حديث صفوان بن المعطل.. وهل يدل على التهوين من صلاة الفجر؟
ادَّعى بعض مَن عُرف بتتبُّع الشواذ والمتشابهات أنَّ أداء صلاةِ الفجر بعد طلوع الشمس لا يختلف عن صلاتها قبل طلوع الشمس، وأنّ الإنسان إذا كانت أحواله لا تتناسب مع صلاة الفجر في موعِدها فلا مانع مِن صلاتها حينما يستيقظ. واحتجَّ على ذلك بحديث صفوان بن المعطّل رضي الله عنه وأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أقرَّه على ترك صلاة الفجر في موعدها.
وفي هذه المقالة نتناول هذا الحديث روايةً ودرايةً، ونناقش ما أورده هذا المدَّعي، ونورد كذلك ما استشكَله العلماء حول رواياتِ هذا الحديث.
نص الحديث:
عنْ أبي سعيدٍ قالَ: جاءتْ امرأةٌ إلى النبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ ونحنُ عندَهُ، فقالتْ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ زوجي صفوانَ بنَ المعطلِ يضربُنِي إذا صلّيتُ، ويُفطرنِي إذا صمتُ، ولا يصلّي صلاةَ الفجرِ حتى تطلعَ الشمسُ. قالَ: وصفوانٌ عندَهُ. قالَ: فسألهُ عما قالتْ، فقالَ:يا رسولَ اللهِ، أما قولُها يضربُنِي إذا صليتُ فإنَّها تقرأُ بسورتينِ([1])، وقد نهيتها، قال: فقالَ: «لو كانتْ سورة واحدة لكفتِ الناسَ». وأمَّا قولُها يُفطرنِي فإنَّها تنطلقُ فتصومُ، وأنَا رجلٌ شابٌّ، فلا أصبرُ، فقالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ يومئذٍ: «لا تصومُ امرأةٌ إلا بإذنِ زوجِها». وأمَّا قولُها إنِّي لا أصلي حتى تطلعَ الشمسُ، فإنا أهل بيتٍ قد عرفَ لنا ذاكَ، لا نكادُ نستيقظُ حتى تطلعَ الشمسُ، قالَ: «فإذا استيقظتَ فصلِّ».
تخريج الحديث:
رواه أبو داود([2]) واللفظ له، ابن ماجه([3]) مختصرًا، وأحمد([4])، والدارمي([5]) مختصرًا، وابن حبان([6])، والحاكم([7])، والبيهقي([8])، من طرق عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
وذكر له أبو داود متابعًا من طريق آخر فقال: “ورَوَاهُ حَمَّادٌ -يَعْنِي ابْنَ سَلَمَةَ- عَنْ حُمَيْدٍ أَوْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ. وغرضه بذلك تقوية الحديث، وأنه لم ينفرد به أبو صالح عن أبي سعيد، بل تابعه أبو المتوكل علي بن داود.
درجة الحديث:
الحديث صحيح، صححه ابن حبان، وقال الحاكم: “إسناده صحيح على شرط الشيخين”، ووافقه الذهبي([9]).
وصححه البوصيري وقال: “هذا إسناد صحيح على شرط البخاري”([10]).
وصححه الحافظ ابن حجر([11]). وصححه الألباني([12]).
فالحديث صحيح سندًا ومتنًا، أما سنده فظاهر الصحة، وقد خرج البخاري ومسلم أحاديث عدة في صحيحيهما من طريق جرير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري([13]).
وليس في الحديث علة تقدح في صحته، وأما قدح البزار فيه بنكارة متنه واحتمال أن يكون الأعمش دلّسه عن غير ثقة، فأجاب عنه الحافظ ابن حجر رحمه الله بقوله: “وما أعله به ليس بقادح؛ لأن ابن سعد صرح في روايته بالتحديث بين الأعمش وأبي صالح، وأما رجاله فرجال الصحيح”([14]).
وقال العظيم آبادي: “والحاصل أن أبا صالح ليس بمتفرّد بهذه الرواية عن أبي سعيد، بل تابعه أبو المتوكل عنه، ثم الأعمش ليس بمتفرد أيضًا، بل تابعه حميد أو ثابت”([15]).
وسوف نجيب عما ظنه البعض نكارة في متنه بعون الله تعالى.
الإشكالات الواردة على الحديث:
1- كيف أقرّ النبي صلى الله عليه وسلم صفوانَ على النوم عن صلاة الفجر؟
وقد أجاب الخطابي عن ذلك بجوابين، فقال: “ويشبه أن يكون ذلك منه على معنى ملَكَة الطبع واستيلاء العادة، فصار كالشيء المُعجَز عنه، وكان صاحبه في ذلك بمنزلة من يغمَى عليه، فَعُذِر فيه، ولم يؤنَّب عليه.
ويحتمل أن يكون ذلك إنما كان يصيبه في بعض الأوقات دون بعض، وذلك إذا لم يكن بحضرته من يوقظه ويبعثه من المنام، فيتمادى به النوم حتى تطلع الشمس دون أن يكون ذلك منه في عامة الأوقات؛ فإنه قد يبعد أن يبقى الإنسان على هذا في دائم الأوقات، وليس بحضرته أحدٌ لا يُصْلِح هذا القدرَ من شأنه، ولا يراعي مثل هذا مِن حاله.
ولا يجوز أن يُظنّ به الامتناع من الصلاة في وقتها ذلك مع زوال العذر بوقوع التنبيه، والإيقاظ ممن يحضره ويشاهده. والله أعلم”([16]).
وأجاب ابن الملقن بجواب ثالث فقال: “وأما قوله فيه: إنه لا يصلّي صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، فلعل المراد قرب طلوعها؛ لأن صلاته عليه السلام كانت بغلَس، فصلاته بالنسبة إليه كالطلوع”([17]).
قال الملا علي القاري: “وأما قولها: (إني لا أصلي حتى تطلع الشمس فإنا أهل بيت) أي: إنا أهل صنعة لا ننام الليل (قد عرف لنا ذلك) أي: عادتنا ذلك، وهي أنهم كانوا يسقون الماء في طول الليالي، فكأنه كان إذا سقى الماء طول الليل ينام في مكانه، وليس هناك من يوقظه، فيكون معذورًا، (لا نكاد نستيقظ) أي: إذا رقدنا آخر الليل (حتى تطلع الشمس) حقيقة، أو مجازًا مشارفة”([18]).
وتعقبه السهارنفوري بقوله: “ولكن رواية أبي بكر التي أخرجها الإِمام أحمد في مسنده المذكورة قبلُ تدلّ على أن ليس لهم عذر إلَّا ثقل النوم”([19]).
ورواية أحمد المشار إليها هي: “وأما قولها: إني لا أصلي حتى تطلع الشمس، فإني ثقيل الرأس، وأنا من أهل بيت يُعرفون بذاك، بثِقَل الرؤوس”([20]).
ولا تعارض بين الأمرين، فقد يكون ثقل الرؤوس بسبب عملهم الذي يضطرون فيه للسهر. والله أعلم.
وعلى كلّ حال، فليس في الحديث أنه كان يتعمَّد ترك الفجر، ولا أنه لا يأخذ بالأسباب لصلاتها، ولا أنه يتعمَّد النوم عنها، كما هو حال كثير من الناس ممن يسهرون في غير نفع ولا ضرورة، ثم ينامون قبيل الفجر، ولا يأخذون بالأسباب اللازمة لقيامهم واستيقاظهم، فلا شكّ أنهم مقصِّرون مؤاخَذون بذلك.
وتأمَّل حال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما فاتتهم صلاة الفجر وهم قافلون من غزوة خيبر، وبلغت بهم المشقَّة والجهد مبلغًا؛ حتى كاد النبي صلى الله عليه وسلم أن يسقط من على راحلته، ومع ذلك لما نزلوا وارتاحوا قليلًا قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «احْفَظُوا عَلَيْنَا صَلَاتَنَا»، وفي رواية أنه قال لبلال: «اكْلَأْ لَنَا اللَّيْلَ»، فَكَانَ أَوَّلَ مَنِ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالشَّمْسُ فِي ظَهْرِهِ، قَالَ: فَقُمْنَا فَزِعِينَ([21]).
فأخذ بأسباب الاستيقاظ والحفاظ على الصلاة، ومع ذلك كله قاموا فزعين متحسِّرين على ما فاتهم من الخير.
فهكذا حال المؤمن، يتحسَّر على ما فاته من الخير، ولو كان معذورًا في تركه، باذلًا جهدَه في إدراكه، متحسِّرًا على فواته ولو بغير تفريطٍ منه، كما ذكر الله تعالى حال البكائين في القرآن: ﴿وَلَا عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوۡكَ لِتَحۡمِلَهُمۡ قُلۡتَ لَآ أَجِدُ مَآ أَحۡمِلُكُمۡ عَلَيۡهِ تَوَلَّواْ وَّأَعۡيُنُهُمۡ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمۡعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ﴾ [التوبة: 92].
لا كما يقول بعض المفتونين: إنه لا فرق بين من يصلّي الفجر في وقتها ومن ينام عنها، وأنه لا يلزمه أن يأخذ بالأسباب اللازمة لإدراك الصلاة في وقتها.
2- ومن الإشكالات الأخرى على هذا الحديث:
ما جاء في حديث الإفك في البخاري أن صفوان لما بلغه ما قيل قال: “وَاللَّهِ، مَا كَشَفْتُ كَنَفَ أُنْثَى قَطُّ”([22]). قالوا: فهذا ينافي كونه متزوّجًا كما في حديث أبي سعيد. وهذا وجه استنكار البخاري والبزار لمتن حديث أبي سعيد.
ويجاب عنه بما ذكره الحافظ حيث قال: “وقد أورد هذا الإشكالَ قديمًا البخاري، ومال إلى تضعيف حديث أبي سعيد بذلك، ويمكن أن يُجاب بأنه تزوّج بعد ذلك”([23]). وهذا جمع ظاهر لا تكلُّف فيه.
وذكر الحافظ عن القرطبيّ جوابًا آخر، وهو أن يكون مقصده ما كشفت كنف أنثى في الحرام.
ثم تعقبه بقوله: “قلت: وفيه نظر؛ لأنّ في رواية سعيد بن أبي هلال عن هشام بن عروة في قصة الإفك أن الرجل الذي قيل فيه ما قيل لما بلغه الحديث قال: والله، ما أصبت امرأة قط حلالًا ولا حرامًا. وفي حديث ابن عباس عند الطبراني: وكان لا يقرب النساء([24]).
فالذي يظهر أن مراده بالنفي المذكور ما قبل هذه القصة، ولا مانع أن يتزوَّج بعد ذلك، فهذا الجمع لا اعتراضَ عليه، إلا بما جاء عن ابن إسحاق أنه كان حصورًا، لكنه لم يثبت؛ فلا يعارض الحديث الصحيح”([25]).
3- ومن الإشكالات الواردة على الحديث:
أن في الحديث قدحًا في صفوان بن المعطل رضي الله عنه من جهة نومه عن صلاة الفجر، ونهيه امرأته عن صلاة التطوع وصوم التطوع.
والجواب: أنه ليس في الحديث أي ذم أو قدح في صفوان رضي الله عنه، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم أقره وأنصفه على امرأته، ولم يقرها على شكواها.
فأما النوم عن الصلاة فقد سبق الجواب عنه وأنه معذور في ذلك.
ولذلك لا وجه لما ذكره الذهبي في ترجمة صفوان بن المعطل رضي الله عنه بعد أن أورد حديث أبي سعيد فقال: “فهذا بعيدٌ من حال صفوان أن يكون كذلك، وقد جعله النبي صلى الله عليه وسلم على ساقة الجيش، فلعله آخرُ باسمه”([26]).
ولا يخفى بعدُه، خاصة أنه “ليس في الصحابة من اسمه صفوان بن المعطل غيره”([27]).
وأما النهي عن الصلاة فقد كان ينهاها عن التطويل في الصلاة، ويأمرها أن تكتفي بقراءة سورة واحدة بعد الفاتحة، لا سورتين، وقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وقال لزوجته: «لو كانتْ سورة واحدة لكفتِ الناسَ».
هذا على رواية (سورتين) أما على رواية: “فإنها تقوم بسورتي التي أقرأ بها، فتقرأ بها” بياء المتكلّم، أي: تقرأ بنفس السورة التي أقرأ بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كانتْ سورة واحدة لكفتِ الناسَ»([28])، فيكون خطابًا لصفوان، أي: فلا حرج من قراءتها هي في الصلاة لنفس ما تقرأ أنت به، وليس ذلك منقصًا للثواب لأي منكما.
قال الطحاوي رحمه الله: “ظن أنها إذا قرأت سورته التي يقوم بها أنه لا يحصل لهما بقراءتهما إياها جميعًا إلا [ثوابٌ واحدٌ]، ملتمسًا أن تكون تقرأ غير ما يقرأ، فيحصل لهما ثوابان، فأعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ذلك يحصل لهما به ثوابان؛ لأن قراءة كلّ واحد منهما إياها غير قراءة الآخر إياها”([29]).
وظاهر الحديثِ الأولُ، وهو الأليق بسياق الحديث. والله أعلم.
وأما نهيه إياها عن صيام التطوع دون إذنه، فحقّه فيه ظاهر؛ فإن حقّ الرجل على زوجته مقدَّم على تطوّع المرأة، ومصلحة إعفاف نفسهِ -وهو شاب لا يصبر- أولى من صيام تطوّعها وهو حاضر إلا بإذنه.
قال الطحاوي: “وتأمّلنا قولها له صلى الله عليه وسلم: إنه يمنعني من الصيام، وما اعتذر به صفوان له عند ذلك، ونهيه صلى الله عليه وسلم أن تصوم امرأة إلا بإذن زوجها، فعقلنا بذلك أنه إنما كان لمنعها إياه من نفسها بصومها، ودلّ ذلك أنه إذا كان لا حاجَة به إليها لغيبته عنها أو بما سوى ذلك مما يقطعه عنها، أنه لا بأس عليها أن تصوم وإن لم يأذن لها في ذلك”([30]).
وأما ضربه إياها فهو ضرب تأديب على تقصيرها في حقوقه، وهذا حقّ ثابت بالكتاب والسنة، طالما كان ضربًا غيرَ مبرّح.
قال الخطابي رحمه الله: “في هذا الحديث من الفِقه أن منافع المتعة والعشرة من الزوجة مملوكة للزوج في عامّة الأحوال، وأن حقّها في نفسها محصور في وقت دون وقت. وفيه أن للزوج أن يضربها ضربًا غير مبرّح إذا امتنعت عليه من إيفاء الحقّ وإجمال العشرة”([31]).
وبالجملة، فالحديث صحيح رواية ودراية، ولا مطعن فيه بحال، ولا شبهةَ فيه، إلا لمن في قلبه زيغ من أهل الأهواء ممن يتّبعون المتشابه ابتغاءَ الفتنة، نسأل الله تعالى العافية.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) في بعض الروايات في أبي داود وغيره: بسورتي، بإضافة لفظ السورة إلى ياء المتكلم، وسوف نذكر توجيه الروايتين.
([9]) التعليق على المستدرك (1/ 602).
([11]) الإصابة في تمييز الصحابة (3/ 357)، وتعجيل المنفعة (1/ 672).
([12]) سلسلة الأحاديث الصحيحة (2173).
([13]) انظر مثلا: صحيح البخاري (6530)، صحيح مسلم (222، 2541، 2847، 2849).
([17]) التوضيح لشرح الجامع الصحيح (25/ 11).
([18]) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (5/ 2130) بتصرف واختصار يسيرين.
([19]) بذل المجهود في حل سنن أبي داود (8/ 688).
([23]) الإصابة في تمييز الصحابة (3/ 358).
([24]) قال الشيخ أبو إسحق الحويني: في سنده إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كهيل، وهو متروكٌ. وكذلك أبوه يحيى بن سلمة. فالسند ضعيف جدًّا. المنيحة (1/ 220).
([26]) سير أعلام النبلاء -ط: الرسالة- (2/ 550).
([27]) نص على ذلك سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان في توارخ الأعيان (5/ 310).
([28]) رواه الطحاوي في شرح مشكل الآثار(2044).