي إلى شموله لكل أحوال ذلك العلم وأبوابه ومسائله، وهو ما قد بلغه جهابذة الحديث بجهودهم وإعمالهم لعقولهم ونبوغهم في بناء المصطلحات، ولئن واصلنا الحديث عن النوع الثاني من أنواع الحديث المردود وهو الطعن في الراوي، فإن الطعن أنواع وتحته أبواب وأنواع، ولكلٍّ مصطلح يخصه، وهو ما يدلك على ثراء هذه المصطلحات ودقتها أيضًا، يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: “ثم الطعن: إما أن يكون لكذب الراوي، أو تهمته بذلك، أو فحش غلطه، أو غفلته، أو فسقه، أو وهمه، أو مخالفته، أو جهالته، أو بدعته، أو سوء حفظه”([31]).
وكل نوع من هذه الطعون جعلوا له مصطلحًا يخصه، وما كان من هذه الطعون يحتمل وجوهًا كثيرة جعلوا لكل وجه منه مصطلحًا يخصه.
فمثلًا: النوع الأول: وهو كذب الراوي يسمى حديثه: الموضوع.
والثاني: وهو المتهم بالكذب يسمى: المتروك.
وهكذا فرَّقوا بين كل حالة وأخرى بأدق ما يمكن، فكما ترى هنا فرَّقوا في التسمية وفي المصطلح وفي الحكم بين من هو معروف بالكذب ولا يحتاج إلى البحث في اتصافه بالكذب، وبين من هو متهم بالكذب ولكن لم نتأكد من كذبه في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا في الطعون الأخرى.
ومن الجوانب الدالة على الثراء وعلى الدقة تفصيل المفصَّل من الأنواع، حيث هناك تفصيل في بعض هذه الطعون مما يحتمل أوجهًا كثيرة، وقد جعلوا لكل وجه من تلك الأوجه مصطلحًا وفصلًا خاصًّا له في كتبهم، كما سموا من أنواع الحديث المردود ما فيه طعن في الراوي، ثم من أنواع الطعن المخالفة، ثم المخالفة نفسها على أنواع وتختلف من مخالفة لأخرى في الحكم، ولكل نوع مصطلح يخصه وفصل تعالج فيه مسائله، يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: “ثم المخالفة: إن كانت بتغيير السياق: فمدرج الإسناد. أو بدمج موقوف بمرفوع: فمدرج المتن. أو بتقديم أو تأخير: فالمقلوب. أو بزيادة راو: فالمزيد في متصل الأسانيد. أو بإبداله ولا مرجح: فالمضطرب -وقد يقع الإبدال عمدا امتحانا-. أو بتغيير مع بقاء لسياق: فالمصحف والمحرف”([32]). وليس هذا موضع بيان معنى كل مصطلح من تلك المصطلحات وشرحه، وإنما المقصود معرفة دقة جهابذة علم الحديث في مصطلحاتهم وثرائها وغزارتها.
وكذلك الحال في الطعن بالجهالة، فليس هو نوعًا واحدًا، بل هو سبب تحته أنواع وتفصيلات ومصطلحات، يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: “ثم الجهالة: وسببها أن الراوي قد تكثر نعوته فيذكر بغير ما اشتهر به لغرض، وصنفوا فيه الموضح.
وقد يكون مقلًّا فلا يكثر الأخذ عنه، وصنفوا فيه الوحدان [وهو من لم يرو عنه إلا واحد]،
أو لا يسمى اختصارًا وفيه المبهمات،
ولا يقبل المبهم ولو أبهم بلفظ التعديل على الأصح. فإن سمي وانفرد واحد عنه فمجهول العين،
أو اثنان فصاعدا ولم يوثق: فمجهول الحال، وهو المستور“([33]).
ولئن كان ما ذكرنا من أنواع المصطلحات وتفصيلاتها ودقتها وغزارتها مبهرًا فهي ليست إلا غيضًا من فيض، فإن عدَّة المصطلحات أكثر من ذلك بكثير، ومن أهل الحديث من جعل عدَّتها ثلاثة وتسعين نوعًا كما ذكر السيوطي([34])، ومنهم جعل عدتها غير ذلك([35]).
شمول المصطلحات الحديثية للأنواع والأحوال:
لا إخالك إلا وقد استبان لك جانب من ذلك في العرض السابق للمصطلحات الحديثية وبيان دقتها وإبراز غزارتها، فكما أنها عظيمة في غزارتها دقيقة في مسمياتها، فهي كذلك شاملة لغالب أنواع العلوم، وهو ما حرص عليه جهابذة الحديث، فكل شرط من شروط القبول له مصطلح يوضحه ويبينه، وكل سبب من أسباب رد الحديث له مصطلح يخصه، وفي كل سبب من تلك الأسباب تفصيلات وتحليلات خُصَّ كل تفصيل منها بمصطلح يخصه كما سبق أن بيَّنا، وإن تجاوزنا هذه المصطلحات التي سُبكت لأنواع الأحاديث فإننا نجد مصطلحات سُبكت لحامليها ورجالها، فقد دُرست أحوال كل رجل من أولئك الرجال، وتم تصنيفهم، ووضع لهم منهاج ومصطلحات لكل نوع من أنواع الرجال، ولكل حال من الأحوال بحيث لا يكاد يخرج رجل من رجال الحديث عما وضعوه من الأحوال والمصطلحات.
وهذا ما يظهر جليًّا في قول ابن أبي حاتم حين بيَّن درجات الرجال فقال: “ووجدت الألفاظ في الجرح والتعديل على مراتب شتى:
وإذا قيل للواحد: إنه ثقة أو متقن ثبت فهو ممن يحتج بحديثه.
وإذا قيل له: إنه صدوق أو محله الصدق أو لا بأس به فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه وهي المنزلة الثانية.
وإذا قيل: شيخ فهو بالمنزلة الثالثة، يكتب حديثه وينظر فيه إلا أنه دون الثانية.
وإذا قيل: صالح الحديث فإنه يكتب حديثه للاعتبار.
وإذا أجابوا في الرجل بـ (لين الحديث) فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه اعتبارا.
وإذا قالوا: ليس بقوي فهو بمنزلة الأولى في كتابة حديثه إلا أنه دونه.
وإذا قالوا: ضعيف الحديث فهو دون الثاني لا يطرح حديثه بل يعتبر به.
وإذا قالوا: متروك الحديث أو ذاهب الحديث أو كذاب فهو ساقط الحديث لا يكتب حديثه وهي المنزلة الرابعة”([36]).
فتأمل هذه المصطلحات الدقيقة والتي لا يكاد يخرج عنها حال رجل من رجال الحديث، ولم يقف الأمر على هذا المستوى من الدقة والتفصيل، بل كلما تقدَّم الحال بأهل الحديث تقدَّموا في التفصيل والدقة ليشمل كل رجال الحديث ويكونوا أكثر دقة وتمييزًا وشمولًا للرجال.
فلئن كانت مراتب الرجال التي ذكرها الإمام ابن أبي حاتم في القرن الرابع الهجري أربع مراتب، فلقد زادها الإمام ابن حجر في القرن التاسع تفصيلًا وتدقيقًا، وجعلهم على مراتب متفاوتة متعددة تدرجًا من أعلى مراتب القبول حتى أدنى أحوال الرد والتضعيف، حتى لا يكاد يخرج عن هذا القانون أحد من الرجال.
يقول ابن حجر رحمه الله: “وللجرح مراتب: وأسوؤها: الوصف بما دل على المبالغة فيه.
وأصرح ذلك التعبير بأفعل؛ كـ: أكذب الناس، وكذا قولهم: إليه المنتهى في الوضع، أو: هو ركن الكذب، ونحو ذلك.
ثم: دجال، أو: وضاع، أو: كذاب؛ لأنها وإن كان فيها نوع مبالغة، لكنها دون التي قبلها.
وأسهلها -أي: الألفاظ الدالة على الجرح-: قولهم: فلان لين، أو: سيئ الحفظ، أو: فيه أدنى مقال.
وبين أسوأ الجرح وأسهله مراتب لا تخفى.
فقولهم: متروك، أو ساقط، أو: فاحش الغلط، أو: منكر الحديث، أشد من قولهم: ضعيف، أو: ليس بالقوي، أو: فيه مقال.
ومن المهم أيضا معرفة مراتب التعديل.
وأرفعها: الوصف أيضا بما دل على المبالغة فيه.
وأصرح ذلك: التعبير بأفعل؛ كـ: أوثق الناس، أو: أثبت الناس، أو: إليه المنتهى في التثبت.
ثم ما تأكد بصفة من الصفات الدالة على التعديل أو صفتين؛ كـ: ثقة ثقة، أو: ثبت ثبت، أو: ثقة حافظ، أو: عدل ضابط، أو نحو ذلك.
وأدناها: ما أشعر بالقرب من أسهل التجريح؛ كـ: شيخ، و: يُروى حديثه، و: يعتبر به، ونحو ذلك.
وبين ذلك مراتب لا تخفى”([37]).
والمصطلحات الحديثية شملت أيضا الوسائل والأدوات التي استعملوها في سبيل حفظهم للأحاديث، ومن ذلك طرق التحمل وصيغ الأداء، فقد فرَّق أهل الحديث بين نوع وآخر من طرق التحمل، وجعلوا لكل طريقة مرتبة ومصطلحًا، فمصطلح “أخبرني فلان” و”حدثني فلان” غير مصطلح “قال فلان” و”عن فلان”، يقول الإمام النووي مبينًا أنواعها ومصطلحاتها في كتابه التقريب: “ومجامعها ثمانية أقسام:
الأول: سماع لفظ الشيخ، وهو إملاء وغيره من حفظ ومن كتاب. وهو أرفع الأقسام عند الجماهير… قال الخطيب: أرفعها: سمعت ثم حدثنا وحدثني ثم أخبرنا، وهو كثير في الاستعمال، وكان هذا قبل أن يشيع تخصيص أخبرنا بالقراءة على الشيخ. قال: ثم أنبأنا ونبأنا وهو قليل في الاستعمال. قال الشيخ: حدثنا وأخبرنا أرفع من سمعت من جهة أخرى، إذ ليس في سمعت دلالة على أن الشيخ رواه إياه، بخلافهما…
الثاني: إذا قرأ على الشيخ قائلا أخبرك فلان أو نحوه والشيخ مصغ إليه فاهم له غير منكر، صح السماع وجازت الرواية به.
الثالث: قال الحاكم: الذي أختاره وعهدت عليه أكثر مشايخي وأئمة عصري أن يقول فيما سمعه وحده من لفظ الشيخ: حدثني. ومع غيره: حدثنا. وما قرأ عليه: أخبرني. وما قرئ بحضرته: أخبرنا…
الرابع: إذا نسخ السامع أو المسمع حال القراءة.
الخامس: يصح السماع من وراء حجاب إذا عرف صوته إن حدث بلفظه أو حضوره بمسمع منه إن قرئ عليه، ويكفي في المعرفة خبر ثقة”([38]). إلى غير ذلك من تفصيلات ليس هذا محل شرحها وبيانها.
وليس المقصود هنا حصر المصطلحات أو بيانها وتفصيلها ولكن الوقوف على شمول المصطلحات الحديثية لعامة أنواع الحديث وغالب أدواته ووسائله.
وعلى هذا الشمول ينصُّ ابن الصلاح (ت: 643هـ) رحمه الله وعدم خروج شيء مما هو مهم عمَّا ذكر من الأنواع والمصطلحات، فقال: “وذلك آخرها، وليس بآخر الممكن في ذلك، فإنه قابل للتنويع إلى ما لا يحصى، إذ لا تحصى أحوال رواة الحديث وصفاتهم، ولا أحوال متون الحديث وصفاتها، وما من حالة منها ولا صفة إلا وهي بصدد أن تفرد بالذكر وأهلها، فإذا هي نوع على حياله، ولكنه نصب من غير أرب”([39]).
فالإمام ابن الصلاح بيَّن أن ما ذكره من المصطلحات شامل لجميع أنواع علوم الحديث، وأن ما ذكره إنما ذكره دون تفصيل، وأن الزيادة في التفصيل ممكن، وهو ما نجد السيوطي قد فعله بأن أوصلها إلى ثلاثة وتسعين نوعًا([40]).
وأما تتبع كل مصطلح من مصطلحات المحدثين وعمل معجم للمصطلحات الحديثية فقد اتجه له بعض علماء الحديث المعاصرين، على رأسهم الشيخ د. نور الدين عتر وغيره، ولو أخذنا على سبيل المثال معجم المصطلحات الحديثية للشيخ سيد عبد الماجد الغوري نجده تجاوز بالمصطلحات الحديثية في معجمه الألف مصطلح([41]).
وقد كان من نتائج إحدى الدراسات المعاصرة التي جردت المصطلحات الحديثية ونظرت في اتفاقها وما تختلف فيه: “أن قيود التعريف لكل مصطلح والمستنبطة من تعريف ابن الصلاح هي قيود أغلبية تندرج تحتها جملة من التعريفات السابقة لابن الصلاح واللاحقة، مع وجود استثناءات يسيرة قد تندرج تحت التعريف اللُّغوي، أو تتبع مصطلحًا خاصًّا لواضعه، وأن ما انتخبه ابن حجر في كتابه (نُخْبة الفِكَر) من تعريفات للمصطلحات -مجال الدراسة- يدور معظمه على القاعدة الأغلبية، مثل: تعريف الشاذ، والمنكر، والمضطرب. وأيضا أظهر البحث اتفاق أكثر التعريفات على أبرز قيود التعريف لكل مصطلح؛ إما بالنصّ عليها في حدّ التعريف، أو تضمينها في شروطه وأقسامه، أو شواهده من الأمثلة والاستدلالات”([42]).
وما أحسن ما وصف به شيخ الإسلام ابن تيمية حال جهابذة الحديث هؤلاء حيث قال: “ولما كان القرآن متميزًا بنفسه -لما خصه الله به من الإعجاز الذي باين به كلام الناس كما قال تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] وكان منقولا بالتواتر- لم يطمع أحد في تغيير شيء من ألفاظه وحروفه؛ ولكن طمع الشيطان أن يدخل التحريف والتبديل في معانيه بالتغيير والتأويل، وطمع أن يدخل في الأحاديث من النقص والازدياد ما يضل به بعض العباد. فأقام الله تعالى الجهابذة النقاد أهل الهدى والسداد، فدحروا حزب الشيطان، وفرقوا بين الحق والبهتان، وانتدبوا لحفظ السنة ومعاني القرآن من الزيادة في ذلك والنقصان. وقام كل من علماء الدين بما أنعم به عليه وعلى المسلمين مقام أهل الفقه الذين فقهوا معاني القرآن والحديث بدفع ما وقع في ذلك من الخطأ في القديم والحديث، وكان من ذلك الظاهر الجلي الذي لا يسوغ عنه العدول؛ ومنه الخفي الذي يسوغ فيه الاجتهاد للعلماء العدول. وقام علماء النقل والنقاد بعلم الرواية والإسناد، فسافروا في ذلك إلى البلاد، وهجروا فيه لذيذ الرقاد، وفارقوا الأموال والأولاد، وأنفقوا فيه الطارف والتلاد، وصبروا فيه على النوائب، وقنعوا من الدنيا بزاد الراكب، ولهم في ذلك من الحكايات المشهورة والقصص المأثورة ما هو عند أهله معلوم، ولمن طلب معرفته معروف مرسوم، بتوسد أحدهم التراب وتركهم لذيذ الطعام والشراب، وترك معاشرة الأهل والأصحاب، والتصبر على مرارة الاغتراب، ومقاساة الأهوال الصعاب، أمر حببه الله إليهم وحلاه ليحفظ بذلك دين الله. كما جعل البيت مثابة للناس وأمنا يقصدونه من كل فج عميق، ويتحملون فيه أمورا مؤلمة تحصل في الطريق، وكما حبب إلى أهل القتال الجهاد بالنفس والمال حكمة من الله يحفظ بها الدين ليهدي المهتدين، ويظهر به الهدى ودين الحق، الذي بعث به رسوله ولو كره المشركون. فمن كان مخلصا في أعمال الدين يعملها لله كان من أولياء الله المتقين أهل النعيم المقيم“([43]).
الخاتمة:
قد بان لنا في نهاية هذا المطاف إبداع جهابذة الحديث في صياغة المصطلحات وحرصهم على إتقان تلك الصياغة، إن من جهة الدقة أو الشمول، وهو ما جعل علم الحديث ثريًّا بالمصطلحات العلمية، فجهابذة الحديث من أسبق الناس وأبرعهم في سبك المصطلحات، فما أبدع وأنبغ تلك العقول التي صاغت وأنتجت مثل هذه المصطلحات ومثل هذا المنهج العلمي الدقيق الرصين!
والعجب أن يأتي اليوم بعد هذا التاريخ الطويل من الدقة والبراعة والدقة والإتقان من يتهم أهل الحديث بالجمود الفكري أو البلادة أو البعد عن إعمال العقل أو النصية الحرفية أو كونهم حفاظا سذجا لا يعون ما يقولون! وعند الله تجتمع الخصوم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) ينظر: علم المصطلح: أسسه النظرية وتطبيقاته العملية، علي القاسمي (ص: 66).
([2]) التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل (1/ 234).
([4]) ينظر: تهذيب اللغة للأزهري (2/ 2039)، الصحاح للجوهري (1/ 383)، مقاييس اللغة لابن فارس (ص: 574)، لسان العرب لابن منظور (5/ 374).
([5]) مفهوم المصطلح ومنهج دراسته (1/ 8)، ضمن ندوة الدراسات المصطلحية والعلوم الإسلامية بجامعة سيدي محمد عبد الله بفاس، ط 1414ه.
([6]) قاموس المصطلحات اللغوية والأدبية (ص: 58).
([7]) دور المصطلحات والمفاهيم في بناء العلوم الإسلامية (15/ 62)، ضمن ندوة الدراسات المصطلحية والعلوم الإسلامية بجامعة سيدي محمد عبد الله بفاس، ط 1414ه.
([8]) المصطلح الإسلامي والمعاجم العربية (1/ 58)، ضمن ندوة الدراسات المصطلحية والعلوم الإسلامية بجامعة سيدي محمد عبد الله بفاس، ط 1414ه.
([9]) ضوابط استعمال المصطلحات العقدية والفكرية (ص: 37).
([10]) ينظر: ضوابط استعمال المصطلحات العقدية والفكرية، د. سعود العتيبي (ص: 82).
([11]) علم المصطلح بين علم المنطق وعلم اللغة، علي القاسمي، مجلة اللسان العربي (عدد: 30 – 1988م) (ص: 85).
([12]) النظرية العامة لوضع المصطلحات وتوحيدها وتوثيقها، مجلة اللسان العربي، (عدد: 18 – 1980م) (ص: 9).
([13]) ضوابط استعمال المصطلحات العقدية والفكرية (ص: 91).
([14]) ينظر: النظرية العامة لوضع المصطلحات وتوحيدها وتوثيقها، علي القاسمي، مجلة اللسان العربي، (عدد: 18 – 1980م) (ص: 26).
([15]) ينظر: الأسس اللغوية لعلم المصطلح، د. محمود فهمي حجازي (ص: 22)، ومن قضايا المصطلح اللغوي العربي، د. مصطفى الحيادرة (ص: 19).
([16]) ينظر: ضوابط استعمال المصطلحات العقدية والفكرية، د. سعود العتيبي (ص: 95).
([17]) التقدير للخليل بن أحمد الفراهيدي، وقد أشار إلى ذلك السيوطي في كتابه المزهر، وصبحي الصالح في كتابه دراسات في فقه اللغة العربية (ص: 180)، وينظر: الذخيرة اللغوية العربية – اللسان العربي، عبد الرحمن الحاج صالح (27/ 7).
([18]) ينظر: علم المصطلح: أسسه النظرية وتطبيقاته العملية (ص: 56).
([19]) مقدمة صحيح مسلم -بشرح الإمام النووي- (1/ 21).
([20]) تأملات في المصطلح الحديثي (1/ 413).
([21]) مقدمة صحيح مسلم -بشرح الإمام النووي- (1/ 21).
([22]) ينظر: صحيح البخاري (118).
([23]) ينظر: صحيح البخاري (4895).
([25]) مصنف عبد الرزاق (11/ 435)، ومسند أحمد (2/ 88).
([27]) نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر ت الرحيلي (ص: 67 وما بعدها).
([28]) نخبة الفكر لابن حجر، وهو مطبوع ملحقا بكتاب نزهة النظر ت: الرحيلي (ص: 276).
([29]) المصدر السابق، الصفحة السابقة.
([30]) المصدر السابق، الصفحة السابقة.
([31]) المصدر السابق، الصفحة السابقة.
([32]) المصدر السابق (ص: 276 – 277).
([33]) المصدر السابق (ص: 277).
([34]) تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي (2/ 936).
([35]) ينظر: معرفة أنواع علوم الحديث (ص: 78).
([36]) الجرح والتعديل (2/ 37).
([37]) نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر ت الرحيلي (ص: 176).
([38]) ينظر: تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي (1/ 418 وما بعدها).
([39]) معرفة أنواع علوم الحديث (ص: 11).
([40]) ينظر: تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي (2/ 936).
([41]) ينظر: معجم المصطلحات الحديثية (ص: 890).
([42]) المصطلحات الحديثية بين الاتفاق والافتراق، د. راوية بنت عبد الله بن علي جابر (ص: 19).