
تأطير المسائل العقدية وبيان مراتبها وتعدّد أحكامها
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
مقدمة:
إنَّ علمَ العقيدة يُعدُّ من أهم العلوم الإسلامية التي ينبغي أن تُعنى بالبحث والتحرير، وقد شهدت الساحة العلمية في العقود الأخيرة تزايدًا في الاهتمام بمسائل العقيدة، إلا أن هذا الاهتمام لم يكن دائمًا مصحوبًا بالتحقيق العلمي المنهجي، مما أدى إلى تداخل المفاهيم وغموض الأحكام؛ فاختلطت القضايا الجوهرية مع القضايا الفرعية، وتساوت الأمور القطعية مع الأمور الاجتهادية، وأصبح من السهل على بعض طلاب العلم الوقوعُ في فخّ التكفير والتبديع بناءً على مسائل محتملة ومشتبِهة.
من هذا المنطلق يأتي هذا البحث ليعالج هذه الإشكالية، حيث يهدف إلى وضع أسس منهجية لتصنيف المسائل العقدية وترتيبها وفق درجاتها من حيث الظهور والخفاء، والاتفاق والاختلاف، وتوضيح الفرق بين المسائل التي اتفق عليها أهل السنة والجماعة، وتلك التي اختلفوا فيها، مع تسليط الضوء على درجات الخلاف في العقيدة، سواء بين أهل الحديث وبين الفرق المختلفة الأقرب إلى السنة، أو الخلاف الواقع بين أهل الحديث.
والغرض الرئيس هو تأصيل منهجية علمية تساعد طالب العلم في تصور المسألة العقدية بدقة، وفهم سياقها التاريخي والعلمي، وبالتالي اتخاذ موقف متوازن ومنصف عند الحكم على المخالفين، مع تأطير مراتب الخلاف الأصولي والفروعي وتحديد مواضع المُخاشنة والمُياسرة، وذلك كلّه في إطار سعي مركز سلف للبحوث والدراسات إلى إرجاع الحقّ إلى نصابه في الأمور العلمية والعملية، وإعطاء كلّ شيّء قدره وحقّه.
وسيكون الحديث في هذه الورقة العلمية عن درجات المسائل العقدية، وعن الخلاف بين أهل السنة ومراتبه، وهذا أوان الشــروع في المقصود.
مركز سلف للبحوث والدراسات
المطلب الأول: درجات المسائل العقدية:
يمكن تصنيف المسائل العقدية على ثلاث طبقات:
أولًا: مسائل إجماعية متفق عليها بين أهل الملة الإسلامية:
وهي الأمور الكلية التي اتفق عليها أهل الإسلام من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وأنه خاتم الأنبياء والمرسلين، ثم أركان الإسلام الخمسة: الصلوات الخمس والزكاة وصوم رمضان والحج، وأن القرآن كلام الله وهو محفوظٌ بحفظه، ونحو ذلك من كليَّات الإسلام.
يقول شيخ الإسلام: “فالمسلمون سُنِّيُّهم وبدعيُّهم متفقون على وجوب الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ومتفقون على وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج، ومتفقون على أنَّ من أطاع الله ورسوله فإنه يدخل الجنة ولا يعذَّب، وعلى أنَّ من لم يؤمن بأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه فهو كافر، وأمثال هذه الأمور التي هي أصول الدين وقواعد الإيمان التي اتفق عليها المنتسبون إلى الإسلام والإيمان. فتنازُعهم بعد هذا في بعض أحكام الوعيد أو بعض معاني الأسماء أمر خفيف بالنسبة إلى ما اتفقوا عليه”([1]).
ويقول أيضًا: “عامة أهل الصلاة مؤمنون بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وإن اختلفت اعتقاداتهم في معبودهم وصفاته، إلا من كان مُنافقًا يُظهر الإيمان بلسانه ويبطن الكفر بالرسول فهذا ليس بمؤمن، وكلُّ من أظهر الإسلام ولم يكن مُنافقًا فهو مؤمن له من الإيمان بحسب ما أوتيه من ذلك، وهو ممن يخرج من النار ولو كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان، ويدخل في هذا جميع المتنازعين في الصفات والقدر على اختلاف عقائدهم. ولو كان لا يدخل الجنة إلا من يعرف الله كما يعرفه نبيه صلى الله عليه وسلم لم تدخل أمته الجنة، فإنهم -أو أكثرهم- لا يستطيعون هذه المعرفة، بل يدخلونها وتكون منازلهم متفاضلة بحسب إيمانهم ومعرفتهم”([2]).
ثانيًا: مسائل متفق عليها بين الفِرق المنتسبة إلى السنة أو الأقرب إلى السنة:
وهي الفرق المنتسبة إلى الأئمة الأربعة، ويقرُّون بكتب أهل الحديث من صحاح وسنن ومسانيد، كأهل الحديث، والكلابية، والسالمية، ومتكلّمة الحنبلية، والأشعرية، والكرامية.
وهم ينتسبون إلى أهل السنة من حيث الانتساب الجُملي، وإن كان لا يتحقَّق هذا الوصف -عند التحقيق- إلا على أهل الحديث.
والأمور التي اتفقوا عليها تشمل ما ذكرناه مما اتفق عليه أهل الملة، ويُضاف إليها الإيمان بالقدر خيره وشره الذي خالف فيه القدرية والمعتزلة. وأيضًا المسائل المتفق عليها بين أهل الحديث والأشاعرة مثل عدالة الصحابة وتحريم الخروج على أمراء الجور، ونحو ذلك.
يقول ابن تيمية: “والأشعرية ما ردّوه من بدع المعتزلة والرافضة والجهمية وغيرهم وبيّنوا ما بينوه من تناقضهم وعظَّموا الحديث والسنة ومذهب الجماعة؛ فحصل بما قالوه من بيان تناقض أصحاب البدع الكبار وردهم ما انتفع به خلق كثير”([3])، ويقول أيضًا: “وأما الأشعرية فلا يرون السيف موافقة لأهل الحديث، وهم في الجملة أقرب المتكلمين إلى مذهب أهل السنة والحديث”([4]).
ثالثًا: مسائل إجماعية متفق عليها بين أهل الحديث:
وهي المسائل التي اختصّ بها أهل الحديث كالأخذ بحديث الآحاد في العقائد، والمسائل التي اتفقوا عليها كإثبات الأسماء والصفات على ظواهرها اللائق بالله تعالى، وأن الله استوى على عرشه فوق سبع سماوات، وإثبات الحرف والصوت في كلام الله تعالى، وأنَّ الإيمان قولٌ وعمل، يزيد وينقص، وأنَّ القرآن كلام الله غير مخلوق بلفظه ومعناه، وغيرها من المسائل الكبار التي نص عليها أئمة السلف في معتقداتهم.
المطلب الثاني: الخلاف بين أهل السنة والحديث ومراتبه:
أولًا: اختلاف المسائل العقدية بحسب ظهورها وخفائها:
لا بد من الانتباه إلى أن مسائل العقيدة وإن كان يجب التصديق بها، إلا أنَّ هذا التصديق يتفاوت من مسألة إلى مسألة، بحسب ما فيها من أدلة واستفاضتها وقوة دلالتها ووضوحها، ثم بحسب الاتفاق أو الاختلاف على مدلولها.
يقول الشيخ ابن عثيمين: “مسائل العقيدة ليست كلها مما لا بد فيه من اليقين؛ لأن اليقين أو الظن حسب تجاذب الأدلة، وتجاذب الأدلة حسب فهم الإنسان وعلمه، قد يكون هذان الدليلان متجاذبين عند شخص، ولكن عند شخص آخر ليس بينهما تجاذب إطلاقًا، وقد اتضح عنده أن هذا له وجه وهذا له وجه، فمثل هذا الأخير ليس عنده إشكال في المسألة بل عنده يقين، والأول يكون عنده إشكال، وإذا رجّح أحد الطرفين فإنما يرجحه بغلبة الظن”([5]).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “فما زال في الحنبلية من يكون ميله إلى نوع من الإثبات الذي ينفيه طائفة أخرى منهم، ومنهم من يمسك عن النفي والإثبات جميعًا. ففيهم جنس التنازع الموجود في سائر الطوائف، لكنَّ نزاعهم في مسائل الدِّق، وأما الأصول الكِبار فهم متفقون عليها، ولهذا كانوا أقل الطوائف تنازعًا وافتراقًا؛ لكثرة اعتصامهم بالسُّنة والآثار”([6]).
فيرى ابن تَيميَّة في النص السابق أن الخلاف بين الحنابلة هو في المسائل العقدية الدقيقة (مسائل الدِّق) لا في الأصول الكبار، وهذا نابعٌ عن تقسيم المسائل إلى أصولٍ كبار اتفقوا عليها، ومسائل دقيقة مشتبهة أو اشتبهت على المتأخرين.
1- مسائل عقدية اشتبهت على المتأخرين:
وهي مسائل كان الإجماع عليها في الصدر الأول من الصحابة والتابعين، لكن حصل فيها بعد القرن الثالث الهجري نوع اختلاف واشتباه.
وهي تنقسم إلى نوعين:
أ- مسائل اشتبهت بعد دخول المسلمين في علم الكلام: كمسألة التحسين والتقبيح، ومسألة صفات الأفعال الاختيارية (حلول الحوادث) وما تفرَّع منها من مسائل كمسألة تسلسل الحوادث، ومسألة تعاقب الحروف، والخلاف في قدم القرآن وحدوثه القرآن.
ب- مسائل اشتبهت للشُبهة والأدلة: كمسألة التوسل بذوات الأنبياء والصالحين، ومسألة شد الرحال لزيارة القبر الشريف، ومسألة تحري الدعاء عند قبور الصالحين، وهي مسائل يذهب إليها جمهور المتأخرين من أهل المذاهب الأربعة، بل قد تساهل فيها الحنابلة وكثير من أهل الحديث أيضًا، وهي في الأصل مسائل فقهية، ولكن قد تدخل في الجانب العقدي أيضًا بحسب اعتقاد فاعلها.
يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب في بيان أنواع الدعاء: “النوع الثالث: أن يقول: اللهم إني أتوسل إليك بنبيك أو بالأنبياء أو الصالحين؛ فهذا ليس شركا، ولا نهينا الناس عنه على أنه شرك، ولكن المذكور عن أبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهم أنهم كرهوه، لكن ليس مما نختلف نحن وغيرنا فيه”([7]).
وقال أيضًا: “قولهم في الاستسقاء: لا بأس بالتوسل بالصالحين، وقول أحمد: يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، مع قولهم: إنه لا يستغاث بمخلوق؛ فالفرق ظاهر جدا، وليس الكلام مما نحن فيه؛ فكون بعض يرخص بالتوسل بالصالحين، وبعضهم يخصه بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأكثر العلماء ينهى عن ذلك ويكرهه؛ فهذه المسألة من مسائل الفقه، ولو كان الصواب عندنا قول الجمهور أنه مكروه؛ فلا ننكر على من فعله، ولا إنكار في مسائل الاجتهاد… -إلى أن قال:- أو يقصد قبر معروف -أي: الكرخي- أو غيره يدعو عنده، ولكن لا يدعو إلا الله مخلصا له الدين؛ فأين هذا مما نحن فيه؟!”([8]).
والمقصد هنا: أن يُميِّز طالب العلم بين مراتب المسائل المتعددة، ومواضع المُياسرة والمُخاشنة؛ فقد تكون المسألة بدعة في أصلها، ثم ساغ فيها الخلاف للشبهة وقوة الأدلة وتتابع الفقهاء عليها، وهذا لا يمنع من بيان الحق بدليله في البحوث العلمية، مع توسعة العذر للمخالف إن كان أهلًا للعذر.
والقصد مما سبق: أن مسائل العقيدة على درجات متفاوتة، وليست على درجة واحدة من الوضوح والجلاء، بل منها ما هو واضحٌ جليّ وجُمل إجماعية، ومنه ما هو أقلُّ وضوحًا وحصل فيه تنازع في الأدلة الشرعية، ومنه ما هو أقلُّ من ذلك وهكذا. وكلُّ درجة من هذه الدرجات لها حكمٌ خاصّ بحسب الظهور والخفاء، واعتبار قوة الأدلة. فينبغي لطالب العلم التنبُّه لهذا.
2- المسألة العقدية الواحدة من حيث الظهور والخفاء:
كما أنَّ المسائل العقدية تختلف درجاتها بحسب الظهور والخفاء، فإنَّ المسألة الواحدة ذاتها قد يكون بداخلها عدة درجات مختلفة.
أمثلة على ذلك:
– مسألة التوسل بالأنبياء والصالحين، هي مسألة واحدة، وحكمها البدعية، ومع هذا فليست على درجةٍ واحدة من البدعة، فمن خصَّ التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره كما أجازه الإمام أحمد، فحكمه يختلف عن درجة من توسل بغيره من الأنبياء والصالحين؛ وذلك لأن النبي قد جاء في حقه أدلة مخصوصة كحديث الأعمى في التوسل وغيره، وإن كانت لا تُسلَّم هذه الأدلة عند التحقيق العلمي، إلا أنَّ المسألة التي عليها أدلة شرعية أقامت شبهة، تختلف عن التي ليس عليها أدلة.
ولذلك أجاز الإمام أحمد بن حنبل التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم عند الزيارة كما في منسك المروزي([9])، ولم يثبت عنه التوسل بالأنبياء والصالحين.
ولهذا يقول الشيخ الألباني بعدما أبطل الاستدلال بحديث الأعمى من وجوهٍ كثيرة: “على أنني أقول: لو صح أنَّ الأعمى إنما توسل بذاته صلى الله عليه وسلم، فيكون حكمًا خاصًّا به صلى الله عليه وسلم، لا يشاركه فيه غيره من الأنبياء والصالحين، وإلحاقهم به مما لا يقبله النظر الصحيح؛ لأنه صلى الله عليه وسلم سيدهم وأفضلهم جميعًا، فيُمكن أن يكون هذا مما خصه الله به عليهم ككثير مما صح به الخبر، وباب الخصوصيات لا تدخل فيه القياسات، فمن رأى أن توسل الأعمى كان بذاته لله، فعليه أن يقف عنده، ولا يزيد عليه كما نُقل عن الإمام أحمد والشيخ العز بن عبد السلام رحمهما الله تعالى. هذا هو الذي يقتضيه البحث العلمي مع الإنصاف”([10]).
والمقصد هنا: أن يُميِّز طالب العلم بين مراتب المسألة الواحدة، فقد تكون المسألة الواحدة مشتبهة في جوانب، بينما تكون في جوانب أخرى أشد اشتباهًا. وقد تكون بدعة في جانب، وفي جانب آخر أكثر ابتداعًا.
– مسألة الاستغاثة بغير الله: من مظاهر تعدد مراتب المسألة الواحدة أن يكون حكم المسألة يتعدد بتعدد مراتبها، ومن أمثلة ذلك الاستغاثة بغير الله عز وجل، فقد تكون مباحة إذا كانت من الحي القادر على المساعدة؛ كاستغاثة الغريق بالناس واستغاثة المريض بالطبيب، وقد تكون شركًا إذا كانت من الأموات والأولياء فيما لا يقدر عليه إلا الله. وهذا أمرٌ معلوم.
لكن الذي قد يكون مجهولا هو أنَّ الاستغاثة الشركية ذاتها تتعدد مراتبها، فليس من يطلب الدعاء من الميت كمن يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله، كالرزق والشفاء وإنزال المطر، فلا ريب أنَّ شركية الحالة الثانية أظهر من الحالة الأولى. ولذلك تنازع العلماء المعاصرون في الحالة الأولى ما بين اعتبارها شركًا أكبر، أو اعتبارها بدعة دون الشرك. وسبب التنازع أنَّ من يسأل الدعاء من الميت فهو يسأل ما يستطيعه المخلوق في الجملة، وضابط الشرك هو السؤال بما لا يقدر عليه إلا الله، أو اختصت به القدرة الإلهية. والدعاء في استطاعة المخلوق.
نعم، كون السائل ظنَّ أن الميت سيسمعه ويدعو له فهذا ظنّ غير صحيح، ولكن ليس محل البحث في كون هذا الظن باطلًا أم لا، ولكن البحث في كونه ينقل عن الملة أم لا.
يقول الشيخ ابن عثيمين: “سؤال الميت أن يسأل الله، أو سؤاله قضاء الحاجة، بينهما فرق، إذا سئل قضاء الحاجة فهذا شرك أكبر، وإذا سئل أن يسأل الله فهذا بدعة وضلالة؛ لأن الميت إذا مات انقطع عمله، والدعاء من عمله، فكيف تسأله ما لا يمكن؟! ومن ذلك أن تقول: يا رسول الله اشفع لي، فإن هذا حرام وبدعة مُنكرة، لكن لو قلت: يا رسول الله أنجني من النار كان شركًا أكبر”([11]).
ويُمكن تلخيص مراتب الاستغاثة الممنوعة كما يلي:
أ- مرتبة من يدعو الولي بما لا يقدر عليه إلا الله، تختلف عن مرتبة من يسأله الدعاء والشفاعة.
ب- مرتبة من يسأل الولي الدعاء في البر والبحر، تختلف عن مرتبة من يطلب منه الدعاء عند قبره، فالأول ظن أن الولي يسمعه في البر والبحر ومُطَّلع على جميع أحواله، وهذا موجبٌ للشرك الأكبر.
ج- مرتبة من يسأل الولي الدعاء عند قبره، تختلف عن مرتبة من يسأل النبي الدعاء عند قبره؛ لأن الرسول قد جاءت فيه أدلة خاصة من آثارٍ ضعيفة، وتتابع كثير من فقهاء المسلمين على ذكر ذلك في كتب الفقه، فازدادت الشبهة في حق الرسول دون غيره.
والقصد مما سبق: أنَّ البدع والضلالات ذاتها تختلف مراتبها في البدعة والضلالة.
– مسائل الأسماء والصفات من حيث الإجمال والتفصيل الكلامي: من أمثلة أنَّ المسألة الواحدة قد تتعدد درجاتها أن تكون المسألة من الجُمل الثابتة في الكتاب والسنة، ومحل إجماع بين أهل الحديث، إلا أن تخريجها الكلامي من المشبَّهات.
ومثال ذلك: مسألة الأفعال الاختيارية أو ما يسميه أهل الكلام بحلول الحوادث.
تتكون هذه المسألة من ثلاثة أمور:
أ- ظواهر قرآنية متفقٌ عليها: وهي الآيات الدالة على أنَّ الله فعَّال لما يُريد، وأن الله استوى على عرشه، وأنه يتكلم إذا شاء، وأنه يأتي يوم القيامة، ونحو ذلك من آيات القرآن الكريم.
ب- مدلول شرعي مختلفٌ فيه: أن لله فعلًا اختياريا كان بعد أن لم يكن، فيأتي بعد أن لم يكن آتيًا، وكلم موسى بعد أن لم يكلمه. فهذا المقام من أنكره لشبهة أو تقليدًا لغيره لظنه أنه إجماع شرعي، فلا يكفر. ولكن قوله بدعة بالاتفاق.
وقد خالف في ذلك فريقان:
– الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من الأشعرية وقالوا بأن الفعل هو المفعول، أي: أن الفعل مخلوق منفصل عن الله. فيقولون: إن الله أحدث فعلًا -أي: خلق فعلًا- سماه استواءً، وأحدث فعلًا في السماء سماه نزولًا([12]).
– الكلابية والسالمية ومن تبعهم من مُتكلمة الحنبلية، فقالوا: إن أعيان الأفعال قديمة، فلا يزال آتيًا منذ الأزل، ولا يزال مستويًا منذ الأزل([13]).
وسبب انتفاء الكفر هو شبهة أن هذا التجدّد يلزم منه حلول الحوادث، وأن الصفة الحادثة عرض، والعرض لا يقوم إلا بجسم، وخرَّجوا ما ظاهره الفعل الاختياري على محامل كما سبق بيانه.
ج- تخريج كلامي مُختلفٌ فيه: أنَّ أفعال الله عز وجل قديمة النوع وحادثة الآحاد، وما يُسميه أهل الكلام بحلول الحوادث. فهذا المقام -أي: المقام الكلامي- من أنكره لفظًا لا يكفر ولا يُبدَّع على الصحيح، بل يُستفصل في مراده بالنفي:
– فإن كان لا ينكر أصل الفعل الاختياري ولكن لا يُسميه حدثًا، فقصده صحيح ومذهبه معتبر. وهو قول كثير من السلف وأهل الحديث بخلاف قول البخاري وداود، والخلاف لفظي.
يقول ابن تَيميَّة: “داود نفسه لم يكن هذا قصده -يعني: لمَّا بدَّعوه بقوله مُحدث غير مخلوق-، بل هو وأئمة أصحابه متفقون على أن كلام الله غير مخلوق، وإنما كان مقصوده أنه قائم بنفسه؛ وهو قول غير واحد من أئمة السلف، وهو قول البخاري وغيره. والنزاع في ذلك بين أهل السنة لفظي؛ فإنهم متفقون على أنه ليس بمخلوق منفصل، ومتفقون على أن كلام الله قائم بذاته، وكان أئمة السنة -كأحمد وأمثاله والبخاري وأمثاله وداود وأمثاله وابن المبارك وأمثاله وابن خزيمة وعثمان بن سعيد الدارمي وابن أبي شيبة وغيرهم- متفقين على أن الله يتكلم بمشيئته وقدرته”([14]).
وقال أيضًا متأولًا لبعض أهل الحديث ممن نفوا الحدوث: “وأصحاب هذا القول قد يقولون: إن كلامه قديم، وأنه ليس بحادث ولا مُحدَث، فيريدون نوع الكلام؛ إذ لم يزل يتكلم إذا شاء، وإن كان الكلام العيني يتكلم به إذا شاء، ومن قال: ليست تحل ذاته الحوادث، فقد يريد به هذا المعنى، بناء على أنه لم يحدث نوع الكلام في كيفية ذاته. وقال أبو عبد الله بن حامد في «أصوله»: ومما يجب الإيمان به والتصديق أن الله يتكلم، وأن كلامه قديم وأنه لم يزل متكلمًا في كل أوقاته بذلك موصوفًا، وكلامه قديم غير محدَث، كالعلم والقدرة”([15]).
فبيَّن ابن تَيميَّة أن من أهل الحديث من يمنع حلول الحوادث، ومع ذلك لا ينفي الفعل الاختياري. فينبغي التنبه للفرق بين المقامين لأنه يحصل فيهما الخلط عند كثير من المعاصرين.
– وإن كان يقصد نفي الفعل الاختياري فقوله بدعة، ويُلحق بحكم من نفى المدلول الشرعي، يقول شيخ الإسلام ابن تَيميَّة: «وإذا قالوا: لا تحله الحوادث أوهموا الناس أن مرادهم أنه لا يكون محلًّا للتغيرات والاستحالات، ونحو ذلك من الأحداث التي تحدث للمخلوقين فتحيلهم وتفسدهم، وهذا معنًى صحيح، ولكن مقصودهم بذلك أنه ليس له فعل اختياري يقوم بنفسه ولا له كلام، ولا فعل يقوم به يتعلق بمشيئته وقدرته، وأنه لا يقدر على استواء أو نزول أو إتيان أو مجيء، وأن المخلوقات التي خلقها لم يكن منه عند خلقها فعلٌ أصلًا، بل عين المخلوقات هي الفعل، ليس هناك فعل ومفعول، وخلق ومخلوق، بل المخلوق عينُ الخلق، والمفعول عين الفعلُ، ونحو ذلك»([16]).
إذن نستطيع أن نستخلص مما سبق: أنَّ هذه المسألة منها ما هو أصلي، ومنها ما هو فرعي، وتتعدد درجاتها فيما يلي:
1- إنكار ظواهر القرآن: كفرٌ أكبر.
2- إنكار المدلول الشرعي: بدعة دون الكفر؛ بسبب الشبهة القائمة.
3- إنكار التخريج الكلامي (التيّمي): من مسائل الدق، ويُستفصل عن قصد القائل.
ويُعرف درجات الاشتباه في مدى قوة الدليل الشرعي، واختلاف العلماء لا سيما علماء الحديث.
ثانيًا: الخلاف العقدي المعتبر بين أهل الحديث:
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: “والقول بأن العقيدة ليس فيها خلاف على الإطلاق غير صحيح، فيه من مسائل العقيدة ما يعمل فيه الإنسان بالظن، مثلًا: في قوله تعالى: «من تقرب إلي شبرًا تقربت منه ذراعًا» لا يجزم الإنسان بأن المراد القرب الحسي، فإن الإنسان لا شكّ ينقدح في ذهنه أن المراد بذلك القرب المعنوي، «من أتاني يمشي أتيته هرولة» هذا أيضًا لا يجزم الإنسان بأن الله يمشي مشيًا حقيقيًّا هرولة، ينقدح في ذهنه أن المراد الإسراع في إثابته وأن الله تعالى إلى الإثابة أسرع من الإنسان إلى العمل، ولهذا اختلف علماء أهل السنة في هذه المسألة هل هو هذا أو هذا؟ فأنت إذا قلت هذا أو هذا لست تتيقَّنه كما تتيقَّن نزول الله عز وجل الذي قال فيه الرسول عليه الصلاة والسلام: «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا»، هذا لا يشك فيه الإنسان أنه نزول حقيقي، وكما في قوله: {اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ} [الأعراف: 54]، لا يشك الإنسان أنه استواء حقيقي. فالحاصل: أن مسائل العقيدة ليست كلها مما لا بد فيه من اليقين؛ لأن اليقين أو الظن حسب تجاذب الأدلة وتجاذب الأدلة حسب فهم الإنسان وعلمه، قد يكون هذان الدليلان متجاذبين عند شخص، ولكن عند شخص آخر ليس بينهما تجاذب إطلاقًا، وقد اتضح عنده أن هذا له وجه وهذا له وجه، فمثل هذا الأخير ليس عنده إشكال في المسألة بل عنده يقين، والأول يكون عنده إشكال، وإذا رجّح أحد الطرفين فإنما يرجحه بغلبة الظن. لهذا لا يمكن أن نقول: إن جميع مسائل العقيدة مما يتعين فيه الجزم، ومما لا خلاف فيه؛ لأن الواقع خلاف ذلك، ففي مسائل العقيدة ما فيه خلاف، وفي مسائل العقيدة ما لا يستطيع الإنسان أن يجزم به، لكن يترجح عنده، إذًا هذه الكلمة التي نسمعها بأن (مسائل العقيدة لا خلاف فيها) هذه ليست على إطلاقها، لأن الواقع يخالف ذلك، كذلك مسألة العقيدة بحسب اعتقاد الإنسان ليس كل مسائل العقيدة مما يجزم فيه الإنسان جزمًا لا احتمال فيه في بعض المسائل حديث أو آيات قد يشك الإنسان فيها، فمثلًا: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} [القلم: 42]، هذه من مسائل العقيدة وقد اختلف فيها السلف: هل المراد ساقه عز وجل أو المراد الشدة؟ وعلى هذا فقس”([17]).
وكلام الشيخ ابن عثيمين رحمه الله مبنيّ على خطأ تقسيم الشريعة إلى أصولٍ لا يجوز الخلاف فيها، وفروع يجوز الخلاف فيها، فهذا التقسيم ليس بدقيق.
نعم، إن محض التقسيم إلى أصولٍ وفروع لا مُشاحة فيه؛ إذ لا مشاحة في الاصطلاح، أما تحديد مسائل معينة وتسميتها أصولًا لا يجوز الخلاف فيها، وتحديد مسائل معينة للفروع يسوغ الخلاف فيها؛ فهذا أمر لا يعرفه السلف، كما حققه شيخ الإسلام ابن تيمية.
والصواب: جواز وقوع الخلاف في المسائل الخفية سواء كانت في العقيدة أو الفقه.
ومن أمثلة الخلاف العقدي بين أهل الحديث:
1- النزاع في آحاد الأسماء والصفات بناءً على ثبوت النص:
كالنزاع في إثبات صفة الهرولة من حديث: «وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِراعًا تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ باعًا، وإنْ أتانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً»([18])، فقد ذهب بعض أهل الحديث إلى إثبات هذه الصفة كالإمام الدارمي([19])، وذهب ابن قتيبة وشيخ الإسلام ابن تيمية إلى أنها ليست هرولة حقيقية بل من باب المقابلة أو المشاكلة، بدلالة سياق الخطاب نفسه، وهو أنَّ العبد لا يتقرب إلى الله ماشيًا ولا بحركة بدنه، فكذلك الله عز وجل([20]).
يقول ابن عثيمين: “وخلاصة القول: أن إبقاء النص على ظاهره أولى وأسلم فيما أراه، ولو ذهب ذاهب إلى تأويله لظهور القرينة عنده في ذلك لوسعه الأمر لاحتماله”([21]).
2- النزاع في دلالة النص الشرعي على الصفة:
كالخلاف في دلالة قوله تعالى: {فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} على صفة الوجه أم لا. فقد ذهب بعض السلف كمجاهد والشافعي وغيرهما إلى أن الآية ليست من آيات الصفات، واختاره ابن تيمية([22])، بينما ذهب جمهور أهل الحديث كالإمام أحمد وغيره أنها من آيات الصفات، واختار هذا القول ابن القيم([23]).
3- الخلاف المبني على فقه النص والترجيح:
وهو اختلافٌ مبني على فقه النصوص والترجيح بينها، بحسب توافر الأدلة، شأنه شأن أدلة الفقه، وإن كان الخلاف يندرج تحت أبواب العقيدة بحسب التقسيم العلمي المتأخر.
ويدخل في ذلك: اختلاف العلماء رحمهم الله فيما خُلق أولًا العرش أم القلم؟ وكاختلافهم في عذاب القبر؛ هل هو على البدن أو على الروح؟ واختلافهم في الجنة التي سكنها آدم؛ هل هي جنة الخلد أم جنة في الدنيا؟ وكاختلاف الصحابة رضيَّ الله عنهم في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه؛ هل رآه بعينه أم رآه بقلبه؟
وكل هذه الاختلافات وأمثالها من الخلاف السائغ؛ لأنها مبنية على فقه النصوص الشرعية، والترجيح بينها، وإن كان الحق فيها واحدًا.
وضابط الخلاف السائغ في العقيدة أمران:
أ- احتمال النصوص الشرعية.
ب- اختلاف السلف وأهل الحديث في المسألة.
وكلما كان الخلاف قويًّا في المسألة قلَّ الإنكار فيها، وفي ذلك يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: “من مسائل العقيدة ما اختلف فيه العلماء رحمهم الله، وما كان مختلفا فيه بين أهل العلم فليس يقينيا؛ لأن اليقين لا يمكن نفيه أبدا”([24]).
4- الخلاف الاصطلاحي في الألفاظ الكلامية أو التقاسيم العلمية:
كان السلف رضي الله عنهم يقتصرون على الوحيين وطريقة الصحابة في فهم المسائل العقدية، وكانوا بعيدين عن علم الكلام. ثم بعد القرون الفاضلة دخل علم الكلام والأدلة العقلية من جهة، وظهرت المصطلحات والتقاسيم العلمية من جهةٍ أخرى، فاضطر بعض أهل السُنة للتعامل مع هذه التقاسيم، ومثال ذلك:
تقسيم الشريعة إلى: أصول وفروع، وتقسيم العقيدة إلى: إلهيات ونبوات وسمعيات، وتقسيم صفات الله إلى: صفات ذاتية وصفات فعلية باعتبار، وصفات ثبوتية وسلبية باعتبار ثانٍ، وصفات خبرية (سمعية) وسمعية عقلية باعتبار ثالث.
كل هذه التقاسيم وأمثالها هي تقاسيم دخلت مع دخول علم الكلام، في زمن التقعيد العلمي للعلوم الإسلامية، ومحض التقسيم لا مُشاحة فيه، وإنما العبرة بالمضامين، وبمقصود القائل من اللفظة؛ ولذلك لم يجد شيخ الإسلام ابن تيمية حرجًا من التعامل مع هذه التقاسيم الكلامية، لكنه ردَّها إلى المعاني الشرعية الموافقة للكتاب والسنة وطريقة السلف.
وقد كان بعض أهل الحديث -بعد القرون الفاضلة- يجعل جميع الصفات ذاتية ويمنع من استخدام (صفات الفعل)؛ لأن المتكلمين يعنون بها المخلوق المنفصل، وهو اجتهاد مصلحي، بينما استخدم كثير من السلف لفظة (الفعل) بلا غضاضة([25]).
ومجرد جعل الصفات ذاتية أو فعلية لا يجعل صاحبه مبتدعًا -إذا صحَّ مقصوده- لأنه لا مُشاحة في الاصطلاح، لكن لا شك أن الاصطلاح الموافق للغة العرب هو الأصح.
ويدخل في ذلك أيضًا المصطلحات الكلامية المجملة مثل الجسم والحركة والمكان والحدوث والقدم. ومثل هذه المصطلحات استخدمها المتكلمون استخدامًا مخالفًا للكتاب والسنة ولغة العرب، أما أهل السنة فيفصِّلون فيها بحسب مراد المتكلم.
بل قد يكون في الأمر مندوحة إن استخدم بعض هذه المصطلحات من باب التوضيح والبيان، شريطة أن تكون موافقة لمعاني الكتاب والسنة.
ومثال ذلك: التعبير عن صفة الكلام بأنها: (قديمة النوع حادثة الأفراد) أو صفات الأفعال بأنها (حادثة غير مخلوقة) فهذا تعبير كلامي، ولكن لا بأس به من أجل التوضيح والبيان.
وجمهور أهل الحديث يمنعون من لفظة الحدوث؛ لأن المعتزلة كانوا يعنون بها المخلوق المنفصل عن الله. فيريدون معنى باطلًا. وأما الإمام البخاري فلم يجد حرجًا من التعبير عن أفعال الله بالحدوث، فقال: (وأنَّ حدثه تعالى لا يُشبه حدث المخلوقين)([26]).
والقصد مما سبق: أنَّ التعبير الكلامي -مع سلامة مقصود القائل- من الخلاف العقدي السائغ، ولا يصح التبديع به؛ لأن هذه التقاسيم ظهرت في القرون المتأخرة.
قال شيخ الإسلام عن المصطلحات الكلامية: “إذا أثبت الرجل معنى حقًّا، ونفى معنى باطلا، واحتاج إلى التعبير عن ذلك بعبارة لأجل إفهام المخاطب، لأنها من لغة المخاطب ونحو ذلك؛ لم يكن ذلك منهيا عنه؛ لأن ذلك يكون من باب ترجمة أسمائه وآياته بلغة أخرى، ليفهم أهل تلك اللغة معاني كلامه وأسمائه، وهذا جائز، بل مستحب أحيانا، بل واجب أحيانا. وإن لم يكن ذلك مشروعا على الإطلاق؛ كمخاطبة أهل هذه الاصطلاحات الخاصة في أسماء الله وصفاته وأصول الدين باصطلاحهم الخاص، إذا كانت المعاني التي تبيَّن لهم هي معاني القرآن والسنة… وهذه الترجمة تجوز لإفهام المخاطب، بلا نزاع بين العلماء”([27]).
وذكر ابن تَيميَّة أنَّ الألفاظ المجملة مسألة فقهية (فرعية)، فيقول رحمه الله: «وما تنازع فيه الأمة من الألفاظ المجملة كلفظ التحيز والجهة والجسم والجوهر والعرض وأمثال ذلك، فليس على أحد أن يقبل مسمى اسم من هذه الأسماء، لا في النفي ولا في الإثبات حتى يتبين له معناه، فإن كان المتكلم بذلك أراد معنى صحيحًا موافقًا لقول المعصوم كان ما أراده حقًّا، وإن كان أراد به معنى مخالفًا لقول المعصوم كان ما أراده باطلًا. ثم يبقى النظر في إطلاق ذلك اللفظ ونفيه، وهي مسألة فقهية، فقد يكون المعنى صحيحًا ويمتنع من إطلاق اللفظ لما فيه من مفسدة، وقد يكون اللفظ مشروعًا ولكن المعنى الذي أراده المتكلم باطل، كما قال علي رضي الله عنه لمن قال من الخوارج المارقين: لا حكم إلا لله: كلمة حق أريد بها باطل»([28]).
فالصواب: أن المصطلحات الكلامية من فروع العقيدة بشرط أن يكون العالم سلفيًّا لا ينفي الصفات، ففي هذه الحالة يُحمل كلامه على معنًى صحيح، ويكون نفي الجسم أو التحيز أو إثبات المكان أو نفيه ونحو ذلك راجعًا إلى تقدير هذا العالِم نفسه واجتهاده؛ وذلك لأن النفي أو الإثبات له وجه صحيح، فيجب حمل الكلام على ما أراده ذاك العالِم، وأما المتكلمون فمعلوم أن خلافهم أصلي لا فرعي؛ إذ يريدون من النفي التوصُّلَ إلى معانٍ باطلة أو إلى نفي الصفات.
إذن الألفاظ المجملة من حيث النفي والإثبات يحكمها مقامان:
1- مقام كلامي: يستفصل فيه، فيُنفى المعنى الباطل، ويثبت المعنى الحق.
يقول ابن تيمية: “لفظ الجسم والتشبيه فيه إجمال واشتباه؛ فإن هؤلاء النفاة لا يريدون بالجسم الذي نفَوه ما هو المراد بالجسم في اللغة، فإن الموصوف بالصفات لا يجب أن يكون هو الجسم الذي في اللغة كما نقله أهل اللغة باتفاق العقلاء”([29]).
2- مقام لغوي: يثبت أو ينفى بحسب المعنى:
يقول شيخ الإسلام ابن تَيميَّة: “فالجسم في اللغة هو: البدن، والله منزَّه عن ذلك”([30]).
ويقول الحافظ السجزي: “والمقابلة لا تقتضي التجسیم کما زعموا؛ لأن المرئيات في الشاهد لا تخرج عن أن تكون جسمًا أو عرضًا على أصلهم، والله سبحانه باتفاقنا مرئي، وليس بجسم ولا عرض، وإذا صح ذلك جاز أن يرى عن مقابلة، ولا يجب أن يكون جسمًا”([31]).
والسجزي في النقل السابق إنما أراد الجسم والعرض اللغوي لا الكلامي، وقد يُقبل منه هذا النفي؛ لأنه أراد به معنى صحيحًا.
وفي الختام:
هذه الورقة العلمية ليست إلا إشارات مُختصرة، وخطوة أولى في طريق طويل يحتاجه طالب العلم لتأسيس منهجية سليمة في التعامل مع مسائل العقيدة وترتيب المسائل العقدية وتحريرها يُساهم في تجنب الوقوع في الفتن والاضطرابات الفكرية، ويدفع إلى التعامل مع المخالفين بالعلم والعدل، دون إفراط أو تفريط.
وإن من واجب طالب العلم أن يكون واعيًا بالفروقات الدقيقة بين مراتب المسائل العقدية، وأن يسعى لفهمها وإدراك مواضع الإجماع والخلاف، مع الحرص على الالتزام بمنهجية علمية محكمة في بحثه وردوده. والله نسأل أن يوفقنا جميعًا لما يحب ويرضى، وأن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([2]) مجموع الفتاوى (5/ 254-255).
([5]) شرح العقيدة السفارينية (ص: 308).
([8]) مؤلفات الشيخ -القسم الثالث: الفتاوى- (ص: 59، 60، 68، 69).
([9]) انظر: الفروع، ابن مفلح (3/ 229).
([10]) التوسل (ص: 75 وما بعدها).
([11]) التعليق على اقتضاء الصراط المستقيم – رقم (1359). وينظر إجابات الشيخ البراك على ملتقى أهل الحديث:
https://al-maktaba.org/book/32538/61
([12]) ينظر: الأسماء والصفات للبيهقي (ص: 410).
([13]) ينظر: مجموع الفتاوى (6/ 217).
([14]) مجموع الفتاوى (3/ 262).
([17]) شرح العقيدة السفارينية (ص: 308).
([18]) رواه البخاري (7405)، ومسلم (2675).
([19]) نقض الدارمي على بشر المريسي (ص: 561).
([20]) بيان تلبيس الجهمية (6/ 101-105).
([21]) مجموع فتاوى ابن عثيمين (1/ 193).
([22]) مجموع الفتاوى (6/ 15-17).
([23]) مختصر الصواعق المرسلة (3/ 1011).
([24]) شرح العقيدة السفارينية (1/ 306).
([25]) مثل الإمام البخاري حيث يقول في صحيحه: (باب ما جاء في تخليق السماوات والأرض وهو فِعل الرب تبارك وتعالى).
([26]) ينظر: صحيح البخاري -مع فتح الباري- (13/ 505).
([27]) بيان تلبيس الجهمية (2/ 389).
([28]) درء تعارض العقل والنقل (1/ 173).
([29]) شرح حديث النزول (ص: 130-131).