كفَّ الله أسنَّتنا فلنكفّ ألسنتنا (الأصول التي اعتمد عليها أهل السنَّة في الكفِّ عمَّا شجر بين الصَّحابة)
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
مقدمة:
مذهبُ أهل السُّنة والجماعة في الصَّحابة مذهبٌ واضحٌ متَّسق مع النَّقل الصحيح والعقل الصَّريح ووقائع التاريخ، وتعاطي أهل السنة للموضوعات التي تتعلق بالصَّحابة الكرام تعاطٍ ينمُّ عن منهجيَّة واضحة في التعامل مع المسائل الشرعية، فلم يكفِّروا الصَّحابة الكرام كما فعلت الرافضة، ولم يجعلوهم كأي أحدٍ بعد جيل الصحابة كما يفعله التيَّار العلماني، ولا يدَّعون لهم العصمة، وإنَّما هم بشرٌ اختارهم الله لصحبة نبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم، فلهم خصائص ليست لأيِّ جيل بعدهم، ونؤمن أنَّ الله لا يختار لنبيه صلى الله عليه وسلم إلَّا أفضل البشر كما يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (إنَّ الله نظرَ في قلوب العباد، فاختار محمَّدًا صلى الله عليه وسلم، فبعثه إلى خلقه، فبعثه برسالته، وانتخبَه بعلمه، ثمَّ نظر في قلوب النَّاس بعده، فاختار الله له أصحابَه، فجعلهم أنصارَ دينِه، ووزراء نبيِّه صلى الله عليه وسلم)([1]).
وقد أثنى الله على الصَّحابة الكرام في كتابه العزيز في غير ما موضع، فقال عن المهاجرين: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8]، وقال عن الأنصار: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]، وقال عن المهاجرين والأنصار: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100]، والنصوص في ذلك كثيرة، ولذكر ذلك مواضعه، وموضوع الصحابة وما يتعلق بهم منتشرٌ في كتب أهل السُّنة والجماعة([2]).
وقد اختلَف الصَّحابة فيما بينهم كسائر البشر، ووقعت بينهم وقائع سُطِّرت في الكتب أحداثُها ودوافعُها، وكان تعامل أهل السنة والجماعة مع تلك الأحداث من كل جهاتها أحسن تعامل، فهم ينقلون بعلم، ويحسنون الظَّن، ويبينون الخطأ، ولا يدَّعون العصمة، ومع ذلك فإنَّهم في الأصل ينطلقون من عقيدةٍ واضحة لديهم، وهي: الإمساك عمَّا شجر بين الصحابة.
وذلك يعني أنَّنا لا نُطلق ألسنتنا حديثًا وأخذًا وردًّا في أحداثٍ لم نشارك فيها بأسِنّتنا، فلا نخوض فيها بأقلامنا وألسنتنا، إلَّا ما كان له داعٍ كما سيأتي بيانه، وقد أجمع على هذا أهل السنة والجماعة، وبينوه ووضَّحوه، فقد سئل عمر بن عبد العزيز عن علي وعثمان والجمل وصِفين وما كان بينهم فقال: “تلك دماءٌ كفَّ الله يدي عنها، وأنا أكره أن أغمس لساني فيها”([3]).
ويقول أبو زيد القيرواني في بيان عقيدة أهل السُّنة والجماعة: “وأن لا يذكر أحدٌ من صحابة الرَّسول صلى الله عليه وسلم إلا بأحسن ذكر، والإمساك عمَّا شجر بينهم، وأنَّهم أحق الناس أن يُلتمَس لهم أحسن المخارج، ويُظَنّ بهم أحسن المذاهب”([4]).
ويقول البربهاري مبينًا عقيدة أهل السنة والجماعة: “والكفُّ عن حرب علي ومعاوية وعائشة وطلحة والزبير، ومن كان معهم، ولا تخاصم فيهم، وكِلْ أمرهم إلى الله تبارك وتعالى”([5]).
ويقول أبو عثمان الصَّابوني: “ويرون الكفَّ عمَّا شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتطهير الألسنة عن ذكر ما يتضمن عيبًا لهم ونقصًا فيهم، ويرون الترحُّم على جميعهم، والموالاة لكافتهم”([6]).
ويقول أبو عمرو الداني في بيان عقيدة أهل السُّنة والجماعة أيضًا: “ومن قولهم: أن يحسن القول في السَّادات الكرام أصحاب محمد عليه السَّلام، وأن تذكر فضائلهم، وتنشر محاسنهم، ويمسك عمَّا سوى ذلك مما شجر بينهم لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا ذُكر أصحابي فأمسكوا»([7])، يعني: إذا ذكروا بغير الجميل، ولقوله: «الله الله في أصحابي»([8])، ويجب أن يلتمس لهم أحسن المخارج وأجمل المذاهب؛ لمكانِهم من الإسلام، وموضعِهم من الدِّين والإيمان، وأنَّهم أهل الرأي والاجتهاد، وأنصح الناس للعباد”([9]).
وكان ذلك هو فعل علماء أهل السنة والجماعة، فقد حضر رجلٌ إلى الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، فسأله عمَّا جرى بين علي ومعاوية، فأعرض عنه، فقيل له: يا أبا عبد الله، هو رجلٌ من بني هاشم، فأقبل عليه فقال: “اقرأ: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 134]”([10]).
ولسنا بصدد بيان هذه العقيدة والتَّأصيل لها([11])، ولكنَّنا في هذه الورقة نريد أن نبيَّن الأصول التي اعتمد علها أهل السنة والجماعة وانطلقوا منها في عقيدتهم هذه، وهي إجابة عن السؤال: لماذا نكفُّ عمَّا شجر بين الصحابة؟
الأصل الأوَّل: علوُّ مكانة الصَّحابة ومنزلتهم وفضلهم:
فإنَّ جيل الصَّحابة ليس كأي جيلٍ أتى بعده، بل هو جيلٌ فريدٌ في خصائصه؛ لقربهم من النَّبي صلى الله عليه وسلم، ومصاحبتِهم له، ورؤيتِهم له، ولنزول الوحي بين أظهرهم، فيقينُهم أكبر من كلِّ يقين، إضافةً إلى أنَّ الله سبحانه وتعالى قد عدَّلهم ورضي عنهم، وقد تضمنت الآيات الثَّناء عليهم بما لم يكن لأحدٍ بعدهم، وهذا كلُّه مع علم الله بأنَّه سيقع منهم اقتتال، وتقع بينهم فتنة، ومع ذلك لم يستثن الله من تلك الثَّناءات أحدًا، فهو إذًا أصلٌ مركَّب من ثناء الله على الصَّحابة وفضلهم في أنفسهم، إضافة إلى أنَّ هذا الثناء عامٌّ لمن علم الله ما سيقع منهم بعد.
فأهل السَّنة والجماعة ينطلقون من هذا الأصل إلى عددٍ من القضايا، من أهمِّها: الكفُّ عمَّا شجر بينهم؛ إذ إنَّه لا يمكن أن يكون ثناء الله عليهم بلا معنى مع علمِ الله سبحانه وتعالى بما سيحصل منهم ويقع بينَهم، وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنَّه قال: (لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإن الله عز وجل قد أمر بالاستغفار لهم وهو يعلم أنهم سيقتتلون)([12]).
وقد ذكر ابن بطَّة رحمه الله نهيَ جماعة من العلماء الكبار عن الخوضِ فيما حصل بين الصَّحابة فقال: “ولا ينظر في كتاب صِفين والجمل ووقعة الدَّار وسائر المنازعات التي جرت بينهم، ولا تكتبه لنفسِك ولا لغيرِك، ولا تروه عن أحد، ولا تقرأه على غيرك، ولا تسمعه ممَّن يرويه. فعلى ذلك اتَّفق سادات علماء هذه الأمَّة من النَّهي عما وصفناه، منهم: حمَّاد بن زيد، ويونس بن عبيد، وسفيان الثَّوري، وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن إدريس، ومالك بن أنس، وابن أبى ذئب، وابن المبارك، وشعيب بن حرب، وأبو إسحاق الفزاري، ويوسف بن أسباط، وأحمد بن حنبل، وبشر بن الحارث، وعبد الوهَّاب الوراق، كل هؤلاء قد رأوا النَّهي عنها، والنَّظر فيها، والاستماع إليها، وحذَّروا من طلبها والاهتمام بجمعها. وقد روي عنهم في من فعل ذلك أشياء كثيرةٌ بألفاظٍ مختلفة متّفقَة المعاني على كراهية ذلك، والإنكار على من رواها واستمع إليها”([13]).
وذكر رحمه الله مستندَ هذا القول، وأنَّه مبنيٌّ على ما بينَّاه من فضل الصحابة وثناء الله عليهم مع علمه بما سيحصلُ منهم، يقول ابن بطة في بيان عقيدة أهل السُّنة والجماعة: “النَّهي عن الخوض في أحداث الفتنة الكبرى، فقد شهدوا المشاهد معه، وسبقوا النَّاس بالفضل، فقد غفر الله لهم، وأمرَك بالاستغفار لهم، والتَّقرب إليه بمحبتهم، وفَرض ذلك على لسان نبيِّه وهو يعلم ما سيكون منهم وأنَّهم سيقتتلون، وإنَّما فضِّلوا على سائر الخلق لأنَّ الخطأ والعمد قد وُضع عنهم، وكل ما شجر بينهم مغفورٌ لهم”([14]).
وخلاصة هذا الأصل: أنَّ الخطأ على من أثنى الله عليهم وبيَّن فضلهم ومدحهم في كتابه أكبر وأعظم من الخطأ على أيِّ أحدٍ من الناس دونهم، ولثبوت فضل الصحابة قطعًا فإنَّنا نتوَّرع عن ذكر ما حصل بينهم لكلِّ أحد، وفي كل مجلس، وإنَّما يحكى ذلك في حدودٍ كما سيأتي بيانه، ويعني ذلك أيضًا أنَّنا نحتاط غاية الاحتياط في قبول أخبار ما وقع بينهم من فتن واقتتال أكثر من احتياطنا في أخبار سائر الناس.
الأصل الثَّاني: أنَّ الصَّحابة كانوا مجتهدين فيما وقع بينهم:
وغاية المجتهدين أنَّهم يؤجرون فيما اجتهدوا فيه وإن أخطؤوا، فأفعال الصَّحابة رضوان الله عليهم -في الأصل- لم تصدر عن فسادٍ في النيَّة وإرادةٍ للفتنة، وإنما عن اجتهاد في مواقف اجتهدوا فيها، وعلى هذا اعتمد أهلُ السنة أيضًا في الكفِّ عمَّا شجر بينهم، وقد اعتمد الآجري رحمه الله على هذين الأصلين في بيان مستند أهل السنة في الكفِّ عما شجر بين الصحابة، أي: أصل فضلهم وعلوِّ منزلتهم، واجتهادِهم فيما وقع منهم، فقال رحمه الله: “ذكر الكفِّ عمَّا شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورحمة الله تعالى عليهم أجمعين. ينبغي لمن تدبَّر ما رسمناه من فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفضائل أهل بيته رضي الله عنهم أجمعين أن يحبَّهم، ويترحَّم عليهم، ويستغفر لهم، ويتوسَّل إلى الله الكريم بهم، ويشكر الله العظيم إذ وفَّقه لهذا، ولا يذكر ما شجرَ بينَهم، ولا ينقر عنه ولا يبحث.
فإن عارضنا جاهلٌ مفتون قد خطئ به عن طريق الرَّشاد فقال: لِمَ قاتل فلانٌ لفلان، ولم قتل فلان لفلان وفلان؟
قيل له: ما بِنا وبك إلى ذكر هذا حاجةٌ تنفعنا ولا اضطررنا إلى علمها.
فإن قال: ولم؟
قيل له: لأنَّها فتنٌ شاهدها الصَّحابة رضي الله عنهم، فكانوا فيها على حسب ما أراهم العلم بها، وكانوا أعلم بتأويلها من غيرهم، وكانوا أهدى سبيلًا ممَّن جاء بعدهم؛ لأنَّهم أهل الجنة، عليهم نزل القرآن، وشاهدوا الرَّسول صلى الله عليه وسلم، وجاهدوا معه، وشهد لهم الله عز وجل بالرِّضوان والمغفرة والأجر العظيم، وشهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم أنَّهم خير قرن. فكانوا بالله عز وجل أعرف، وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبالقرآن وبالسُّنة، ومنهم يُؤخذ العلم، وفي قولهم نعيش، وبأحكامهم نحكم، وبأدبهم نتأدَّب، ولهم نتبع، وبهذا أُمرنا”([15]).
فانظر كيف اعتمد على فضلهم وخصائص حالِهم من رؤيتهم للتنزيل، وثناءِ الشرع عليهم، واجتهادهم فيما وقع منهم.
وعلى الأصلين أيضًا اعتمد ابن تيمية رحمه الله فقال: “ولهذا كان من مذاهب أهل السُّنة: الإمساك عما شجر بين الصحابة؛ فإنَّه قد ثبتت فضائلهم، ووجبت موالاتُهم ومحبَّتهم، وما وقع منه ما يكون لهم فيه عذرٌ يخفى على الإنسان، ومنه ما تاب صاحبه منه، ومنه ما يكون مغفورًا… ولهذا كان الإمساك طريقة أفاضل السَّلف”([16]).
ويقول أيضًا: “وكذلك نؤمن بالإمساك عمَّا شجر بينهم، ونعلم أنَّ بعض المنقول في ذلك كذب. وهم كانوا مجتهدين؛ إمَّا مصيبين لهم أجران، أو مثابين على عملهم الصَّالح، مغفور لهم خطؤهم”([17]).
ويقول القرطبي رحمه الله: “لا يجوز أن يُنسب إلى أحدٍ من الصَّحابة خطأ مقطوع به، إذ كانوا كلُّهم اجتهدوا فيما فعلوه وأرادوا الله عز وجل، وهم كلُّهم لنا أئمَّة، وقد تعبّدنا بالكف عمَّا شجر بينهم، وألا نذكرهم إلا بأحسن الذكر؛ لحرمة الصُّحبة، ولنهي النَّبي صلى الله عليه وسلم عن سبِّهم، وأنَّ الله غفر لهم، وأخبر بالرِّضا عنهم”([18]).
ويقول ابن حجر رحمه الله: “واتَّفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحدٍ من الصَّحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك، ولو عرف المحقُّ منهم؛ لأنَّهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد، وقد عفا الله تعالى عن المخطئ في الاجتهاد، بل ثبت أنَّه يُؤجر أجرًا واحدًا، وأنَّ المصيب يؤجر أجرين”([19]).
ويبين السفاريني أنَّه لا منافاة بين كون الحق مع واحدٍ وبين أن يكون الصَّحابة كلهم مجتهدين فيما وقع منهم، فيقول: “والحقُّ الذي ليس عنه نزول أنَّهم كلهم رضوان الله عليهم عدول؛ لأنَّهم متأوِّلون في تلك الخصومات، مجتهدون في هاتيك المقاتلات، فإنَّه وإن كان الحق على المعتمد عند أهل الحق واحدًا، فالمخطئ مع بذل الوسع وعدم التَّقصير مأجورٌ لا مأزور، وسبب تلك الحروب اشتباهُ القضايا، فلشدة اشتباهها اختلف اجتهادهم… وبالجملة فكلُّهم معذورون، ومأجورون لا مأزورون، ولهذا اتَّفق أهل الحق ممَّن يعتد به في الإجماع على قبول شهاداتهم ورواياتهم، وثبوت عدالتِهم، ولهذا قال علماؤنا كغيرهم من أهل السُّنة ومنهم ابن حمدان في نهاية المبتدئين: يجب حبُّ كل الصحابة، والكفُّ عمَّا جرى بينهم كتابةً وقراءةً وإقراءً وسماعًا وتسميعًا، ويجب ذكر محاسنهم، والترضِّي عنهم، والمحبَّة لهم، وترك التَّحامل عليهم، واعتقاد العذر لهم، وأنَّهم فعلوا ما فعلوا باجتهادٍ سائغ لا يوجب كفرًا ولا فسقًا، بل ربَّما يثابون عليه لأنَّه اجتهادٌ سائغ”([20]).
وخلاصة هذ الأصل: أن الصحابة اجتهدوا فيما وقع منهم، وهم مأجورون في ذلك وإن أخطؤوا، ولأجل هذا فإننا نكفُّ عمَا شجر بينهم ووقع منهم.
الأصل الثالث: أنَّ الصَّحابة مع اجتهادهم كانت لهم حسناتٌ كبيرة:
وهذا أصلٌ عظيم من الأصول التي يعتمد عليها أهل السنة والجماعة في كثير من قضايا الصحابة، وقد أصَّل لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصَّة حاطب رضي الله عنه حين قال: لعلَّ الله اطَّلع على من شهد بدرًا فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم»([21]).
فالصَّحابة الكرام حسناتُهم أعظم من سيئاتِهم، ويكفي سبقُهم إلى الإسلام، ونصرتُهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهودُهم معه المشاهد، ورؤيتُهم له، وصلاتُهم خلفه، وإقامتُهم لهذا الدِّين، فهم الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورفعوا رايةَ التوحيد في مشارق الأرض ومغاربها، ووقفوا يدافعون عن الإسلام في أحلك المواقف، وهم مع ذلك نقَلَة القرآن والسُّنة، وهذا -بل جزءٌ منه- كافٍ في أن نكفَّ عمَّا شجر بينهم، ونعتقد أنَّ الله غفر لهم، وعلى هذا اعتمد أهل السنة والجماعة في الكفِّ عما شجر بينهم.
يقول الحسن البصري رحمه الله: “قتالٌ شهده أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وغِبنا، وعلموا وجهِلنا، واجتمعوا فاتبعنا، واختلفوا فوقفنا”. قال المحاسبي: “فنحنُ نقول كما قال الحسن، ونعلم أنَّ القوم كانوا أعلم بما دخلوا فيه منَّا، ونتبع ما اجتمعوا عليه، ونقف عند ما اختلفوا فيه، ولا نبتدع رأيًا منَّا، ونعلم أنَّهم اجتهدوا وأرادوا الله عز وجل، إذ كانوا غير متهمين في الدين، ونسأل الله التوفيق”([22]).
ويقول ابن تيمية رحمه الله: “وكذلك نؤمن بالإمساك عما شجر بينهم، ونعلم أن بعض المنقول في ذلك كذب. وهم كانوا مجتهدين؛ إما مصيبين لهم أجران؛ أو مثابين على عملهم الصالح مغفور لهم خطؤهم، وما كان لهم من السيئات -وقد سبق لهم من الله الحسنى- فإنَّ الله يغفرها لهم؛ إمَّا بتوبة، أو بحسناتٍ ماحية، أو مصائب مكفرة، أو غير ذلك. فإنَّهم خير قرون هذه الأمَّة كما قال صلى الله عليه وسلم: «خير القرون قرني الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم»([23]) وهذه خير أمة أخرجت للناس”([24]).
ويقول معتمدًا على هذا الأصل والأصل الذي قبله: “ويقولون: إنَّ هذه الآثار المرويَّة في مساويهم منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغيِّر عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذورون؛ إما مجتهدون مصيبون، وإمَّا مجتهدون مخطئون، وهم مع ذلك لا يعتقدون أنَّ كل واحدٍ من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره؛ بل تجوز عليهم الذُّنوب في الجملة، ولهم من السَّوابق والفضائل ما يُوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، حتى إنَّه يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم؛ لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم، وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنَّهم خير القرون([25])، وإنَّ المد من أحدهم إذا تصدق به كان أفضل من جبل أحد ذهبا ممن بعدهم([26])، ثمَّ إذا كان قد صدر من أحدهم ذنبٌ فيكون قد تاب منه، أو أتى بحسناتٍ تمحوه، أو غفر له بفضل سابقته، أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذي هم أحقُّ الناس بشفاعته، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه. فإذا كان هذا في الذُّنوب المحقَّقة فكيف بالأمور التي كانوا فيها مجتهدين؛ إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطؤوا فلهم أجرٌ واحد، والخطأ مغفور لهم؟! ثمَّ القدر الذي ينكَر من فعل بعضهم قليلٌ نزرٌ مغمورٌ في جنب فضائل القوم ومحاسنهم من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله والهجرة والنصرة والعلم النافع والعمل الصالح. ومن نظرَ في سيرة القوم بعلمٍ وبصيرة وما منَّ الله به عليهم من الفضائل علم يقينًا أنَّهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم، وأنَّهم هم الصفوة من قرون هذه الأمَّة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله تعالى”([27]).
وقد بيَّن الذهبي من عقيدة أهل السنة والجماعة الكفَّ عمَّا شجر بين الصحابة، ثم بين مستند ذلك فقال: “فالقوم لهم سوابق وأعمال مكفِّرة لما وقع منهم، وجهاد محاء، وعبادة ممحّصة”([28]).
وبناءً على هذا فإنَّه حتى وإن وقع منهم اجتهاد وأخطؤوا فيه، فإنَّ لهم من الحسنات الكبيرة ما تكون السيئات والأخطاء مغمورة فيها، ولأجل هذا نمسك عمَّا وقع بينهم.
الأصل الرَّابع: أنَّ الأخبار الواردة في وقائعهم كثيرةٌ مضطربة:
وقد بينَّا سابقًا أنَّ ما ينقل عن الصحابة الكرام في تلك الوقائع يجب أن تكون شروطنا في تلقيها أشدَّ من شروطنا في تلقي سائر الأخبار، ذلك أنَّها تتعلَّق بقومٍ فضلاء، وتفاوتت الكتب التي نقلت الأخبار والوقائع، ووقع في ذلك خلطٌ كبير وكذبٌ كثير وتحريفٌ للأحداث، فينبغي على المسلم أن يحتاط غاية الاحتياط في حكايتِها والاختيار منها والاعتماد عليها، ومن هذا الباب كان أهل السنة والجماعة لا يذكرون ذلك، وإنَّما يكفون عمَّا شجر بينهم، فما وجد في الكتب عن تلك الوقائع بعضُه كذبٌ صريح، وبعضه زيد فيه ونقص، والصَّحيح منه اجتهادٌ اجتهده الصحابة كما بينَّا، فهو دائر بين الأجر والأجرين مع اختيارنا للمصيب والمخطئ من خلال الروايات الصحيحة الثابتة.
يقول الذهبي رحمه الله: “كما تقرَّر الكفُّ عن كثيرٍ ممَّا شجر بين الصحابة وقتالهم رضي الله عنهم أجمعين، وما زال يمرُّ بنا ذلك في الدواوين والكتب والأجزاء، ولكن أكثر ذلك منقطع وضعيف وبعضه كذب، وهذا فيما بأيدينا وبين علمائنا، فينبغي طيُّه وإخفاؤه، بل إعدامه؛ لتصفو القلوب، وتتوفر على حبِّ الصحابة والترضي عنهم، وكتمان ذلك متعيِّن عن العامَّة وآحاد العلماء، وقد يرخص في مطالعة ذلك خلوة للعالم المنصف، العريّ من الهوى، بشرط أن يستغفر لهم، كما علَّمنا الله تعالى… فأمَّا ما تنقله الرَّافضة وأهل البدع في كتبهم من ذلك فلا نعرّج عليه ولا كرامة، فأكثره باطلٌ وكذبٌ وافتراء، فدأب الروافض رواية الأباطيل، أو رد ما في الصحاح والمسانيد، ومتى إفاقة من به سكر؟!”([29]).
ويقول ابن تيمية رحمه الله في قاعدةٍ عامَّة في التَّعامل مع قضايا الصحابة بالخصوص: “ما عُلم بالكتاب والسنة والنقل المتواتر من محاسن الصحابة وفضائلهم لا يجوز أن يُدفع بنقولٍ بعضُها منقطع، وبعضها محرَّف، وبعضها لا يقدح فيما علم، فإنَّ اليقين لا يزول بالشك، ونحن قد تيقَّنَّا ما دلَّ عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف قبلنا، وما يصدّق ذلك من المنقولات المتواترة من أدلَّة العقل من أنَّ الصحابة رضي الله عنهم أفضل الخلق بعد الأنبياء، فلا يقدح في هذا أمور مشكوكٌ فيها، فكيف إذا علم بطلانها؟!”([30]).
ويقول رحمه الله: “ويمسكون عمَّا شجر بين الصَّحابة، ويقولون: إنَّ هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغيِّر عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذورون؛ إما مجتهدون مصيبون، وإمَّا مجتهدون مخطئون”([31]).
الأصل الخامس: النَّهي عن الخوض في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:
فقد ورد النَّهي عن الخوض فيما وقع بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عليه الصلاة والسلام: «إذا ذُكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر القدر فأمسكوا»([32]).
يقول محمَّد بن إسماعيل الصنعاني: “«إذا ذكر أصحابي» أي: ذكر ما شجر بينهم من الاختلافات، «فأمسكوا» عن الخوض في ذلك، فإنَّه ينشأ عنه ما لا يحمد من الخوض”([33]).
وإنَّما أخرت ذكر هذا الأصل لأنَّ الحديث مختلف في صحته، وسواء رأينا صحته أو ضعفه فإنَّ العقيدة ثابتة بالأصول السَّابقة التي ذكرناها، وعليها اعتمد أهل السنة والجماعة فيما ذهبوا إليه.
المراد بالكف:
فإن قال قائل: كيف نكفُّ عمَّا شجر بينهم وهو من كتمان العلم؟! فضلًا عن أنَّ كبار العلماء قد ذكروا تلك الوقائع في كتبهم.
يقال: ليس المراد من الكفّ عمَّا شجر بين الصحابة أن لا تُدرس تلك الوقائع، ولا تذكر إطلاقًا، بل بيَّن العلماء أن دراستها وتدريسها وتعليمها مرغوب، وإنَّما النهي عن ذكر ذلك عند عوامِّ المسلمين دون حاجة، أو ذكر ذلك ابتذالًا، أو تنقّصًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أو قدحًا فيهم، كل هذا ممَّا لا ينبغي.
وإنَّما يجوز الخوض فيما وقع بينهم ويتأكَّد ذلك في مقام العلم، واستنباط الأحكام الشرعية، ومعرفة أنواع القتال، وأحكام كل نوعٍ منها، فليس قتال البغاة مثل قتال الخوارج، وليس هو مثل قتال الفتنة، فمعرفة ما وقع بين الصحابة ممَّا يساعد في فهم المسائل العلميَّة وضبطها، فتدرس وتعلَّم وتستنبط منها الأحكام.
كما أنَّه ممَّا ينبغي دراستها لحفظ تاريخٍ مهمٍّ من تاريخ الأمَّة، ومعرفة الصحيح من ذلك التاريخ، وفي ذلك حفظٌ لمقام الصحابة بلا شك، فإنَّ ترك الأمر لكل خائض ليخوض بما شاء مضرّ، ودواء ذلك إبقاء الصَّحيح وبيان ذلك، وتنقيحه من الخلط الذي وقع، وأكثر ما يشنّع على الصحابة من خلال هذه الوقائع إنَّما هو بالكذب والمبالغة، وتخمين الدوافع لا بالحقائق.
وممَّا تُدرس من أجله هذه الوقائع: الردُّ على المخالفين ممَّن يطعنون في الصحابة، أو يكفرونهم ويفسقونهم، وفي هذا يقول السفاريني رحمه الله: “ولأنَّ الخوض في ذلك إنَّما يصلح للتعليم، وللرد على المتعصبين، أو لتدريس كتب تشتمل على تلك الآثار، فيؤوّل ذلك، ويبينه للعوام، لفرط جهلهم بالتأويل، مع أن غالب أو كل ما يحكيه الرافضة موضوع، وأكثره باطل مصنوع، فلا جرم السلامة في التسليم، وكف اللسان عن هذا المدخل الضيق العظيم”([34]).
ويقول ابن تيمية رحمه الله: “ولهذا أوصوا بالإمساك عمَّا شجر بينهم؛ لأنا لا نُسأَل عن ذلك، كما قال عمر بن عبد العزيز: (تلك دماءٌ طهر الله منها يدي، فلا أحب أن أخضب بها لساني)، وقال آخر: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 134]، لكن إذا ظهر مبتدعٌ يقدح فيهم بالباطل، فلا بدَّ من الذب عنهم، وذكر ما يبطل حجته بعلم وعدل”([35]).
وأخيرًا:
فإنَّ من أعظم المقاصد التي من أجلها حرص أهل السنة والجماعة على الكفِّ عمَّا شجر بين الصحابة: حفظ قلوب عامة المسلمين من أن يدخلها ريبٌ أو سوء فهم تجاه الصحابة الكرام، ذلك أنَّ العوام من المسلمين لا يميزون بين الحق والباطل في تلك الوقائع، ولا يفرقون بين الصحيح والضعيف، وحكاية كل ذلك لهم ممَّا يثير في نفوسهم ما هم في غنى عنه، فإن فُصِل الصحيح عن الباطل وكان لذكر ذلك حكمة ذُكر ذلك لعامة الناس، وإلا فالأصل عدم ذكر ذلك، ويدخل ذلك في قول ابن مسعود رضي الله عنه: (ما أنت بمحدّثٍ قوما حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة)([36]).
فهذا هو الأصل الذي سار عليه أهل السنة والجماعة، يقول الآجري رحمه الله في كلام طويلٍ نافع: “ينبغي لمن تدبر ما رسمناه من فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفضائل أهل بيته رضي الله عنهم أجمعين أن يحبهم ويترحم عليهم ويستغفر لهم، ويتوسل إلى الله الكريم بهم، ويشكر الله العظيم إذ وفقه لهذا، ولا يذكر ما شجر بينهم ولا ينقر عنه ولا يبحث…
فإن قال: وإيش الذي يضرُّنا من معرفتنا لما جرى بينهم والبحث عنه؟
قيل له: ما لا شكَّ فيه وذلك أنَّ عقول القوم كانت أكبر من عقولنا، وعقولنا أنقص بكثير، ولا نأمن أن نبحث عمَّا شجر بينهم، فنزلّ عن طريق الحق، ونتخلّف عما أمرنا فيهم.
فإن قال: وبم أمرنا فيهم؟
قيل: أمِرنا بالاستغفار لهم، والترحُّم عليهم، والمحبة لهم، والاتباع لهم، دلَّ على ذلك الكتاب والسنة وقول أئمة المسلمين، وما بنا حاجة إلى ذكر ما جرى بينهم، قد صحبوا الرسول صلى الله عليه وسلم وصاهرهم وصاهروه، فبالصحبة يغفر الله الكريم لهم، وقد ضمن الله عز وجل في كتابه أن لا يخزي منهم واحدًا، وقد ذكر لنا الله تعالى في كتابه أن وصفهم في التوراة والإنجيل، فوصفهم بأجمل الوصف، ونعتهم بأحسن النَّعت، وأخبرنا مولانا الكريم أنَّه قد تاب عليهم، وإذا تاب عليهم لم يعذب واحدًا منهم أبدًا، رضي الله عنهم ورضوا عنه، {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22].
فإن قال قائل: إنَّما مرادي من ذلك لأن أكون عالمًا بما جرى بينهم، فأكون لم يذهب علي ما كانوا فيه لأني أحبُّ ذلك ولا أجهله.
قيل له: أنت طالب فتنة؛ لأنَّك تبحث عمَّا يضرك ولا ينفعك، ولو اشتغلت بإصلاح ما لله عز وجل عليك فيما تعبَّدك به من أداء فرائضه واجتناب محارمه كان أولى بك. وقيل: ولا سيَّما في زماننا هذا مع قبح ما قد ظهر فيه من الأهواء الضَّالة. وقيل له: اشتغالك بمطعمك وملبسك من أين هو أولى بك، وتكسبك لدرهمك من أين هو وفيما تنفقه أولى بك. وقيل: لا يأمن أن يكون بتنقيرك وبحثك عمَّا شجر بين القوم إلى أن يميل قلبُك فتهوى ما لا يصلح لك أن تهواه، ويلعب بك الشيطان فتسبّ وتبغض من أمَرك الله بمحبَّته والاستغفار له وباتباعه، فتزل عن طريق الحق، وتسلك طريق الباطل”([37]).
فالآجري رحمه الله يعتمد على أنَّ ذكر ذلك للعامَّة مما يثير في نفوسهم ما هم في غنى عنه، ويثير ما يضاد أمر الله ورسوله بالترضِّي عن الصحابة وحبهم والاستغفار لهم والدعاء لهم، وفي هذا يقول ابن تيمية رحمه الله: “فالخوض فيما شجر يوقع في نفوس كثير من النَّاس بغضًا وذمًّا، ويكون هو في ذلك مخطئًا بل عاصيًا، فيضرُّ نفسه ومن خاض معه في ذلك، كما جرى لأكثر من تكلَّم في ذلك، فإنَّهم تكلَّموا بكلامٍ لا يحبه الله ولا رسوله؛ إمَّا من ذم من لا يستحق الذم، وإما من مدح أمور لا تستحق المدح”([38]).
ويقول الملا القاري: “وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إذا ذكر أصحابي فأمسكوا»([39]) أي: عن الطعن فيهم، فإن رضا الله تعالى في مواضع من القرآن تعلق بهم، فلا بد أن يكون مآلهم إلى التقوى ورضا المولى وجنة المأوى، وأيضا لهم حقوق ثابتة في ذمة الأمة، فلا ينبغي لهم أن يذكروهم إلا بالثناء الجميل والدعاء الجزيل”([40]).
فهذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام، وفي الإمساك عمَّا شجر بينهم، يصدرون عن أصولٍ منضبطة، ويجمعون بين بيان الحق ومعرفته، وبين حفظ مقام الصَّحابة وفضلهم.
وصلى الله وسلم على نبيبنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع
([1]) ينظر: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/ 375).
([2]) لا يكاد يخلو كتاب من كتب عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة من بيان الموقف الشرعي من الصحابة الكرام، كالسنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل، والطحاوية، وشرح السنة للبربهاري، والواسطية وغيرها. ومن الكتب المعاصرة: عقيدة أهل السنة في الصحابة الكرام لناصر الشيخ، وعدالـة الصحابـة رضي الله عنهم في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية ودفع الشبهات للدكتور عماد السيد الشربيني، وصحابة رسول الله في الكتاب والسنة لعيادة أيوب الكبيسي، والصحبة والصحابة.. شبهات حول عدالة الصحابة وضبطهم -عرض ونقد- للدكتور عبد الله الهادي القحطاني، وغيرها كثير.
([3]) ينظر: الطبقات الكبرى (5/ 307).
([6]) عقيدة السلف وأصحاب الحديث (ص: 294).
([7]) أخرجه الطبراني في الكبير (1427)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (4/ 108)، وصححه الألباني بمجموع طرقه في سلسلة الأحاديث الصحيحة (34).
([8]) أخرجه الترمذي (3862) وضعفه.
([9]) الرسالة الوافية لمذهب أهل السنة في الاعتقادات وأصول الديانات (ص: 49).
([10]) انظر: مناقب الإمام أحمد (ص: 221).
([11]) فقد أعدَّ مركز سلف ورقة علمية بعنوان: “السكوت عما شجر بين الصحابة” على الرابط:
([12]) ينظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (7/ 1319).
([13]) كتاب الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة (ص: 249).
([14]) المرجع السابق (ص: 247-248).
([16]) منهاج السنة النبوية (4/ 448-449).
([17]) مجموع الفتاوى (3/ 406).
([18]) تفسير القرطبي (16/ 321).
([20]) لوامع الأنوار البهية (2/ 387).
([21]) أخرجه البخاري (4274)، ومسلم (2494).
([22]) انظر: تفسير القرطبي (16/ 322).
([24]) مجموع الفتاوى (3/ 406).
([25]) كما في حديث مسلم (2533).
([26]) كما في حديث البخاري (3673).
([27]) مجموع الفتاوى (3/ 155-156) -الواسطية-.
([28]) سير أعلام النبلاء (10/ 93).
([29]) سير أعلام النبلاء (10/ 92-93).
([30]) منهاج السنة النبوية (6/ 305).
([31]) مجموع الفتاوى (3/ 154- 155).
([33]) التنوير شرح الجامع الصغير (2/ 52).
([34]) لوامع الأنوار البهية (2/ 388).
([35]) منهاج السنة النبوية (6/ 254). وانظر في هذا بالخصوص وفي الأصول المذكورة بالعموم: العقود الذهبية على مقاصد العقيدة الواسطية، للدكتور: سلطان العميري (2/ 360-361).